البحث عن المعاصرة لا يكون على حساب التراث

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • البحث عن المعاصرة لا يكون على حساب التراث

    البحث عن المعاصرة لا يكون على حساب التراث


    بعض دعوات الحداثة في الفكر والأدب العربيين تحمل بذور التبعية.
    الأحد 2025/01/05
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    لا بد من تصحيح نظرتنا إلى ماضينا

    لم تتوقف الدعوات إلى التأسيس لحداثة عربية، ولعل هذه الدعوات جلية بشكل أبرز في الفكر والأدب، حيث انتشرت طيلة القرن العشرين حركات عديدة وأصوات فردية وجماعية تنادي بالتأسيس لحداثة خاصة، ولكن معظمها سقط في قراءة خاطئة للتراث، فمنها من اعتبر إحياء التراث هو الحل، ومنها من اعتبر تطبيق الرؤية الغربية هو الطريق الأجدر، وكلاهما فشل في بناء حداثة عربية.

    تعني التبعية ملاحقة الذات للآخر انطلاقا من شعورها بالدونية، ما يحول دون رؤية مقومات الهوية أو إدراك قوتها. وهو أمر عزاه علي حرب إلى قوى العولمة وغزو الأمركة ولكنه أضاف إليهما “أهل الهوية وحماتها من النخب المثقفة.”

    واقترح أدونيس في كتابه “الهوية غير المكتملة” حلا لإشكالية التبعية يتمثل في “الهوية الكونية” بوصفها خلقا، ورأى أن العالم واحد والغرب والشرق ليسا منفصلين، وأن الإبداعات العظيمة ليست شرقية وغربية إنما هي كونية إنسانية، معتبرا هذه الكونية نزعة صوفية فيها الكائن والمعرفة والعلم والفلسفة وحدة لا انفصام لها.
    الكونية والخصوصية


    لشدة اعتداده بالكونية، تنصَّل من اسم ذي عمق تاريخي وبعد تراثي عربي، واستبدله باسم أدونيس، الذي معه ضاعت تلك الخصوصية. وفسر أمر الاستبدال بالآتي: “اخترت اسما حررني من هويتي الدينية.. حررني هذا الاسم أدونيس من اسمي علي ومن انتمائي المغلق بأقفال الدين وانفتحت من خلال هويتي الجديدة الحاسمة وغير النسبية على كل ما هو إنساني، لقد اخترت هوية مطلقة. وبدءا من هذا الاختيار لم يعد لي هوية جاهزة أو مقررة مسبقا.”


    مفارقة أدونيس فكرته عن الكونية والغرب الاستعماري


    وأضاف “بدأت خلق هويتي حين بدأت خلق عملي الأدبي، لقد وعيت أبعاد هذا الاسم الخلاق.. قادتني هذه المسيرة إلى المثابرة على خلق هويتي وتعلمت من تلك التجربة بأن الهوية إنما ينبغي خلقها وإعادة خلقها باستمرار ولا ينتهي هذا مع الموت وعلى الأخص حين يخلف أحدنا وراءه شيئا ما بعد موته. فالهوية إنما هي حركة ولا يمكن أن تكون ثابتة متجمدة. تحدوني الرغبة في انفتاح ثقافتنا العربية على هذا النوع من الهوية الحرة.”

    ولكن لو افترضنا أن الاختيار وقع على اسم لا انتماء له ولا خصوصية فيه مثل آدم لقلنا إنه كوني، ولعددنا هذا الاختيار حريةً وانفتاحا، بيد أن الاسم المختار إغريقي، ويحيل إلى مجتمع محدد بهوية خاصة. وما اتباعها سوى إذعان للآخر المختلف، وتجريد للذات من خصوصيتها التي معها يُنتبذ التراث ويُتعالى عليه.

    ومن المفارقة أن أدونيس مع كل ما احتج به من كونية، يعود ليؤكد حقيقة مهمة وهي أن الغرب استعماري، وأنه مع الثورة الصناعية أضحى إمبرياليا وفرض على العقل الشرقي التبعية له بأساليب مختلفة. وأن الغرب ما إن تسلم الدور الاستعماري من العثمانيين حتى راح يردد الأقوال نفسها التي كان يصف العثمانيين بها، من قبيل القول إن العرب متخلفون وبربريون وإن الغربيين متحضرون وأكثر إنسانية، والغرب هو المعلم للشرق بعد أن كان الشرق معلمه.

    يقول “أشدد على القول بأن الغربي يفضل أن يجد أمامه مستبدا أو ظلاميا عربيا، ولكنه يرتبك أمام ديمقراطي مثله وأمام فكر منفتح مثل فكره أو محاور في مستواه. لا يرغب الغربي أن يرى في العرب سوى تابعين، سوى أناس ينبغي عليهم أن يتبعوه يقتفوا خطاه، ولكن حين يكون بوسع أحد أن يحاوره محاورة الند للند أو أن يتجاوزه فإن ذلك يضايقه.”

    ونتفق معه في ذلك تماما لكننا أيضا نتساءل أليس حريا بمن يملك هذا الوعي بحقيقة الغرب أن يكون معتدا بالخصوصية وأهمية دورها في نبذ التبعية؟ وهل في ضياع الخصوصية غير التفريط في الكينونة؟ وماذا يتبقى من الهوية إن هي فقدت خصوصيتها وكينونتها وانفرط من ثم عقد مقوماتها بما فيها التراث واللغة؟

    لا طائل من أية إجابة، تتحصل من أقوال تجمع الإثبات ونفيه بالتوافق ونقيضه. ومثل هذا المطب في البحث عن الحداثة عبر التبعية للآخر، هو ما وقعت فيه أيضا جماعة مجلة شعر -وأدونيس واحد من أعضائها- منطلقة من رغبة خفية في منافسة رواد حركة الشعر الحر على سمة الحداثة، بيد أن الرواد ما جاءوا إليها إلا من طريق قراءة التراث، وليس التعالي عليه، ولهذا استمر بنيان حداثتهم إلى اليوم.

    وليس الفكر العربي بطبيعة الحال غافلا عن تراثه ولكنه يتغاير في تقدير خطر التبعية الثقافية للغرب الاستعماري. وعلى الرغم من ذلك، فإن التراث يبقى مقوما في بناء الهوية العربية، ومحصنا من محصنات ذاتيتها. ومتى ما كانت الأدلجة أو العولمة قوية، فإن الردع عادة ما يكون تلقائيا، يعيد إلى الذات اعتدادها بهويتها على اختلاف مستويات تعلمها وثقافتها.

    وعلى طول التاريخ العربي الإسلامي قاومت الذات محن تذويب هويتها وتحديات محو ذاكرتها بدءا من سقوط بغداد ثم الأندلس ووصولا إلى الاستعمار الحديث واحتلال فلسطين.
    إشكالية فهم التراث



    افتراض وجود امتداد حضاري للغرب يصل إلى عصور اليونان افتراض عرقي، وليست له صحة جغرافية ولا تاريخية


    لا شك في أن هناك مفكرين غربيين فضحوا أكذوبة الكونية والعولمة التي تخفي حقيقة الإمبريالية العالمية، ومنهم الفيلسوف الفرنسي إدغار موران. من هنا يكون ملحّا تشخيص صور التبعية من أجل الوقوف على مؤدياتها وفحص أبعادها والتحسب لقادمها.

    وواحدة من الصور هي التبعية الإبستمولوجية وتحصل من جراء جلب النظريات الغربية وتطبيقها بجاهزية تامة على التراث. ومن حسنات هذا التجديد أن الذات تحاسب نفسها لكونها لم تسع إلى أن تتفاعل مع التراث بوعي خاص، فيأتي الباحث إلى التراث وهمه أن يجد ما يعيد للتراث روحه المعاصرة، لكن ذلك يجري من دون أية مساءلة للوافد النظري في عملية تطبيقه على التراث، بل هو الانحياز والانبهار والاطمئنان الكامل بكل ما يفد من نظريات ومنهجيات، منها ما ينظر إلى التراث سياقا، ومنها ما يراه نصا، يجري عليه ما يجري على النصوص الأخرى –تراثية وغير تراثية- من انفتاح وتفاعل وتعالق، يجمعها “التناص”.

    إنه نظرية تُنتفى بها في الأساس الأصول وتصبح النصوص كلها سواسية وفي حالة تحول دائمة بعلاقات نصية جديدة، ومن ثم لا فضل لنص على آخر كما لا فرق بين عمل قديم وعمل جديد، لأن الأساس هو “التفاعل” الذي ليس فيه حق للسابق، به يلزم اللاحق في ما يأخذه منه أو يتصرف فيه، وقد يحوِّره أو يهجنه أو يدعي ملكيته.

    وعلى الرغم من ذلك كله، فإننا نتساءل: هل يكون التناص هو وحده الرهان في صناعة وعي جديد بالتراث؟ وهل تبقى -بعد عد التراث أدبا نصيا يتفاعل مع نصوص حديثة ومعاصرة – أية نماذج يُستشهد بها على الإجادة والإصابة أو أية أصول سار عليها الأقدمون زمنا طويلا وبنوا تقييماتهم النقدية على وفقها؟ وإذا كان التراث الأدبي بلا أصول ولا نماذج لأنه في صيرورة دائمة من العلاقات؛ فلماذا إذن أولى البلاغيون والنقاد العرب عمليات الاقتباس والتضمين والمحاكاة والاحتذاء والإغارة والسرقة اهتماما كبيرا؟ أو ليس هذا كافيا لأن تتأكد لنا عنايتهم بالجذور والأصول وما يجري عليها من تحوير وتطوير فقننوا مسائل الأخذ (التفاعل) بمحددات أغنت تراثنا النقدي العربي وحافظت على خصوصيته؟

    لا ريب في أن البحث عن المعاصرة ينبغي ألا يكون على حساب التراث، ومن دون ذلك فإن الإحساس بالتبعية سيتعمق من جانب، ومن جانب آخر يتنامى الوعي بأهمية -إن لم نقل حتمية- الأخذ النظري والفكري من الآخر من دون أي وازع فكري بمحاورته. وما دام بحثنا النقدي ينظر إلى تراثنا من الزاوية التي منها ينظر الغرب إلى هذا التراث، فإن تهوين الذات وتبجيل الآخر سيستمران، فما من أصل هو مصدر، ولا من جذر أسس قاعدة وبنى تقاليد.

    إن التبعية تتجلى واضحة في التقدير الخاطئ لقيمة الذات فيكون التركيز على طرف واحد من ثنائية التراث/ المعاصرة، ما يؤدي إلى جرجرته في أعقاب الطرف الآخر. وفي كلا الحالين تكون التبعية للآخر مستحكمة. وهو ما يجعل فهم التراث إشكالية حقيقية، ومن ثم لا تجد الذات من توجه إليه التقريع سوى نفسها، ولا من تعترف بإنجازاته خلا من هو غربي.
    الامتداد الحضاري



    ما نحتاجه اليوم هو إعادة قراءة تراثنا من دون توهّم أن التراث يعني العيش في الماضي أو تأمل المستقبل


    إن القول بأهمية اختبار الوافد النظري والفكري، وضرورة الاعتداد بما ينطوي عليه التراث من أصول وتقاليد، لا يعني أن الأخذ من التراث محدد أو مقيد، بل يعني أن الأخذ ينبغي ألا يكون عن طريق بتر الأصول وإنكار النماذج والتقاليد. وبدلا من أن نستعيد تراثنا، نكون قد أكدنا تبعيتنا بوصفنا متلقين مستهلكين لما يصدِّره الآخر إلينا من فكر وثقافة غير مسائلين المفاهيم والنظريات ولا مختبرين فاعليتها.

    وقد يُعترض على ما تقدم بأن الوافد النظري والفكري هو موضوعي وعلمي، وأن الآخر الغربي طبّقه على “تراثه” قبل أن نطبقه نحن على تراثنا. ونجيب: إن فرضية وجود “تراث أوروبي/ غربي” معترض عليها، فعمر العالم الغربي لا يتجاوز بضعة قرون ابتدأت مع سقوط الأندلس في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي.

    وما افتراض وجود امتداد حضاري للغرب يصل إلى عصور اليونان سوى افتراض عرقي، وليست له صحة جغرافية ولا تاريخية، أولا لأن العالم القديم لم يعرف غربا بل كان شرقا كله. وثانيا أن مقولة الغرب ظهرت في العصور الوسطى، ثم تعمقت مع كتابات المستشرقين الأوروبيين الذين رسخوا ثنائية شرق/ غرب كرد فعل على أمرين: الأول إيجابي وهو تأثير الحضارة العربية الإسلامية الكبير في النهضة الأوروبية، والأمر الآخر سلبي وهو إنكار الغرب دور هذه الحضارة المعرفي في نقل الإرث الإغريقي والروماني إليه. ومعلوم أن الأوروبيين ترجموا آلاف الكتب والمخطوطات العربية لاسيما ما قام به ألفونسو العاشر ملك قشتالة في القرن الثالث عشر للميلاد من حملة ترجمة للفكر العربي وأدبه إلى اللغة الإسبانية.

    ◄ الإصرار على إعادة فهم التراث فهما متحررا لا تسبقه تقديرات خاطئة هو الذي سيساعدنا في بناء الهوية

    وإلى حدود القرن السادس عشر تقريبا، لم يكن هناك أي مقابل ثقافي يكافئ الفكر العربي الإسلامي أو يوازيه علما وحضارة وثقافة وأخلاقا. وما من شك في أن الفكر العربي الإسلامي لم يأفل بسقوط الأندلس، بل استمر دوره الثقافي والفكري حتى عصر التنوير، وفيه تحولت أوروبا إلى قوة استعمارية فتعرضت الحياة العربية في كل مجالاتها -ومن ضمنها التراث الأدبي والفلسفي والعلمي والثقافي- للاستعمار بكل ما يعنيه من نهب واستغلال ومحو وسطو وانتحال ونسخ وإعادة كتابة.

    وعلى الرغم مما تركه هذا كله من آثار سلبية على المجتمع العربي، فإن الذات استطاعت المحافظة على هويتها بقوة المقومات الصانعة لها والمتلاحمة تلاحما مصيريا في مواجهة محاولات تجريدها من بعدها الحضاري، وكان التراث دعامة مهمة في هذا كله بوصفه ذاكرة الأمة التي تجعلها ترمم نفسها متى ما واجهت عوامل المحو والنسيان.

    إن ما نحتاجه اليوم هو إعادة قراءة تراثنا من دون التوهم بأن التراث يعني العيش في الماضي أو أن تأمل المستقبل يعني التخلص من الماضي، إذ ما من مسافة زمنية بين حاضر نعيشه وآت نأمل أن نعيشه سوى مسافة الذاكرة التي تتطلب سيرورة في فهم التراث ودوره في بناء الهوية فيكون لوجودنا أثر عالمي. وما من عقبة تقف في طريق العالمية مثل الشعور بالدونية والقطيعة والتبعية.

    إن الإصرار على إعادة فهم التراث فهما متحررا لا تسبقه تقديرات خاطئة هو الذي سيساعدنا في بناء الهوية. فتتحرر الذات وتتمكن من فهم الآخر والتفاعل معه. وعلينا أن نؤمن بأن الذات التي يشكل التراث عمقا تاريخا لهويتها هي ليست بأقل قدرة من الآخر الذي بافتقاره إلى ذاك العمق يظل بحاجة إليها.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    نادية هناوي
    ناقدة وأكاديمية عراقية
يعمل...
X