عقلية الإمام تسيطر على المجتمعات العربية بلغتها وأدبها وأخلاقها

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عقلية الإمام تسيطر على المجتمعات العربية بلغتها وأدبها وأخلاقها

    عقلية الإمام تسيطر على المجتمعات العربية بلغتها وأدبها وأخلاقها


    علي مبروك: التسلط والتقديس نتيجة لثقافة لا تعرف إلا النفي والإقصاء.
    الجمعة 2025/01/03
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    هيمنة عقل الإمام هي المشكلة (لوحة للفنان سنان حسين)

    لا يزال كل المثقفين العرب يسألون عن سبب التخلف والتراجع الحضاري العربي، ويبحثون في أسبابهما العميقة، وإن كان إقرارهم يتجه نحو الأنظمة التي تحكم، فإنهم يتناسون أن السبب الأساسي لتشكل هذه الأنظمة هو الثقافة، إذن الثقافة هي التي تصنع الاستبداد والتخلف وهي التي يمكنها خلق الوعي للخروج من هذا الوضع.

    على مدى القرنين، بين الدخول الأول للعرب إلى العالم الحديث عند مطالع القرن الماضي، ووقوفهم الراهن على أعتاب ما يتصورونه نظاما عالميا جديدا، لم يتوقفوا أبدا عن السؤال: لماذا تخلف المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم؟ وعلى تبايُن الرؤى واختلاف المرجعيات، فإنه يبدو كأن ثمة اتفاقا بينهم على اعتبار تفوق الغرب (أو البلاد الأوروبية التي تعرفوا عليها) راجعا أساسا إلى نظامه السياسي الضامن في رأيهم للحرية، والمقيد للسلطة بالقانون، وأن تأخر الشرق، بما فيه البلاد الإسلامية، راجع أيضا إلى طبيعة نظامه السياسي القائم على “الاستبداد”.

    بهذه الرؤية يستهل المفكر المصري وأستاذ الفلسفة الإسلامية والفكر العربي الحديث الدكتور علي مبروك (1958 ـ 2016) والذي يعد أحد أقطاب “مدرسة القاهرة الفلسفية” إلى جوار د. حسن حنفي ود. نصر حامد أبوزيد، كتابه “السلطة والمقدس.. جدل السياسي والثقافي في الإسلام” الذي صدرت طبعته الجديدة عن مؤسسة هنداوي.
    عقلية الإمام


    لا سبيل للوعي بما يؤسس للأزمة العربية إلا الحفر المعرفي متجاوزين تبدلات الأشكال الأيديولوجية عند سطح الخطاب

    يقول مبروك “إن هذا الموقف يصدُق على الفكر الإصلاحي العربي والإسلامي عموما، سواء ذلك الذي قام باسم السلفية، أو ذلك الذي أراد أن يكون ليبراليا. هنا يلتقي لطفي السيد مع علال الفاسي، كما يلتقي محمد عبده مع خيرالدين التونسي، بأن الاستبداد هو أصل التخلف وجذره، وأن نقيضه الضامن للحرية والمقيد للسلطة بالقانون هو، في المقابل، أصل النهضة؛ فإن شرط النهضة عند هؤلاء المفكرين كان لا بد أن يتحدد بتجاوز الاستبداد لا غير. وهكذا كان لا بد أن يؤول سؤال النهضة إلى سؤال السياسة: كيف السبيل إلى تجاوز الاستبداد؟”

    ويرى مبروك أنه “رغم أن مفهوم المقدس ينصرف إلى موجود بعينه، مُتعال ومُفارق، وتكون قداسته من نفسه، ثم تتنزل إلى ما يصدُر عنه ويرتبط به، من كتب ووصايا ووعود، وهياكل وأماكن وبيوت، بل وحتى أزمان وأيام؛ فإنه يُلاحظ أن الثقافات لم تتوقف -على مدى تاريخ طويل- عن ممارسة التقديس، وإنتاج ضروب من المقدس يخضع لها، وبها، البشر، وتُلزمهم بعدم انتهاكها، أو حتى مجرد التفكير فيه، وذلك عبر التعالي بضروب من الأفكار والنصوص، بل حتى الأشياء والأشخاص، من حدود التاريخي والواقعي، وإطلاقها في فضاء المفارقة والتسامي، ليقدسها البشر، ويضعوها خارج حدود القابل للتفكير والفهم، ناهيك عن المساءلة والنقد.”

    ويضيف “إذا كان يبدو هكذا أن التقديس، كممارسة داخل الثقافة، إنما يُنتج مقدسا، فإن ذلك يعني أن المقدس لا يكون من وضع نفسه دوما، بل يكون من وضع الثقافة في الأغلب. وإذ يرتبط ذلك بما صار إليه دوركايم، من أن القداسة لا تكون كافية في الأشياء نفسها بقدر ما تُضفى وتخلع عليها؛ فإنه يلزم التأكيد على أن الأمر يتجاوز ما تصوره دوركايم -من أن هذا الوضع للمقدس إنما يجد أساسه فيما هو ديني بالذات- إلى اعتباره نتاج ممارسة أنثروبولوجية، قد يكون الديني أحد أهم عناصرها، ولكنه ليس الأوحد أبدا. إذ الحق أن عناصر شتى -يتشابك فيها النفسي والاجتماعي والتاريخي والمعرفي والسياسي، إضافة إلى الديني بالطبع- تتضافر معا في إنتاج هذه الممارسة على نحو يجعل منها ممارسة ثقافية بالمعنى الأتم.”

    ويوضح “يؤول ذلك إلى مكان التمييز بين ضربين من القداسة؛ تكون في أحدهما ‘هبوطا من الأعلى’، حيث يُضفي المقدس المتعالي قداسته على كتبه ووصاياه، ليهبها دوام الحضور وأبدية البقاء، فيما تكون في الآخر ‘صعودا من الأدنى’، حيث يخلعها التقديس -كممارسة داخل الثقافة- على ضروب من الأفكار والأشخاص، ليفك روابطها من التاريخ، حتى تسكن خارجه في سكون وثبات يستعصيان على أي تجاوز أو انكسار؛ فإنه يلزم التنويه بأن حدود الانشغال هنا لن تتسع لما هو أكثر من تفكيك هذا النوع من القداسة الذي تنتجه الثقافة، وأعني المنتج داخل الثقافة الإسلامية بالذات.”

    الثقافة العربية لم تتوقف على مدى تاريخ طويل عن ممارسة التقديس وإنتاج ضروب من المقدس

    ويتابع مبروك “الحق أن نصوصا وتجارب وخطابات قد راحت تتعالى في محيط هذه الثقافة، من حدود الإنتاج والتداول التاريخي، لتسكن فضاء تستحيل فيه إلى ‘مطلقات وأصول’ لا يقدر الوعي على مقاربتها تحليلا ودراية، بل يخضع لسطوتها ‘تكرارا ورواية’، وهو ما يعني أنها تستحيل من موضوعات لـ’المعرفة والأسس’، إلى مطلقات لـ’الاجترار والتقديس’. ولعل هذه الاستحالة إلى مطلق للتقديس قد كانت من أهم أدوات الخطابات والنصوص، لا في مجرد تكريس هيمنتها، بل والأهم في تأييدها على الدوام. ومن هنا ذلك الارتباط بين كل من الهيمنة والتقديس من جهة، في مقابل الارتباط النقيض بين الإخضاع والتدنيس من جهة أخرى، وأعني أن بناء الخطاب -أي خطاب- لهيمنته وإخضاعه لغيره، لا يتأتى فقط من إضفائه على نفسه لوصف المقدس، بل ومن وصمه للخطاب النقيض بوصمة المدنس.”

    ويشير مبروك إلى أن التخارج النظري للوحي، عبر التأويل، في ضروب من الإبداع الفكري والثقافي، يبقي محض التجريد ما لم يتعين في ضروب من الممارسة الواقعية (الاجتماعية والسياسية)، ويعني ما لم يتحقق في نظام دولة يحققه ويتحقق به في آنٍ معا. وبالطبع فإن هذه الدولة تتبلور، لا كمجرد شكل سياسي فقير لتنظيم المجتمع، أو بالأحرى قمعه، وذلك بسبب كونه مفروضا على المجتمع من خارجه، بل كتحقيق للفكرة الحضارية الخاصة بهذا المجتمع، وعلى النحو الذي تكون فيه هذه الدولة أساس ومركز العينية في حياة المجتمع، ويعني أساس ومركز الفن والقانون والأخلاق والدين والعلم، ولهذا فإنها (أي الدولة حسب التصور) تستحق أن تكون جوهر التاريخ وروحه، وإلى حد يستحيل معه التاريخ تماما دونها.

    وإذا كان يبدو، هكذا، أن هذه الدولة: هي الأصل في التكون التاريخي للعالم، وذلك من حيث يستحيل -وحسب هيغل بالطبع- الحديث عن عالم تاريخي تكون قبلها، فإنه يمكن القول بأن الإمامة بدورها هي الأصل في التكون التاريخي لعالم الإسلام، وذلك من حيث ارتبط التشكل التاريخي لكل من الفكر والممارسة في الإسلام بإشكاليتها المركزية. وبالطبع فإن الإمامة، حين تصبح أساس ومركز العناصر العينية في حياة المجتمع، كالأدب واللغة والفقه والأخلاق، وحتى العلم، وسائر فروع الفكر الديني. ويعني حين تصبح أساسا لكل نشاط فاعل وخلاق للذات الإنسانية بإزاء الوحي فهما وتأويلا، وتحقيقا له في هياكل وأبنية سياسية واجتماعية، وتتجاوز كونها مجرد ممارسة سياسية جدباء، أو حتى تنظيرا فقيرا لها، تمثله بجلاء نصوص الآداب السلطانية المتأخرة.
    تجاوز الهشاشة



    مبروك يرى أن أزمة الديمقراطية في العالم العربي ليست أزمة تنظيمات أو وثائق سياسية ودساتير، بقدر ما هي أزمة ثقافة لا تنتج غير التسلط


    يقول مبروك “الإمامة حين تصبح قرينة التأويل وصنوه، وهو الاقتران الذي لمحه الصحابي الجليل عمار بن ياسر من خلف غبار المعارك في صفين، حين رأى في الصراع الدائر على الإمامة آنذاك مجرد قناع للصراع على التأويل. ثم أكد الاقتران نفسه ابنُ قتيبة، وهو بصدد تأويل مختلف الحديث، حين ربط بين اختلاف الناس على التأويل، وبين تنازع سلطانين، كل واحد منهما يطلب الأمر ويدعيه لنفسه. وهكذا تتجاوز الإمامة كونها مجرد سياسة فقط، وذلك من حيث تبدو السياسة فيها مشروطة بحضور تأويلي ينتظمها؛ الأمر الذي يعني أن تجد الدولة، هكذا، ما يؤسسها ثقافيا في مبدأ باطني خاص، هو الوحي وتأويله، ومن هنا قوتها وتمكنها.”

    ويضيف “لعله يلزم التنويه بأن قوة الدولة -ضمن هذا السياق- لا تتأسس على مجرد خضوعها للوحي، وذلك من حيث إن الوحي يمثل عندئذٍ مبدأ قسريا يفرض نفسه على الدولة من الخارج، وأعني أنه يصبح مبدأ خارجيا فقط. وإذ المبدأ الخارجي لا يمكن أن يكون أساس أي وحدة أو تماسك باطنيين؛ فإن وحدة الدولة وتماسكها يصبحان، هكذا، خارجيين أيضا، الأمر الذي يكرس، تبعا لذلك، ضعف الدولة وهشاشتها، وليس قوتها وتماسكها. وأما أن يكون الوحي مبدأ باطنيا للدولة، غير مفروض عليها من الخارج، فإنه يعني أن تكون وحدتها وتماسكها باطنيين أيضا. ومن هنا، لا شك، قوة الدولة، أعني من حيث كونها تمثل تجسيدا لمبدأ باطني خاص (هو الوحي في حالة الدولة الإسلامية التقليدية، التي كان لا بد أن يتوقف انهيارها وتفككها، تبعا لذلك، على تحول الوحي بتأثير العجز عن تطويره وإغنائه، إلى مبدأ خارجي يغطي وحدتها الهشة).”

    ومن هنا يشدد على أن اختلاف هذه الدولة في طور قوتها عن الدولة العربية الراهنة، التي واجهت ظروف عجز الدولة التقليدية السابقة عليها، لقرون طويلة، عن تطوير المبدأ الحضاري الذي كانت تقوم عليه؛ الأمر الذي أحاله إلى مبدأ خارجي يغطي وحدتها الهشة، وهو ما آل بها أخيرا إلى التفكك والانهيار، فاضطُرت وريثتها (يعني الدولة القُطرية الراهنة) إلى استعارة مبدأ آخر تقوم عليه، وكان ذلك هو المبدأ العلماني، الذي كان قد أثبت فاعلية كبيرة في سياق آخر، ثم استحالت هذه الفاعلية إلى قوة النار والبارود، التي عانى منها آخرون خارج حدوده.



    وهكذا فإنه، ورغم القيمة القصوى لهذا المبدأ وجدواه في سياقه الخاص، إلا أنه قد استحال، وبسبب الفرض القسري له من الخارج على دولة لا تنتمي إليه ثقافيا، إلى مجرد قشرة هشة تُخفي ضعف هذه الدولة وهشاشتها، بل وتكشف عن كون وجودها ذاته مرهونا بإرادة خارجية محضة، ومن دون أن يكون تجسيدا لمبدأ باطني ذاتي؛ الأمر الذي يكشف بالطبع عن عرضية وجودها ولاجوهريته.

    وفي ما أطلق عليه “الاستخلاص الأخير” يختم مبروك قائلا “من هنا إذن -أعني من خطاب عربي تراثي استحال فيه التسلط إلى ثابت بنيوي لا يمكن نفيه إلا عبر نفي الخطاب ذاته، ومن خطاب عربي معاصر لا يعرف إلا النبذ المتبادل بين نماذجه وتشكلاته الأيديولوجية- يأتي غياب الديمقراطية. ومن دون الوعي بهذا الذي يؤسس لغيابها في العمق -توطئة لخلخلته وزحزحته- فإنه لا سبيل للحديث عن أفق للتطور الديمقراطي في العالم العربي. وهكذا فإنه لا سبيل لأي تطور ديمقراطي عربي إلا عبر تحليل وتفكيك الجذور التراثية للتسلط من جهة، وتجاوز الأزمة الشاملة للخطاب العربي المعاصر من جهة أخرى، تلك الأزمة التي تتبدى ماثلة في اكتفائه بمجرد الاستهلاك الأيديولوجي لمفاهيم النهضة -ومن بينها الديمقراطية- والعجز عن إنتاجها معرفيا في حقله الخالص.”

    ويقر مبروك بأنه لا سبيل للوعي بما يؤسس لهذه الأزمة إلا عبر ضرب من الحفر المعرفي، يتجاوز تبدلات الأشكال الأيديولوجية عند سطح الخطاب، إلى ذلك الثابت القار خلفها، ينتظمها ويتحكم في تطورها وتدهورها. إذ الوعي بهذا الثابت العميق هو نقطة البدء في عمل يتوجه إلى اجتثاث كل ما يحُول دون إنتاج الديمقراطية، وغيرها من مفاهيم النهضة، في بنية الثقافة السائدة.

    ويتابع “لعل عملا كهذا هو عمل أكثر جدوى من مجرد الدعوة السياسية، على أهميتها بالقطع، إلى بناء المؤسسات السياسية والدستورية في الواقع. إذ الحق أن الجذر المؤسس للتسلط يقوم لا في الواقع، بل في بنية ثقافة لا تعرف إلا النفي والإزاحة والإقصاء، وليس النقد والتفاعل والاستيعاب، الأمر الذي يعني ضرورة التفكيك المعرفي للتسلط في وعي الخطاب، أو حتى لاوعيه، وليس في مجرد الواقع. ولعل عدم إنجاز هذا التفكيك للتسلط فيما هو معرفي سيظل حائلا دون تبلور ديمقراطي أصيل. وعلى هذا فإن أزمة الديمقراطية في العالم العربي ليست أزمة تنظيمات أو وثائق سياسية ودساتير، بقدر ما هي أزمة ثقافة لا تنتج غير التسلط. ومن هنا، فإن تطور الديمقراطية مشروط لا بمجرد النقد السياسي الذي تمارسه فصائل المعارضة للأنظمة السياسية المستبدة في عالمنا، بقدر ما هو مشروط بضرب من نقد ثقافة الاستبداد ذاتها. فدون هذا النقد الأخير لن يُنتج الخطابُ غير الاستبداد، حتى وهو يفكر في الديمقراطية. وهكذا، فإن الأفق الممكن لتطور الديمقراطية في العالم العربي هو أفق الثقافة لا السياسة.”

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    محمد الحمامصي
    كاتب مصري
يعمل...
X