عن الأعشاب الجافة" دراما تغوص في أعماق الروح البشرية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عن الأعشاب الجافة" دراما تغوص في أعماق الروح البشرية























    "عن الأعشاب الجافة" دراما تغوص في أعماق الروح البشرية




    علي المسعود


    الأحد 2024/11/17




    انشر
    WhatsApp
    Twitter
    Facebook





    نساء يقاومن البيئة القاسية للنظام الذكوري


    ليس مطلوبا من الأفلام التي تتناول قضايا سياسية أن تكون مباشرة في طرحها، هناك أعمال تحكي الواقع السياسي من زوايا بعيدة كليا عن السياسة، ربما من هذه الزاوية شاهد النقاد فيلم المخرج التركي نوري بيلج جيلان "عن الأعشاب الجافة" بينما لا يمكننا حصر العمل في تلك الزاوية، إذ هو اجتماعي قبل كل شيء.


    "عن الأعشاب الجافة" أحدث ملحمة للمخرج التركي نوري بيلج جيلان، صورها في شرق الأناضول حيث الطرق الجبلية الوعرة ومساحات السهوب مغطاة بالثلوج الكثيفة.
    في ملحمته السينمائية يقدم جيلان (الذي كتب السيناريو مع إبرو جيلان زوجته وشريكه الإبداعي منذ فترة طويلة وأكين أكسو) حبكة مليئة بالتوتر والشك، يسلط فيها الضوء على صراعات مدرس الفنون الشاب صمد (دينيز جيليلوجلو)، الذي يصطدم حلمه بالتحرر من خلال مهمة في إسطنبول مع الشابة نوراي إحدى الشخصيات الرئيسية التي فقدت جزءا من ساقها في هجوم إرهابي على محطة قطار أنقرة.
    شخص ضد الأمل

    يبدأ الفيلم في فصل الشتاء في جو ثلجي في قرية إنسيسو الصغيرة، المدرس صمد الذي يعمل في مدرسة القرية، ينزل من الحافلة الصغيرة ويمشي لفترة طويلة في الثلج، مع اشتداد العاصفة الثلجية نسمع صوته الداخلي يتساءل “ماذا أفعل هنا؟” شخصية وحيدة تتضاءل وسط الصقيع بتصوير مذهل، وحشة المكان تعكس خرابه الداخلي وسرعان ما تتلاشى صورته مما يكشف عن قسوة المكان ووحشته، هذا الإطار الافتتاحي مهم لفهم سردية الفيلم. مسيرته لها عمق يتجاوز صعوبة السير وسط الجليد. في الواقع، يظهر تعبير يتكامل مع حقيقة أن هذه الشخصية رافضة لوجودها هنا في هذه القرية.
    يتقاسم صمد منزلا مع زميله كنان. كان حلمه الأكبر بعد إكمال خدمته الإلزامية أن يتم تعيينه في المدينة الكبيرة، ورغم ذلك، حياته سوف تنقلب رأسا على عقب عندما يتهم مع زميله كنان زورا بالتحرش من قبل طالبتين.
    الفيلم يستمد القوة من روح العصر مثيرا العديد من الأسئلة التي ما زلنا نطرحها اليوم حول السلوك البشريلا يشار بالضبط باسم “التحرش” في الفيلم، على الرغم من أن القضية سوف تغير نظرتنا تماما إلى شخصية المدرس صمد، فيلم المخرج نوري بيلج جيلان “عن الأعشاب الجافة ” يستمد القوة من روح العصر، الطريقة التي يتم بها نسيان قضية مثل “التحرش” التي تسبب الخوف حتى عند سماعها، في النصف الثاني من الفيلم يتعمق السرد تدريجيا وتصبح العلاقات معقدة في نفس الوقت. يتم تقديم موضوع “البراءة” الوارد في شخصية الطالبة سيفيم (الممثلة إيسي باكسي) لنا بحساسية كبيرة يمكن تقدير وجهات النظر التي تكتسبها من فترة المراهقة.
    اختبار صعب بعد أن اشتكت طالبتان من تعرضهما للتحرش من المدرسين (صمد وكنان). وعندما يعلم المدرسان بالشكوى المرفوعة ضدهما يحاولان التحقيق في هوية الطالبتين اللتين قدمتا الشكوى ضدهما.
    جدال المعلمين مع المدير ومدير المنطقة للتعليم ودفاعهما عن نفسيهما يجعل توتر الحدث كبيرا لدى المشاهد. رغم أن المخرج يظهر المدرس صمد في أحد المشاهد وهو يحاول لمس تلميذته، وفي مشهد آخر يقدم المدرس صمد هدية “مرآة” إلى سيفيم بعد عودته من العطلة، ولكنها لا تعترض على هذا السلوك الذي ارتكبه معلمها بتجاوزه الحدود التي يجب أن يتركها الأستاذ مع تلاميذه.
    ومع ذلك، عندما يتم العثور على رسالة الحب التي كتبتها الطالبة سيفيم أثناء حملة التفتيش من قبل أدارة المدرسة على حقائب الطالبات، نفاجأ بتصرف المدرس صمد بعد حصوله على الرسالة، لم يفعل ذلك لحماية الفتاة الصغيرة ولكن لإرضاء نرجسيته، حتى أنه لا يعيد الرسالة إلى سيفيم رغم مطالباتها باستردادها. أما زميله المدرس كنان فهو الآخر يواجه نفس التهمة حين يحاول قرص الفتيات الصغيرات من خدودهن، لكنه يدافع عن نفسه بأنه يفعل الشيء نفسه مع ابنة أخيه.
    صمد الذي يسهل تعريفه من خلال علاقته مع الشابة نوراي وسيفيم، رجل يصبح عاديا بشكل متزايد مع تقاعسه عن القضايا الاجتماعية، وعدم قدرته على اعتبار نفسه جديرا بمنصبه، وغطرسته التي ترى أنه من المناسب البقاء مع زملائه الذين ولدوا ونشأوا في الريف بينما يفكر في العودة إلى المكان الذي سيحصل فيه على المزيد من الفرص. في الواقع، مدرس الفنون صمد قريب جدا من وجهة النظر الإبداعية التي يجب أن يتمتع بها مدرس مادة الفن بالإضافة إلى حبه لفن التصوير الفوتوغرافي.
    المخرج يحاول عمدا طرح العديد من الموضوعات والأفكار بسرعة في وعاء من الرغبة وإعطاء إدانة من فمه

    يقدم المخرج للجمهور الفرصة لتجربة إبداعية من منظور المدرس صمد. هناك مشهد يمكننا التعرف من خلاله على الرؤية الفنية للمدرس صمد بشكل أفضل. في أحد الدروس، نراه يطلب من طلابه رسم لوحة من الصور التي يلتقطها عادة بكاميرته، وهذه الأشياء المرسومة عادة ما تكون الجبال والحجارة، أي الأشياء الفريدة للأناضول. شكوى الطلاب هي أنهم دائما ما يرسمون نفس الأشياء، على سبيل المثال، لا يرسمون البحر أو الشاطئ. “عليك رسم ما تراه عيناك” يقول لهم المدرس صمد.
    يأمل صمد في جذب انتباه تلميذته أو اختيار زميلته نوراي التي تحاول التمسك بالحياة على الرغم من تعرضها لضربة كبيرة. يحاول أن يجد نفسه من خلال هؤلاء النساء. على الرغم من حسابات صمد الصغيرة والخرقاء، لكن الطالبة سيفيم مراهقة بريئة ونوراي امرأة متحررة ذات فكر يساري ثوري. إنهما امرأتان تحاولان قياس المساحة التي تشغلانها في العالم والتي تفصلهن عن الرجال والسلطة والكراهية والتقاليد المحافظة.
    في بعض الأحيان هنّ نساء يقاومن وحدهن ضد البيئة القاسية للنظام الذكوري، وأحيانا ضد العقلية الرجعية التي تتنكر في زي الحضارة. يتعين على سيفيم ونوراي القتال ليس فقط ضد صمد، ولكن أيضا ضد الرجال الآخرين من حولهما. امرأتان في المقدمة وحاضرتان على الشاشة بميزاتهما التي لم نعتد على رؤيتها في سينما جيلان. إحداهما هي سيفيم، وهي شابة ما تزال مراهقة، ولكنها تحاول أن ترى ما وراء الفرص التي توفرها الجغرافيا التي تعيش فيها، والأخرى هي نوراي الشابة في مقتبل حياتها، ولكنها عانت من إصابات في الروح قبل الجسد، لا يمكن إصلاحها بسبب الوضع السياسي المضطرب في تركيا.
    ينجح المخرج في الكشف عن ظلام صمد الداخلي. يصبح عدائيا ليس فقط بالنسبة إلى سيفيم، ولكن أيضا مع جميع طلبته، ويخاطبهم بالكلمات التي ستؤذيهم “أنتم جميعا محكوم عليهم هنا.” هذا الظلام يتكاثف حتى نهاية الفيلم، ويتحول إلى غيرة من سعادة الآخرين، صورة شخص سئم من الأمل. لقد توقف عن الرسم، وليس لديه إيمان كبير بالفن والسياسة. لكنه يحب التسكع والشرب والجدال مع اليساريين.
    نوراي اليسارية

    صورة شخص سئم من الأملواحدة من الشخصيات الرئيسية في الفيلم هي نوراي (ميرف ديزدار حازت على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان)، معلمة لغة إنجليزية وناشطة يسارية سابقة، فقدت ساقها في هجوم إرهابي وتعيش مع والديها، إنسانة تكشف عن مشاعرها ولا تتردد في المواجهة، ويمكنها إثارة مشاعر التعاطف لدى المشاهد.
    حقيقة أصابتها في الانفجار بجسدها وروحها تجسيد للواقع التركي بأكمله. النقاش الطويل بين نوراي وصمد هو في الواقع اجتماع عقليتين متباينتين. نوراي تقول ما تفكر فيه دون أن تنحني أو تخفي هويتها السياسية التي تهيمن على وعيها الاجتماعي، إضافة إلى اهتمامها بالرسم كهواية. تبرز لوحاتها إبداعا وموهبة يتجاوزان الهواية.
    نوراي ثرثارة للغاية مقارنة بسرية سيفيم وصمتها، امرأة تجلس أمام صمد وتجادل بانفعال وتدحض حججه في كل مرة، إنها امرأة أتعبتها الحياة بما فيه الكفاية، وبالتالي ليس لديها طاقة حياة المراهقة سيفيم، وقد انعكس انكسارها بوضوح في مشهد العشاء مع المدرس صمد.
    على الرغم من كل هذه الخسائر، تحمل نوراي رغبة كبيرة للنضال في قلبها. قد لا تكون قادرة على الوقوف باحتراف في صفوف المناضلين بسبب بتر ساقها، لكنها ما تزال مقاتلة لا تتعب من الدفاع عن الحقائق التي تؤمن بها. تقول نوراي للرجلين اللذين لا يفهمانها أبدا (صمد وكنان) “أحاول أن أفهم المكان الذي أشغله في العالم”.
    تقضي نوراي وقتا مع رجلين لا يختلفان اختلافا جوهريا عن بعضهما البعض. إن الجهد المبذول لفهم مدى معرفتها كفرد بساقها الاصطناعية في عالم استحوذت عليه النظرة الذكورية هو أهم حقيقة في الفيلم. كلمات نوراي هذه هي مصدر الإلهام والمحور الرئيسي للفيلم، امرأة تحاول فهم المساحة التي تشغلها في هذا العالم.
    النقاد الأتراك يصفون الفيلم بأنه سياسي وأكثر أفلام جيلان سياسية، ولكنه في الواقع فيلم اجتماعي وليس سياسيا

    عشية اليوم الختامي للدوام المدرسي، وعند الوصول إلى اليوم الأخير من المدرسة. أحضرت الطالبة سيفيم كيكة صنعتها بنفسها وقدمتها إلى مدرسها صمد. إنها لفتة بمثابة اعتذار وطلب مغفرة. لكنه يرفض اعتذارها.
    في عطلة نهاية الأسبوع، تدعو الشابة نوراي زملاءها المدرسيْن صمد وكنان لتناول العشاء، كما هو متوقع، يأتي صمد إلى العشاء دون إبلاغ صديقه كنان. ويبرر ذلك بأن مرض والده قد حال دون حضوره، لكن نوراي غير مرتاحة للغاية لهذا الوضع. من الواضح أن نوراي وكنان بالفعل في مرحلة الصداقة والتعرف على بعضهما البعض. سواء كانت مرحلة مغازلة أو صداقة عادية، فهما يحاولان التعرف على بعضهما البعض عن كثب.
    من خلال الحوار والمناقشة بين صمد والشابة نوراي أراد المخرج أن يبحث عن “الكمال في الطبيعة”، ربما تنشأ مشكلة التعبير هذه من الحدود التي يجلبها أثناء البحث عن هذا الكمال. من الأفضل محاولة فهم المشكلة بدلا من سبب المشكلة.
    يحاول المخرج عمدا طرح العديد من الموضوعات والأفكار بسرعة في وعاء مع الرغبة وإعطاء إدانة من فمه. في نهاية الحوارات، تظهر الكاميرا وجوههما من مؤخرة رؤوسهما والتي هي انعكاس للأفكار الأيديولوجية التي يتقاسمانها مع بعضهما البعض. بفضل دعوة العشاء يتعرف المشاهد على رسومات نوراي الإبداعية عن كثب في مشهد الطاولة نكتشف جانبا آخر من شخصية الشابة الجميلة.
    تقوم الشابة نوراي ذات الأفكار الثورية بحق بالاستدلال في المحادثة مخاطبة زميلها صمد “إذا كنت غير مرتاح ومتذمر من الواقع، فلماذا لا تحاول تغيير شيء ما من هذا النظام؟ لماذا تختار الهرب؟” توبخ صمد على هروبه وانهزاميته. من الواضح جدا أن هناك انتقالا مستترا بين شخصين يتحدثان عن الحياة والناس مرورا بالسياسة.
    “كيف تصقل شخصيتك في الحياة؟” هذا سؤال كبير وعميق. يمكنك أن تتعلم الكثير من الإجابة التي يقدمها المرء إلى ذلك عن الطريقة التي يرى بها نفسه. بشكل عام، نوراي هي شخصية يسارية تعتقد أنه يجب أن يكون هناك نضال وثورة من أجل تغيير الأشياء، ولديها رؤيا في فهم الصراع الطبقي والمعاناة الإنسانية والاستنتاجات لحل مشاكل العالم والإنسان بفهم مشترك، كما أنها تؤيد القتال من أجل حلول مشاكل العالم والإنسان. على النقيض من ذلك يظهر المدرس صمد بشخصية أنانية ويفضل الوجود بشكل فردي، ولا يريد أن يكون جزءا من الحل أو التغيّر.
    بعد أن تتطور العلاقة بين صمد ونوراي معا في تدفق مسار الفيلم وتصل إلى حد الشهوة الجنسية، تتمنى نوراي أن يتكتم عن تلك الليلة وما حدث بينهما، ولا يخبر صديقة كنان عن هذه التجربة. لكن المدرس صمد ينكث بوعده، ويكشف صمد عن هذا مرة أخرى بمشهد مزعج للغاية. عندما يعود إلى المنزل، يشارك الحقيقة مع كنان في شكل مبطن وبدافع أناني لإبعاد كنان عن نوراي. أصيب كنان بالصدمة من الوضع. ربما لأن لديه مشاعر تجاه نوراي ونتيجة لذلك لم يعد كنان يتواصل مع نوراي.
    هل كان الفيلم سياسيا

    امرأة تحاول فهم المساحة التي تشغلها في هذا العالمهل من الممكن وصف الفيلم بأنه سياسي؟ على الرغم من أن الفيلم له دوافع سياسية بطريقة لم نرها من قبل في أفلام المخرج نوري بيلج جيلان، فإن ما يجعل الفيلم أكثر قتامة من الأفلام الأخرى ليس فقط دفاعه عن الفردية (بتناقضاتها) بل أيضا عالم الدفاع عن المعتقد السياسي. ومن الصعب إنكار تضمين الفيلم إشارات للواقع السياسي التركي. من خلال التلميحات القائمة على التشكيك بالسلطة وقراراتها واستيلاء الدولة على إرادة المواطن، ينعكس ذلك في منظور الشابة نوراي الاشتراكي.
    يمكن القول، إن تصوير شخصية نوراي وهي “ناشطة” سابقة كرمز “سياسي” وشخصية فقدت ساقها، كان “سياسيا” للغاية ويغلف الفيلم بالطابع السياسي. وعلى الرغم من أن نوراي هي الشخصية الأكثر “سياسية” في الفيلم، إلا أن موقف نوراي وأفكارها وماضيها لا تسبب أي تغيير في أي جزء من الفيلم.
    الشابة نوراي حاولت على الأقل النضال من أجل شيء ما، لكنها عادت إلى منزل عائلتها عندما أصيبت بجرح كبير وفقدت جزءا من جسدها. المشكلة هي أن هناك عدم نضج في بساطة الجزء المتعلق بتلك المناقشات المتعلقة بالوعي السياسي الذي نراه في فيلمي نوري بيلج جيلان الأخيرين. يصف النقاد الأتراك الفيلم بأنه “سياسي”، مما يجعل الجمهور يستنتج أنه ليس فقط أكثر أفلام جيلان سياسية، ولكنه في الواقع فيلما اجتماعيا وليس سياسيا.
    في الختام “عن أعشاب الجافة” دراما مثيرة للتفكير تغوص في أعماق الروح البشرية، وتستكشف التعقيدات الأخلاقية والطبيعة متعددة الأوجه للعلاقات الإنسانية. يخلق أسلوب نوري بيلج جيلان المميز في الإخراج تحفة سينمائية تنير بصريا وفكريا. الفيلم يثير العديد من الأسئلة التي ما زلنا نطرحها اليوم حول السلوك البشري. هناك واقعية قاسية ممزوجة بالسخرية طوال القصة والظلم الذي يرافق الحكاية.
    يقدم الفيلم العديد من السبل من “مخاطر الوظيفة” التي لا مفر منها للمعلم، وكذلك الوحدة في مواجهة السلطة والإحباط الفكري لهذه المهنة، وأيضا الحب وأهميته في التوازن الإنساني، عمل بارع عن الأنانية البشرية وما يدفع الناس إلى هذا السلوك.
    النقاش الطويل ينزع قناع الحضارةفي النهاية أراد المخرج التعبير عن انكسار الأرواح وجفافها والتشبيه بالأعشاب البرية، يذكرنا عنوان الفيلم بقصيدة “أوراق العشب” للشاعر الأميركي والت وايتمان.
    خاتمة الفيلم إشكالية للغاية وفي المشهد الأخير، بعد رحيل الشتاء وذوبان الثلوج وظهور الأعشاب الجافة، التي تشكل استعارة الفيلم وذات دلالات عميقة، الثلاثي صمد ونوراي وكنان معا يزورون موقعا أثريا. يتجولون ويقومون بالتقاط الصور مثل السياح. كيف اجتمع هؤلاء الثلاثة معا على الرغم من كل ما حدث؟ ما هي العاطفة التي تجمعهم معا؟ رغم معرفة كنان، ذو الشخصية الحالمة بالعلاقة، فإن ثلاثتهم يعودون للالتقاء وكأن ما حدث قد غطاه الثلج، في لقطة غاية في الإبهار نشاهد المدرس صمد يتسلق التل ويتركهم في الأسفل.
    وسط العلاقة المجازية التي يقيمها بين العشب الجاف الذي يسحقه تحت قدميه أثناء المشي وروحه التي سحقتها تلك القرية الموحشة، وتحويل صوته الداخلي إلى خطاب ينجذب إلى المشاهد، يستمر صمد في التعبير عن أفكاره حول الحياة، حول جوهر الوجود وعن البشر. هذا الرجل، الذي هو أحلك ما رأيناه على الإطلاق في أفلام المخرج التركي جيلان، وهو فاسد أخلاقيا وفاقد تماما لحسه السليم، بالطبع تَبرز للمشاهد حقيقة أن صمد مصاب بنزعة الغرور والتفوق على الآخرين. بعدها يوصلان نوراي إلى بيتها في السيارة وسط عاصفة ثلجية، لتكمل الكاميرا السير بعد ذلك وسط الأعشاب والحقول الجافة الباهتة وقد دخل فصل الصيف.
    ينسج الفيلم بمهارة شخصية المدرس وطريقة تفكيره من خلال سرد حكاية الفيلم من وجهة نظر صمد، حتى أنه مؤمن بأن تضحية المدرسة نوراي اليسارية لا معنى لها بعد فقدانها لقدمها، وطلابه وطالباته بوصفهم “عشبا جافا”. يتعامل نوري بيلج جيلان المخرج الأكثر موهبة في السينما التركية مع المجتمع الصغير كعينة من أمراض العالم: الصعوبة الأنطولوجية لفصل الجسد عن العقل، وفقدان المثل العليا، والحركة الداخلية الحتمية التي تدفعنا إلى النمو نحو عالم أفضل، والفساد الروحي، والإنسان وطبيعته. يتحدث بقوة عن النظام التعليمي القديم لهذه المناطق النائية المنسية، التي لم تسرد أبدا. يتحدث عن إحباط المثقفين ولكن لا يغفل الإشارة إلى الأمل في حياة أفضل.















يعمل...
X