الشعر الرقمي قصائد متحركة تخلع عن الكلمة قداستها
تقنيات سمعية وبصرية تدخل عالم القصيدة وتحولها إلى فضاء أيقونات.
الأحد 2025/01/05
العالم الرقمي مساحة أخرى للتلقي
لا اختلاف على أهمية الصورة منذ القدم، ولكن ذلك الفضاء الذي تعايشت فيه الصورة والكلمة وتكاملتا تغير اليوم، إذ تراجعت الكلمة رغم تاريخها الطويل وقداستها الكبيرة إلى الخلف لتحتل الصور المتحركة والأيقونات السمعية البصرية المشهد. ولئن كان الشعر في الصف الأول من رعاة الكلمة، فإنه بدوره يتغير جذريا مع ولادة الشعر الرقمي، الذي تختلف الآراء حوله.
تعددتْ وسائطُ نقلِ الثقافةِ والمعرفةِ على مدى التاريخ الإنساني من الأحجار والمسمار في العصر الحجري، إلى أوراق وجذوع الأشجار وأوراق البَرْدي في العصر الزراعي، وصولا إلى مطبعة غتنبرغ عندما بدأت الصناعة تتحكم في إيقاع البشر، ثم الوسائط الرقمية التي نعيش عصرها الآن، حيث ظهر الاتصال عبر الوسائط المتعددة، من خلال الأشكال التي تخاطبُ العين والأذن معا، وظهر النصُّ المصوَّرُ، ونص الملتيميديا من خلال تكنولوجيا الاتصالات والوسائط، وعصر الذكاء الاصطناعي وما يعرف بالثورة الصناعية الرابعة.
ونُشير في هذا الصدد إلى كتاب “التاريخ الاجتماعي للوسائط ـ من غتنبرغ إلى الإنترنت” وهو من تأليف مؤرخين اجتماعيين وثقافيين، هما آسا بريغز وبيتر بورك، وقد صدرت طبعته المترجمة في 440 صفحة ـ عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت (العدد 315) ترجمة مصطفى محمد قاسم. والكتابُ يضعُ الوسائطَ في التاريخ، ويضعُ التاريخ في الوسائط، من خلال عرض شمولي تأصيلي لهذه الوسائط وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات.
الأدب الرقمي
في الشعر الرقمي أو القصيدة الرقمية لم يعد للكلمة المعنى الفاخر وتلك القدسية الرفيعة لأنها أصبحتْ جزءا مشاركا
في جميع الأحوال يلاحظ المؤلفان أنه لم يحدثْ في أي عصر من العصور أن قضى وسيطٌ على وسيطٍ آخر، بل دائما يحدث التعايش بين القديم والجديد، وكان دائما ما يُنظر إلى الخلف جنبًا إلى جنب مع النظر إلى الأمام.
وفي مقدمتهما يذكر المؤلفان أن الحضارةَ اليونانيةَ كانت انعكاسًا لقوة الكلمة، وأن الإسكندرَ حمل معه في حملاته -بالإضافة إلى إلياذة هوميروس- حوالي نصف مليون مخطوطة ليودَعها في المدينة التي سميت على اسمه في مصر وهي الإسكندرية.
هنا نشير إلى قوة الكلمة، التي ستفقدها بحلول العصر الرقمي الذي سوف يتنازل عن جلال الكلمة وقدسيتها، لصالح وسائط أخرى ومؤثرات جديدة ونصوص وليدة لم تكن للكلمةِ فيها اليدُ العليا، كما سنوضح لاحقا. ومن هنا يمكن القول إن التغيرات في الوسائط تؤدي إلى نتائج اجتماعية وثقافية مهمة تحظى بقبول واسع.
في عام 1550 -وبعد انتشار الطباعة الورقية كوسيط ثقافي واجتماعي جديد- وجدنا كاتبًا إيطاليًّا يشكو من أن الكتب أصبحت من الكثرة بحيث إن الوقت لا يكفي حتى لقراءة عناوينها (فما بالنا الآن، بعد حوالي أربعمئة وخمسة وسبعين عاما)، ويذهب آخر إلى أن الكتب أصبحت غابة يتوه فيها القراء، لذا ظهرت منذ منتصف القرن السادس عشر الببلوغرافيات المطبوعة مشتملة على معلومات عمَّا كُتب، ولكن مع زيادة حجم المؤلفات أصبحت ببليوغرافيات الموضوع ضرورةً مُلحة. ومنذ أواخر القرن السابع عشر ظهرتْ مراجعات المنشورات الجديدة، أو مراجعات الكتب.
ولئن غيرت الطباعة البنية الوظيفية للمدينة، فإن الرقمنة والنشر الإلكتروني والعصر الرقمي غيروا أيضا الكثير من البنى الوظيفية في العالم كله.
مع النمو المتسارع لمفردات العصر الرقمي الذي نعيشه منذ سنوات، طرأت تغييرات أيضا على شكل الأدب، فظهر ما يعرف بالأدب الرقمي، وهو أدب تستحيل طباعتُه على الورق، أو هو أدبٌ يستغني عن الورق تمامًا في جميع مراحل إنتاجه وصولا إلى الشاشة الرقمية، سواء كانت شاشة أجهزة كمبيوتر أو شاشة تليفونات محمولة أو ذكية أو شاشة وسائط أخرى مثل الآي فون والآي باد وغير ذلك من الشاشات الإلكترونية. وعرفنا ما يمكن تسميته بالرواية الرقمية، وظهر لها روَّادها من أمثال الأديب الأردني محمد سناجلة، وحمزة قريرة من الجزائر، ومن المغرب محمد أسليم، وعبدالواحد استيتو، وفي مجال الشعر ظهرت أسماء مثل مشتاق عباس معن من العراق، وعبدالوهاب الملوح، وإبراهيم درغوثي من تونس وغيرهم.
وعلى الرغم من ظهور كتابات جديدة وتنظيرات كثيرة حول تجربة الأدب الرقمي في العالم العربي، فإن النصوص الأدبية الرقمية شحيحةٌ إلى حد كبير. وربما كان التنظير أكثر من النصوص.
نصوص شعرية متحركة
مشتاق عباس معن شاعر يزاوج الكلمات والأيقونات
لأننا نتعرض في هذه الورقة إلى الشعر الرقمي والقصيدة الرقمية، فسوف نأخذ أعمال الشاعر العراقي د. مشتاق عباس معن أنموذجًا.
يقول الشاعر في قصيدته الرقمية المنشورة على صفحته أو موقعه من خلال الروابط أو الوسائط الرقمية:
“الحروفُ في شفاهي/ كفؤوسٍ متكدّرة/ لا تعرفُ الأبوابَ الخلفيَّة/ فكلّ طَرْقِها متخثرُ الصدى/ ينمو خلسةً/ كطحالبَ بلا أكتاف…/ الأبوابُ خاليةُ العتباتِ إلاّ من عثرتين عابرتين.”
وفي قصيدة أخرى يقول:
“خبزُ العاطل/ يأكل كفّي/ يعضُّ جروحَ شفاهِ صغاري/ يرعى كلَّ بقايا الخوف/ يكنسُ من أرجاء الروح/ قشَّ الصبر/ يا سنبلة/ تحملُ منذ عُجافٍ أسمرَ… / سرَّ الموت… / خلِّ رفات الوقتِ قليلاً/ فالتابوت يئنّ ضحايا/ تلو ضحايا/ تلو ضحايا/ ومهاد الغافين طويلاً خشبٌ قان/ يحضن من أغصانِ رفاقي جِلْداً أنزع/ يقطر وَهَناً/ فوق مسامِّ الخطوِ الأحمر/ يعلم… أنّ/ نداءَ الوقت :/ بقايا خنجر/ تفتحُ جَفناً/ كي يغفو ما بين الحنظلِ والحنظل.”
وتصاحب هذا النص المتحرك الملوّن موسيقى موحية وأصواتٌ معبرة مثل صوت الريح، مع صور جرافيك، وصورة لحنظلة التي اشتهر برسمها فنان الكاريكاتير الراحل ناجي العلي.
النص على شاشة الجهاز نصٌّ متحرك من الممكن أن تتغيرَ ألوانُه، يروحُ ويجيء أمام المشاهد، وكأنه مكتوبٌ على ورقة سوداء متحركة ذات سطور متعددة، وخلفية تشكيلية مناسبة لأجواء النص الذي من الممكن أيضا التحكمَ في تصغير بنطه أو تكبيره ليتناسب مع قوة إبصار كلِّ مشاهد أو قارئ على حدة. وهو ما لم يستطعه الورقُ إلا من خلال عدسة مكبرة.
في نص آخر يقول مشتاق:
كبَحّةِ الناي/ تتلقفني أثداءُ العزلة/ لتُرضعَني من صليلِ سكونِها/ وجعًا أخرس/ يحفر في مباسمي صفرةً ثكلى/ ويباسًا من النواح القشيب/ وما بين بحّةٍ وبحّة/ ينزفني النايُ أمثولةً للبكاء القروي/ يندبني لحنجرةٍ بلا أوتار/ تُصفِّرُ إثمًا من السنوات العجاف/ حيث الدموعُ المنقوعةُ بالعزلة…”
أيقونات رقمية
واقع التعامل مع اللغة تغير جذريا
إن نصوص مشتاق معن يسهل نسخُها ووضعها على الورق، ولكن بقية المؤثرات والمشاركات الرقمية الأخرى كالموسيقى والجرافيك والأصوات من الصعب نقلُها إلى الورق بطبيعة الحال، وهي لو نُقلت بأي وسيطٍ من الوسائط ستفقد علاقتَها بالنص وتكون مجرد روابط خالية المعنى والقيمة.
ومن خلال بعض الأيقونات الدائرية يمكن التحكم في كيفية قراءة النص ومشاهدة ما هو مصاحبٌ له، وهذه الأيقونات تحتوي على “عين الذئب”، ووظيفتها التحكم في درجة إضاءة الشاشة أثناء القراءة، وأيقونة “الأفق الكامل” ووظيفتها توسيع الشاشة أو تكبيرها وتصغيرها أو كما يقال ملء الشاشة (أو فُل اسكرين) أو عدم ملئها، أي تكون الصفحة بكامل الشاشة أو في جزء منها، ربما لرؤية أشياء أخرى بجوارها أو خلفها.
أما أيقونة “لوِّنْ أفقَك” الدائرية، فوظيفتها التحكم في درجة سطوع الألوان. وأيقونة “لوِّنْ بوحَك” الدائرية تشمل تلوين النص، حيث نرى أن هناك لونين: لون أبيض على أرضية سوداء، ولون أزرق على أرضية صفراء.
الأيقونة الدائرية “عيونُك الأفق” من شأنِها التبديل أو الاختيار بين الاثني عشر نصًّا المخزَّنين بالموقع، من خلال عمود يظهر في جهة اليسار داخل الصفحة الإلكترونية أو داخل موقع القصائد الرقمية. وعند الضغط على رقم ما من الـ12 رقمًا من الأرقام المكتوبة باللاتينية يأتي على الشاشة النص المطلوب.
الأيقونة الدائرية السادسة والأخيرة تحمل عنوان “كمِّمْ بوحَك” وهي تتيح تشغيل الصوت أو كتمه، وهي أيضا خاصية يستحيلُ وجودها لدى النصوص الورقية بطبيعة الحال.
وعلى سبيل المثال نقرأ في الرقم 2 النص التالي: “حنجرة الوقت… لا أوتار لها/ وحفيف القحط يطول/ … …/ العصفور بلا تغريد/ والصفصاف حثيثُ الوجد/ … …/ النايُ ضرير/ والعازفُ مبتور الإصبع/ … …/ هل أيقنتَ بعُرس الجدب؟!”
النقد التقليدي لا يستطيع التعامل مع القصائد الرقمية التي تعدت الكلمات والاستعارات والتشبيهات والمجازات إلى آفاق أخرى
كما نرى فإن أغلب النصوص الشعرية عند مشتاق عباس معن نصوصٌ قصيرة، معظمها ينتمي إلى قصيدة النثر، وإن كانت هناك قصائد قليلة موزونة من بحر الخبب، وبعضها يشبه قصيدة الهايكو اليابانية، ما يعني أن تجربة القصيدة الرقمية عند مشتاق منفتحة على كل الأشكال والتجارب الشعرية العربية والأجنبية.
إن النقدَ التقليدي لا يستطيع التعامل مع مثل هذه القصائد الرقمية التي تعدت الكلمات والاستعارات والكنايات والتشبيهات والمجازات اللغوية إلى آفاق أخرى الكلمةُ فيها جزءٌ من العمليّة الإبداعية التي دخلت عليها الألوان والموسيقى والأصوات والفيديوهات وغير ذلك من ألعاب الملتيميديا. وأيُّ نقدٍ تتعرض له مثل هذه النصوص الرقمية لا بد أن يأخذ في الاعتبار الوسائط والمؤثرات الأخرى إلى جانب الكلمة.
وعلى الشاعر في هذه الحالة إجادة التعامل مع وسائط أخرى غير الكلمة، أو إلى جوار الكلمة، فلم تعد الكلمة -بمفردها- نورْ، ولم تعد بعضُ الكلمات قبورْ، كما قال الشاعر عبدالرحمن الشرقاوي على لسان الحسين لابن مروان في مسرحيته الشعرية “الحسين شهيدًا”، ونثبت هنا نص الشرقاوي لنعرف معنى الكلمة التي كانت هي كل شيء في النصوص الشعرية:
“أَتَعرِفُ ما معنى الكلمة؟/ مِفتاح الجنة في كلمة/ ودخولُ النارِ على كلمة/ وقضاءُ اللهِ هو كَلِمة/ الكلمة لو تعرف حرمة/ زادٌ مذخورْ/ الكَلِمةُ نورْ/ وبعضُ الكلماتِ قبور/ بعضُ الكلمات قلاعٌ شامخةٌ/ يعتصم بها النبلُ البشري/ الكلمة فرقانٌ بين نبيٍّ وبغي/ بالكلمة تنكشف الغمّة/ الكلمة نور/ ودليلٌ تتبعه الأمة/ عيسى ما كان سوى كلمة/ أضاءَ الدنيا بالكلمات/ وعلَّمها للصيادين/ فساروا يهدون العالم/ الكلمةُ زلزلت الظالم/ الكلمةُ حصنُ الحرية/ إن الكلمةَ مسئولية/ إن الرجلَ هو الكلمة/ شرفُ الرجلِ هو الكلمة/ شرفُ اللهِ هو الكلمة.”
في الشعر الرقمي أو القصيدة الرقمية لم يُعد للكلمة هذا المعنى الفاخر، وتلك القدسية الرفيعة، لأنها أصبحتْ جزءًا مُشاركًا من كلٍّ متعدد الوسائط.
لا قداسة للكلمات
النص على شاشة الجهاز نصٌّ متحرك من الممكن أن تتغيرَ ألوانُه، يروحُ ويجيء أمام المشاهد مستعينا بتقنيات بصرية
إن الوسائط الجديدة انتهكت قدسية الكلمة، وجعلتها تتوارى للخلف، لصالح تقنياتٍ أخرى، ويزيد الذكاءُ الاصطناعيُّ انتهاك تلك الكلمة وحرمتِها، بادعائه تأليف الشعر، وتأليف القصة والرواية، وهو ما يُعتقد أنه يسلبُ الإنسانَ تلك اللحظة النورانية التي يتجلَّى فيها خلقُ الإبداع البشري، وهيهات أن يتحقق ذلك للآلة التي قد تحتفظ بمليارات المُدخلات وتستطيع أن تستخرج منها ما هو كلمات يُظنُّ أنها شعر، أو قصة، أو رواية، أو مسرحية، أو قطعة موسيقى، أو لوحة تشكيلية. وإن حدث فإنها ستكون كلماتٍ وأصواتًا وخطوطًا ونصوصًا خالية من المشاعر والأحاسيس والرؤى واستلهام الخيال. وهو الأمر الذي جعل الكاتب المصري عيسى بيومي في كتابه الجديد “الذكاء الاصطناعي وعبادة التكنولوجيا” يتساءل: كيف يمكن تصميم لوغاريتم يعبر عن أحاسيس ومشاعر الإنسان ويستلهمُ خياله؟
بعد اختراع مطبعة غتنبرغ بسنوات قال الشاعر الإنجليزي أندروا مارفيل (1621 – 1678) مخاطبًا الطباعة “أيتها الطباعة كم عكرتِ صفوَ البشرية.”
والآن هل يمكننا أن نقول: أيها الذكاء الاصطناعي كم عكرتَ صفوَ البشرية؟
ولكن على الرغم من مقولة الشاعر الإنجليزي فإن الطباعة استمرت قرونا، ولا تزال، ويبدو أن الذكاء الاصطناعي يتجه الاتجاه نفسه. إنه لن يلتفت إلى نداءات ومقولات مُحبطة تصفه بأنه يعكِّر صفو البشرية، لأنه من وجهة نظره يعمل على إسعاد البشرية، وفقًا لرؤيته هو وليس وفقًا لرؤية البشرية.
أحمد فضل شبلول
كاتب مصري
تقنيات سمعية وبصرية تدخل عالم القصيدة وتحولها إلى فضاء أيقونات.
الأحد 2025/01/05
العالم الرقمي مساحة أخرى للتلقي
لا اختلاف على أهمية الصورة منذ القدم، ولكن ذلك الفضاء الذي تعايشت فيه الصورة والكلمة وتكاملتا تغير اليوم، إذ تراجعت الكلمة رغم تاريخها الطويل وقداستها الكبيرة إلى الخلف لتحتل الصور المتحركة والأيقونات السمعية البصرية المشهد. ولئن كان الشعر في الصف الأول من رعاة الكلمة، فإنه بدوره يتغير جذريا مع ولادة الشعر الرقمي، الذي تختلف الآراء حوله.
تعددتْ وسائطُ نقلِ الثقافةِ والمعرفةِ على مدى التاريخ الإنساني من الأحجار والمسمار في العصر الحجري، إلى أوراق وجذوع الأشجار وأوراق البَرْدي في العصر الزراعي، وصولا إلى مطبعة غتنبرغ عندما بدأت الصناعة تتحكم في إيقاع البشر، ثم الوسائط الرقمية التي نعيش عصرها الآن، حيث ظهر الاتصال عبر الوسائط المتعددة، من خلال الأشكال التي تخاطبُ العين والأذن معا، وظهر النصُّ المصوَّرُ، ونص الملتيميديا من خلال تكنولوجيا الاتصالات والوسائط، وعصر الذكاء الاصطناعي وما يعرف بالثورة الصناعية الرابعة.
ونُشير في هذا الصدد إلى كتاب “التاريخ الاجتماعي للوسائط ـ من غتنبرغ إلى الإنترنت” وهو من تأليف مؤرخين اجتماعيين وثقافيين، هما آسا بريغز وبيتر بورك، وقد صدرت طبعته المترجمة في 440 صفحة ـ عن سلسلة عالم المعرفة بالكويت (العدد 315) ترجمة مصطفى محمد قاسم. والكتابُ يضعُ الوسائطَ في التاريخ، ويضعُ التاريخ في الوسائط، من خلال عرض شمولي تأصيلي لهذه الوسائط وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات.
الأدب الرقمي
في الشعر الرقمي أو القصيدة الرقمية لم يعد للكلمة المعنى الفاخر وتلك القدسية الرفيعة لأنها أصبحتْ جزءا مشاركا
في جميع الأحوال يلاحظ المؤلفان أنه لم يحدثْ في أي عصر من العصور أن قضى وسيطٌ على وسيطٍ آخر، بل دائما يحدث التعايش بين القديم والجديد، وكان دائما ما يُنظر إلى الخلف جنبًا إلى جنب مع النظر إلى الأمام.
وفي مقدمتهما يذكر المؤلفان أن الحضارةَ اليونانيةَ كانت انعكاسًا لقوة الكلمة، وأن الإسكندرَ حمل معه في حملاته -بالإضافة إلى إلياذة هوميروس- حوالي نصف مليون مخطوطة ليودَعها في المدينة التي سميت على اسمه في مصر وهي الإسكندرية.
هنا نشير إلى قوة الكلمة، التي ستفقدها بحلول العصر الرقمي الذي سوف يتنازل عن جلال الكلمة وقدسيتها، لصالح وسائط أخرى ومؤثرات جديدة ونصوص وليدة لم تكن للكلمةِ فيها اليدُ العليا، كما سنوضح لاحقا. ومن هنا يمكن القول إن التغيرات في الوسائط تؤدي إلى نتائج اجتماعية وثقافية مهمة تحظى بقبول واسع.
في عام 1550 -وبعد انتشار الطباعة الورقية كوسيط ثقافي واجتماعي جديد- وجدنا كاتبًا إيطاليًّا يشكو من أن الكتب أصبحت من الكثرة بحيث إن الوقت لا يكفي حتى لقراءة عناوينها (فما بالنا الآن، بعد حوالي أربعمئة وخمسة وسبعين عاما)، ويذهب آخر إلى أن الكتب أصبحت غابة يتوه فيها القراء، لذا ظهرت منذ منتصف القرن السادس عشر الببلوغرافيات المطبوعة مشتملة على معلومات عمَّا كُتب، ولكن مع زيادة حجم المؤلفات أصبحت ببليوغرافيات الموضوع ضرورةً مُلحة. ومنذ أواخر القرن السابع عشر ظهرتْ مراجعات المنشورات الجديدة، أو مراجعات الكتب.
ولئن غيرت الطباعة البنية الوظيفية للمدينة، فإن الرقمنة والنشر الإلكتروني والعصر الرقمي غيروا أيضا الكثير من البنى الوظيفية في العالم كله.
مع النمو المتسارع لمفردات العصر الرقمي الذي نعيشه منذ سنوات، طرأت تغييرات أيضا على شكل الأدب، فظهر ما يعرف بالأدب الرقمي، وهو أدب تستحيل طباعتُه على الورق، أو هو أدبٌ يستغني عن الورق تمامًا في جميع مراحل إنتاجه وصولا إلى الشاشة الرقمية، سواء كانت شاشة أجهزة كمبيوتر أو شاشة تليفونات محمولة أو ذكية أو شاشة وسائط أخرى مثل الآي فون والآي باد وغير ذلك من الشاشات الإلكترونية. وعرفنا ما يمكن تسميته بالرواية الرقمية، وظهر لها روَّادها من أمثال الأديب الأردني محمد سناجلة، وحمزة قريرة من الجزائر، ومن المغرب محمد أسليم، وعبدالواحد استيتو، وفي مجال الشعر ظهرت أسماء مثل مشتاق عباس معن من العراق، وعبدالوهاب الملوح، وإبراهيم درغوثي من تونس وغيرهم.
وعلى الرغم من ظهور كتابات جديدة وتنظيرات كثيرة حول تجربة الأدب الرقمي في العالم العربي، فإن النصوص الأدبية الرقمية شحيحةٌ إلى حد كبير. وربما كان التنظير أكثر من النصوص.
نصوص شعرية متحركة
مشتاق عباس معن شاعر يزاوج الكلمات والأيقونات
لأننا نتعرض في هذه الورقة إلى الشعر الرقمي والقصيدة الرقمية، فسوف نأخذ أعمال الشاعر العراقي د. مشتاق عباس معن أنموذجًا.
يقول الشاعر في قصيدته الرقمية المنشورة على صفحته أو موقعه من خلال الروابط أو الوسائط الرقمية:
“الحروفُ في شفاهي/ كفؤوسٍ متكدّرة/ لا تعرفُ الأبوابَ الخلفيَّة/ فكلّ طَرْقِها متخثرُ الصدى/ ينمو خلسةً/ كطحالبَ بلا أكتاف…/ الأبوابُ خاليةُ العتباتِ إلاّ من عثرتين عابرتين.”
وفي قصيدة أخرى يقول:
“خبزُ العاطل/ يأكل كفّي/ يعضُّ جروحَ شفاهِ صغاري/ يرعى كلَّ بقايا الخوف/ يكنسُ من أرجاء الروح/ قشَّ الصبر/ يا سنبلة/ تحملُ منذ عُجافٍ أسمرَ… / سرَّ الموت… / خلِّ رفات الوقتِ قليلاً/ فالتابوت يئنّ ضحايا/ تلو ضحايا/ تلو ضحايا/ ومهاد الغافين طويلاً خشبٌ قان/ يحضن من أغصانِ رفاقي جِلْداً أنزع/ يقطر وَهَناً/ فوق مسامِّ الخطوِ الأحمر/ يعلم… أنّ/ نداءَ الوقت :/ بقايا خنجر/ تفتحُ جَفناً/ كي يغفو ما بين الحنظلِ والحنظل.”
وتصاحب هذا النص المتحرك الملوّن موسيقى موحية وأصواتٌ معبرة مثل صوت الريح، مع صور جرافيك، وصورة لحنظلة التي اشتهر برسمها فنان الكاريكاتير الراحل ناجي العلي.
النص على شاشة الجهاز نصٌّ متحرك من الممكن أن تتغيرَ ألوانُه، يروحُ ويجيء أمام المشاهد، وكأنه مكتوبٌ على ورقة سوداء متحركة ذات سطور متعددة، وخلفية تشكيلية مناسبة لأجواء النص الذي من الممكن أيضا التحكمَ في تصغير بنطه أو تكبيره ليتناسب مع قوة إبصار كلِّ مشاهد أو قارئ على حدة. وهو ما لم يستطعه الورقُ إلا من خلال عدسة مكبرة.
في نص آخر يقول مشتاق:
كبَحّةِ الناي/ تتلقفني أثداءُ العزلة/ لتُرضعَني من صليلِ سكونِها/ وجعًا أخرس/ يحفر في مباسمي صفرةً ثكلى/ ويباسًا من النواح القشيب/ وما بين بحّةٍ وبحّة/ ينزفني النايُ أمثولةً للبكاء القروي/ يندبني لحنجرةٍ بلا أوتار/ تُصفِّرُ إثمًا من السنوات العجاف/ حيث الدموعُ المنقوعةُ بالعزلة…”
أيقونات رقمية
واقع التعامل مع اللغة تغير جذريا
إن نصوص مشتاق معن يسهل نسخُها ووضعها على الورق، ولكن بقية المؤثرات والمشاركات الرقمية الأخرى كالموسيقى والجرافيك والأصوات من الصعب نقلُها إلى الورق بطبيعة الحال، وهي لو نُقلت بأي وسيطٍ من الوسائط ستفقد علاقتَها بالنص وتكون مجرد روابط خالية المعنى والقيمة.
ومن خلال بعض الأيقونات الدائرية يمكن التحكم في كيفية قراءة النص ومشاهدة ما هو مصاحبٌ له، وهذه الأيقونات تحتوي على “عين الذئب”، ووظيفتها التحكم في درجة إضاءة الشاشة أثناء القراءة، وأيقونة “الأفق الكامل” ووظيفتها توسيع الشاشة أو تكبيرها وتصغيرها أو كما يقال ملء الشاشة (أو فُل اسكرين) أو عدم ملئها، أي تكون الصفحة بكامل الشاشة أو في جزء منها، ربما لرؤية أشياء أخرى بجوارها أو خلفها.
أما أيقونة “لوِّنْ أفقَك” الدائرية، فوظيفتها التحكم في درجة سطوع الألوان. وأيقونة “لوِّنْ بوحَك” الدائرية تشمل تلوين النص، حيث نرى أن هناك لونين: لون أبيض على أرضية سوداء، ولون أزرق على أرضية صفراء.
الأيقونة الدائرية “عيونُك الأفق” من شأنِها التبديل أو الاختيار بين الاثني عشر نصًّا المخزَّنين بالموقع، من خلال عمود يظهر في جهة اليسار داخل الصفحة الإلكترونية أو داخل موقع القصائد الرقمية. وعند الضغط على رقم ما من الـ12 رقمًا من الأرقام المكتوبة باللاتينية يأتي على الشاشة النص المطلوب.
الأيقونة الدائرية السادسة والأخيرة تحمل عنوان “كمِّمْ بوحَك” وهي تتيح تشغيل الصوت أو كتمه، وهي أيضا خاصية يستحيلُ وجودها لدى النصوص الورقية بطبيعة الحال.
وعلى سبيل المثال نقرأ في الرقم 2 النص التالي: “حنجرة الوقت… لا أوتار لها/ وحفيف القحط يطول/ … …/ العصفور بلا تغريد/ والصفصاف حثيثُ الوجد/ … …/ النايُ ضرير/ والعازفُ مبتور الإصبع/ … …/ هل أيقنتَ بعُرس الجدب؟!”
النقد التقليدي لا يستطيع التعامل مع القصائد الرقمية التي تعدت الكلمات والاستعارات والتشبيهات والمجازات إلى آفاق أخرى
كما نرى فإن أغلب النصوص الشعرية عند مشتاق عباس معن نصوصٌ قصيرة، معظمها ينتمي إلى قصيدة النثر، وإن كانت هناك قصائد قليلة موزونة من بحر الخبب، وبعضها يشبه قصيدة الهايكو اليابانية، ما يعني أن تجربة القصيدة الرقمية عند مشتاق منفتحة على كل الأشكال والتجارب الشعرية العربية والأجنبية.
إن النقدَ التقليدي لا يستطيع التعامل مع مثل هذه القصائد الرقمية التي تعدت الكلمات والاستعارات والكنايات والتشبيهات والمجازات اللغوية إلى آفاق أخرى الكلمةُ فيها جزءٌ من العمليّة الإبداعية التي دخلت عليها الألوان والموسيقى والأصوات والفيديوهات وغير ذلك من ألعاب الملتيميديا. وأيُّ نقدٍ تتعرض له مثل هذه النصوص الرقمية لا بد أن يأخذ في الاعتبار الوسائط والمؤثرات الأخرى إلى جانب الكلمة.
وعلى الشاعر في هذه الحالة إجادة التعامل مع وسائط أخرى غير الكلمة، أو إلى جوار الكلمة، فلم تعد الكلمة -بمفردها- نورْ، ولم تعد بعضُ الكلمات قبورْ، كما قال الشاعر عبدالرحمن الشرقاوي على لسان الحسين لابن مروان في مسرحيته الشعرية “الحسين شهيدًا”، ونثبت هنا نص الشرقاوي لنعرف معنى الكلمة التي كانت هي كل شيء في النصوص الشعرية:
“أَتَعرِفُ ما معنى الكلمة؟/ مِفتاح الجنة في كلمة/ ودخولُ النارِ على كلمة/ وقضاءُ اللهِ هو كَلِمة/ الكلمة لو تعرف حرمة/ زادٌ مذخورْ/ الكَلِمةُ نورْ/ وبعضُ الكلماتِ قبور/ بعضُ الكلمات قلاعٌ شامخةٌ/ يعتصم بها النبلُ البشري/ الكلمة فرقانٌ بين نبيٍّ وبغي/ بالكلمة تنكشف الغمّة/ الكلمة نور/ ودليلٌ تتبعه الأمة/ عيسى ما كان سوى كلمة/ أضاءَ الدنيا بالكلمات/ وعلَّمها للصيادين/ فساروا يهدون العالم/ الكلمةُ زلزلت الظالم/ الكلمةُ حصنُ الحرية/ إن الكلمةَ مسئولية/ إن الرجلَ هو الكلمة/ شرفُ الرجلِ هو الكلمة/ شرفُ اللهِ هو الكلمة.”
في الشعر الرقمي أو القصيدة الرقمية لم يُعد للكلمة هذا المعنى الفاخر، وتلك القدسية الرفيعة، لأنها أصبحتْ جزءًا مُشاركًا من كلٍّ متعدد الوسائط.
لا قداسة للكلمات
النص على شاشة الجهاز نصٌّ متحرك من الممكن أن تتغيرَ ألوانُه، يروحُ ويجيء أمام المشاهد مستعينا بتقنيات بصرية
إن الوسائط الجديدة انتهكت قدسية الكلمة، وجعلتها تتوارى للخلف، لصالح تقنياتٍ أخرى، ويزيد الذكاءُ الاصطناعيُّ انتهاك تلك الكلمة وحرمتِها، بادعائه تأليف الشعر، وتأليف القصة والرواية، وهو ما يُعتقد أنه يسلبُ الإنسانَ تلك اللحظة النورانية التي يتجلَّى فيها خلقُ الإبداع البشري، وهيهات أن يتحقق ذلك للآلة التي قد تحتفظ بمليارات المُدخلات وتستطيع أن تستخرج منها ما هو كلمات يُظنُّ أنها شعر، أو قصة، أو رواية، أو مسرحية، أو قطعة موسيقى، أو لوحة تشكيلية. وإن حدث فإنها ستكون كلماتٍ وأصواتًا وخطوطًا ونصوصًا خالية من المشاعر والأحاسيس والرؤى واستلهام الخيال. وهو الأمر الذي جعل الكاتب المصري عيسى بيومي في كتابه الجديد “الذكاء الاصطناعي وعبادة التكنولوجيا” يتساءل: كيف يمكن تصميم لوغاريتم يعبر عن أحاسيس ومشاعر الإنسان ويستلهمُ خياله؟
بعد اختراع مطبعة غتنبرغ بسنوات قال الشاعر الإنجليزي أندروا مارفيل (1621 – 1678) مخاطبًا الطباعة “أيتها الطباعة كم عكرتِ صفوَ البشرية.”
والآن هل يمكننا أن نقول: أيها الذكاء الاصطناعي كم عكرتَ صفوَ البشرية؟
ولكن على الرغم من مقولة الشاعر الإنجليزي فإن الطباعة استمرت قرونا، ولا تزال، ويبدو أن الذكاء الاصطناعي يتجه الاتجاه نفسه. إنه لن يلتفت إلى نداءات ومقولات مُحبطة تصفه بأنه يعكِّر صفو البشرية، لأنه من وجهة نظره يعمل على إسعاد البشرية، وفقًا لرؤيته هو وليس وفقًا لرؤية البشرية.
أحمد فضل شبلول
كاتب مصري