رحيل الفيلسوف الشعبي عند المصريين.. أحمد عدوية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رحيل الفيلسوف الشعبي عند المصريين.. أحمد عدوية

    رحيل الفيلسوف الشعبي عند المصريين.. أحمد عدوية


    مسيرته فنية عامرة بمفارقات توجت "ملك الغناء الشعبي".
    الثلاثاء 2024/12/31
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    الفيلسوف الشعبي البسيط

    توفي أحمد عدوية، أحد أبرز الأسماء في مجال الغناء الشعبي في مصر على مدى عقود، الأحد عن 79 عاما إثر صراع مع المرض، بعد مسيرة طويلة قدّم خلالها سلسلة أغنيات حققت انتشارا عربيا واسعا. وخلال مسيرته الطويلة التي أطلقها قبل أكثر من نصف قرن تمكن الفنان الشعبي الأول في مصر من تخليد اسمه واحدا من رواده الكبار.

    القاهرة - قبل أن يلملم العام 2024 أوراقه ويطوي آخر صفحاته، انضم اسم جديد ممن يحبهم المصريون إلى قائمة الفنانين الراحلين، إنه المطرب الشعبي الكبير أحمد عدوية، إذ أعلن ابنه المطرب محمد عدوية قبل انتصاف ليل الأحد رحيل والده، ناعيا إياه بكلمات مؤثرة “الله يرحمك يا بابا، رحم الله طيب القلب، حنون القلب، جابر الخواطر.”

    لم تكن هذه الكلمات مجرد تعبير عن محبة ابن لأبيه، إنما جاءت لتعكس حب أغلب المصريين لرجل قريب منهم، معبر عنهم، عاش بينهم، دون انعزالٍ أو تعالٍ. يشهد على هذا قيام ساكني حي المعادي (جنوب القاهرة) الذي كان يقيم فيه بتسمية الميدان الصغير الذي يوجد به بيته بـ”ميدان عدوية” مجازا، ومحبة.
    فنان البسطاء



    جمال الصوت عند عدوية كان مقترنا ببحة واضحة، يعرفها الشعبيون جيدا، ما جعله صوتا لهم، وكأنه يتكلم باسمهم


    لأن لكل مجال رمزا، فقد تم الاصطلاح على إطلاق لقب “ملك الغناء الشعبي” على المطرب الراحل أحمد عدوية، إذ كان بالفعل هو الأستاذ والعلامة، “الأسطى”، الذي تخرج من مدرسته أغلب مطربي الغناء الشعبي في مصر، واعترفوا بأنهم تشربوا منه “الصنعة”.

    عبرت عن هذا المعنى دموع المطرب الشعبي الكبير عبدالباسط حمودة في جنازة أحمد عدوية التي خرجت ظهر الاثنين من مسجد حسين صدقي في حي المعادي، وكلمات الفنان حكيم على موقع فيسبوك، قائلا إنه تربى على سماع أغاني عدوية وجمال صوته وحلاوة وبساطة أدائه، فكان سببا في حبه الغناء، مودعا إياه “مع السلامة يا عم أحمد عدوية، عمي وعم الشغلانة كلها. البقاء لله. ادعوا له بالرحمة.”

    ولعل المتأمل لمسألة ومسيرة أحمد عدوية الفنية يمكن أن يكتشف الكثير من المفارقات التي أدت جميعا، بعد أن تكاملت دون تناقض، إلى اعتلائه عرش الغناء الشعبي متربعا على قلوب المصريين لما يصل إلى أربعين عاما.

    جمال الصوت عند عدوية كان مقترنا ببحة واضحة، يعرفها الشعبيون جيدا، ما جعله صوتا لهم، وكأنه يتكلم باسمهم، يغني بالنيابة عنهم، يفرح على طريقتهم، وينوح لنفس أحزانهم، فليس شرطا إذًا أن يكون الصوت خاضعا للمعايير الغنائية المعروفة الثابتة، إنما المهم أن يكون طبيعيا. المهم هو الإحساس.

    أما البساطة في الأداء فقد تماهت مع ميل دائم إلى اختيار أبسط الكلمات في الأغاني، وأكثرها قربا من المفردات الدارجة على لسان رجل الشارع العادي، دون ابتذال أو إسفاف، إنما للتعبير ببساطة وعمق عما يريد أن يقوله الناس، ببهجة أو حزن، في الحب والحياة، فاستحق أن يكون الفيلسوف الشعبي عند المصريين.

    “سلامتها أم حسن” من كلمات حسن أبوعتمان وألحان فاروق سلامة، أغنية ذات مكانة خاصة في قلب عدوية، إذ كانت أول أغنية تقوده إلى عالم الشهرة، عندما حققت مبيعات كبيرة وصلت إلى مليون نسخة من شرائط الكاسيت آنذاك، وبرغم أن أجره عنها كان جنيها واحدًا إلا أنه أحبها بسبب تأثيرها الإيجابي في مسيرته.

    وهو ما عبر عنه في آخر لقاء تلفزيوني له في شهر فبراير الماضي مع الإعلامية المصرية لميس الحديدي في برنامج “كلمة أخيرة” على قناة “أون” الفضائية، قائلا بكلماته البسيطة كعادته “شعرت بالسعادة والجمال والحنية.”

    ونعت الحديدي أحمد عدوية عبر حسابها على إنستغرام، قائلة إنه “لم يقتله المرض لكن قتله فقدان شريكة حياته نوسة التي رحلت منذ شهور قليلة في مايو الماضي.. فقد كانت السند والكتف والظهر الذي سند عدوية في مرضه ووجعه بعد شهرة طاغية كادت تقضي عليه.”

    خلال الحرب التي شنها عليه مثقفون متعالون عندما ظهر في سبعينات القرن الماضي وقف إلى جانبه نجيب محفوظ

    يصعب أن نحصر هنا في سطور قليلة أغلب العلامات البارزة في رحلة عدوية الغنائية، لكن تأتي أغنية “بنت السلطان” كلمات حسن أبوعتمان وألحان حسن أبوالسعود لتعبر عن أسلوب حب ابن البلد الشعبي البسيط عندما يخاطب حبيبته، متغزلا فيها، طالبا قربها.

    يقول لها: “يا بنت السلطان/ حنِّي على الغلبان/ المَية في إيديكي/ وعدوية عطشان،” حتى يصل إلى “سعيدة يا حلوة سعيدة/ ومواصلاتك بعيدة/ أأمري وأنا أجيلك ماشي/ لما لمصر الجديدة”، ثم يكشف عن هويته “محسوبك عدوية/ بيحب إسكندرية/ ومصر دي بلدي/ والدول العربية،” وكأنه يغني للحبيبة والوطن والحرية معا.

    كما يغني لنفس الثنائي، الشاعر الغنائي أبوعتمان والملحن أبوالسعود، عن المرارة والقسوة في الحب قائلا “يا راسي راسي/ من غير مراسي/ والقسوة مُرة/ والمُر قاسي”، ثم يكمل ببساطة معهودة “وجينا نبعد/ قالوا لنا نقعد/ وجينا نقعد/ شَدوا الكراسي،” كأنما يشكو اضطراب الرؤية لدى الحبيبة ما يؤدي إلى إجهاض الأمل ووأد الفرص في طريق المحب، أيا من تكون هذه الحبيبة.

    يا للعبث، يشكو عدوية الزحام وأثره في حياة الناس، فيشدو بكلمات رفيق الرحلة حسن أبوعتمان، على وقع موسيقى مبهجة – برغم الشكوى- للموسيقار هاني شنودة، قائلا “زحمة يا دنيا زحمة/ زحمة وتاهوا الحبايب/ زحمة ولا عادش رحمة/ مولد وصاحبه غايب.”

    ويعود فيضيف “زحمة وأنا رايح له/ وأنا في وسط الزحام/ عايز يسمع وأقول له/ ما بيوصلش الكلام،” ويتصاعد التعبير عن العبث “الساعة إلا تلت/ ومعادي معاه ثمانية/ لا من السكة دي رحت/ ولا لاقي سكة تانية،” فيتساءل المستمع عمن يريد المتكلم أن يقابله بالفعل، وعمن لا ينجح الصوت في الوصول إليه رغم أنه يقول إنه يريد الاستماع.
    رجل من الشعب




    غنى أحمد عدوية ما أراد أن يغنيه بلغة بسيطة، شعبية، سهلة، دون ادعاء تحميلها بمعان عميقة أو شعارات كبرى، لكن المستمع له أيضا أن يتلقى كما يريد، وأن يحلق في سماء المعاني ويؤول المفردات، محمولا على جناح ألحان تمزج بين الألم العميق والإيقاعات الراقصة، في مفارقة جديدة، يعبر عنها صوت بشري شجي، لا تعرف عندما تسمعه إن كان يبكي في داخله أم يغمز بطرف عين ضاحكا بأمل.

    وكان طبيعيا أن تستفيد السينما من شعبية أحمد عدوية ومحبة الناس إياه، فشارك في العديد من الأفلام أشهرها “البنات عايزة إيه” بطولة محمود عبدالعزيز وسهير رمزي وسمير غانم، وفيلم “يا رب ولد” الذي غنى فيه أغنية “والله ولعب الهوى” مع نجوم كرة القدم جمال عبدالحميد وحسام البدري وإكرامي، كما غنى في فيلم “المتسول” بطولة الفنان عادل إمام أغنية “احنا معلمين”.

    واتجه عدوية أيضا إلى أداء أغاني “الدويتو” مع نجوم الغناء، فغنى مع المطرب المصري “أبو” أغنية “مسافر” في تتر برنامج “الفرنجة”، ليلعب دور الناصح للشاب بعدم مغادرة البلد “مسافر وفاكر هترتاح هناك/ وتاخد صحابك وحلمك معاك/ ومامتك وأختك/ وخالتك وأوضتك/ حينفع تسيب/ اللي حبك وراك؟”

    أحمد عدوية رجل من الشعب، يستعمل أساليب وألفاظا شعبية، أحبه الناس دون اضطرار لنفاقه

    كما قدم مع الفنان اللبناني رامي عياش أغنية “الناس الرايقة” مؤكدا “وبحب الناس الرايقة/ اللي بتضحك على طول/ أما العالم المتضايقة/ أنا لأ ماليش في دُول،” وهكذا كانت شخصية أحمد عدوية بالفعل، رائقا، طبيعيا، ليس مدعيا أو متعاليا، حريصا بفنه وحياته على استخراج البسمة والضحكة من أعمق نقطة في بحر الدموع.

    إنه الفيلسوف الشعبي البسيط، الذي لم يخدش الحياء بكلمة أو لفظ خارج، فلا مجال للمقارنة بين الرفض الذي لاقاه في بداية حياته الفنية وما يواجهه الآن مطربو المهرجانات بما يقدمه بعضهم من كلمات مُسفة.

    ولذلك، كان من الطبيعي أن يقف في صفه خلال الحرب التي شنها عليه مثقفون متعالون عندما ظهر في سبعينات القرن الماضي، رجل حكيم وبسيط مثله، أحب الناس واقترب منهم، هو الكاتب الكبير نجيب محفوظ.

    وصف محفوظ أحمد عدوية بأنه رجل من الشعب، يستعمل أساليب وألفاظا شعبية، وله صوت شعبي خشن لا يخلو من حلاوة، أحبه الناس دون اضطرار لنفاقه، قائلا إن الكلام غير المعقول في بعض أغانيه له مغزى كبير لا يصح أن يفوتنا.. رحم الله الجميع.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    محمد شعير
    كاتب مصري
يعمل...
X