"جنيات إنيشرين".. حكاية عن نهاية الصداقة استعارة للحرب الأهلية الأيرلندية
الفيلم قصة أصلية وغير تقليدية تلقي نظرة على الطبيعة البشرية غير الكاملة.
الأحد 2025/01/05
ShareWhatsAppTwitterFacebook

حرب شخصية حميمة
التأثير الكبير الذي تصنعه السينما على غرار أي فن آخر، بينما تتناول التاريخ مازجة الواقعي بالخيال، هو تأثير عميق للغاية، ليس ذلك أمرا تقنيا، بل القوة في نحت القصص والابتعاد عن التأريخ الجاف، وابتكار قصص موازية يمكنها أن تكون رمزية للغاية، وهذا ما يصنع عملا ينفذ إلى أعماق المشاعر قبل الأفكار. وهذا ما نجح فيه فيلم “جنيّات إنيشرين”.
فيلم "جنيّات إنيشرين" دراما تدور أحداثها في أوائل عشرينات القرن الماضي على جزيرة إنيشرين في فترة الحرب الأيرلندية من أجل الاستقلال ضد بريطانيا (وكانت من 21 يناير 1919 حتى 11 يوليو 1921). وبعدها الحرب الأهلية الأيرلندية من 28 يونيو 1922 حتى 24 مايو 1923.
عنوان الفيلم اكتسب من مشروع كولم في تأليف أغنية تحمل عنوان “بانشيز أنشيرين”. يعيش بادريك (كولين فاريل) حياة هادئة محاطة بالمناظر الخلابة في منزل والدته الراحلة، حيث يعيش مع أخته سيوبان (كيري كوندون) ومع حيواناته، ويقوم بتوصيل الحليب، وكل يوم في الساعة 2 ظهرا، يحضر إلى الحانة المحلية مع صديقه المفضل كولم (بريندان جليسون).
نهاية الصداقة
يلتقي الصديقان بادريك وكولم لتناول المشروب في الحانة الوحيدة في الجزيرة، إنه روتينهما اليومي. وعندما لم يجد بادريك صديقه يتوجه إلى بيته، يسير عبر القرية الرعوية الساحلية، مرورا بتمثال “ماري”، حيث يحدق من خلال النافذة ويسأل صديقه عما إذا كان قادما إلى الحانة، ولكن صديقه كولم (بريندان جليسون) يتجاهله ولا يرد عليه.
يعود بادريك إلى المنزل خائبا، حيث تقوم أخته بغسل الملابس، بينما هو في حيرة من أمره، تسأل الأخت بادريك عما إذا كان هو وكولم متخاصمين، ويرد بالنفي، ترد أخته سيوبان مازحة “ربما لم يعد يحبك بعد الآن”. في الحانة، يسأل النادل عن كولم عندما يرى بادريك الانفرادي، إذ اعتاد على رؤية الرجلين معا، ثم يسأل النادل عما إذا كان بادريك وكولم متخاصمين.

يقول بادريك “لا”، على الرغم من أن سلوك كولم يشير إلى ذلك. وبادريك غير مدرك لأي خلاف. أصيب بادريك بالصدمة، وأخيرا يشعر بالحزن العميق. لم يعطه كولم أي سبب مقنع للانفصال. هذان الرجلان كانا صديقين عمليا طوال حياتهما. لماذا ينهي الآن كولم صداقته مع بادريك؟ هل كان شيئا قاله بادريك أو فعله؟ هل كولم مكتئب؟ هل يجب أن يحترام رغبات كولم في العزلة أم يجب أن يحاول تغيير رأي كولم أو تغيير نفسه؟
يعود بادريك إلى منزل كولم، ويتوقف عند النافذة، وهناك موسيقى تعزف لكن بادريك لا يرى أحدا ويدخل إلى الداخل، وينظر حوله. يسير كولم في الخارج بمفرده، ويذهب إلى الحانة بمفرده دون الالتفات إلى صديقه. يصل بادريك إلى الحانة، ويطلب كولم من بادريك الجلوس في مكان آخر وليس على طاولته “أنا فقط لا أحبك بعد الآن”، كما يقول كولم.
يتساءل بادريك عن السبب. لكن كولم يغادر تاركا بادريك جالسا بمفرده. كولم عازف الكمان في الحانة الوحيدة في الجزيرة، وتلقى موسيقاه وأغنياته الثناء والتقدير من النساء والرجال. يعود بادريك إلى منزل صديقه مرة أخرى ويقرع بادريك باب منزل كولم، لكنه يلمح كولم قد انطلق مع كلبه الأسود والأبيض، وذهب إلى الحانة بمفرده.
يذهب بادريك للانضمام إلى طاولة كولم، لكن كولم يقول إنه يريد وقتا هادئا. يقول كولم إن بادريك قد لا يكون لديه شيء أفضل ليفعله، لكن كولم كتب جزءا من أغنية ويريد أن يكتب المزيد لأنه أضاع الكثير من الوقت مع بادريك والاستماع إلى هرائه. يخرج بادريك ويتبعه كولم ليشرح نفسه: يشعر أن سنوات العمر تمر سريعا، ويريد قضاء بعض الوقت في الإبداع والتأليف وعدم الاستماع إلى حديث بادريك الممل.
أمضى بادريك مؤخرا ساعتين يتحدث عما وجده في براز حماره. بدعم من دومينيك (باري كيوغان)، وهو شاب ودود يعيش أيضا في الجزيرة الأيرلندية الخيالية، يشرع في مهمة عنيدة، هدفها الوحيد هو استعادة الصداقة المفقودة. ومع ذلك، فإن عناده سيجعل كولم يفقد كل صبره، مما يدفعه إلى وضع إنذار نهائي خطير يمكن أن تكون له عواقب وخيمة لا يمكن تصورها على كليهما.
سيوبان (كيري كوندون)، بعد رؤية محنة شقيقها، تواجه كولم وترجوه أن يتحدث مع شقيقها. يخبرها كولم أن بادريك ممل – تقول إنه كان دائما مملا – ما الذي تغير؟ يقول كولم إنه يريد السلام في قلبه. يخبر سيوبان بأن تقول لبادريك أن يتوقف عن إزعاجه. ويؤكد أنه إذا استمر بادريك في إزعاجه فسوف يقطع إصبعه.
رمزية نهاية الفيلم
اللطف يفقد قيمته في عالم التعالي
في فيلم المخرج والكاتب مارتن ماكدونا، ينشد الفنان والعازف كولم العزلة، يمكن أن تكون العزلة قوة. في العزلة، يمكن للمرء أن يعرف نفسه، ويطور موهبته الفنية واهتماماته. يعزف كولم بالقرب من الشاطئ، جالسا، وكلبه بالقرب منه، يمشي بادريك إلى كولم على الشاطئ للاعتذار، “لماذا لا تتركني وحدي؟” يسأل كولم. يزور كولم منزل بادريك، ويطرق الباب، ويبتعد، بعد أن ترك إصبعه المقطوع كهدية.
ينقل الفعل الفيلم إلى مستوى جديد، مستوى التعبيرية والبشاعة وحتى المأساوي. كولم في المنزل، يرقص مع كلبه، بعد أن أكمل أغنية. يقاطعه بادريك بإلحاح ويزعجه، ويتجادل الرجلان مرة أخرى.
يذهب بادريك إلى الحانة لانتظار كولم، على افتراض أنه أعاد بعض التوازن في علاقتهما. تريد الأخت سيوبان، التحدث إلى بادريك حول خطتها لمغادرة الجزيرة بعد حصولها على وظيفة جديدة، لكنها ترى بادريك ينتظر، وتسأل عما يفعله. (لا يفهم اضطراب كولم وتهديده؟) يقطع كولم المزيد من أصابعه ويلقي بها على باب بادريك.
يرى بادريك وسيوبان في طريق العودة إلى المنزل كولم على الطريق ويده المقطوعة – يده الواحدة بلا أصابع. تحزم شقيقة بادريك حقائبها للرحيل من الجزيرة وتترك كتبها ومكتبتها وتطلب من بادريك الاعتناء بها. تأخذ القارب، تلوح وداعا. يجد بادريك أن حماره، بعد أن حاول أكل أصابع كولم السمينة قد اختنق ومات. يهدد بادريك، الغاضب والبائس، يقوم بإشعال النار في منزل كولم في اليوم التالي في الساعة المحددة التي اعتادوا فيها الذهاب إلى الحانة، وهو يحرق المنزل، معلنا أن معركتهما مستمرة.
قصة تستكشف الطبيعة البشرية والأسباب التي لا معنى لها وراء بعض الصراعات العسكرية التي تركت آثارا مؤلمة
نهاية الفيلم هي نوع من خاتمة النزاع بين كولم وبادريك. أظهرت شخصية كولم بالفعل أنه كان جادا عندما قال إنه سيقطع أصابعه في كل مرة يتحدث فيها بادريك معه. بعد أن اقترب منه مرة أخرى، قرر أن يقطع أربعة أصابع دفعة واحدة وألقى بها في ممر منزل بادريك. وعندما تعود أخت بادريك إلى المنزل، تدرك أن حمارها المحبوب جيني، اختنق بأحد أصابع كولم ومات. هذا ما جعل بادريك غاضبا وهدد بحرق منزل العازف كولم معه بداخله.
ينفذ بادريك تهديده، في صباح اليوم التالي اكتشف بادريك أن كولم لم يبق داخل المنزل المحترق، بل هرب من النافذة. على الرغم من أن الرجل العجوز كولم أخبره أنه يمكنهما إنهاء صراعهما هناك، إلا أن شخصية كولين تثبت أن الأمر لن ينتهي إلا عندما يموت أحد الاثنين.
لا يشير عنوان الفيلم فقط إلى أغنية من تأليف كولم من أجل الموت، ولكن إلى شخصية شبحية أسطورية من الأساطير الأيرلندية، الشخصية الأثيرية والمخيفة التي تتمثل في السيدة ماكورميك (شيلا فليتون)، المشؤومة وتذكرنا بالموت، ويبدو أن الأغنية تفكر في دورة الحياة والموت، والصداقة والتمزق، والإساءة والتحرر. يشير العنوان أيضا إلى قطعة موسيقية تؤلفها شخصية جليسون خلال الفيلم وكاستعارة للحرب.
كولم وبادريك لا يستطيعان حل خلافاتهما وكما هو الحال في التاريخ الأيرلندي وينتهي بهما الأمر بتدمير أنفسهما
كولم وبادريك لا يستطيعان حل خلافاتهما وكما هو الحال في التاريخ الأيرلندي وينتهي بهما الأمر بتدمير نفسيهما. يختتم الفيلم بتعليق كولم حول الحرب الأهلية ويبدو أن الصراع قد انتهى، على الرغم من أن بادريك يؤكد له أنهم سيقاتلون قريبا مرة أخرى.
على الرغم من خصوصيتها الجغرافية، إلا أن الموضوعات المعروضة في فيلم “جنيات إنيشرين” عالمية بطبيعتها. من طموح الإنسان الشديد في التفوق إلى الفردية التي تؤدي في النهاية إلى الشعور بالوحدة، لكن الانعكاسات النهائية للفيلم هي أيضا خالدة، ولا تزال ذات أهمية كبيرة في الوقت الحاضر، خلف روح الدعابة الغريبة للمخرج ماكدونا الذي يفاجئ الفيلم بالإنسانية التي يحتفظ بها من البداية إلى النهاية.
تظهر المشاهد، مثل كولم وبادريك وهما يركبان عربة قديمة في صمت بعد تعرض الأخير للضرب الوحشي من قبل أحد السكان المحليين، ومضات من التعاطف والأخوة حتى في أوقات الحرب. قصة أصلية وغير تقليدية تلقي نظرة على الطبيعة البشرية غير الكاملة، وتوضح كيف أن اللطف يفقد قيمته في عالم أصبح فيه التعالي هو المقياس الوحيد لتذكر إرث وذكرى أولئك الذين ماتوا والاحتفال بهم.
قد يخوض بلد ما حربا أهلية، وقد يحدث القتال على بعد أميال قليلة، لكن الإنسان لا يخلو من الاقتتال الداخلي والكآبة والعاطفة التي يمكن أن تشمل كل شيء وتصبح حربا شخصية حميمة. يقول فاريل إن “الألم يولد الألم. الغضب يولد الغضب. العنف يولد العنف.” البشر يفعلون أشياء فظيعة.
يشعر بادريك بالدمار ويقوم بأشياء لم يكن ليفعلها أبدا. لأي سبب من الأسباب، يعيش كولم في حالة من الهياج والألم أو الحزن أو الغضب أو الخوف الذي يقوده إلى ارتكاب أفعال حقيرة. ماذا يعني الفن إذا تعاملت مع الآخرين مثل القمامة؟ يسأل جليسون، “هل يستحق التضحية؟ والنتيجة هي أنك يجب أن تكون على استعداد للمعاناة من أجل فنك. أنا لا أتفق تماما مع ذلك. لكنني أعتقد أن كولم، في ظلامه اليائس، أقنع نفسه بأن هذا هو ما يحتاجه لإظهار أنه ملتزم تماما بشغفه.”
الحرب كخلفية
مهمة عنيدة هدفها الوحيد هو استعادة الصداقة
أحد أكبر الأسئلة هو لماذا قرر كولم أنه لا يريد أن يكون صديقا لبادريك بعد الآن. لفهم السبب الذي تسبب في تدهور مثل هذا التقليد عميق الجذور. أخبره كولم بصراحة أنه لم يعد لديه أي اهتمام بالسعي للحصول على صداقته. إنها ليست مسألة كراهية. إنه يريد ببساطة استثمار الأيام الباقية من عمره في الإبداع الموسيقي في التأليف والعزف والغناء. بالإضافة إلى ذلك، ذكر أن السبب في ذلك هو أن الشاب ممل للغاية وأنه يشعر بأنه يضيع الوقت القليل الذي لديه للعيش (عدة سنوات في الواقع) في محادثات مبتذلة.
يفضل كولم الابتعاد عن صديقه والتركيز على كتابة الموسيقى والعزف على كمانه. قرر كولم متابعة الفن والإبداع وجعله أهم شيء في حياته. يوضح ماكدونا، يصل كولم إلى نقطة ما لم يفعل شيئا جذريا للغاية، فلن يتركوه بمفرده، إنه يهدد بقطع أصابعه إذا لم يتركه بادريك بمفرده ويمنحه الوقت للإبداع. من الناحية الرمزية، يهدد بتدمير موهبته الموسيقية. يرى كولم أنه اختبار للالتزام. بعد فترة، حتى الحانة، وحارس الحانة جونجو، الذي يلعب دوره بات شورت لم تعد ملاذا آمنا لبادريك.
هذه هي فرضية البداية: قرر كولم في صباح أحد الأيام عدم التحدث إلى صديقه الذي لا ينفصل عنه بادريك على أساس أن الحياة أقصر من أن يقضيها في الاستماع إلى ثرثرة أحمق وبليد.
لا يلعب ماكدونا على الغموض والمفاجأة، ما يهمه هو التعمق في عبثية الموقف الذي أنشأه منذ البداية لوصف المجتمع الصغير المعزول حيث تحدث الحبكة بشكل أفضل.
على الرغم من خصوصيتها الجغرافية، إلا أن الموضوعات المعروضة في فيلم "جنيات إنيشرين" عالمية بطبيعتها
تم تقليص الجزيرة إلى بعض الأشياء: عدد قليل من المنازل، يعيش بادريك مع أخته سيوبان، وهناك شرطي عنيف ومكروه، وحانة حيث يلتقي الجميع في الأوقات الرئيسية من اليوم، ومتجر بقالة يقع على الضفة الأخرى يسمح لهم بالبقاء على قيد الحياة. القليل من الأحداث تتخلل أيام إنيشرين، ويبدو أن هناك القليل من العمل، ويعتني بادريك بحيواناته ويبيع حليب بقراته.
تدور أحداث الفيلم في عام 1923 في منتصف الحرب الأهلية الأيرلندية وهي موضوع مثير للاهتمام للغاية كسياق. لكن هذه الحرب لا تعطي جوا من المأساة الحتمية للفيلم فحسب، بل هناك استعارة مهمة وراءها. كانت الحرب الأهلية الأيرلندية صراعا وقع بين 28 يونيو 1922 و24 مايو 1923، بعد فترة وجيزة من حرب الاستقلال الأيرلندية ضد المملكة المتحدة. بمجرد انتهاء النضال على الاستقلال، تم التوقيع على المعاهدة (1919 – 1921).
إنها قصة تستكشف الطبيعة البشرية والأسباب التي لا معنى لها وراء بعض الصراعات العسكرية التي تركت آثارا مؤلمة على مر القرون. ليس من قبيل المصادفة أن يحدث الصراع بين الشخصيتين الرئيسيتين بالتوازي مع الحرب الأهلية الأيرلندية إلا أنها تذكير دائم بتلك الحلقة المحزنة في تاريخ البلاد، حيث انتهى الأمر بعداء الإخوة والأصدقاء، الذين قاتلوا قبل بضع سنوات فقط معا في حرب الاستقلال، إن انهيار هذه الصداقة هو استعارة للحرب الأهلية الأيرلندية التي حرضت أعضاء الجيش الجمهوري الأيرلندي ضد الحكومة المؤقتة بين عامي 1922 و1923. الأشخاص الذين قاتلوا جنبا إلى جنب في حرب الاستقلال الأيرلندية قبل بضع سنوات فقط وجدوا أنفسهم فجأة على طرفي نقيض، بأيديولوجيات مختلفة تماما، في صراع أكثر دموية.
حبكة حكاية الفيلم تتحدى حدودها الجغرافية الخاصة، لتخبرنا عن الصراع الاجتماعي والعسكري الذي استمر عبر تاريخ البشرية والذي نشأ من التجرد من الإنسانية والأنانية والتركيز على الذات، حجر الزاوية العاطفي للقصة.
في الفيلم الانقسام بين بادريك وكولم والانقسامات المتزايدة مع أشخاص آخرين في الجزيرة هو انعكاس لما يحدث في البر الرئيسي. يقول ماكدونا إن “هناك جوانب مجازية للانقسام بين هذين الرجلين والانقسام بين الجانبين في الحرب الأهلية الأيرلندية. إنها قصة تدور فيها حرب صغيرة بين رجلين في نفس الوقت الذي تحدث فيه حرب أكبر بكثير في مكان آخر.”
يصف جليسون الحرب الأهلية بأنها نتيجة كارثية. في حالة الصراع الأيرلندي، الأخ ضد الأخ والصديق ضد الصديق. الانقسامات التي تتفاقم في الجزيرة ووحشية ما يحدث في الفيلم تنعكس في ما يحدث في البر الرئيسي. الجميع يتشبثون بمواقعهم الصغيرة، مما يؤدي إلى تفاقم الانقسامات.
ShareWhatsAppTwitterFacebook

علي المسعود
كاتب عراقي
الفيلم قصة أصلية وغير تقليدية تلقي نظرة على الطبيعة البشرية غير الكاملة.
الأحد 2025/01/05
ShareWhatsAppTwitterFacebook

حرب شخصية حميمة
التأثير الكبير الذي تصنعه السينما على غرار أي فن آخر، بينما تتناول التاريخ مازجة الواقعي بالخيال، هو تأثير عميق للغاية، ليس ذلك أمرا تقنيا، بل القوة في نحت القصص والابتعاد عن التأريخ الجاف، وابتكار قصص موازية يمكنها أن تكون رمزية للغاية، وهذا ما يصنع عملا ينفذ إلى أعماق المشاعر قبل الأفكار. وهذا ما نجح فيه فيلم “جنيّات إنيشرين”.
فيلم "جنيّات إنيشرين" دراما تدور أحداثها في أوائل عشرينات القرن الماضي على جزيرة إنيشرين في فترة الحرب الأيرلندية من أجل الاستقلال ضد بريطانيا (وكانت من 21 يناير 1919 حتى 11 يوليو 1921). وبعدها الحرب الأهلية الأيرلندية من 28 يونيو 1922 حتى 24 مايو 1923.
عنوان الفيلم اكتسب من مشروع كولم في تأليف أغنية تحمل عنوان “بانشيز أنشيرين”. يعيش بادريك (كولين فاريل) حياة هادئة محاطة بالمناظر الخلابة في منزل والدته الراحلة، حيث يعيش مع أخته سيوبان (كيري كوندون) ومع حيواناته، ويقوم بتوصيل الحليب، وكل يوم في الساعة 2 ظهرا، يحضر إلى الحانة المحلية مع صديقه المفضل كولم (بريندان جليسون).
نهاية الصداقة
يلتقي الصديقان بادريك وكولم لتناول المشروب في الحانة الوحيدة في الجزيرة، إنه روتينهما اليومي. وعندما لم يجد بادريك صديقه يتوجه إلى بيته، يسير عبر القرية الرعوية الساحلية، مرورا بتمثال “ماري”، حيث يحدق من خلال النافذة ويسأل صديقه عما إذا كان قادما إلى الحانة، ولكن صديقه كولم (بريندان جليسون) يتجاهله ولا يرد عليه.
يعود بادريك إلى المنزل خائبا، حيث تقوم أخته بغسل الملابس، بينما هو في حيرة من أمره، تسأل الأخت بادريك عما إذا كان هو وكولم متخاصمين، ويرد بالنفي، ترد أخته سيوبان مازحة “ربما لم يعد يحبك بعد الآن”. في الحانة، يسأل النادل عن كولم عندما يرى بادريك الانفرادي، إذ اعتاد على رؤية الرجلين معا، ثم يسأل النادل عما إذا كان بادريك وكولم متخاصمين.

يقول بادريك “لا”، على الرغم من أن سلوك كولم يشير إلى ذلك. وبادريك غير مدرك لأي خلاف. أصيب بادريك بالصدمة، وأخيرا يشعر بالحزن العميق. لم يعطه كولم أي سبب مقنع للانفصال. هذان الرجلان كانا صديقين عمليا طوال حياتهما. لماذا ينهي الآن كولم صداقته مع بادريك؟ هل كان شيئا قاله بادريك أو فعله؟ هل كولم مكتئب؟ هل يجب أن يحترام رغبات كولم في العزلة أم يجب أن يحاول تغيير رأي كولم أو تغيير نفسه؟
يعود بادريك إلى منزل كولم، ويتوقف عند النافذة، وهناك موسيقى تعزف لكن بادريك لا يرى أحدا ويدخل إلى الداخل، وينظر حوله. يسير كولم في الخارج بمفرده، ويذهب إلى الحانة بمفرده دون الالتفات إلى صديقه. يصل بادريك إلى الحانة، ويطلب كولم من بادريك الجلوس في مكان آخر وليس على طاولته “أنا فقط لا أحبك بعد الآن”، كما يقول كولم.
يتساءل بادريك عن السبب. لكن كولم يغادر تاركا بادريك جالسا بمفرده. كولم عازف الكمان في الحانة الوحيدة في الجزيرة، وتلقى موسيقاه وأغنياته الثناء والتقدير من النساء والرجال. يعود بادريك إلى منزل صديقه مرة أخرى ويقرع بادريك باب منزل كولم، لكنه يلمح كولم قد انطلق مع كلبه الأسود والأبيض، وذهب إلى الحانة بمفرده.
يذهب بادريك للانضمام إلى طاولة كولم، لكن كولم يقول إنه يريد وقتا هادئا. يقول كولم إن بادريك قد لا يكون لديه شيء أفضل ليفعله، لكن كولم كتب جزءا من أغنية ويريد أن يكتب المزيد لأنه أضاع الكثير من الوقت مع بادريك والاستماع إلى هرائه. يخرج بادريك ويتبعه كولم ليشرح نفسه: يشعر أن سنوات العمر تمر سريعا، ويريد قضاء بعض الوقت في الإبداع والتأليف وعدم الاستماع إلى حديث بادريك الممل.
أمضى بادريك مؤخرا ساعتين يتحدث عما وجده في براز حماره. بدعم من دومينيك (باري كيوغان)، وهو شاب ودود يعيش أيضا في الجزيرة الأيرلندية الخيالية، يشرع في مهمة عنيدة، هدفها الوحيد هو استعادة الصداقة المفقودة. ومع ذلك، فإن عناده سيجعل كولم يفقد كل صبره، مما يدفعه إلى وضع إنذار نهائي خطير يمكن أن تكون له عواقب وخيمة لا يمكن تصورها على كليهما.
سيوبان (كيري كوندون)، بعد رؤية محنة شقيقها، تواجه كولم وترجوه أن يتحدث مع شقيقها. يخبرها كولم أن بادريك ممل – تقول إنه كان دائما مملا – ما الذي تغير؟ يقول كولم إنه يريد السلام في قلبه. يخبر سيوبان بأن تقول لبادريك أن يتوقف عن إزعاجه. ويؤكد أنه إذا استمر بادريك في إزعاجه فسوف يقطع إصبعه.
رمزية نهاية الفيلم

في فيلم المخرج والكاتب مارتن ماكدونا، ينشد الفنان والعازف كولم العزلة، يمكن أن تكون العزلة قوة. في العزلة، يمكن للمرء أن يعرف نفسه، ويطور موهبته الفنية واهتماماته. يعزف كولم بالقرب من الشاطئ، جالسا، وكلبه بالقرب منه، يمشي بادريك إلى كولم على الشاطئ للاعتذار، “لماذا لا تتركني وحدي؟” يسأل كولم. يزور كولم منزل بادريك، ويطرق الباب، ويبتعد، بعد أن ترك إصبعه المقطوع كهدية.
ينقل الفعل الفيلم إلى مستوى جديد، مستوى التعبيرية والبشاعة وحتى المأساوي. كولم في المنزل، يرقص مع كلبه، بعد أن أكمل أغنية. يقاطعه بادريك بإلحاح ويزعجه، ويتجادل الرجلان مرة أخرى.
يذهب بادريك إلى الحانة لانتظار كولم، على افتراض أنه أعاد بعض التوازن في علاقتهما. تريد الأخت سيوبان، التحدث إلى بادريك حول خطتها لمغادرة الجزيرة بعد حصولها على وظيفة جديدة، لكنها ترى بادريك ينتظر، وتسأل عما يفعله. (لا يفهم اضطراب كولم وتهديده؟) يقطع كولم المزيد من أصابعه ويلقي بها على باب بادريك.
يرى بادريك وسيوبان في طريق العودة إلى المنزل كولم على الطريق ويده المقطوعة – يده الواحدة بلا أصابع. تحزم شقيقة بادريك حقائبها للرحيل من الجزيرة وتترك كتبها ومكتبتها وتطلب من بادريك الاعتناء بها. تأخذ القارب، تلوح وداعا. يجد بادريك أن حماره، بعد أن حاول أكل أصابع كولم السمينة قد اختنق ومات. يهدد بادريك، الغاضب والبائس، يقوم بإشعال النار في منزل كولم في اليوم التالي في الساعة المحددة التي اعتادوا فيها الذهاب إلى الحانة، وهو يحرق المنزل، معلنا أن معركتهما مستمرة.
قصة تستكشف الطبيعة البشرية والأسباب التي لا معنى لها وراء بعض الصراعات العسكرية التي تركت آثارا مؤلمة
نهاية الفيلم هي نوع من خاتمة النزاع بين كولم وبادريك. أظهرت شخصية كولم بالفعل أنه كان جادا عندما قال إنه سيقطع أصابعه في كل مرة يتحدث فيها بادريك معه. بعد أن اقترب منه مرة أخرى، قرر أن يقطع أربعة أصابع دفعة واحدة وألقى بها في ممر منزل بادريك. وعندما تعود أخت بادريك إلى المنزل، تدرك أن حمارها المحبوب جيني، اختنق بأحد أصابع كولم ومات. هذا ما جعل بادريك غاضبا وهدد بحرق منزل العازف كولم معه بداخله.
ينفذ بادريك تهديده، في صباح اليوم التالي اكتشف بادريك أن كولم لم يبق داخل المنزل المحترق، بل هرب من النافذة. على الرغم من أن الرجل العجوز كولم أخبره أنه يمكنهما إنهاء صراعهما هناك، إلا أن شخصية كولين تثبت أن الأمر لن ينتهي إلا عندما يموت أحد الاثنين.
لا يشير عنوان الفيلم فقط إلى أغنية من تأليف كولم من أجل الموت، ولكن إلى شخصية شبحية أسطورية من الأساطير الأيرلندية، الشخصية الأثيرية والمخيفة التي تتمثل في السيدة ماكورميك (شيلا فليتون)، المشؤومة وتذكرنا بالموت، ويبدو أن الأغنية تفكر في دورة الحياة والموت، والصداقة والتمزق، والإساءة والتحرر. يشير العنوان أيضا إلى قطعة موسيقية تؤلفها شخصية جليسون خلال الفيلم وكاستعارة للحرب.
كولم وبادريك لا يستطيعان حل خلافاتهما وكما هو الحال في التاريخ الأيرلندي وينتهي بهما الأمر بتدمير أنفسهما
كولم وبادريك لا يستطيعان حل خلافاتهما وكما هو الحال في التاريخ الأيرلندي وينتهي بهما الأمر بتدمير نفسيهما. يختتم الفيلم بتعليق كولم حول الحرب الأهلية ويبدو أن الصراع قد انتهى، على الرغم من أن بادريك يؤكد له أنهم سيقاتلون قريبا مرة أخرى.
على الرغم من خصوصيتها الجغرافية، إلا أن الموضوعات المعروضة في فيلم “جنيات إنيشرين” عالمية بطبيعتها. من طموح الإنسان الشديد في التفوق إلى الفردية التي تؤدي في النهاية إلى الشعور بالوحدة، لكن الانعكاسات النهائية للفيلم هي أيضا خالدة، ولا تزال ذات أهمية كبيرة في الوقت الحاضر، خلف روح الدعابة الغريبة للمخرج ماكدونا الذي يفاجئ الفيلم بالإنسانية التي يحتفظ بها من البداية إلى النهاية.
تظهر المشاهد، مثل كولم وبادريك وهما يركبان عربة قديمة في صمت بعد تعرض الأخير للضرب الوحشي من قبل أحد السكان المحليين، ومضات من التعاطف والأخوة حتى في أوقات الحرب. قصة أصلية وغير تقليدية تلقي نظرة على الطبيعة البشرية غير الكاملة، وتوضح كيف أن اللطف يفقد قيمته في عالم أصبح فيه التعالي هو المقياس الوحيد لتذكر إرث وذكرى أولئك الذين ماتوا والاحتفال بهم.
قد يخوض بلد ما حربا أهلية، وقد يحدث القتال على بعد أميال قليلة، لكن الإنسان لا يخلو من الاقتتال الداخلي والكآبة والعاطفة التي يمكن أن تشمل كل شيء وتصبح حربا شخصية حميمة. يقول فاريل إن “الألم يولد الألم. الغضب يولد الغضب. العنف يولد العنف.” البشر يفعلون أشياء فظيعة.
يشعر بادريك بالدمار ويقوم بأشياء لم يكن ليفعلها أبدا. لأي سبب من الأسباب، يعيش كولم في حالة من الهياج والألم أو الحزن أو الغضب أو الخوف الذي يقوده إلى ارتكاب أفعال حقيرة. ماذا يعني الفن إذا تعاملت مع الآخرين مثل القمامة؟ يسأل جليسون، “هل يستحق التضحية؟ والنتيجة هي أنك يجب أن تكون على استعداد للمعاناة من أجل فنك. أنا لا أتفق تماما مع ذلك. لكنني أعتقد أن كولم، في ظلامه اليائس، أقنع نفسه بأن هذا هو ما يحتاجه لإظهار أنه ملتزم تماما بشغفه.”
الحرب كخلفية

أحد أكبر الأسئلة هو لماذا قرر كولم أنه لا يريد أن يكون صديقا لبادريك بعد الآن. لفهم السبب الذي تسبب في تدهور مثل هذا التقليد عميق الجذور. أخبره كولم بصراحة أنه لم يعد لديه أي اهتمام بالسعي للحصول على صداقته. إنها ليست مسألة كراهية. إنه يريد ببساطة استثمار الأيام الباقية من عمره في الإبداع الموسيقي في التأليف والعزف والغناء. بالإضافة إلى ذلك، ذكر أن السبب في ذلك هو أن الشاب ممل للغاية وأنه يشعر بأنه يضيع الوقت القليل الذي لديه للعيش (عدة سنوات في الواقع) في محادثات مبتذلة.
يفضل كولم الابتعاد عن صديقه والتركيز على كتابة الموسيقى والعزف على كمانه. قرر كولم متابعة الفن والإبداع وجعله أهم شيء في حياته. يوضح ماكدونا، يصل كولم إلى نقطة ما لم يفعل شيئا جذريا للغاية، فلن يتركوه بمفرده، إنه يهدد بقطع أصابعه إذا لم يتركه بادريك بمفرده ويمنحه الوقت للإبداع. من الناحية الرمزية، يهدد بتدمير موهبته الموسيقية. يرى كولم أنه اختبار للالتزام. بعد فترة، حتى الحانة، وحارس الحانة جونجو، الذي يلعب دوره بات شورت لم تعد ملاذا آمنا لبادريك.
هذه هي فرضية البداية: قرر كولم في صباح أحد الأيام عدم التحدث إلى صديقه الذي لا ينفصل عنه بادريك على أساس أن الحياة أقصر من أن يقضيها في الاستماع إلى ثرثرة أحمق وبليد.
لا يلعب ماكدونا على الغموض والمفاجأة، ما يهمه هو التعمق في عبثية الموقف الذي أنشأه منذ البداية لوصف المجتمع الصغير المعزول حيث تحدث الحبكة بشكل أفضل.
على الرغم من خصوصيتها الجغرافية، إلا أن الموضوعات المعروضة في فيلم "جنيات إنيشرين" عالمية بطبيعتها
تم تقليص الجزيرة إلى بعض الأشياء: عدد قليل من المنازل، يعيش بادريك مع أخته سيوبان، وهناك شرطي عنيف ومكروه، وحانة حيث يلتقي الجميع في الأوقات الرئيسية من اليوم، ومتجر بقالة يقع على الضفة الأخرى يسمح لهم بالبقاء على قيد الحياة. القليل من الأحداث تتخلل أيام إنيشرين، ويبدو أن هناك القليل من العمل، ويعتني بادريك بحيواناته ويبيع حليب بقراته.
تدور أحداث الفيلم في عام 1923 في منتصف الحرب الأهلية الأيرلندية وهي موضوع مثير للاهتمام للغاية كسياق. لكن هذه الحرب لا تعطي جوا من المأساة الحتمية للفيلم فحسب، بل هناك استعارة مهمة وراءها. كانت الحرب الأهلية الأيرلندية صراعا وقع بين 28 يونيو 1922 و24 مايو 1923، بعد فترة وجيزة من حرب الاستقلال الأيرلندية ضد المملكة المتحدة. بمجرد انتهاء النضال على الاستقلال، تم التوقيع على المعاهدة (1919 – 1921).
إنها قصة تستكشف الطبيعة البشرية والأسباب التي لا معنى لها وراء بعض الصراعات العسكرية التي تركت آثارا مؤلمة على مر القرون. ليس من قبيل المصادفة أن يحدث الصراع بين الشخصيتين الرئيسيتين بالتوازي مع الحرب الأهلية الأيرلندية إلا أنها تذكير دائم بتلك الحلقة المحزنة في تاريخ البلاد، حيث انتهى الأمر بعداء الإخوة والأصدقاء، الذين قاتلوا قبل بضع سنوات فقط معا في حرب الاستقلال، إن انهيار هذه الصداقة هو استعارة للحرب الأهلية الأيرلندية التي حرضت أعضاء الجيش الجمهوري الأيرلندي ضد الحكومة المؤقتة بين عامي 1922 و1923. الأشخاص الذين قاتلوا جنبا إلى جنب في حرب الاستقلال الأيرلندية قبل بضع سنوات فقط وجدوا أنفسهم فجأة على طرفي نقيض، بأيديولوجيات مختلفة تماما، في صراع أكثر دموية.
حبكة حكاية الفيلم تتحدى حدودها الجغرافية الخاصة، لتخبرنا عن الصراع الاجتماعي والعسكري الذي استمر عبر تاريخ البشرية والذي نشأ من التجرد من الإنسانية والأنانية والتركيز على الذات، حجر الزاوية العاطفي للقصة.
في الفيلم الانقسام بين بادريك وكولم والانقسامات المتزايدة مع أشخاص آخرين في الجزيرة هو انعكاس لما يحدث في البر الرئيسي. يقول ماكدونا إن “هناك جوانب مجازية للانقسام بين هذين الرجلين والانقسام بين الجانبين في الحرب الأهلية الأيرلندية. إنها قصة تدور فيها حرب صغيرة بين رجلين في نفس الوقت الذي تحدث فيه حرب أكبر بكثير في مكان آخر.”
يصف جليسون الحرب الأهلية بأنها نتيجة كارثية. في حالة الصراع الأيرلندي، الأخ ضد الأخ والصديق ضد الصديق. الانقسامات التي تتفاقم في الجزيرة ووحشية ما يحدث في الفيلم تنعكس في ما يحدث في البر الرئيسي. الجميع يتشبثون بمواقعهم الصغيرة، مما يؤدي إلى تفاقم الانقسامات.
ShareWhatsAppTwitterFacebook

علي المسعود
كاتب عراقي