"الامحاء" قراءة سينمائية للصراع بين الأجيال في الجزائر
بين الأدب والسينما.. التداعيات النفسية لجيل الاستقلال على الأجيال اللاحقة.
الأربعاء 2024/12/18
ShareWhatsAppTwitterFacebook
شاب يفقد هويته ويلبس هوية من صنع الأب
ما التأثير الذي يمكن أن يسببه للشباب صراع الأجيال؟ كيف يمكن لسلطة الأب وسطوته أن تخلقا من أبنائه متمردين أو مرضى نفسيين؟ ما مستوى العنف الذي قد يبلغه المرء إذا أصيب باضطراب الهوية التفارقي؟ هذه الأسئلة وغيرها الكثير يحاول المخرج الجزائري كريم موساوي الإجابة عنها في فيلم "الامحاء".
لا يشبه المجتمع الجزائري أي مجتمع آخر. قد يحصل التشابه في بعض التفاصيل الكبرى، لكنه مجتمع ذو تركيبة خاصة، يعيش صراعاته الذاتية المرتبطة بحيثيات تاريخية وسياسية وثقافية ودينية عاشها في العقود الماضية، صراعات عمقت الأزمة بين الأجيال، وتحديدا بين جيل المؤسسين المجاهدين الذين حرروا البلاد من سطوة المستعمر وحاولوا النهوض بها والشباب الراغب في التحرر من نمط عيش الآباء وقواعدهم وعاداتهم وتقاليدهم. وبين قطبي هذا الصراع تبرز أيضا صراعات المؤسسين فيما بينهم، ومحاولات بعضهم لاحتكار السلطة والنفوذ.
من هذه الفكرة جاءت رواية الكاتب سمير تومي “الطمس” التي صدرت باللغة الفرنسية، والتي حازت على جائزة جمعية فرنسا الجزائر التي يمنحها المركز الفرنسي للكتاب. واقتبس منها المخرج الشاب كريم موساوي فيلمه الروائي الطويل “الإمحاء” الذي يشارك به في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية في دورتها الـ35. والفيلم إنتاج مشترك جزائري تونسي فرنسي ألماني، وقد تم تصويره بين فرنسا وتونس.
في رواية “الطمس”، روى سمير تومي حكاية رجل أصيب بانهيار عصبي حاد وفقدان للهوية ناتج عن العنف الأبوي الممارس ضده. رجل ابن أحد المجاهدين يصحو في عيد ميلاده الـ44 على فقدان هويته، كلما نظر للمرآة لا يرى انعكاس صورته، رجل مرتاح ماديا، يعمل في وظيفة عمومية مرموقة، لكنه يجهل نفسه ويمارس سلوكيات عنيفة وصادمة حتى تجاه خطيبته جويدة التي تنتمي لطبقته الاجتماعية ذاتها.
كل شيء في حياة الشاب كان يسير حسب نظام دقيق، يعيشه برضًا تام، دون أن يفكر في الثورة على قوانين الأب، لكن موت أبيه المفاجئ يحدث انهيارا في حياته بالكامل وفي توازنه الذهني.
ويأتي الفيلم شبيها بالعمل الروائي. يطلق كريم موساوي عمله بعرض جزء من شهادة يوسف العمري أحد بناة الجزائر ومناضليها للتلفزيون الرسمي. رجل هادئ ذو كاريزما، يسرد بعض من نضالات بناة الوطن للنهوض به، وللحفاظ على شركة “سوناباك” من الانهيار ومحاولات تركيعها.
وما أشبه “سوناباك” بـ”سوناطراك”، فاسم الشركة يذكرنا بعملاق النفط الجزائري، الشركة الوطنية الجزائرية لنقل وتسويق المحروقات التي تأسست نهاية عام 1963 تجسيدا لرغبة السلطات الجزائرية في السيطرة على الثروة البترولية للبلد المستقل حديثا آنذاك.
ثم يكشف المخرج عن شخصية رضا، الابن المطيع لوالده والذي سيكون بطل العمل السينمائي. يعيش رضا كما يريد له والده، يعمل أينما يوظفه، يفعل ما يأمره به، ويحب المرأة التي يختارها له، إنه يعيد تجسيده كصورة مصغرة عنه وعن آباء كثر هم جزء مهم من تاريخ الجزائر ما بعد الاستقلال.
بالتوازي مع هاتين الشخصيتين، يركز المخرج على الأم المتمردة على زوجها ونزواته الغرامية، وابنهما الأكبر الذي يشبه والدته كثيرا، فهو محب للموسيقى وللسهر، يبحث عن أي فرصة للحرية ليتمرد على والده وقيوده. في الأخير قرر مغادرة المنزل والعيش بعيدا عن سجن الأب.
في الفيلم يحافظ المخرج كريم موساوي على الفكرة العامة للنص الروائي، لكنه يحدث فيه بعض التغييرات إذ يحذف بعض شخوص الرواية، كالطبيب النفسي، ربما يكون ذلك بغرض إضفاء بعض الغموض على شخصية البطل، رضا، الذي يسيطر عليه اضطراب سلوكي شديد يدفعه إلى العنف وتكرار سلوكيات عنيفة وممارسة القتل بدم بارد. لكن حذف مثل هذا الدور المهم حول الفيلم إلى حكاية مبهمة، لا يمكن فهمها. هناك حلقة تبدو مفقودة، حيث لا شيء منطقيا بين أحداث العمل السينمائي يبرر العنف الشديد الذي يمارسه البطل بشكل مفاجئ كل مرة ثم يعود إلى وضعه الطبيعي.
مثل هذا الضعف في الحبكة الدرامية وتسلسل منطقية الأحداث، قد يلحظه المشاهد بسهولة ويفقد الفيلم قدرته على الإقناع. فليس كل من شاهد الفيلم يعرف أنه مقتبس من عمل روائي ولا كل من شاهده قد قرأ الرواية مسبقا، فريق العمل لم ينوه أيضا بأن الفيلم وقع اقتباسه من رواية “الطمس”، وكان على المخرج أخذ كل ذلك في الحسبان، بأن وضع إشارة تبرر الحالة النفسية للبطل أو توضحها ويتذكر أن تحويل عمل روائي إلى فيلم سينمائي حرفة صعبة تتطلب حذرا كبيرا كي لا يسقط العمل في فخ الغموض ويفقد جانبا كبيرا من منطقية أحداثه.
بالبحث عن السر وراء ما وصل إليه رضا، يتضح أن البطل أصيب جراء وفاة والده وتعرضه للاغتصاب خلال أداءه الخدمة العسكرية الإلزامية باضطراب الهوية التفارُقي، الذي كان يسمَّى سابقًا اضطراب الشخصية المتعدِّدة، وهو اضطراب تعمل فيه اثنتان أو أكثر من الهويَّات بالتناوب للسيطرة داخل الشخص نفسه. قد تكون لهذه الهويات أنماط كلامية، ومزاجية، وسلوكية مختلفة عن تلك التي ترتبط بالشخص عادة. ولا يمكن للشخص أيضًا أن يتذكَّر المعلومات التي يتذكرها بسهولة عادة، مثل الأحداث اليومية أو المعلومات الشخصية المهمَّة أو الأحداث المؤلمة.
"الامحاء" فيلم مقتبس من رواية الكاتب سمير تومي "الطمس" التي تروى حكاية رجل فقد هويته بسبب عنف الأب
صورة قاتمة يحاول أن يركز عليها المخرج موظفا تقنيات سينمائية متنوعة، كاللقطات القريبة وزوايا التصوير والإضاءة والحوارات والأزياء وكلها تتغير بتغير حال البطل المتأرجح بين عالم فرض عليه وعالم يجد نفسه فيه، عالم كله قوانين وعنف وقسوة وعالم يحركه الحب والأمل في حاضر يشبه أصحابه، لذلك نجد ألوان الفيلم تتغير بين الألوان/الإضاءة الداكنة وبين حضور أكبر للألوان، وبين الحوارات التي لا يتواجه فيها الممثلان وحوارات يخاطبون بعضهم مباشرة والعين في العين. كذلك تراوحت الموسيقى بين مقطوعات تعزز الغضب والحزن والثورة وبين موسيقى للفرح والإقبال على حياة.
ويبدو العنف طاغيا على الفيلم منذ بدايته، حيث يمارسه الأب يوسف على ابنه وزوجته ومن يرفضون الانسياق لأوامره، ثم تحول لسلوك يمارسه الابن رضا ضد أي شخص يمكن أن يزعجه، بدءا من خطيبته وصولا إلى المخلوفي منافس والده الذي عين خلفا له رئيسا لشركة “سوناباك” المختصة في الموارد الطبيعية بالجزائر. الأولى ضربها والبقية قتلهم دون رحمة أو شفقة، فما المبرر في أن يتحول شاب مسالم هادئ الطباع، ودود، إلى احتراف القتل؟ لن نجد المبرر في الفيلم.
هذا العنف ربما وظفه المخرج ومن قبله كاتب الرواية ليصورا بعضا من العنف الذي يتسم به جيل المؤسسين في الجزائر، الذين بنوا البلاد متحدين سطوة المستعمر، واضطرتهم الأزمات السياسية والأمنية إلى إتباع الشدة منهاجا في الحياة، يسكنهم هاجس المؤامرات الخارجية المترصدة بالبلاد في كل زمان، على عكس الشباب الذي يريد أن يعيش بسلام ودون خوض صراعات أو الحد من حرية الآخر وفرض نمط عيش موحد، الشباب الذي يريد أن يعيش كما يعيش أقرانهم في دول متقدمة.
في هويته الثانية العنيفة، يحاول رضا أن يمارس سلوكيات تشبه حال والدته وأخاه، فيكشف لنا عن مجتمع جزائري متمرد على الأعراف والضوابط، نسبته ضئيلة، يعيش حياته في الخفاء. يبحث البطل عن أماكن السهر، يدمن المشروبات الكحولية، ويخوض مغامرات عاطفية وجنسية مع النساء، إحداهما امرأة مطلقة تمردت على عائلتها وزوجها السابق رفضا لما تعتبره عنفا لفظيا وقيميا وسلوكيا ضدها. في حواراتها مع رضا، يسلطان الضوء على صراعات يخوضها جيل يشبههما مع سلطة أبوية بطريركية تسعى لتوريث أبناءها مصالحها وتمرر سيطرتها على المؤسسات الكبرى لأبنائها من بعدها.
لكنه لم ينس أن يشير إلى رغبات الشباب الدفينة والمعلنة في الثورة على هذه المنظومة الأبوية، عبر ثورات ذاتية وجماعية، كإشارته لأحداث 2021، محاولا إسقاطها على حكاية الفيلم، فنسبة كبيرة من الشباب الجزائري اليوم لم تعد تقوى على العيش تحت سلطة الآباء وبالنظام نفسه الذي وضعوه لهم ولمؤسسات البلاد.
يظل رضا طوال الفيلم راضيا عن الحياة في الجزائر، يرفض مغادرتها على عكس شقيقه، رضا لن يتخلى عنه إلا بصدمة تنبهه إلى أنه لم يعش حياته وإنما حياة رسمها له والده فحوله إلى نسخة منطفئة منه، نسخة لم يكن لاوعيها راضيا عما يجري، وإنما يدرك أنه يعيش داخل نفس هشة متآكلة لم تمنح مساحة كافية لتكون على حقيقتها، وكذلك هي الحال في الجزائر التي تعيش في منظومة حكم بيروقراطية لا تمنح الشباب فرصة حقيقية لرسم واقع يشبههم، لا يشبه الآباء الأولين.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
حنان مبروك
صحافية تونسية
بين الأدب والسينما.. التداعيات النفسية لجيل الاستقلال على الأجيال اللاحقة.
الأربعاء 2024/12/18
ShareWhatsAppTwitterFacebook
شاب يفقد هويته ويلبس هوية من صنع الأب
ما التأثير الذي يمكن أن يسببه للشباب صراع الأجيال؟ كيف يمكن لسلطة الأب وسطوته أن تخلقا من أبنائه متمردين أو مرضى نفسيين؟ ما مستوى العنف الذي قد يبلغه المرء إذا أصيب باضطراب الهوية التفارقي؟ هذه الأسئلة وغيرها الكثير يحاول المخرج الجزائري كريم موساوي الإجابة عنها في فيلم "الامحاء".
لا يشبه المجتمع الجزائري أي مجتمع آخر. قد يحصل التشابه في بعض التفاصيل الكبرى، لكنه مجتمع ذو تركيبة خاصة، يعيش صراعاته الذاتية المرتبطة بحيثيات تاريخية وسياسية وثقافية ودينية عاشها في العقود الماضية، صراعات عمقت الأزمة بين الأجيال، وتحديدا بين جيل المؤسسين المجاهدين الذين حرروا البلاد من سطوة المستعمر وحاولوا النهوض بها والشباب الراغب في التحرر من نمط عيش الآباء وقواعدهم وعاداتهم وتقاليدهم. وبين قطبي هذا الصراع تبرز أيضا صراعات المؤسسين فيما بينهم، ومحاولات بعضهم لاحتكار السلطة والنفوذ.
من هذه الفكرة جاءت رواية الكاتب سمير تومي “الطمس” التي صدرت باللغة الفرنسية، والتي حازت على جائزة جمعية فرنسا الجزائر التي يمنحها المركز الفرنسي للكتاب. واقتبس منها المخرج الشاب كريم موساوي فيلمه الروائي الطويل “الإمحاء” الذي يشارك به في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية في دورتها الـ35. والفيلم إنتاج مشترك جزائري تونسي فرنسي ألماني، وقد تم تصويره بين فرنسا وتونس.
في رواية “الطمس”، روى سمير تومي حكاية رجل أصيب بانهيار عصبي حاد وفقدان للهوية ناتج عن العنف الأبوي الممارس ضده. رجل ابن أحد المجاهدين يصحو في عيد ميلاده الـ44 على فقدان هويته، كلما نظر للمرآة لا يرى انعكاس صورته، رجل مرتاح ماديا، يعمل في وظيفة عمومية مرموقة، لكنه يجهل نفسه ويمارس سلوكيات عنيفة وصادمة حتى تجاه خطيبته جويدة التي تنتمي لطبقته الاجتماعية ذاتها.
كل شيء في حياة الشاب كان يسير حسب نظام دقيق، يعيشه برضًا تام، دون أن يفكر في الثورة على قوانين الأب، لكن موت أبيه المفاجئ يحدث انهيارا في حياته بالكامل وفي توازنه الذهني.
ويأتي الفيلم شبيها بالعمل الروائي. يطلق كريم موساوي عمله بعرض جزء من شهادة يوسف العمري أحد بناة الجزائر ومناضليها للتلفزيون الرسمي. رجل هادئ ذو كاريزما، يسرد بعض من نضالات بناة الوطن للنهوض به، وللحفاظ على شركة “سوناباك” من الانهيار ومحاولات تركيعها.
وما أشبه “سوناباك” بـ”سوناطراك”، فاسم الشركة يذكرنا بعملاق النفط الجزائري، الشركة الوطنية الجزائرية لنقل وتسويق المحروقات التي تأسست نهاية عام 1963 تجسيدا لرغبة السلطات الجزائرية في السيطرة على الثروة البترولية للبلد المستقل حديثا آنذاك.
ثم يكشف المخرج عن شخصية رضا، الابن المطيع لوالده والذي سيكون بطل العمل السينمائي. يعيش رضا كما يريد له والده، يعمل أينما يوظفه، يفعل ما يأمره به، ويحب المرأة التي يختارها له، إنه يعيد تجسيده كصورة مصغرة عنه وعن آباء كثر هم جزء مهم من تاريخ الجزائر ما بعد الاستقلال.
بالتوازي مع هاتين الشخصيتين، يركز المخرج على الأم المتمردة على زوجها ونزواته الغرامية، وابنهما الأكبر الذي يشبه والدته كثيرا، فهو محب للموسيقى وللسهر، يبحث عن أي فرصة للحرية ليتمرد على والده وقيوده. في الأخير قرر مغادرة المنزل والعيش بعيدا عن سجن الأب.
في الفيلم يحافظ المخرج كريم موساوي على الفكرة العامة للنص الروائي، لكنه يحدث فيه بعض التغييرات إذ يحذف بعض شخوص الرواية، كالطبيب النفسي، ربما يكون ذلك بغرض إضفاء بعض الغموض على شخصية البطل، رضا، الذي يسيطر عليه اضطراب سلوكي شديد يدفعه إلى العنف وتكرار سلوكيات عنيفة وممارسة القتل بدم بارد. لكن حذف مثل هذا الدور المهم حول الفيلم إلى حكاية مبهمة، لا يمكن فهمها. هناك حلقة تبدو مفقودة، حيث لا شيء منطقيا بين أحداث العمل السينمائي يبرر العنف الشديد الذي يمارسه البطل بشكل مفاجئ كل مرة ثم يعود إلى وضعه الطبيعي.
مثل هذا الضعف في الحبكة الدرامية وتسلسل منطقية الأحداث، قد يلحظه المشاهد بسهولة ويفقد الفيلم قدرته على الإقناع. فليس كل من شاهد الفيلم يعرف أنه مقتبس من عمل روائي ولا كل من شاهده قد قرأ الرواية مسبقا، فريق العمل لم ينوه أيضا بأن الفيلم وقع اقتباسه من رواية “الطمس”، وكان على المخرج أخذ كل ذلك في الحسبان، بأن وضع إشارة تبرر الحالة النفسية للبطل أو توضحها ويتذكر أن تحويل عمل روائي إلى فيلم سينمائي حرفة صعبة تتطلب حذرا كبيرا كي لا يسقط العمل في فخ الغموض ويفقد جانبا كبيرا من منطقية أحداثه.
بالبحث عن السر وراء ما وصل إليه رضا، يتضح أن البطل أصيب جراء وفاة والده وتعرضه للاغتصاب خلال أداءه الخدمة العسكرية الإلزامية باضطراب الهوية التفارُقي، الذي كان يسمَّى سابقًا اضطراب الشخصية المتعدِّدة، وهو اضطراب تعمل فيه اثنتان أو أكثر من الهويَّات بالتناوب للسيطرة داخل الشخص نفسه. قد تكون لهذه الهويات أنماط كلامية، ومزاجية، وسلوكية مختلفة عن تلك التي ترتبط بالشخص عادة. ولا يمكن للشخص أيضًا أن يتذكَّر المعلومات التي يتذكرها بسهولة عادة، مثل الأحداث اليومية أو المعلومات الشخصية المهمَّة أو الأحداث المؤلمة.
"الامحاء" فيلم مقتبس من رواية الكاتب سمير تومي "الطمس" التي تروى حكاية رجل فقد هويته بسبب عنف الأب
صورة قاتمة يحاول أن يركز عليها المخرج موظفا تقنيات سينمائية متنوعة، كاللقطات القريبة وزوايا التصوير والإضاءة والحوارات والأزياء وكلها تتغير بتغير حال البطل المتأرجح بين عالم فرض عليه وعالم يجد نفسه فيه، عالم كله قوانين وعنف وقسوة وعالم يحركه الحب والأمل في حاضر يشبه أصحابه، لذلك نجد ألوان الفيلم تتغير بين الألوان/الإضاءة الداكنة وبين حضور أكبر للألوان، وبين الحوارات التي لا يتواجه فيها الممثلان وحوارات يخاطبون بعضهم مباشرة والعين في العين. كذلك تراوحت الموسيقى بين مقطوعات تعزز الغضب والحزن والثورة وبين موسيقى للفرح والإقبال على حياة.
ويبدو العنف طاغيا على الفيلم منذ بدايته، حيث يمارسه الأب يوسف على ابنه وزوجته ومن يرفضون الانسياق لأوامره، ثم تحول لسلوك يمارسه الابن رضا ضد أي شخص يمكن أن يزعجه، بدءا من خطيبته وصولا إلى المخلوفي منافس والده الذي عين خلفا له رئيسا لشركة “سوناباك” المختصة في الموارد الطبيعية بالجزائر. الأولى ضربها والبقية قتلهم دون رحمة أو شفقة، فما المبرر في أن يتحول شاب مسالم هادئ الطباع، ودود، إلى احتراف القتل؟ لن نجد المبرر في الفيلم.
هذا العنف ربما وظفه المخرج ومن قبله كاتب الرواية ليصورا بعضا من العنف الذي يتسم به جيل المؤسسين في الجزائر، الذين بنوا البلاد متحدين سطوة المستعمر، واضطرتهم الأزمات السياسية والأمنية إلى إتباع الشدة منهاجا في الحياة، يسكنهم هاجس المؤامرات الخارجية المترصدة بالبلاد في كل زمان، على عكس الشباب الذي يريد أن يعيش بسلام ودون خوض صراعات أو الحد من حرية الآخر وفرض نمط عيش موحد، الشباب الذي يريد أن يعيش كما يعيش أقرانهم في دول متقدمة.
في هويته الثانية العنيفة، يحاول رضا أن يمارس سلوكيات تشبه حال والدته وأخاه، فيكشف لنا عن مجتمع جزائري متمرد على الأعراف والضوابط، نسبته ضئيلة، يعيش حياته في الخفاء. يبحث البطل عن أماكن السهر، يدمن المشروبات الكحولية، ويخوض مغامرات عاطفية وجنسية مع النساء، إحداهما امرأة مطلقة تمردت على عائلتها وزوجها السابق رفضا لما تعتبره عنفا لفظيا وقيميا وسلوكيا ضدها. في حواراتها مع رضا، يسلطان الضوء على صراعات يخوضها جيل يشبههما مع سلطة أبوية بطريركية تسعى لتوريث أبناءها مصالحها وتمرر سيطرتها على المؤسسات الكبرى لأبنائها من بعدها.
لكنه لم ينس أن يشير إلى رغبات الشباب الدفينة والمعلنة في الثورة على هذه المنظومة الأبوية، عبر ثورات ذاتية وجماعية، كإشارته لأحداث 2021، محاولا إسقاطها على حكاية الفيلم، فنسبة كبيرة من الشباب الجزائري اليوم لم تعد تقوى على العيش تحت سلطة الآباء وبالنظام نفسه الذي وضعوه لهم ولمؤسسات البلاد.
يظل رضا طوال الفيلم راضيا عن الحياة في الجزائر، يرفض مغادرتها على عكس شقيقه، رضا لن يتخلى عنه إلا بصدمة تنبهه إلى أنه لم يعش حياته وإنما حياة رسمها له والده فحوله إلى نسخة منطفئة منه، نسخة لم يكن لاوعيها راضيا عما يجري، وإنما يدرك أنه يعيش داخل نفس هشة متآكلة لم تمنح مساحة كافية لتكون على حقيقتها، وكذلك هي الحال في الجزائر التي تعيش في منظومة حكم بيروقراطية لا تمنح الشباب فرصة حقيقية لرسم واقع يشبههم، لا يشبه الآباء الأولين.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
حنان مبروك
صحافية تونسية