تنسي وليامز والإتجاهات الحديثة في المسرح العالمي
شاكر الحاج مخلف ,
على الرغم من التغييرات الكثيرة التي طرأت على الحياة الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية فإن أوفر مؤلفي المسرح الأمريكي بعد الحرب نصيباً من الاحترام هو تنسي وليامز الذي أحرز أولى خطوات النجاح بمسرحيات كتبت في ظلال سنوات ما قبل الحرب. ولقد اعتبرت مسرحياته من روائع المسرح الأمريكي الذي أفرز خلال سنوات تطوره عدداً هائلاً من المسرحيات الجيدة، وهو من الكتّاب الذين أصبحت أعمالهم المسرحية مدارس في فن الكتابة للمسرح ولفهم التطور التاريخي لحركة المسرح الأمريكي، وتؤكد الدراسات والأبحاث بأن الدراما الأمريكية لم تصبح ذات موضوعات أمريكية خالصة إلا منذ أربعين عاماً، واستكملت أوج نضوجها في مسرحيات يوجين أونيل وروبرت شيرود وألمر رايس وسيدني هوارد وتنسي وليامز.
على الرغم من أن الدارما الأمريكية عكست منذ بدايتها تأثرها الشديد بالإنماط الأوروبية والبريطانية بوجه خاص التي كانت سائدة في تلك الفترة حيث كتب كتاب محترفون بوعي حاد وخبرة كبيرة في مجال الدراما المسرحية عالجوا فيها تقاليد ومواقف ومتاعب الجماهير وأزماتها في صيغة واقعية مفعمة بالمشاعر الإنسانية، ألا أن تلك المسرحيات لم تصمد على محك الزمن صموداً يكفل لها الحياة، فقد تغيرت الطباع والعادات والتقاليد الأمريكية بعد الحرب وباتت المسرحيات التي كتبت في فترات نشوء المسرح الأمريكي الأولى غريبة تماماً ومضحكة عندما تقدم على خشبة المسرح، إذ تبرز سذاجة الأفكار وقلة الخبرة في فنون الكتابة للمسرح قياساً إلى التطورات التي حصلت في المسرح الحديث. وفي بداية تكوين المسرح الأمريكي ساد موضوع حب الحرية والثورة على الطغيان وكانت تلك المسرحيات بسيطة التكوين الدرامي وهي شبه مرتجلة أحياناً وتعتمد في استخراج مادتها على بعض قصص المأثور الشعبي وحكايات البطولات في التاريخ الوطني الانساني عامة. وقد أكدت تلك المسرحيات على البطولات الفردية التي استمدت مادتها من أحداث الماضي، كما حصل عند تقديم مسرحية (سبارتكوس). وعندما أصبحت الحاجة ضرورية لتقديم أعمال ذات نمط يعالج شؤون الإنسان ويقترب من تفاصيل حياته اليومية بدأت محاولات الإعداد المسرحي عن الروايات ذات التأثير الشعبي الكبير، كما حصل بالنسبة لرواية (كوخ العم توم).
ولقد انعكست الحرب الأهلية ذاتها على الدراما الأمريكية حيث تمت معالجتها في مسرحيات عكست الرغبة في نسيان مآسي الحرب وآثارها السلبية والتفكير في صورة المستقبل والدعوة الشديدة إلى تأكيد مفاهيم الوحدة الأمريكية والاقتراب من قضية حب الحرية الفردية التي كانت سبباً في إلغاء الرق والتطلع إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية فأصبحت هذه الدعوة السبب الأساسي في وصول الموجات البشرية الكبيرة من المستوطنين وأنعكس وجودهم على حالة التطور في مجالات عديدة شملت الدعوة إلى الخروج من الدائرة الضيقة في مجال الآراء الدينية والسياسية واتاحة الفرصة أمام الأفراد لتنمية امكاناتهم المادية وتطويرها واستثمار أموالهم في مشاريع التنمية والبناء، وبذلك ظهرت مشاكل جديدة في التكوين الاجتماعي.
ظهرت أمام المسرح الأمريكي نماذج تستحق الكشف والمعالجة وعرضت المسرحيات التي تصور السماسرة والمفسدين في دراما شعبية تجذب الطبقات المختلفة بغض النظر عن مستوى تلك المسرحيات التي كان يغلب عليها الكوميديا والتضخيم الساذج للمشكلات التي يراد مناقشتها. وهكذا حصل المسرح الأمريكي في مرحلة مناقشة الأوضاع الجديدة على اهتمام جماهيري واسع. ان جهود رابطة المسرح، التي تم تشكيلها لتخطط مستقبل المسرح الأمريكي اقترنت منذ بدايتها ببداية انطلاقة المسرح الأمريكي الحديث وهي تبحث عن الينابيع في مجال الكتابة والاخراج لكي تمد الحركة المسرحية بالدم الجديد. لذلك فكرت رابطة المسرح منذ البداية بمد الجسور إلى المسرح الأوروبي الذي كان متقدماً كثيراً على المسرح الأمريكي، وبدأ التفكير بتقديم نماذج من مسرحيات أوروبية نالت شهرة واسعة لمناقشتها هموم العصر ومشاكل الانسان وكذلك لكونها جزءاً من تيارات ومدارس مهمة في المسرح العالمي الحديث، فقد اختيرت نماذج من المسرحيات التي تدعو إلى الحرية والثورة على المصطلح الاجتماعي المتخلف وعدم الاستكانة للقيم والأخلاق المتوارثة وكذلك الأهتمام بدراما الأفكار، أي المسرحيات التي لا تستهدف الامتاع والتسلية فقط بل تعنى بمناقشة الأفكار التي غالباً ما تتصل بالأوضاع الاجتماعية والسياسية المعاصرة، حيث كان لمسرحيات برناردشو النصيب الأكبر، وكذلك تقديم نماذج من المسرحيات الرمزية المهمة لهنريك أبسن وكارل تشابيك وفرانز بروفيل وجورج كيزر. كما يسجل تاريخ المسرح الأمريكي الاهتمام بتقديم نماذج من الكتاب الأمريكيين المبدعين أمثال يوجين أونيل وألمر رايس وروبرت شرود وماكسويل اندرسون وفيليب باري. ويضاف إلى جهد رابطة المسرح محاولات عديدة حصلت في تجمعات ومسارح كثيرة كانت تهدف لخلق مسرح حديث حيوي القيمة كان جزءاً من حركة مسرحية واسعة النطاق في المدن الكبيرة
وتأتي أهمية تلك الجهود من كونها منفتحة على تيارات الأدب والمسرح العالمي أكثر من كونها مهتمة بالجهود الاقليمية للمسرح الأمريكي ممّا أسهم في تطور تلك التجارب وتصاعد وتيرة المسرح الأمريكي ونضوج المضامين والأشكال التي تناولها كتَّاب عمالقة كان في مقدمتهم أوجين أونيل وآرثر ميللر وتنسي وليامز وغيرهم.
وصف "مالكوم جولنشتاين" كتَّاب مرحلة الثلاثينات في أمريكا بأنهم قلة من اهل الفكر ولكنهم قادرون على خلق دراما ذات أهداف جديدة، ومنشطة لحركة المسرح. وكان ثمة عامل مهم ساعد في تطور امكانيات الكتّاب هو ازدياد الاحتجاج الاجتماعي في أفق الواقع الأمريكي، حيث أصبحت قضايا الإنسان واهتماماته المحور الاساس للفكر المسرحي وكل موسم كان يحمل قدراً جديداً من التوجهات المفرغة في قالب مسرحي يتصف بالثورة على المادية والظلم ويرسم أكثر من علامة للمجتمع الجديد. ولنتوقف قليلاً عند ثلاثة من كتَّاب تلك المرحلة، هم ماكسويل اندرسون واس. إن. بيرمان وروبرت شيرود الذين عبروا خير تعبير عن الاتجاه التقليدي للطبقة الوسطى في المسرح، اذ تميزت مسرحياتهم بنكهة مأساوية وطابع جدي، وكان أغلب أبطالها شخصيات مختارة من الطبقة الوسطى وتعتبر تلك المسرحيات تطوراً للماسأة العائلية التي كانت معروفة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حيث اعتبرت شخصيات الطبقة الوسطى صالحة لتحل محل نماذج طبقة النبلاء التي كانت تتميز بها تلك المسرحيات.
كتب اندرسون مسرحيات عديدة كوميدية وتراجيدية، غنائية وغير غنائية، وميلودراما، وتطور في الكتابة إلى اختيار أساليب خشنة في المسرح عندما كتب( كلا الدارين لك) التي يهاجم فيها سياسة الكونغرس، ثم كتب سلسلة من المسرحيات التي يحاول فيها تقديم المشاكل المعاصرة، كما في مسرحية( الليل فوق الفضيلة) و( حداد الوادي) و( العربة الممتازة).
أما بيرمان فيقترب أكثر من الإتجاه الكوميدي حيث حاول في مسرحياته الكشف عن التناقض بين أصحاب الثروات الكبيرة والمستأجرين وتناول إلى جانب ذلك السلوك والعادات في لمحات كاريكاتيرية مفزعة. ولعل أهم أعماله المسرحية (لاوقت للفكاهة) التي سجل فيها جانباً من حياته وتجاربه.
أما روبرت شيرود، فهو الكاتب المميز الذي استطاع الانتقال من الكوميديا الرفيعة إلى الدراما ذات الأثر الجاد التي تعالج مشكلة إنسانية، وكان قد كتب في عام 1931 كوميديات حظيت باهتمام كبير بتعرضها لنظريات التحليل النفسي، كما هو الحال في مسرحية (اجتماع عائلي في فينا)، وبعد أربع سنوات عالج شيرود بنظرة متشائمة موضوعات الأزمات الاقتصادية التي كانت تعصف في أمريكا آنذاك، كما هو الحال في مسرحية (الغابة المتحجرة) التي تعتبر من أفضل المسرحيات التي كتبت عن المشاكل الاقتصادية وتتفق جميع الدراسات والآراء على أن اندرسون وبيرمان وشيرودكانوا أفضل مؤلفي المسرحيات الاجتماعية وأصحاب حرفة في مجال التأليف المسرحي. وتطورت الدراما الاجتماعية على يد الكتاب المسرحيين في مرحلة الثلاثينات التي شهدت مسرحيات تعالج قضايا العمال وظروف استغلالهم، كما هو الحال في مسرحية(في انتظار ليفتي) لكليفود اوديتس حيث انتزع الكاتب اعجاب الجمهور الأمريكي من خلال تصديه لمعالجة الأزمات الاقتصادية، كما واصل معالجة تلك الافكار في مسرحياته اللاحقة( استيقظوا وغنوا) ومسرحية( الفتى الذهبي) و(صاروخ إلى القمر). وتعتبر الكاتبة ليليان هيلمان أكثر واقعية في مسرحياتها التي تتحدث بها عن الآمال العريضة التي يتوقعها الجنس البشري من التقدم الصناعي والتكنولوجي. وفي مسرحيتيها (ساعة الاطفال) و( الثعالب الصغيرة) اللتين تعتبران اجمل ما كتبت والتي ناقشت فيهما نماذج اجتماعية لها ارتباط وثيق بفكر وفلسفة واتجاهات الحياة في تلك الفترة.
وبعد تجاوز مرحلة الحرب العالمية الثانية وظهور التطورات الكثيرة في حياة المجتمع الأمريكي. فإن الاحترام الكبير الذي حصلت عليه أعمال الكتّاب يوجين أونيل وآرثر ميللر وتنسي وليامز وأدوارد البي وضعتهم في مصاف المبدعين المتميزين. ولم يكن أونيل قبل الحرب كاتباً مسرحياً عالمياً لكنه كان كاتباً للمسرح من الطراز الأول في الولايات المتحدة ألأمريكية، ووجدت شهرته قبولاً في الخارج، فظفر ثلاث مرات بجائزة بولتيزر عن أحسن مسرحية أمريكية، وتلقى في سنة 1936 جائزة نوبل للآداب. اما آرثر ميللر فقد بدأت حياته المسرحية بميلودراما واقعية هي( كلهم أبنائي)، وبعد عامين قدم للمسرح مسرحية بهرت النظارة هي (موت بائع جوال) ومسرحية (الاختيار القاسي) وأخرى بعنوان (مشهد من الجسر). أما تنسي وليامز فهو نجم ذو بريق خاص يبرز في أفق المسرح الأمريكي ولعل مسرحيته (بيت الحيوانات الزجاجية) أهم مسرحية كتبت في العصر الحديث..