اتجاهات المسرح المعاصر في العالم
فريال إبراهيم
على مدى القرن الماضي، على الأقل تقدير، كان رواج الفنون المسرحية أو الإقبال على عروضها، يعد من أهم المؤشرات إلى قياس الحالة الثقافية، ومدى تفاعل المجتمعات الإنسانية مع حركة التغيير أو التحولات الجديدة بكل تمظهراتها الحداثية، على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خاصة في العواصم الصناعية الكبرى . لذلك وجدنا أن شخصية المتشرد الصامت، التي جسدها شارلي شابلن، كانت أصدق تعبير على صرخة الاحتجاج الاجتماعي في نيويورك، خلال فترة الكساد الكبير، التي اجتاحت الولايات المتحدة في ثلاثينات القرن الماضي، فأقبل الناس على شخصية الصعلوك المتسكع بزخم، وحملوها على مراتب متقدمة من الوعي النقدي، جعلت شابلن نجم النجوم، وفي الوقت عينه، جعلت السلطات السياسية تطارده بتهمة الشيوعية، ما أرغمه على الفرار لائذاً بلندن حتى نهاية المرحلة المكارثية . ولكن المسرح لم ينكفئ بمكاشفاته الصادمة، أو تثوير الوعي، وإنما اتجه إلى المدارس الرمزية والتعبيرية والهزلية والاستعراضية والموسيقية، أو ما يمكن أن نسميه "مسرح الصورة" للفكاك من الرقيب السياسي، فبرزت موسكو باعتبارها من أهم عواصم المسرح العالمي بهذا الاتجاه .وكذلك الحال في مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية، وما تلاها من خراب كبير، ليس على مستوى البنية الاقتصادية فحسب، وإنما على مستوى البنية الاجتماعية، ذلك أن العنف والقسوة التي ولدتها الحرب في المجتمعات الأوروبية عموماً، ترافقت مع تغول الرأسمالية، التي نشطت بقوة خلال إعمار أهم العواصم الاقتصادية، مثل لندن وباريس وألمانيا عموماً، فسحق - تحالف العنف وتوحش الرأسمالية - البعد الإنساني في روح الفرد، ما أدى إلى الانحلال والتصحر الأخلاقي وتعميم ثقافة "نفسي ومن بعدي الطوفان"، فاتجه "أبو الفنون" حينذاك إلى ما عرف باسم "مسرح الكلمة"، وعبر عن هذا الاتجاه بقوة، الكاتب البريطاني إداورد بوند، من خلال مسرحياته التي تميزت بلغة جارحة للوعي، وبخاصة منها مسرحية "أُنقِذَ"، التي أوقفتها السلطات بعد عرضها الأول في لندن .
وعندما تمادت الحداثة بتسليع الإنسان في السبعينات والثمانينات الماضية، مع بروز التيارات الفوضوية والعنصرية بسبب البطالة، التي راحت تتعاظم في المجتمعات الصناعية، اتجه المسرح إلى العبث أو العدم، ممثلاً بأبرز رموزه أوجين يونسكو . ولكن في مرحلة ما بعد الحداثة، خاصة بعد ثورة وسائط الاتصال غير المسبوقة خلال العقد الأخير، بدا وكأن المسرح العالمي يتجه إلى التجريب، وأحياناً التجريب من دون هدف محدد، سوى تهديم كل أشكال "الفرجة المسرحية" القديمة، كتعبير ناجز عن حالة الرفض لفكرة العزلة الاجتماعية، التي فرضتها وسائط الاتصال الحديثة، وكذلك كتعبير عن رفض مبدأ تشيء الإنسان، الذي بلغ من الاستهتار واللامبالاة إلى آفاق غير معهودة، تمت ترجمتها بوحشية تبز همجية القرون الوسطى . وتمثل ذلك بالحروب المفتوحة التي يشنها الغرب منذ عقدين تحت مسميات كاذبة لم تعد تخدع أحداً . وانتهت بأزمات اقتصادية عاصفة زلزلت كيانات كبريات الاقتصادات العالمية، وأدت إلى بطالة تصل في بعض البلدان الأوربية إلى ثلث الخريجين الجدد من الجامعات، كما هو الحال في إيطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان، وهي البلدان التي حلت بالدرجة الأخيرة في مؤشرات الإقبال على الثقافة بعامة والمسرح بخاصة . فحسب البيانات التي نشرتها مديرية الاستطلاعات والدراسات في المفوضية الأوروبية أواخر ،2013 يقول نحو 35% من الأوروبيين، إنهم قاطعوا المسرح . وإن 38% فقط لايزالون يمارسون نشاطاً فنياً مثل الرقص والغناء والتصوير الفوتوغرافي، وأن الإقبال على الثقافة بشكل عام لم يتجاوز نسبة ستة في المئة في البرتغال وقبرص، وخمسة في المئة في اليونان، وثمانية في المئة في إيطاليا . وتم تخفيض العروض المسرحية في إسبانيا بنسبة 7 .18%، وتراجع عدد المشاهدين بنسبة 3 .24%، وانخفضت إيرادات مبيعات بطاقات الدخول للأنشطة الثقافية بنسبة 24 .13% . وفي الموسيقى، انخفضت الحفلات بنسبة 2 .12%، وقل عدد المشاهدين بمقدار 4 .23% والإيرادات بنسبة 3 .11% . وانخفضت المبيعات بنسبة 6 .41% . وفي ميدان الفنون البصرية السمعية انخفض عدد المشاهدين بنسبة 9% وانخفضت ميزانية الوزارات الخاصة بشؤون الثقافة والتربية والتعليم بنسبة 70% . ما يعني أن المسرح والثقافة بشكل عام يشهدان انكماشاً مخيفاً، وتعزو المفوضية الأوربية ذلك إلى الأزمة الاقتصادية، التي بدأت نهاية عام 2008 ولم تتعاف منها القارة العجوز حتى اللحظة الراهنة . وهو الأمر الذي دفع بالمسرح العالمي إلى اتجاهين في الوقت الراهن: الاتجاه الأول هو الموسيقي الأوبرالي والباليه، ويبرز ذلك بوضوح في مسارح موسكو . ومن أهم العروض لهذا الموسم، يظهر باليه "غادة الكاميليا" تأليف ألكسندر دوماس الابن، وإخراج جون نويماير، وباليه "أونيغين" تأليف ألكسندر بوشكين وإخراج جون كينكو على مسرح "البولشوي" . والاتجاه الآخر هو العودة إلى "مسرح الكلمة"، الذي تعبر عنه العروض المحدودة في لندن، ومن أهمها عرض " ثلاث شتويات" للمخرج هوارد ديفيس وتأليف الكاتبة تينا ستيفيسيس على مسرح "ناشيونال
تياتر، ساوث بنك لندن" . وكذلك عرض "الرجل الفيل" أو في برودواي بنيويورك للمخرج سكوت إيلليس وتأليف الكاتب بيرنارد بومرانس في مسرح "بوث" بنيويورك .
يمكن القول إن المسرح العربي شهد فترة ازدهار في الستينات، ويعود ذلك إلى ظهور كتّاب أخلصوا لهذا الفن، وأبدعوا فيه مسرحيات مهمة ومؤثرة في المجتمع، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، سعد الله ونوس ومحمد الماغوط ومحمود دياب وتوفيق الحكيم وصلاح عبد الصبور ومصطفى الحلاج وفاروق جويده ويوسف العاني وهيثم الخواجة وصقر الرشود وألفريد فرج وغيرهم . إلا أنه شهد تراجعاً ملحوظاً في العقدين الأخيرين لأسباب عدة، أهمها غياب الإبداع في النص المسرحي، هذا إلى جانب الحروب والعوامل الاقتصادية المتردية في كثير من البلدان العربية .
ولما كان عامل الديمقراطية له دوره وأثره في الحركة المسرحية، فإن التأصيل والتجويد عاملان لايمكن إغفالهما عندما نتحدث عن المسرح العربي . واللافت في الأمر هو أن المبدعين والنقاد والباحثين والدارسين لم يتفقوا حتى هذه اللحظة حول موضوعة التأصيل، لا بل يتنكر البعض لها جملة وتفصيلاً، مقابل قلة تؤيدها ليست فاعلة . أما التجويد والتميز فقد أصيب بالارتباك بسبب عدم وضوح الرؤية عند البعض، وبسبب ضعف أو تراجع السمة الإبداعية من جهة أخرى .
وإذا كان الاتجاه السائد في الستينات الاعتماد على الواقعية الفنية، ثم الانتقال إلى المسرح الملتزم، ثم إلى المسرح البريختي فيما بعد، فإن المسرح اليوم الذي يدعي فرسانه الاعتماد على مفاهيم وأفكار الحداثة - بعضهم يدعي تجاوز ما بعد الحداثة - فإن الاتجاه الحداثي موجود في الأجناس الأدبية والفنون كلها منذ العصر الجاهلي وحتى الآن . أما مسرح ما بعد الحداثة فهو أسلوب لم يتبلور في المسرح شأنه شأن بقية الفنون والأجناس الأدبية، كما هو حال المسرح العالمي .
فريال إبراهيم
على مدى القرن الماضي، على الأقل تقدير، كان رواج الفنون المسرحية أو الإقبال على عروضها، يعد من أهم المؤشرات إلى قياس الحالة الثقافية، ومدى تفاعل المجتمعات الإنسانية مع حركة التغيير أو التحولات الجديدة بكل تمظهراتها الحداثية، على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خاصة في العواصم الصناعية الكبرى . لذلك وجدنا أن شخصية المتشرد الصامت، التي جسدها شارلي شابلن، كانت أصدق تعبير على صرخة الاحتجاج الاجتماعي في نيويورك، خلال فترة الكساد الكبير، التي اجتاحت الولايات المتحدة في ثلاثينات القرن الماضي، فأقبل الناس على شخصية الصعلوك المتسكع بزخم، وحملوها على مراتب متقدمة من الوعي النقدي، جعلت شابلن نجم النجوم، وفي الوقت عينه، جعلت السلطات السياسية تطارده بتهمة الشيوعية، ما أرغمه على الفرار لائذاً بلندن حتى نهاية المرحلة المكارثية . ولكن المسرح لم ينكفئ بمكاشفاته الصادمة، أو تثوير الوعي، وإنما اتجه إلى المدارس الرمزية والتعبيرية والهزلية والاستعراضية والموسيقية، أو ما يمكن أن نسميه "مسرح الصورة" للفكاك من الرقيب السياسي، فبرزت موسكو باعتبارها من أهم عواصم المسرح العالمي بهذا الاتجاه .وكذلك الحال في مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية، وما تلاها من خراب كبير، ليس على مستوى البنية الاقتصادية فحسب، وإنما على مستوى البنية الاجتماعية، ذلك أن العنف والقسوة التي ولدتها الحرب في المجتمعات الأوروبية عموماً، ترافقت مع تغول الرأسمالية، التي نشطت بقوة خلال إعمار أهم العواصم الاقتصادية، مثل لندن وباريس وألمانيا عموماً، فسحق - تحالف العنف وتوحش الرأسمالية - البعد الإنساني في روح الفرد، ما أدى إلى الانحلال والتصحر الأخلاقي وتعميم ثقافة "نفسي ومن بعدي الطوفان"، فاتجه "أبو الفنون" حينذاك إلى ما عرف باسم "مسرح الكلمة"، وعبر عن هذا الاتجاه بقوة، الكاتب البريطاني إداورد بوند، من خلال مسرحياته التي تميزت بلغة جارحة للوعي، وبخاصة منها مسرحية "أُنقِذَ"، التي أوقفتها السلطات بعد عرضها الأول في لندن .
وعندما تمادت الحداثة بتسليع الإنسان في السبعينات والثمانينات الماضية، مع بروز التيارات الفوضوية والعنصرية بسبب البطالة، التي راحت تتعاظم في المجتمعات الصناعية، اتجه المسرح إلى العبث أو العدم، ممثلاً بأبرز رموزه أوجين يونسكو . ولكن في مرحلة ما بعد الحداثة، خاصة بعد ثورة وسائط الاتصال غير المسبوقة خلال العقد الأخير، بدا وكأن المسرح العالمي يتجه إلى التجريب، وأحياناً التجريب من دون هدف محدد، سوى تهديم كل أشكال "الفرجة المسرحية" القديمة، كتعبير ناجز عن حالة الرفض لفكرة العزلة الاجتماعية، التي فرضتها وسائط الاتصال الحديثة، وكذلك كتعبير عن رفض مبدأ تشيء الإنسان، الذي بلغ من الاستهتار واللامبالاة إلى آفاق غير معهودة، تمت ترجمتها بوحشية تبز همجية القرون الوسطى . وتمثل ذلك بالحروب المفتوحة التي يشنها الغرب منذ عقدين تحت مسميات كاذبة لم تعد تخدع أحداً . وانتهت بأزمات اقتصادية عاصفة زلزلت كيانات كبريات الاقتصادات العالمية، وأدت إلى بطالة تصل في بعض البلدان الأوربية إلى ثلث الخريجين الجدد من الجامعات، كما هو الحال في إيطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان، وهي البلدان التي حلت بالدرجة الأخيرة في مؤشرات الإقبال على الثقافة بعامة والمسرح بخاصة . فحسب البيانات التي نشرتها مديرية الاستطلاعات والدراسات في المفوضية الأوروبية أواخر ،2013 يقول نحو 35% من الأوروبيين، إنهم قاطعوا المسرح . وإن 38% فقط لايزالون يمارسون نشاطاً فنياً مثل الرقص والغناء والتصوير الفوتوغرافي، وأن الإقبال على الثقافة بشكل عام لم يتجاوز نسبة ستة في المئة في البرتغال وقبرص، وخمسة في المئة في اليونان، وثمانية في المئة في إيطاليا . وتم تخفيض العروض المسرحية في إسبانيا بنسبة 7 .18%، وتراجع عدد المشاهدين بنسبة 3 .24%، وانخفضت إيرادات مبيعات بطاقات الدخول للأنشطة الثقافية بنسبة 24 .13% . وفي الموسيقى، انخفضت الحفلات بنسبة 2 .12%، وقل عدد المشاهدين بمقدار 4 .23% والإيرادات بنسبة 3 .11% . وانخفضت المبيعات بنسبة 6 .41% . وفي ميدان الفنون البصرية السمعية انخفض عدد المشاهدين بنسبة 9% وانخفضت ميزانية الوزارات الخاصة بشؤون الثقافة والتربية والتعليم بنسبة 70% . ما يعني أن المسرح والثقافة بشكل عام يشهدان انكماشاً مخيفاً، وتعزو المفوضية الأوربية ذلك إلى الأزمة الاقتصادية، التي بدأت نهاية عام 2008 ولم تتعاف منها القارة العجوز حتى اللحظة الراهنة . وهو الأمر الذي دفع بالمسرح العالمي إلى اتجاهين في الوقت الراهن: الاتجاه الأول هو الموسيقي الأوبرالي والباليه، ويبرز ذلك بوضوح في مسارح موسكو . ومن أهم العروض لهذا الموسم، يظهر باليه "غادة الكاميليا" تأليف ألكسندر دوماس الابن، وإخراج جون نويماير، وباليه "أونيغين" تأليف ألكسندر بوشكين وإخراج جون كينكو على مسرح "البولشوي" . والاتجاه الآخر هو العودة إلى "مسرح الكلمة"، الذي تعبر عنه العروض المحدودة في لندن، ومن أهمها عرض " ثلاث شتويات" للمخرج هوارد ديفيس وتأليف الكاتبة تينا ستيفيسيس على مسرح "ناشيونال
تياتر، ساوث بنك لندن" . وكذلك عرض "الرجل الفيل" أو في برودواي بنيويورك للمخرج سكوت إيلليس وتأليف الكاتب بيرنارد بومرانس في مسرح "بوث" بنيويورك .
يمكن القول إن المسرح العربي شهد فترة ازدهار في الستينات، ويعود ذلك إلى ظهور كتّاب أخلصوا لهذا الفن، وأبدعوا فيه مسرحيات مهمة ومؤثرة في المجتمع، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، سعد الله ونوس ومحمد الماغوط ومحمود دياب وتوفيق الحكيم وصلاح عبد الصبور ومصطفى الحلاج وفاروق جويده ويوسف العاني وهيثم الخواجة وصقر الرشود وألفريد فرج وغيرهم . إلا أنه شهد تراجعاً ملحوظاً في العقدين الأخيرين لأسباب عدة، أهمها غياب الإبداع في النص المسرحي، هذا إلى جانب الحروب والعوامل الاقتصادية المتردية في كثير من البلدان العربية .
ولما كان عامل الديمقراطية له دوره وأثره في الحركة المسرحية، فإن التأصيل والتجويد عاملان لايمكن إغفالهما عندما نتحدث عن المسرح العربي . واللافت في الأمر هو أن المبدعين والنقاد والباحثين والدارسين لم يتفقوا حتى هذه اللحظة حول موضوعة التأصيل، لا بل يتنكر البعض لها جملة وتفصيلاً، مقابل قلة تؤيدها ليست فاعلة . أما التجويد والتميز فقد أصيب بالارتباك بسبب عدم وضوح الرؤية عند البعض، وبسبب ضعف أو تراجع السمة الإبداعية من جهة أخرى .
وإذا كان الاتجاه السائد في الستينات الاعتماد على الواقعية الفنية، ثم الانتقال إلى المسرح الملتزم، ثم إلى المسرح البريختي فيما بعد، فإن المسرح اليوم الذي يدعي فرسانه الاعتماد على مفاهيم وأفكار الحداثة - بعضهم يدعي تجاوز ما بعد الحداثة - فإن الاتجاه الحداثي موجود في الأجناس الأدبية والفنون كلها منذ العصر الجاهلي وحتى الآن . أما مسرح ما بعد الحداثة فهو أسلوب لم يتبلور في المسرح شأنه شأن بقية الفنون والأجناس الأدبية، كما هو حال المسرح العالمي .