"الشابة والبحر" يوثق سيرة أول امرأة تسبح عبر القناة الإنجليزية
عبدالرحيم الشافعي
السبت 2025/01/11
انشر

سباحة نجحت في تحدي مجتمع ذكوري
هناك في الحياة أبطال أسهموا في تغيير مجرى التاريخ وأحدثوا تغييرات مهمة في المجتمعات، تهتم بهم السينما عبر تصوير سيرهم الذاتية أو الاقتباس من تضحياتهم وإنجازاتهم المهمة، ومن هؤلاء غيرتود كارولين إديرل التي أصبحت أول امرأة تعبر المانش، وكسرت بنجاحها هيمنة ذكورية على رياضة السباحة استمرت لعقود.
ألهمت قصة السباحة الأميركية غيرتود كارولين إديرل المخرج النرويجي واكيم رونينغ ليصور فيلما مقتبسا عن سيرتها الذاتية وهي التي أصبحت عام 1926 أول امرأة تعبر قناة المانش (القناة الإنجليزية) محققة إنجازا تاريخيا خلد اسمها في عالم الرياضة.
جاء الفيلم “الشابة والبحر” الصادر في العام 2024 من سيناريو جلين ستاوت وجيف ناثانسون، وبطولة ديزي ريدلي، وتيلدا كوبام هيرفي، وستيفن غراهام، وكيم بودنيا، وجانيت هين، وإيثان روز.
تركز حبكة الفيلم على تفاصيل السيرة الذاتية المستمدة من قصة حياة إديرل ورحلتها الشخصية التي تحمل أبعادا نفسية وإنسانية واجتماعية وثقافية متعددة، في سياق سينمائي يعكس مراحل من التحول والنمو ويعالج الجوانب النفسية المتعلقة بتجربة البطلة في مواجهة مواقف معقدة تتطلب منها التحلي بالثبات والمثابرة. كما تتابع الأحداث كيف تعاملت غيرتود مع الشكوك التي واجهتها من محيطها، إلى جانب الضغوط التي فرضتها التوقعات العالية التي كانت تطمح إليها والأثر النفسي المترتب على اتخاذ خطوة غير مألوفة في ذلك العصر، وكيف أن التغلب على العقبات لم يكن مجرد إنجاز مادي بل تجربة تركت أثرا داخليا عميقا في نفوس كل من عاصروها.
تصوير الفيلم لعبور بحر المانش إشارة إلى السياق الثقافي الذي شكلت فيه الرياضة جزءا من الهوية الجماعية
وتتناول الأحداث اللاحقة الجوانب الإنسانية في القصة من خلال مشاهد العلاقات التي دعمت البطلة في رحلتها، وكيف لعب الأفراد المحيطون بها دورا في تعزيز قدرتها على المضي قدما، كما تبرز لحظات من التفاعل بين السباحة وأمها وأختها البكر ووالدها الذي كان يرفض أن تدخل عالم السباحة التي كانت ممنوعة على نساء ذلك الزمن، لتوضح الأهمية الكبيرة للدعم المعنوي في تحقيق الأهداف الشخصية، بينما تبرز باقي الأحداث الأبعاد الاجتماعية المتمثلة في مكانة المرأة في المجتمع خلال الحقبة الزمنية التي وقعت فيها الأحداث والتأثير الاجتماعي الذي أحدثه إنجازها وكيف أسهم في تغيير التصورات السائدة حول إمكانات المرأة، وأثر على إعادة تشكيل دور المرأة في مجالات كانت تُعتبر حكرا على الرجال.
ويمثل عبور بحر المانش إشارة إلى السياق الثقافي الذي شكلت فيه الرياضة جزءا من الهوية الجماعية، ويتعامل مع هذه الفكرة من خلال ربط الإنجاز الفردي بالمعاني الرمزية التي تبين تحدي وطموح أصغر فتاة في عائلة فقيرة، وكيف يمكن للرياضة أن تكون وسيلة لنقل رسائل أكبر تتجاوز حدود الإنجاز الشخصي، بينما تستفيد روعة المشاهد من الطبيعة السينمائية لتقديم تجربة قريبة من الجمهور، خاصة وأن معظم اللقطات تعتمد على تصوير البحر كمساحة تحمل دلالات مختلفة في العناصر البصرية من أجل نقل شعور الرحلة والمسافة والتحديات ضمن التجربة التي خاضتها البطلة، فالتركيز على التفاصيل البيئية والرياضية يجعل المشاهد يشارك في التجربة خاصة إن كانت القصة سيرة ذاتية.

ويعكس ترتيب المشاهد واللقطات تمكّن المخرج من توظيف تقنيات تصوير دقيقة لخلق فضاء سينمائي متكامل ومقنع، فاختيار التنوع بين اللقطات المتوسطة والقريبة والبعيدة منح العمل إيقاعا بصريا متوازنا، حيث جاءت اللقطات القريبة من أجل سرد تفاصيل البطلة وحالتها النفسية، بينما استخدمت اللقطات البعيدة لإظهار المساحات الشاسعة التي تواجهها في البحر، لخلق إحساس بالعزلة والانفصال عن العالم الخارجي، أما اللقطات المتوسطة فقد لعبت دورا في الربط بين البطلة ومحيطها، بينما اعتمد المخرج على البؤر العميقة لإبراز تعددية المستويات داخل المشهد الواحد خاصة لقطات تصور البطلة وهي طفلة تتدرب على السباحة أو مشاهدها عندما كانت مصابة بداء الحصبة.
وتظهر البطلة في مشاهد أخرى وهي في المقدمة بينما يظل الأفق أو البحر في الخلفية واضحا ومؤطرا لها، وهذه التقنية خلقت أبعادا بصرية غنية تنقل إحساس المشاهد بالتوازن بين الداخل النفسي والخارج المكاني.
ولعبت زوايا التصوير دورا مهما في تشكيل المعنى البصري للأحداث، فاستخدمت الزوايا العلوية لإظهار البطلة وهي تواجه البحر الشاسع، وهو يرمز إلى حالة التحدي الكبير التي تواجهها بينما جاءت الزوايا المنخفضة لإبراز قوتها وعزمها ومنحت الشخصية حضورا قويا، كما أن الزوايا المائلة خلقت ديناميكية على المشاهد التي تصور اضطرابات البحر وحركة الأمواج خاصة في المشاهد التي ساعدها أحد الأبطال السابقين في عبور المانش وجها لوجها مع البحر، وهذه المشاهد الأخيرة خلقت نوعا من التوتر البصري المتماشي مع رحلة البطلة التي حملت عنوان لا استسلام حتى بلوغ الهدف.
وتميز الفيلم بإيقاع زمني بطيء ولكنه متناسق، فمنح المشاهد فرصة للتفاعل مع تفاصيل الأحداث والتأمل في حالة البطلة القوية، بينما كان ترتيب المشاهد واللقطات متسقا مع تطور القصة، وجاءت الانتقالات بين اللحظات الهادئة والمشحونة بشكل مدروس لم نشعر بالملل من خلاله، وهذا الإيقاع البطيء أتاح مساحة لتصاعد التوتر النفسي والدرامي تدريجيا، جعل التجربة ممتعة ومنسجمة مع طبيعة السرد الذاتي لأحداث واقعية.

وظهرت موهبتها منذ سن مبكرة، حيث انضمت إلى جمعية السباحة النسائية في سن الثانية عشرة، وسجلت أول رقم قياسي لها في سباق الـ880 ياردة حرة لتصبح أصغر سباحة تحمل رقما قياسيا عالميا. حطمت لاحقا العديد من الأرقام القياسية العالمية الأخرى، وسجلت في المجموع 29 رقما قياسيا، منها 8 أرقام حققتها في عام 1922 فقط.
وفي الألعاب الأولمبية التي أقيمت في باريس، فازت غيرتود بالميدالية الذهبية في سباق التتابع الحر 4×100 متر مع فريقها، كما أحرزت ميداليتين برونزيتين في سباقي الـ100 متر و400 متر، وعلى الرغم من أنها كانت تتمنى أن تفوز بثلاث ميداليات ذهبية فإنها كانت فخورة بمشاركتها في ذلك الفريق الأولمبي الرائع.
في عام 1925، أصبحت سباحة محترفة ونجحت في السباحة لمسافة 22 ميلا من حديقة باطري إلى الانعطاف الرملي في سبع ساعات ودقيقة واحدة، وهو رقم ظل قائما لمدة 81 عاما، إلا أن أكبر إنجازاتها كانت عندما أصبحت أول امرأة تسبح عبر القناة الإنجليزية في السادس من أغسطس 1926، حيث عبرتها في 14 ساعة و34 دقيقة محطمة الرقم القياسي في ذلك الوقت.
ولم تكن رحلة السباحة عبر القناة سهلة، إذ واجهت العديد من التحديات، بما في ذلك محاولات غير ناجحة في البداية، بالإضافة إلى انتقادات من مدربيها الذين شككوا في قدرتها على إتمام المهمة، ولكن بتصميم وإصرار استطاعت أن تحقق إنجازا عظيما جعلها واحدة من أبرز الشخصيات الرياضية في تاريخ السباحة وتظل حكايتها مصدر إلهام لكل من يسعى لتحقيق التفوق.