خالديان
Al-Khalidiyyan - Al-Khalidiyyan
الخالديان
أبو بكر محمد (…-380هـ/…-990م) وأبو عثمان سعيد (…-371هـ/ …-981م) الخالديان شاعران من قرية اسمها الخالدية قرب الموصل، وإليها نُسِبا. اختلفت المصادر في ذكر سنة وفاتهما، ويقال إن محمداً أكبر من سعيد بعشر سنوات. اسم أبيهما هاشم، وجدهما الأعلى خالد العبدي وإليه نُسِبا أيضاً.
عاش الأخوان الخالديان حياتهما معا، جمعتهما الأيام على كل مشرب، وجعلتهما يتفقان في كل غاية؛ فقد أحبا معاً وتغزلا معاً وتنقّلا في المدن والقرى والثغور معاً، فانتقلا من الخالدية إلى الموصل ثمّ إلى بغداد ثمّ حلب فدمشق، ولم يفترقا في حلٍّ أو ترحال، حتى قال فيهما الشاعر أبو تمام:
رضيعي لبانٍ شريكي عنانٍ
عتيقي رهانٍ حليفي صفاء
وقد انصرف كلاهما إلى اللذائذ من نزهات وخلوات وإخوان، فما كانا يطمحان إلى حكم، ولم يرغبا في منصب أو مفخرة أو ماُثرة أو مجد، حسبهما أن يعيشا ببساطة، يأكلان ويشربان ويغرفان السرور ويقبلان عليه من كل جانب.
أخذ الخالديان عن علماء عصرهما مثل ابن دريد (ت 321هـ) والصولي (ت325هـ) وابن الخياط النحوي (ت320هـ)، وكانا كثيري الحفظ للشعر، قال النديم في كتابه «الفهرست» عن سعيد: « كان أبو عثمان يحفظ ألف سفر في كل سفر مئة ورقة «. كما كانا محبين للشعر، ولهذا وفدا على الأمير سيف الدولة ابن حمدان في حلب، وفي مجلس الأمير كان يجتمع أفاضل الأدباء والشعراء، وكان مجلسه عامراً بألوان الأدب وفنون الثقافة،فكان يختلف إلى المجلس شعراء كثر منهم المتنبي وأبو فراس الحمداني والسلامي والصنوبري وكشاجم وغيرهم. وكان الشعراء يتبارون في تقديم أفضل ما تجود به قرائحهم من أشعار، وكان الأمير ذوّاقة لما يقال، نقّاداً بارعاً كريماً في عطائه. وفي هذا المجلس كان الأخوان الخالديان ظاهرة نادرة في الشعر، لم ينفرد أحدهما عن الآخر إلا بأشياء قليلة؛ فكان ما يجمعهما من أخوّة الأدب مثل ما يقربهما من أخوّة النسب.
أُعجب بشعرهما كبار الأدباء والشعراء، يقول الثعالبي: «إن هذان لساحران، يغربان بما يجلبان، ويبدعان فيما يصنعان»، وكان أبو إسحاق الصابي من أشد المعجبين بهما، وفي ذلك يصور اختلاف الناس في تفضيل أحدهما على الآخر:
أرى الشاعرين الخالديين سَيَّرا
قصائد يفنى الدهر وهي تُخَلَّدُ
تنازع قومٌ فيهما وتنـاقضـوا
ومــرّ جدالٌ بينهــم يتردّد
وصاروا إلى حكمي فأصلحت بينهم
وما قلت إلا بالتي هي أرشــدُ
هما في اجتماع الفضل زوجٌ مؤلّفٌ
ومعناهما من حيث يثبت مفــردُ
وقد أعجب سيف الدولة بالخالديين وقربهما وجعلهما خازني كتبه مما ساعدهما على القراءة والحفظ والتصنيف، فكان من تصانيفهما: «حماسة شعر المحدثين»، وكتاب «أبي تمام ومحاسن شعره»، وكتاب «اختيار شعر ابن الرومي»، و«اختيار شعر البحتري»، و«اختيار شعر مسلم بن الوليد»، وكتاب «أخبار الموصل».
وعلى الرغم مما لقيا من ترحيب في بلاط سيف الدولة فقد حدثت بينهما وبين الأمير جفوة ومغاضبة، وكان سببها الاتهامات التي كانت تكال لكل شاعر بالسرقات الشعرية، وقد تركا البلاط وقلباهما مملوءان بالغصص والغضب، وأنشدا في ذلك:
وأخٍ رخصت عليه حتى ملَّني
والشيء مملول إذا ما يرخص
ما في زمانك ما يعزّ وجـوده
إن رمته، إلاّ صديق مخلص
وكان من أبرز من سعى إلى تشويه شعرهما والتشنيع عليهما والغضّ منهما، الشاعر السّريّ الرفّاء الموصلي[ر]، إذ كان ينسج ديوان الشاعر كشاجم أستاذه ويدس فيه أحسن شعر الخالديين ليزيد في حجمه ثم يتهم الخالديين بسرقة شعر كشاجم، ويظهر صدق ما يدعيه على الخالديين. وفي ذلك يقول الثعالبي في اليتيمة: «فمن هذه الجهة وقعت في بعض النسخ من ديوان كشاجم أشعار ليست في الأصول المشهورة منها، وقد وجدتها كلها للخالديين».
ولم يسكت الخالديان، فقد أصابا السّريّ الرفّاء بأذى شديد، وقطعا ما كان سيف الدولة وغيره يرسمه له حتى جعلاه يترك حلب وينحدر إلى بغداد ويتصل بالمهلبي، فلم يتركاه، بل لحقا به، وأوقعا بينه وبين الوزير، وكذلك فعلا به عند كل الرؤساء والأكابر في بغداد، حتى عدم السري الرفاء القوت وركبه الدين واضطرّ أن يتكسب من الوراقة وهو مغموم حتى مات.
ترك الخالديان ديواناً نسب إليهما معاً، لم ينفرد فيه أحدهما عن الآخر إلا بأشياء قليلة، ومنها قول أبي بكر محمد في وصف سيف:
متوقـدٌ مترقـرقٌ عـجباً لـه
نـارٌ ومـاءٌ كيف يجتمعـان
تجري مضاربُه دماً يوم الوغى
فـكأنمـا حـدّاهُ مفتصـدان
وقول أبي عثمان سعيد في قصيدة قالها في الوزير المهلبي:
إنّا لنرحلُ والأهـواءُ أجمعها
لديكَ مستوطناتٌ ليس ترتحلُ
لهنَّ من خلقك الروضُ الأريضُ ومن
نداكَ يغمرُهنَّ العارضُ الهَطِلُ
لكن كلّ فقيرٍ يستفيدُ غـنى
دعاه شوق إلى أوطانه عَجِـلُ
وقد اتصفت تلك الأشعار المشتركة بوصف مشاعر الإنسان بصدق، كما اتسمت ألفاظها بالوضوح والسهولة والبعد عن الحوشي والغريب، وكانت أشعارهما التي خلدتهما صورة لكل ما فعلاه وأحسا واعتقدا به.
نهلة الحمصي
ـ الثعالبي، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، تحقيق مفيد قميحة (دار الكتب العلمية، بيروت 1983).
ـ الخالديان، مقدمة الديوان، تحقيق سامي الدهان (مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق 1969م).
ـ ابن العديم، زبدة الحلب في تاريخ حلب، تحقيق سامي الدهان (المعهد الفرنسي للدراسات العربية، دمشق).
Al-Khalidiyyan - Al-Khalidiyyan
الخالديان
أبو بكر محمد (…-380هـ/…-990م) وأبو عثمان سعيد (…-371هـ/ …-981م) الخالديان شاعران من قرية اسمها الخالدية قرب الموصل، وإليها نُسِبا. اختلفت المصادر في ذكر سنة وفاتهما، ويقال إن محمداً أكبر من سعيد بعشر سنوات. اسم أبيهما هاشم، وجدهما الأعلى خالد العبدي وإليه نُسِبا أيضاً.
عاش الأخوان الخالديان حياتهما معا، جمعتهما الأيام على كل مشرب، وجعلتهما يتفقان في كل غاية؛ فقد أحبا معاً وتغزلا معاً وتنقّلا في المدن والقرى والثغور معاً، فانتقلا من الخالدية إلى الموصل ثمّ إلى بغداد ثمّ حلب فدمشق، ولم يفترقا في حلٍّ أو ترحال، حتى قال فيهما الشاعر أبو تمام:
رضيعي لبانٍ شريكي عنانٍ
عتيقي رهانٍ حليفي صفاء
وقد انصرف كلاهما إلى اللذائذ من نزهات وخلوات وإخوان، فما كانا يطمحان إلى حكم، ولم يرغبا في منصب أو مفخرة أو ماُثرة أو مجد، حسبهما أن يعيشا ببساطة، يأكلان ويشربان ويغرفان السرور ويقبلان عليه من كل جانب.
أخذ الخالديان عن علماء عصرهما مثل ابن دريد (ت 321هـ) والصولي (ت325هـ) وابن الخياط النحوي (ت320هـ)، وكانا كثيري الحفظ للشعر، قال النديم في كتابه «الفهرست» عن سعيد: « كان أبو عثمان يحفظ ألف سفر في كل سفر مئة ورقة «. كما كانا محبين للشعر، ولهذا وفدا على الأمير سيف الدولة ابن حمدان في حلب، وفي مجلس الأمير كان يجتمع أفاضل الأدباء والشعراء، وكان مجلسه عامراً بألوان الأدب وفنون الثقافة،فكان يختلف إلى المجلس شعراء كثر منهم المتنبي وأبو فراس الحمداني والسلامي والصنوبري وكشاجم وغيرهم. وكان الشعراء يتبارون في تقديم أفضل ما تجود به قرائحهم من أشعار، وكان الأمير ذوّاقة لما يقال، نقّاداً بارعاً كريماً في عطائه. وفي هذا المجلس كان الأخوان الخالديان ظاهرة نادرة في الشعر، لم ينفرد أحدهما عن الآخر إلا بأشياء قليلة؛ فكان ما يجمعهما من أخوّة الأدب مثل ما يقربهما من أخوّة النسب.
أُعجب بشعرهما كبار الأدباء والشعراء، يقول الثعالبي: «إن هذان لساحران، يغربان بما يجلبان، ويبدعان فيما يصنعان»، وكان أبو إسحاق الصابي من أشد المعجبين بهما، وفي ذلك يصور اختلاف الناس في تفضيل أحدهما على الآخر:
أرى الشاعرين الخالديين سَيَّرا
قصائد يفنى الدهر وهي تُخَلَّدُ
تنازع قومٌ فيهما وتنـاقضـوا
ومــرّ جدالٌ بينهــم يتردّد
وصاروا إلى حكمي فأصلحت بينهم
وما قلت إلا بالتي هي أرشــدُ
هما في اجتماع الفضل زوجٌ مؤلّفٌ
ومعناهما من حيث يثبت مفــردُ
وقد أعجب سيف الدولة بالخالديين وقربهما وجعلهما خازني كتبه مما ساعدهما على القراءة والحفظ والتصنيف، فكان من تصانيفهما: «حماسة شعر المحدثين»، وكتاب «أبي تمام ومحاسن شعره»، وكتاب «اختيار شعر ابن الرومي»، و«اختيار شعر البحتري»، و«اختيار شعر مسلم بن الوليد»، وكتاب «أخبار الموصل».
وعلى الرغم مما لقيا من ترحيب في بلاط سيف الدولة فقد حدثت بينهما وبين الأمير جفوة ومغاضبة، وكان سببها الاتهامات التي كانت تكال لكل شاعر بالسرقات الشعرية، وقد تركا البلاط وقلباهما مملوءان بالغصص والغضب، وأنشدا في ذلك:
وأخٍ رخصت عليه حتى ملَّني
والشيء مملول إذا ما يرخص
ما في زمانك ما يعزّ وجـوده
إن رمته، إلاّ صديق مخلص
وكان من أبرز من سعى إلى تشويه شعرهما والتشنيع عليهما والغضّ منهما، الشاعر السّريّ الرفّاء الموصلي[ر]، إذ كان ينسج ديوان الشاعر كشاجم أستاذه ويدس فيه أحسن شعر الخالديين ليزيد في حجمه ثم يتهم الخالديين بسرقة شعر كشاجم، ويظهر صدق ما يدعيه على الخالديين. وفي ذلك يقول الثعالبي في اليتيمة: «فمن هذه الجهة وقعت في بعض النسخ من ديوان كشاجم أشعار ليست في الأصول المشهورة منها، وقد وجدتها كلها للخالديين».
ولم يسكت الخالديان، فقد أصابا السّريّ الرفّاء بأذى شديد، وقطعا ما كان سيف الدولة وغيره يرسمه له حتى جعلاه يترك حلب وينحدر إلى بغداد ويتصل بالمهلبي، فلم يتركاه، بل لحقا به، وأوقعا بينه وبين الوزير، وكذلك فعلا به عند كل الرؤساء والأكابر في بغداد، حتى عدم السري الرفاء القوت وركبه الدين واضطرّ أن يتكسب من الوراقة وهو مغموم حتى مات.
ترك الخالديان ديواناً نسب إليهما معاً، لم ينفرد فيه أحدهما عن الآخر إلا بأشياء قليلة، ومنها قول أبي بكر محمد في وصف سيف:
متوقـدٌ مترقـرقٌ عـجباً لـه
نـارٌ ومـاءٌ كيف يجتمعـان
تجري مضاربُه دماً يوم الوغى
فـكأنمـا حـدّاهُ مفتصـدان
وقول أبي عثمان سعيد في قصيدة قالها في الوزير المهلبي:
إنّا لنرحلُ والأهـواءُ أجمعها
لديكَ مستوطناتٌ ليس ترتحلُ
لهنَّ من خلقك الروضُ الأريضُ ومن
نداكَ يغمرُهنَّ العارضُ الهَطِلُ
لكن كلّ فقيرٍ يستفيدُ غـنى
دعاه شوق إلى أوطانه عَجِـلُ
وقد اتصفت تلك الأشعار المشتركة بوصف مشاعر الإنسان بصدق، كما اتسمت ألفاظها بالوضوح والسهولة والبعد عن الحوشي والغريب، وكانت أشعارهما التي خلدتهما صورة لكل ما فعلاه وأحسا واعتقدا به.
نهلة الحمصي
مراجع للاستزادة: |
ـ الخالديان، مقدمة الديوان، تحقيق سامي الدهان (مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق 1969م).
ـ ابن العديم، زبدة الحلب في تاريخ حلب، تحقيق سامي الدهان (المعهد الفرنسي للدراسات العربية، دمشق).