"لمسة".. رحلة بحث عن الحب المفقود منذ خمسين عاما
علي المسعود
الأحد 2024/10/27
انشر
حلم رومانسي جميل وشاعري
للزمن مكانة محورية في أي عمل سينمائي، حتى أن الفيلم نفسه يمثل مساحة زمنية يحاول منتجوه أن يجعلوها ساحرة ما أمكن. ونجد التلاعب بالزمن والقدرة على التحكم فيه وتوجيهه من سمات الأعمال السينمائية الناجحة، وهذا ما نجده في فيلم “لمسة” الذي يتجول بنا بسلاسة مدهشة بين الماضي والحاضر.
"لمسة" هو عنوان الفيلم الذي أخرجه المخرج الأيسلندي بالتاسار كورماكور، ويمكن أن يمثل حركة المشاعر ولكن ضمن السياق الدرامي للفيلم فإنه بمثابة “وجع” رجل على عمر فات وحسرة على قصة حب قديمة.
الفيلم كتبه كورماكور وأولافور يوهان أولافسون (استنادا إلى رواية أولافور لعام 2022 التي تحمل الاسم نفسه)، حكاية رجل تطارده أوجاع لمسة الحب مع الحبيبة اليابانية ميكو. تتقاطع مساراتهما مرة أخرى بعد سنوات عديدة، مما يؤدي إلى رحلة إعادة الاكتشاف والكشف. ويتم لمّ الشمل بعد سلسلة من الأحداث التي تؤثر تأثيرا عميقا على حياتهما، وتستكشف مواضيع الحب والندم ومرور الوقت.
قصة حب قديمة
يتمحور الفيلم حول كريستوفر (إيجيل أولافسون) أرمل مسن يعيش بمفرده في أيسلندا ويدير مطعما في القرية. وعند مراجعته الطبيب يكشف تقريره الطبي أنه في مرحلة مبكرة من مرض الزهايمر. قبل أن يخرج من عنده يلح عليه طبيبه (بنيدكيت أيرلنكسون)، أن ينجز أيّ عمل غير مكتمل قبل فوات الأوان. وهكذا يغلق المطعم في أيسلندا ويطير إلى لندن في فترة تفشي وباء كوفيد في عام 2020 في محاولة للعثور على ميكو حب حياته قبل نصف قرن.
بداية عام 2020 والعالم مشغول بوباء كوفيد الذي يجبر العالم على إغلاق أبوابه، نشاهد كريستوفر يسافر من فندق إلى طائرة إلى سيارة أجرة إلى فندق لا يبالي بالفايروس أو مخاطره. ومن خلال المكالمات الهاتفية القلقة مع ابنته البالغة، نكتشف أن الرجل مريض بمرض عضال، أيامه معدودة حرفيا، وذاكرته بدأت تتلاشى.
حكاية رجل تطارده أوجاع لمسة الحب مع الحبيبة اليابانية ميكو تتقاطع مساراتهما مرة أخرى بعد سنوات عديدة
يلعب الممثل الأيسلندي المخضرم إيجيل أولافسون دور كريستوفر، هو الآن رجل كبير في السن، لديه ما يمكن تسميته بشكل معقول حياة سعيدة، هو صاحب مطعم ناجح على شاطئ البحر على ما يبدو. زوجته متوفية، وهناك كل الدلائل على أن زواجهما كان جيدا. لديه ابنة تتصل به كثيرا للاطمئنان عليه. لكنه يدرك أن وقته محدود، وهناك شيء يجب عليه القيام به. لذلك يترك منزله في أيسلندا ويسافر أولا إلى لندن ثم إلى اليابان، بحثا عن المرأة – أو على الأقل أخبار المرأة – التي انزلقت من حياته قبل سنوات عديدة.
يرجع بنا المخرج (فلاش باك) إلى مشاهد من ماضي كريستوفر (يلعب كريستوفر في مرحلة الشباب الممثل بالمي كورماكور ابن المخرج)، كان كريستوفر في شبابه يساريا/فوضويا، يتماشى مع جيله وفي غير محله كطالب في كلية لندن للاقتصاد. في أحد الأيام وبعد احتجاج على أسلوب الجامعة في قمع التظاهرات الطلابية، يصدم أصدقاءه بالقرار المتهور بترك الجامعة والتقدم لوظيفة في مطعم نيبون الياباني.
صاحب المطعم الياباني (ماساهيرو موتوكي) يلبّي إلى حد كبير احتياجات المغتربين اليابانيين من الأطباق اليابانية، ورغم أن جميع الموظفين كانوا يابانيين، لكنه منفتح بما يكفي لتوظيف شاب أيسلندي في غسل الصحون. يلتقي كريستوفر بالشابة ميكو (وتلعب دور ميكو عارضة الأزياء والموسيقية التي تحولت إلى ممثلة كوكي كامورا) التي تبين أنها ابنة المالك وطالبة جامعية ونادلة في نيبون. مجرد لمسة من ميكو، تشق طريقها بلطف إلى قلب كريستوفر. يبدأ الأخير بدراسة اللغة اليابانية وتعلم الطبخ الياباني على يد الشابة ميكو بينما يدب الافتتان والإعجاب بينهما، ويقعان في الحب.
قصة الحب، التي تتكشف في صمت، تعبر عصورا وأماكن مختلفة ولا تضلل الجمهور أبدا، مما يأسر قلب المشاهد
كريستوفر شاب لطيف يدرس الاقتصاد في بداية سبعينات القرن العشرين في لندن وصاحب آراء ثورية، يبرز في نقاشه مع زملائه في الجامعة ماركسيته ورفضه لأسلوب إدارة الجامعة في التعامل مع المحتجين من الطلبة على حرب فيتنام. يستمتع هو وأصدقاؤه بالمحادثات النظرية حول الظلم الاقتصادي، ويقرر كريستوفر ترك الدراسة والانضمام إلى البروليتاريا والطبقة العاملة. يشق طريقه مؤقتا بالسعي إلى وظيفة غسل الأطباق في مطعم ياباني، وسرعان ما يصادق المالك، تاكاهاشي سان. وبعد فترة، يلتقي بابنة تاكاهاشي سان المشرقة والمثيرة للاهتمام، ميكو، حتى قبل أن تستطلع وجهه وتخبره أنه يذكرها بجون لينون مغني فرقة البيتلز.
من خلال “الفلاش باك” نتعرف على عائلة ميكو التي هاجرت إلى إنجلترا من مدينة هيروشيما. تطلق على نفسها اسم “هيباكوشا” (ناجية من القنبلة الذرية). يلتزم كريستوفر بالعمل في غسل الصحون في المطعم الياباني. يأخذه المالك تاكاهاشي للتعرف على ثقافته ومطبخه والطهي التقليدي وفن الهايكو (هو نوع من الشعر الياباني، يحاول شاعر الهايكو التعبير عن مشاعر جياشة أو أحاسيس عميقة من خلال ألفاظ بسيطة. تتألف قصيدة الهايكو من بيت واحد فقط).
في الوقت نفسه، تتطور العلاقة الحميمة بين الشابين تحت سقف هذا المطعم المزدهر، في اللقاءات المسروقة بعيدا عن عيون الجميع، فوالدها حذر ومحافظ ما يزال يتصارع مع الندوب الحقيقية والنفسية لحياتهم في اليابان كناجين من قصف هيروشيما. تحب الشابة ميكو مشهد مدينة لندن وحياتها، في حين أن والدها المحافظ، الذي هاجر إلى هنا من مدينة هيروشيما أكثر تحفظا ولا يسمح لابنته بالانجرار إلى حياة اللهو في مدينة الضباب. لذا كانت لقاءات كريستوفر وميكو بتكتم وسرية تامة. يفاجأ كريستوفر عندما يصل إلى المطعم ذات يوم بإغلاقه دون أيّ معلومات حول ما حدث وأين انتقلت العائلة. أخيراً يعرف أن العائلة عادت إلى موطنها اليابان.
حب لا شفاء منه
"لمسة" الذي اقتبسه كورماكور والمؤلف الأيسلندي أولافور يوهان أولافسون من كتاب الأخير نفسه هو فيلم ياباني/أيسلندي رائع يتعمق في الاحتمالات المثيرة للاهتمام لسيناريوهات “ماذا لو”. يمزج الفيلم ببراعة بين الدراما والتأمل، هو استكشاف تأملي للحب والخسارة والحنين إلى الماضي وإعادة الاكتشاف الذي يمزج بشكل جميل بين الماضي والحاضر، وينسجهما معا في رحلة عاطفية عبر الزمن. في حين الرحلة في الحاضر هي ما يحرك السرد، لكن استكشافات الحنين إلى الماضي هي التي تحمل الكثير من الوزن العاطفي للفيلم.