المشاركة في التجارب الحياتية - سر العائلة المترابطة .. كتاب عندما تكسب قلب طفلك
1 - المشاركة في التجارب الحياتية :
منذ عدة سنوات خلت كنت أحاضر في جمع من الحضور يتراوح بين 400 و 2000 من الناس في أكثر من خمسين مدينة مختلفة . وقد لاحظت أن عائلات معينة من بين الحضور يظهر على أفرادها تفاعل إيجابي سعيد . وقد لفتت نظري هذه الظاهرة، وحفزتني لأن أقوم بدراسة خاصة حول هذا الموضوع . وقد كنت أقابل كل فرد من أفراد مثل هذه الأسر على انفراد لأسأله، أو أسألها السؤال نفسه: ما هو السبب الرئيس باعتقادك، والذي يجعل أفراد أسرتك متحابين مترابطين وتغمرهم مثل هذه السعادة ؟)).
النتيجة التي توصلت إليها أدهشتني فعلاً . كل فرد من أفراد هذه الأسر أعطاني تقريباً إجابة متطابقة : نقوم بالكثير من الأنشطة مع بعضنا البعض. وقد وجدت أيضاً أن هناك نشاطاً يشكل قاسماً مشتركاً بين معظم هذه العائلات. هذا النشاط هو الرحلات التخييمية. أحد الخوارنة من ولاية (Thous Dakota) أكد هذه الحقيقة عندما أخبرني أنه سأل أطفاله كل على حده عن أفضل الأشياء التي أسعدتهم كعائلة. وكانت إجابة كل واحد منهم كلمة واحدة: المخيمات. وأنا هنا لا أريد أن أسوق موضوع التخييم وأعده هدفاً بحد ذاته. فلقد قمنا كعائلة برحلات تخييمية لأكثر من 15 سنة، ولكني وجدت أن التخييم وحده ليس المسؤول عن جعل أسرتنا متحابة ومترابطة. السر في ذلك باعتقادي هو أننا كعائلة نحاول دائماً أن نزيد من الأوقات التي نكون فيها معاً، ونقلل من مساحة الأوقات التي نكون فيها متباعدين عن بعضنا البعض والتخييم يقدم لنا فرصة مستمرة لأن نكون فيها معاً، ولفترة طويلة من الزمن.
هذا لا يعني أبداً أننا كأفراد لا نستطيع أن نكون وحدنا . فأنا أعمل يومياً بعيداً عن الأسرة، وزوجتي تدير مكتبنا الخاص أيضاً بنفسها، وأطفالي يذهبون إلى مدارسهم ويتابعون هواياتهم واهتماماتهم الخاصة كما أن زوجتي تستمتع بالسباحة والذهاب إلى صالة الجمباز الممارسة الرياضة. كما أنني أستمتع جداً بقراءة كتاب أو مقالة أو مشاهدة أحد برامج التلفزيون على انفراد كل واحد منا يسعى في مناكبها شاقاً طريقه الخاص على انفراد وبأسلوبه الشخصي المتفرد .
ولكننا نحاول كعائلة أن نروض أنفسنا على تنظيم الوقت عندما نكون مع بعضنا البعض. فعلى سبيل المثال خصصنا ليلة كل جمعة لاجتماع العائلة وسميناها ليلة العائلة، حيث نجتمع جميعاً لمناقشة شؤون العائلة والقيام ببعض النشاطات المسلية. وفي كل أحد نذهب معاً للصلاة في الكنيسة، ومن ثم نزور بعض الأصدقاء كعائلة معاً. أما عطلة الصيف فنقضيها كاملة مع بعضنا البعض لإلقاء محاضرات خاصة في أماكن متفرقة من البلاد. وعلى هامش هذه المهمة نقوم بزيارات خاصة لمناطق معينة. كما نقضي عطلة عيد الميلاد معاً وهي عطلة تمتد لأسبوعين.
ونقضي عيد الفصح أيضاً مع بعضنا البعض. كما نحاول اصطياد مناسبات أخرى للقيام بنشاطات معينة على مدار السنة. ولأن طبيعة عملي تسمح لي بأن أذهب مع عائلتي لأماكن مختلفة ولفترة طويلة، فقد ظلت فرصتي للبقاء مع أفراد العائلة موجودة. ويمكن للأشخاص الآخرين أن يجدوا فرصاً للبقاء مع أفراد أسرهم لا تتضمن بالضرورة رحلات مكلفة، إذ أن مجرد الاجتماع في البيت أو في حديقة عامة مجاورة أو في أي مكان آخر مع القيام بأنشطة اجتماعية خاصة تناسب العائلة تفي بالغرض في معظم الأحيان.
ما قلناه عن العائلة ككل ينطبق على الزوج والزوجة قبل أن يرزقا بالأطفال. فالزواج المترابط الذي يسوده التفاهم والود يستلزم المشاركة في تجارب الحياة المختلفة والحميمية في العلاقات ومكوث كل منهما إلى جانب الآخر في الظروف المختلفة التي تقدمها الحياة للزوجين. في صيف إحدى السنوات وبينما كنت ونورما في رحلة تخص عملي لإلقاء محاضرات في إحدى مدن الشمال، طلبت نورما مني أن نزور محمية للحياة البرية، فتقبلت الفكرة بحماس شديد، فاستأجرنا سيارة وبدأنا نتنزه في أرجاء المحمية، وقد طلبت إلينا إدارة المحمية أن نكون حذرين وأن نقوم في حال تعرضنا لأي شيء بتشغيل زمور السيارة فيهرع لنجدتنا أحد أفراد الشرطة في المحمية.
وبينما كنا في منتصف الطريق داخل المحمية، ارتفعت حرارة سيارتنا ثم تعطلت، فأوقفناها جانباً وبدأنا بإطلاق زمور النجدة. غير أن أحداً لم يهرع لنجدتنا . ومما زاد الطين بلة أن أعداداً كبيرة من حمير الوحش استجابت لندائنا، وبدأت تنطح السيارة. وبخوف بدأنا نطلق زمور السيارة ثانية، وبشكل مستمر. وبينما كنت أنظر في مرآة السيارة لاحظت أن قطيعاً من الجاموس يحث الخطا في طريقه إلينا، وما هي إلا ثوان قليلة حتى أحاطت بنا جوقات مختلفة من الحيوانات البرية. نورما الحت علي لأن أطلق الزمور مرة ثانية، ولكنني خفت أن يثير الزمور ذعر الحيوانات المحيطة بنا، فتبدأ بالهجوم على سيارتنا ونطحها من جديد. أحد فحول الجاموس أخفض رأسه، وألصقه بزجاج السيارة في الجانب الذي كنت أنا فيه. وكان منخراه يطلقان بخاراً كثيفاً غطى زجاج شباك السيارة الجانبي، وكانت عيناه البنيتان الكبيرتان تحدقان ربما بحثاً عن شيء لدينا ليأكله تمسكت نورما بي وفرائصها ترتعد من الخوف فبدأت أواسيها وأشجعها . ولكني لم أكن أحسن حالاً منها، إذ أنني لم أكن أجرؤ على النظر في عيني الجاموس، وكنت فقط أكتفي بالسؤال: هل رحل عنا .. الازال هنا؟ وأجابت نورما مرعوبة: لا لم يرحل بعد.
هلا أطلقت الزمور مرة ثانية؟. وأجبتها : لا أستطيع، ألا تشاهدين وتسمعين أنفاسه الحارة وصلت إلينا؟. وأجابت: هذه ليست أنفاسه، إنها
أنفاسي أنا. وضحكنا معاً، وشيئاً فشيئاً بدأت الجواميس المحيطة بنا تفقد اهتمامها بنا . وبدأ بعضها ينفض عنا . خمس وأربعون دقيقة كاملة مرت كأنها دهر كامل علينا . أخيراً حاولنا أن نشغل السيارة مرة ثانية ولحسن الحظ فقد اشتغلت، واستطعنا أن نكمل طريقنا في أرجاء المحمية. تجارب كهذه لا تنسى، وهي تقرب الأزواج وأفراد العائلة من بعضهم البعض، وتقدم لهم مدداً من الذكريات يبقى معهم لفترات طويلة، ويشدهم إلى بعضهم البعض.
يخبرني الرياضيون المحترفون الذين أتعامل معهم بأن أصعب ما يواجهونه خلال فترة تقاعدهم هو شوقهم العارم إلى روح التعاون والجماعية في الفريق. هذه الرابطة القوية ترسخت عبر سنوات التدريب الشاق والمباريات الصعبة والمنافسة الشديدة ، مشاعر الترابط هذه و روح الجماعة يجب أن تسود كل عائلة.
في صيف إحدى السنوات ذهبت مع أطفالي إلى واشنطن لصيد السمك. عثرنا على شلال بالغ الجمال والروعة يصب في بحيرة مترامية الأطراف ساحرة المناظر. وكنت على دراية جيدة بصيد السمك إذ أنني مارست هذه الهواية منذ كنت طالباً في الصف الثالث الابتدائي. مايك وغريغ كانا حديثي العهد وليس لديهما أية خبرة في الصيد، ولكنهما أصرا على أن يعملا منفردين كل يصيد بنفسه بصنارته الخاصة. بدا لي كما لو أن غريغ قد أخطأ في ترتيب كل أموره استعداداً للصيد. فصنارته معوجة قليلاً وخيط الصنارة أطول من اللازم، وفلينة الصنارة لم تكن موضوعة في المكان المناسب، أما شنكل الصنارة فكان كبيراً، ولا يتناسب مع حجم الصنارة ككل وفوق كل هذا اختار مكاناً للصيد تندر فيه حركة الأسماك.
وعلى العكس من غريغ، حاولت أن أقوم بعملي على أكمل وجه وأصح صورة صنارة جيدة، طول الخيط كان مناسباً، شنكل الصنارة صغير وحاد. ولزيادة فرحتي في صيد جيد، تركت الأطفال وحدهم، وزحفت إلى مكان هادئ تحت الشلال كان يعج بالسمك النشط.
تسمرت في مكاني حابساً أنفاسي، وأنا أحاول أن أثبت لأبنائي بأني صياد السمك الأفضل. وبدأت بإلقاء صنارتي إلى الماء. وقبل أن يستقر طعم صنارتي في الماء سمعت صراخ غريغ . لقد علق في صنارته فرخ سمك نادر طوله حوالي 25 إلى 30 بوصة. يا للعجب ! أنا الصياد الماهر الخبير في العائلة لم أصطد في حياتي كلها فرخاً بهذا الحجم سوى مرة واحدة. وهاهو غريغ ابني المبتدئ بصنارته المعوجة وأسلوبه الفوضوي في الصيد قد فعل العجائب من أول مرة يحاول فيها الصيد . وبينما كان غريغ يحاول لف الخيط ورفع السمكة التي اصطادها، حاولت أن أعلمه كيف يلف الخيط ببطء، ولكنه كان فرحاً ومثاراً لدرجة أنه استعجل رفع السمكة من الماء ، وما إن رفعها ووصلت تقريباً إلى الشاطئ انحرف شنكل الصنارة غير المثبت بعناية إلى الجانب قليلاً، وأفلتت السمكة من الشنكل، وسقطت مرة ثانية في الماء. قذف غريغ بصنارته إلى الوراء وسقط على الأرض تمزقه الخيبة والحظ السيئ، وهو يجهش بأسى على فرصة قد لا تتكرر. انفطر قلبي لما حدث مع غريغ. كم كنت أتمنى لو استطاع أن يكمل صيده، ويحصل على تلك السمكة. في كل السنوات اللاحقة لم يستطع غريغ أن يصطاد سمكة كتلك التي فقدها. لا زلنا جميعاً نتذكر تلك الحادثة بأسف ولكننا مع هذا ندرك عمق سخرية القدر الذي يضحك لنا في لحظات ثم يضحك منا في أخرى.
حادثة أخرى كتلك قربتنا من بعض كأسرة حدثت لنا عندما كنا في جبال الحديقة الوطنية بكاليفورنيا . جدول صغير مياهه شديدة العذوبة يسيل على جرف صخري من الغرانيت شكل منزلقاً مائياً طبيعياً كبيراً يمتد لمسافة طويلة . وعند نهاية المنزلق هذا يتفرع إلى فرعين يصب كل واحد منهما في بحيرة خاصة. عندما رأينا المنزلق نزلنا إليه مباشرة، أنا والأطفال، وبدأنا ننزلق فيه . وبعد عدد من الانزلاقات الناجحة الهادئة طلب غريغ مني السماح له بأخذ مسار الفرع الثاني للمنزلق، وقد كان هذا الفرع أكثر انحداراً وأكثر علواً من الفرع الذي كنا ننزلق فيه . أجبت غريغ على الفور : بالتأكيد . حاول ذلك . هيأ نفسه لفعل ذلك، وقد حاول مضاعفة سرعته انزلاقه مرات عديدة بحيث بدت لنا سرعة انزلاقه هائلة. وقد تهيأ لنورما من الزاوية التي كانت موجودة فيها كما لو أن غريغ قد طار نحو نهاية المنزلق، وانقذف إلى الماء من علو يتجاوز الستة أقدام. وكانت هذه الأقدام الستة بالنسبة لها أعلى من جبل. كما أن غريغ على سرعته وقبل سقوطه في الماء قد ارتطم بأرض المسيل، ثم قلب فيه من عشرين إلى ثلاثين قلبة ثم استقر أخيراً في المياه العميقة دون حركة.
مايك وأنا جمدنا الخوف، ونحن نشاهد ما حدث لغريغ أخيراً وصلت إليه لا أعرف كيف وصلت إليه . وسمعت أول صوت له بعد الحادثة وكان يرطن بكلمات فهمت منها أنه يشعر أن ظهره قد كسر. وكنت مندهشاً أنه لا زال على قيد الحياة. بعد عشرين دقيقة استطاع غريغ أن ينهض ويبدأ المشي ببطء شديد، ولكنه بعد ساعة أصبح يشعر أنه على ما يرام. تعلمنا من تلك التجربة الكثير كعائلة . أهم جانب من جوانب هذه التجربة أننا كنا معاً ، ولأننا كنا مع بعضنا البعض أتيح لنا جميعاً أن نشارك في تجربة غالية علينا تركت في أعماقنا أبقى الذكريات ومن ناحية أخرى فإن مواجهة الصعوبات تزيد من شدة الروابط بين أفراد الأسرة. فلقد راودت كلاً منا فكرة مواجهة الحياة بدون غريغ. و أن هذه الفكرة على سلبيّتها تشعر أفراد الأسرة كم هو عزيز وغال كل فرد فيها على قلوب الأفراد الآخرين في الأسرة. تلك الذكريات الشديدة الخصوصية التي تجمع كل أفراد الأسرة لا سيما تلك الحوادث الخطرة التي يواجهها الجميع معاً هي في الواقع ما يشد رباط الأسرة ويجعل أفرادها أكثر تلاحماً.
1 - المشاركة في التجارب الحياتية :
منذ عدة سنوات خلت كنت أحاضر في جمع من الحضور يتراوح بين 400 و 2000 من الناس في أكثر من خمسين مدينة مختلفة . وقد لاحظت أن عائلات معينة من بين الحضور يظهر على أفرادها تفاعل إيجابي سعيد . وقد لفتت نظري هذه الظاهرة، وحفزتني لأن أقوم بدراسة خاصة حول هذا الموضوع . وقد كنت أقابل كل فرد من أفراد مثل هذه الأسر على انفراد لأسأله، أو أسألها السؤال نفسه: ما هو السبب الرئيس باعتقادك، والذي يجعل أفراد أسرتك متحابين مترابطين وتغمرهم مثل هذه السعادة ؟)).
النتيجة التي توصلت إليها أدهشتني فعلاً . كل فرد من أفراد هذه الأسر أعطاني تقريباً إجابة متطابقة : نقوم بالكثير من الأنشطة مع بعضنا البعض. وقد وجدت أيضاً أن هناك نشاطاً يشكل قاسماً مشتركاً بين معظم هذه العائلات. هذا النشاط هو الرحلات التخييمية. أحد الخوارنة من ولاية (Thous Dakota) أكد هذه الحقيقة عندما أخبرني أنه سأل أطفاله كل على حده عن أفضل الأشياء التي أسعدتهم كعائلة. وكانت إجابة كل واحد منهم كلمة واحدة: المخيمات. وأنا هنا لا أريد أن أسوق موضوع التخييم وأعده هدفاً بحد ذاته. فلقد قمنا كعائلة برحلات تخييمية لأكثر من 15 سنة، ولكني وجدت أن التخييم وحده ليس المسؤول عن جعل أسرتنا متحابة ومترابطة. السر في ذلك باعتقادي هو أننا كعائلة نحاول دائماً أن نزيد من الأوقات التي نكون فيها معاً، ونقلل من مساحة الأوقات التي نكون فيها متباعدين عن بعضنا البعض والتخييم يقدم لنا فرصة مستمرة لأن نكون فيها معاً، ولفترة طويلة من الزمن.
هذا لا يعني أبداً أننا كأفراد لا نستطيع أن نكون وحدنا . فأنا أعمل يومياً بعيداً عن الأسرة، وزوجتي تدير مكتبنا الخاص أيضاً بنفسها، وأطفالي يذهبون إلى مدارسهم ويتابعون هواياتهم واهتماماتهم الخاصة كما أن زوجتي تستمتع بالسباحة والذهاب إلى صالة الجمباز الممارسة الرياضة. كما أنني أستمتع جداً بقراءة كتاب أو مقالة أو مشاهدة أحد برامج التلفزيون على انفراد كل واحد منا يسعى في مناكبها شاقاً طريقه الخاص على انفراد وبأسلوبه الشخصي المتفرد .
ولكننا نحاول كعائلة أن نروض أنفسنا على تنظيم الوقت عندما نكون مع بعضنا البعض. فعلى سبيل المثال خصصنا ليلة كل جمعة لاجتماع العائلة وسميناها ليلة العائلة، حيث نجتمع جميعاً لمناقشة شؤون العائلة والقيام ببعض النشاطات المسلية. وفي كل أحد نذهب معاً للصلاة في الكنيسة، ومن ثم نزور بعض الأصدقاء كعائلة معاً. أما عطلة الصيف فنقضيها كاملة مع بعضنا البعض لإلقاء محاضرات خاصة في أماكن متفرقة من البلاد. وعلى هامش هذه المهمة نقوم بزيارات خاصة لمناطق معينة. كما نقضي عطلة عيد الميلاد معاً وهي عطلة تمتد لأسبوعين.
ونقضي عيد الفصح أيضاً مع بعضنا البعض. كما نحاول اصطياد مناسبات أخرى للقيام بنشاطات معينة على مدار السنة. ولأن طبيعة عملي تسمح لي بأن أذهب مع عائلتي لأماكن مختلفة ولفترة طويلة، فقد ظلت فرصتي للبقاء مع أفراد العائلة موجودة. ويمكن للأشخاص الآخرين أن يجدوا فرصاً للبقاء مع أفراد أسرهم لا تتضمن بالضرورة رحلات مكلفة، إذ أن مجرد الاجتماع في البيت أو في حديقة عامة مجاورة أو في أي مكان آخر مع القيام بأنشطة اجتماعية خاصة تناسب العائلة تفي بالغرض في معظم الأحيان.
ما قلناه عن العائلة ككل ينطبق على الزوج والزوجة قبل أن يرزقا بالأطفال. فالزواج المترابط الذي يسوده التفاهم والود يستلزم المشاركة في تجارب الحياة المختلفة والحميمية في العلاقات ومكوث كل منهما إلى جانب الآخر في الظروف المختلفة التي تقدمها الحياة للزوجين. في صيف إحدى السنوات وبينما كنت ونورما في رحلة تخص عملي لإلقاء محاضرات في إحدى مدن الشمال، طلبت نورما مني أن نزور محمية للحياة البرية، فتقبلت الفكرة بحماس شديد، فاستأجرنا سيارة وبدأنا نتنزه في أرجاء المحمية، وقد طلبت إلينا إدارة المحمية أن نكون حذرين وأن نقوم في حال تعرضنا لأي شيء بتشغيل زمور السيارة فيهرع لنجدتنا أحد أفراد الشرطة في المحمية.
وبينما كنا في منتصف الطريق داخل المحمية، ارتفعت حرارة سيارتنا ثم تعطلت، فأوقفناها جانباً وبدأنا بإطلاق زمور النجدة. غير أن أحداً لم يهرع لنجدتنا . ومما زاد الطين بلة أن أعداداً كبيرة من حمير الوحش استجابت لندائنا، وبدأت تنطح السيارة. وبخوف بدأنا نطلق زمور السيارة ثانية، وبشكل مستمر. وبينما كنت أنظر في مرآة السيارة لاحظت أن قطيعاً من الجاموس يحث الخطا في طريقه إلينا، وما هي إلا ثوان قليلة حتى أحاطت بنا جوقات مختلفة من الحيوانات البرية. نورما الحت علي لأن أطلق الزمور مرة ثانية، ولكنني خفت أن يثير الزمور ذعر الحيوانات المحيطة بنا، فتبدأ بالهجوم على سيارتنا ونطحها من جديد. أحد فحول الجاموس أخفض رأسه، وألصقه بزجاج السيارة في الجانب الذي كنت أنا فيه. وكان منخراه يطلقان بخاراً كثيفاً غطى زجاج شباك السيارة الجانبي، وكانت عيناه البنيتان الكبيرتان تحدقان ربما بحثاً عن شيء لدينا ليأكله تمسكت نورما بي وفرائصها ترتعد من الخوف فبدأت أواسيها وأشجعها . ولكني لم أكن أحسن حالاً منها، إذ أنني لم أكن أجرؤ على النظر في عيني الجاموس، وكنت فقط أكتفي بالسؤال: هل رحل عنا .. الازال هنا؟ وأجابت نورما مرعوبة: لا لم يرحل بعد.
هلا أطلقت الزمور مرة ثانية؟. وأجبتها : لا أستطيع، ألا تشاهدين وتسمعين أنفاسه الحارة وصلت إلينا؟. وأجابت: هذه ليست أنفاسه، إنها
أنفاسي أنا. وضحكنا معاً، وشيئاً فشيئاً بدأت الجواميس المحيطة بنا تفقد اهتمامها بنا . وبدأ بعضها ينفض عنا . خمس وأربعون دقيقة كاملة مرت كأنها دهر كامل علينا . أخيراً حاولنا أن نشغل السيارة مرة ثانية ولحسن الحظ فقد اشتغلت، واستطعنا أن نكمل طريقنا في أرجاء المحمية. تجارب كهذه لا تنسى، وهي تقرب الأزواج وأفراد العائلة من بعضهم البعض، وتقدم لهم مدداً من الذكريات يبقى معهم لفترات طويلة، ويشدهم إلى بعضهم البعض.
يخبرني الرياضيون المحترفون الذين أتعامل معهم بأن أصعب ما يواجهونه خلال فترة تقاعدهم هو شوقهم العارم إلى روح التعاون والجماعية في الفريق. هذه الرابطة القوية ترسخت عبر سنوات التدريب الشاق والمباريات الصعبة والمنافسة الشديدة ، مشاعر الترابط هذه و روح الجماعة يجب أن تسود كل عائلة.
في صيف إحدى السنوات ذهبت مع أطفالي إلى واشنطن لصيد السمك. عثرنا على شلال بالغ الجمال والروعة يصب في بحيرة مترامية الأطراف ساحرة المناظر. وكنت على دراية جيدة بصيد السمك إذ أنني مارست هذه الهواية منذ كنت طالباً في الصف الثالث الابتدائي. مايك وغريغ كانا حديثي العهد وليس لديهما أية خبرة في الصيد، ولكنهما أصرا على أن يعملا منفردين كل يصيد بنفسه بصنارته الخاصة. بدا لي كما لو أن غريغ قد أخطأ في ترتيب كل أموره استعداداً للصيد. فصنارته معوجة قليلاً وخيط الصنارة أطول من اللازم، وفلينة الصنارة لم تكن موضوعة في المكان المناسب، أما شنكل الصنارة فكان كبيراً، ولا يتناسب مع حجم الصنارة ككل وفوق كل هذا اختار مكاناً للصيد تندر فيه حركة الأسماك.
وعلى العكس من غريغ، حاولت أن أقوم بعملي على أكمل وجه وأصح صورة صنارة جيدة، طول الخيط كان مناسباً، شنكل الصنارة صغير وحاد. ولزيادة فرحتي في صيد جيد، تركت الأطفال وحدهم، وزحفت إلى مكان هادئ تحت الشلال كان يعج بالسمك النشط.
تسمرت في مكاني حابساً أنفاسي، وأنا أحاول أن أثبت لأبنائي بأني صياد السمك الأفضل. وبدأت بإلقاء صنارتي إلى الماء. وقبل أن يستقر طعم صنارتي في الماء سمعت صراخ غريغ . لقد علق في صنارته فرخ سمك نادر طوله حوالي 25 إلى 30 بوصة. يا للعجب ! أنا الصياد الماهر الخبير في العائلة لم أصطد في حياتي كلها فرخاً بهذا الحجم سوى مرة واحدة. وهاهو غريغ ابني المبتدئ بصنارته المعوجة وأسلوبه الفوضوي في الصيد قد فعل العجائب من أول مرة يحاول فيها الصيد . وبينما كان غريغ يحاول لف الخيط ورفع السمكة التي اصطادها، حاولت أن أعلمه كيف يلف الخيط ببطء، ولكنه كان فرحاً ومثاراً لدرجة أنه استعجل رفع السمكة من الماء ، وما إن رفعها ووصلت تقريباً إلى الشاطئ انحرف شنكل الصنارة غير المثبت بعناية إلى الجانب قليلاً، وأفلتت السمكة من الشنكل، وسقطت مرة ثانية في الماء. قذف غريغ بصنارته إلى الوراء وسقط على الأرض تمزقه الخيبة والحظ السيئ، وهو يجهش بأسى على فرصة قد لا تتكرر. انفطر قلبي لما حدث مع غريغ. كم كنت أتمنى لو استطاع أن يكمل صيده، ويحصل على تلك السمكة. في كل السنوات اللاحقة لم يستطع غريغ أن يصطاد سمكة كتلك التي فقدها. لا زلنا جميعاً نتذكر تلك الحادثة بأسف ولكننا مع هذا ندرك عمق سخرية القدر الذي يضحك لنا في لحظات ثم يضحك منا في أخرى.
حادثة أخرى كتلك قربتنا من بعض كأسرة حدثت لنا عندما كنا في جبال الحديقة الوطنية بكاليفورنيا . جدول صغير مياهه شديدة العذوبة يسيل على جرف صخري من الغرانيت شكل منزلقاً مائياً طبيعياً كبيراً يمتد لمسافة طويلة . وعند نهاية المنزلق هذا يتفرع إلى فرعين يصب كل واحد منهما في بحيرة خاصة. عندما رأينا المنزلق نزلنا إليه مباشرة، أنا والأطفال، وبدأنا ننزلق فيه . وبعد عدد من الانزلاقات الناجحة الهادئة طلب غريغ مني السماح له بأخذ مسار الفرع الثاني للمنزلق، وقد كان هذا الفرع أكثر انحداراً وأكثر علواً من الفرع الذي كنا ننزلق فيه . أجبت غريغ على الفور : بالتأكيد . حاول ذلك . هيأ نفسه لفعل ذلك، وقد حاول مضاعفة سرعته انزلاقه مرات عديدة بحيث بدت لنا سرعة انزلاقه هائلة. وقد تهيأ لنورما من الزاوية التي كانت موجودة فيها كما لو أن غريغ قد طار نحو نهاية المنزلق، وانقذف إلى الماء من علو يتجاوز الستة أقدام. وكانت هذه الأقدام الستة بالنسبة لها أعلى من جبل. كما أن غريغ على سرعته وقبل سقوطه في الماء قد ارتطم بأرض المسيل، ثم قلب فيه من عشرين إلى ثلاثين قلبة ثم استقر أخيراً في المياه العميقة دون حركة.
مايك وأنا جمدنا الخوف، ونحن نشاهد ما حدث لغريغ أخيراً وصلت إليه لا أعرف كيف وصلت إليه . وسمعت أول صوت له بعد الحادثة وكان يرطن بكلمات فهمت منها أنه يشعر أن ظهره قد كسر. وكنت مندهشاً أنه لا زال على قيد الحياة. بعد عشرين دقيقة استطاع غريغ أن ينهض ويبدأ المشي ببطء شديد، ولكنه بعد ساعة أصبح يشعر أنه على ما يرام. تعلمنا من تلك التجربة الكثير كعائلة . أهم جانب من جوانب هذه التجربة أننا كنا معاً ، ولأننا كنا مع بعضنا البعض أتيح لنا جميعاً أن نشارك في تجربة غالية علينا تركت في أعماقنا أبقى الذكريات ومن ناحية أخرى فإن مواجهة الصعوبات تزيد من شدة الروابط بين أفراد الأسرة. فلقد راودت كلاً منا فكرة مواجهة الحياة بدون غريغ. و أن هذه الفكرة على سلبيّتها تشعر أفراد الأسرة كم هو عزيز وغال كل فرد فيها على قلوب الأفراد الآخرين في الأسرة. تلك الذكريات الشديدة الخصوصية التي تجمع كل أفراد الأسرة لا سيما تلك الحوادث الخطرة التي يواجهها الجميع معاً هي في الواقع ما يشد رباط الأسرة ويجعل أفرادها أكثر تلاحماً.
تعليق