"تقضمنا الحياة بثغورها الصغيرة" مختارات لشاعرة عاشقة للتفاصيل
دنيس ليفرتوف: الشاعر لا يمكن فصمه إلى جزأين، الشعر والحياة.
الثلاثاء 2024/12/17
ShareWhatsAppTwitterFacebook
صوت شعري واضح غير مزدحم
هناك من الأدباء من لم يتلق تعليما رسميا ومع ذلك بنى بمفرده وبشكل مختلف ثقافته الخاصة، ليخوض بدوره في التشييد الثقافي ويكون من ألمع التجارب والأسماء، ومن هؤلاء نذكر الشاعرة الأميركية دنيس ليفرتوف، التي نحتت ثقافتها بمفردها ومساعدة أمها في وقت مبكر، لتترك تجربة شعرية مازال صداها مؤثرا إلى اليوم.
خلال مسيرتها الشعرية الحافلة بالإبداع، أنشأت الأميركية دنيس ليفرتوف (1923 ـ 1997) مجموعات شعرية مرموقة تعكس معتقداتها وقيمها كفنانة وإنسانة. احتضن عملها مجموعة واسعة من الموضوعات، بما في ذلك قصائد الحرب والمعاناة وقصائد الطبيعة، وقصائد الحب، وشعر الاحتجاج، والشعر المستوحى من إيمانها بالله.
كتبت إيمي جيرستلر في مجلة لوس أنجلس تايمز للكتب أن ليفرتوف تمتلك “صوتا واضحا غير مزدحم – صوت ملتزم بالملاحظة الحادة والانخراط في الأرض، بكل ما يصاحبها من جمال وغموض وألم.”
شاعرة التفاصيل
في فترة الستينات كانت السياسة والحرب من الموضوعات الرئيسية في شعر دنيس ليفرتوف انطلاقا من رفضها للحرب الأميركية الوحشية على فيتنام. ففي مجمل أعمال تلك الفترة تتناول العنف والوحشية، لكن دون الغرق فيهما حيث تحاول جلب الجمال إلى المعادلة، وخلطه بوهج اللغة وقبح أهوال الحرب، كاشفة تكلفة الحرب ومعاناة الفيتناميين.
بعد سنوات من كتابة مثل هذا الشعر، توصلت إلى استنتاج مفاده أن الجمال والشعر والسياسة لا يمكن أن تجتمع معا، وروجت للتغيير المجتمعي من خلال خيال الفرد مؤكدة على قوة الأفراد كمدافعين عن التغيير. كما ربطت بين التجربة الشخصية والعدالة والإصلاح الاجتماعي، وهو الأمر الذي فتح هذا الباب على مصراعيه لشعرها ذي الطابع الصوفي في الجزء الأخير من حياتها. وكان هذا هو الحج – الرحلة الروحية التي قامت بها ليفرتوف نحو الفهم الروحي العميق والحقيقة في قصائدها الأخيرة.
كان صوت ليفرتوف الشعري الأميركي مدينا، من ناحية اللغة والصور البسيطة الملموسة، فضلا عن المباشرة، التي تميز بها. وعلى هذا فقد لاحظ الناقد رالف جيه ميلز الابن في مقاله في مجلة “شعراء في طور التقدم” أن شعر ليفرتوف “يشكل في الكثير من الأحيان جولة عبر المألوف والدنيوي حتى تفاجئنا فجأة غرابته وعالمه الآخر. الواقع اليومي الذي نتجاهله أو نحاول الهروب منه، تستمتع ليفرتوف به، وتنحته وتدقه في قصائد غنائية تتسم بالجمال الدقيق.”
بدوره، أوضح الناقد جوليان جيتزن، مراجع مجلة ميدويست كوارترلي، أن “اهتمام ليفرتوف بالتفاصيل المادية سمح لها بتطوير مجموعة كبيرة من الموضوعات الشعرية، لأنها، مثل ويليام كارلوس ويليامز، كانت تستلهم في الكثير من الأحيان من المتواضع، أو العادي، أو المهمش، وقد ألفت قصائد ثاقبة بشكل ملحوظ عن زهرة واحدة، ورجل يمشي مع كلبين في المطر، وحتى ضوء الشمس المتلألئ على القمامة في الشارع.”
مع بداية تورط الولايات المتحدة في الحرب على فيتنام خلال الستينات، بدأ الوعي الاجتماعي لليفرتوف يتجلى في شعرها وحياتها الخاصة بشكل أكثر اكتمالا. أسست مع مورييل روكيزر والعديد من الشعراء الآخرين احتجاج الكتاب والفنانين ضد حرب فيتنام. وشاركت في العديد من المظاهرات المناهضة للحرب في بيركلي، كاليفورنيا، وأماكن أخرى، وسُجنت لفترة وجيزة في مناسبات عديدة بتهمة العصيان المدني.
في العقود التالية، تحدثت ضد الأسلحة النووية، والمساعدات الأميركية للسلفادور، وحرب الخليج العربي. تتناول في مجموعاتها التي صدرت في سنوات1967 و1970 و1971 و1982 العديد من الموضوعات الاجتماعية والسياسية مثل حرب فيتنام، وأعمال الشغب في ديترويت، ونزع السلاح النووي. كان هدفها تحفيز الآخرين على الوعي بهذه القضايا المختلفة، وخاصة حرب فيتنام والمخاوف البيئية. وعلى النقيض من الانتقادات الإيجابية التي وجهت إلى أعمالها بشكل عام، كان المعلقون المعاصرون يميلون إلى النظر إلى قصائد ليفرتوف السياسية الصريحة بعين الشك، وكثيرا ما لاحظوا أنها تشبه النثر أكثر من الشعر وأنها غير مكتملة أو مبالغ فيها أو سطحية.
قصيدة تنويعان
1 ـ تحقيق
يا من تخرج في الوقت المحدد
لتمارس القتل،
أتعلم أن هناك عينين تراقبانك، عينان احترق جفنهما،
تريانك تتناول “الستيك”
تشتري لحم فتاتك
وتبيع عدتك الحربية
وتنام؟
ليست عجوزا،
تلك التي تعرفك عيناها.
ستعيش أكثر منك.
لقد رأت
أطفالها الخمسة
يذبلون ويموتون؛
ومنذ تلك الساعة
بدأت تراقبك،
تلك التي عيناها
مفتوحتان إلى الأبد.
2 ـ الرؤية
واضعة يديّ على عيني
أرى الدم والعظام الصغيرة؛
أو حين تغطي وسادة
المحاجر أرى رسمها؛
ليلا يصير الومض ناعما
لكنني أملك القوة الآن
لأرى أنه ليس ثمة سوى
رمادي على رمادي، ونائمين
ومذابح. أرى الأحياء والموتى؛ الموتى
كأنهم أحياء، فم أصغر أولادي يمتص
حليبي، إنه شبح؛
عبر جلده أرى
موت أولئك الذين يقال إنهم أحياء،
يأكلون الأرز ويكلمونني
لكنني أرى موتا بليدا فيهم
وبينما يتكلمون أرى نفسي
على حصيرتي، جسدا وعينين؛ عينان تريان اليد
في السماء الصافية،
يد بشرية تطلق نارا مبللة، المطر الذي
منح عيني اليقظة.
وقد أكدت ديان واكوسكي، في مراجعة ديوان “تنفس المياه” 1987، في مجلة “مراجعة الكتب النسائية”، على العناصر الصوفية في عمل ليفرتوف. حيث قال واكوسكي “إن شعر ليفرتوف، مثل أغلب التصوف الأميركي، يرتكز على المسيحية، ولكن مثل ويتمان وغيره من الصوفيين الأميركيين، فإن اكتشافها لله هو اكتشاف لله في ذاتها، ومحاولة لفهم كيف أن هذه الذات هي جزء 'طبيعي' من العالم، تختلط بكل شيء على المستوى الوثني، والإيكولوجي، والاجتماعي، والتاريخي، وبالنسبة لليفرتوف، دائما على المستوى الغنائي.”
توحيد الثقافات
هذه المختارات “تقضمنا الحياة بثغورها الصغيرة” التي اختارها وترجمها الشاعر سامر أبو هواش، وصدرت عن مشروع كلمة بالاشتراك مع منشورات الجمل، تغطي مجمل مسيرة ليفرتوف الشعرية، حيث ضمت مجموعة من قصائد دواوينها الصادرة في سنوات ما بين 1940 ـ 1987.
يقول أبو هواش “كتبت الشاعرة، المترجمة، الناشطة السياسية، دينس ليفرتوف عام 1960 معرفة بنفسها على النحو التالي ‘ولدت عند الساعة التاسعة مساء في الرابع والعشرين من أكتوبر 1923، في إيلفورد، إسكس، في ضواحي لندن. يستطيع الفلكيون أن يستنتجوا ما شاءوا من ذلك. وكان أبي بول رجلا أكاديميا. أما أمي بياتريس فأنا مدينة لها، بين أشياءكثيرة، بحبي للطبيعة وقدرتي على القراءة بصوت عال. بما أنني لم أذهب إلى المدرسة (مطلقا في حياتي) فقد توفر لي الوقت والعزلة لكي أبدأ بكتابة الشعر في سن مبكرة جدا. انتهى تعليمي الرسمي، تحت إشراف أمي في الثالثة عشرة تقريبا. وكان منزلنا يغص بالكتب، وكانت هناك مكتبة عامة محلية ممتازة. عرفتني أختي أولغا (1914 ـ 1964) إلى الشعر المعاصر، إلى الانطباعيين، وإلى المسرح، وإلى أشياء أخرى كثيرة. بعد بلوغي الثانية عشرة عندما بات مسموحا لي التجوال بمفردي في لندن صرت أمضي الكثير من وقتي في المتاحف وصالات الفن التشكيلي‘.”
وتضيف ليفرتوف “خلال مراهقتي الأولى حاولت أن أتعلم رقص الباليه، وفي نهاية مراهقتي أردت أن أكون رسامة؛ وأمضيت بضع سنوات (من دون أن أنهي التدريب الرسمي) أعمل كممرضة. بيد أن كوني شاعرة يظل الأمر الذي لم يخامرني الشك بشأنه منذ البداية. فكتابة الشعر كانت الأمر الذي أجيده، والذي طالما مارسته. وليس من مجال آخر على الإطلاق أتمنى لو أنني انخرطت فيه. من دون أن يعني هذا أنني لم أعش مراحل من الشك بقدرتي على الكتابة.”
وتتابع “في ربيع العام 1947 طردت من المستشفى البريطاني في باريس لرفضي أن أكون جزءا من فرقة تشريفات في مناسبة معينة. ذهبت مع إحدى الصديقات في رحلة عبر فرنسا. وفي نهاية الصيف ذهبنا إلى سويسرا لنبحث عن عمل والتقيت ميتش غودمان، وهو شاب أميركي كان يبدأ للتو حياته ككاتب، وكان لقاؤنا في دار الشباب في جنيف وتزوجنا بعد فترة قصيرة. جئت أمريكا عام 1948 وبعدها بعام ولد ابننا نيكولاي. صرت مواطنة أميركية عام 1955، لكني قبل ذلك كنت قد صرت كاتبة أميركية. “
ويقول أبو هواش “كما قالت ليفرتوف فهي لم تتلق أي تعليم رسمي في حياتها. تكونت ثقافتها من قراءة أمها لها بصوت مرتفع أعمال الكتاب الكبار في القرنين التاسع عشر والعشرين من أمثال تولستوي وكونراد وديكنز. كانت بداية تعرفها إلى الشعر المعاصر من خلال أختها أولغا التي كانت تكتب الشعر في طفولتها. في سن الثانية عشرة أرسلت ليفرتوف بعض قصائدها للشاعر ت. إس. إليوت الذي رد عليها برسالة تتضمن بعض النصائح العملية حول كتابة الشعر. ‘تلقيت منه رسالة مطبوعة من صفحتين، تقدم نصيحة ممتازة‘، وقد أعطتها رسالته زخما متجددا لكتابة القصائد وإرسالها.”
وبعد نشر عدد من القصائد في مجلتي “شعر لندن” و“فصلية الشعر”، نشرت ليفرتوف أولى مجموعاتها الشعرية “الصورة المزدوجة”. ولفت عملها نظر الشاعر الأميركي كنيث ركسروث الذي نشر بعضا من قصائدها في أنطولوجيا “شعراء بريطانيا الجدد 1949” وقد أبدى ركسروث لاحقا إعجابه الشديد بدرجة التحول الذي خاضته ليفرتوف بانتقالها من الشعر الموزون والتقليدي إلى الشعر الحر.
خلال تلك الفترة باتت ليفرتوف مقربة من حركة “بلاك ماونتن” الشعرية (تبعا لاسم كلية بلاك ماونتن) في أشفيل، نورث كارولينا، وتقربت خصوصا من الشاعر روبرت كريلي الذي بات من أصدقائها المقربين والشاعر روبرت دانكن وتشارلز أولسون، وثلاثتهم كانوا يشكلون عماد ما عرف بتجربة “إيست كوست” أو “الساحل الشرقي” الشعرية. وفي العام 1957 أصدرت ليفرتوف مجموعتها الشعرية الثانية “الآن وهنا” التي دفعت ركسروث إلى أن يعتبرها “من دون مقاومة أفضل شعراء الشعر الطليعي الجديد.“
يذكر ريكسروث في مجموعة مقالاته التي صدرت عام 1961 بعنوان “التجارب” على أن “تجربة ليفرتوف اختفى منها الكسل. لقد حل محله نوع من رشاقة الكلمة، نبض مثل خطوات قطة أو خفقات جناح طائر النورس. حيوية شديدة لحب يقظ تزاوج فيه الشكل والمحتوى. ماذا تريد أكثر من الشعر؟ لا يمكنك أن تطلب أكثر من ذلك.”
ويرى أبو هواش إلى أن ليفرتوف منذ العام 1965 رفعت صوتها عاليا احتجاجا على حرب فيتنام، لتصبح واحدة من أبرز الناشطين السياسيين، ولتتمكن من تجييش وتحفيز عدد كبير من الكتاب والفنانين احتجاجا على الحرب، ليس فحسب من خلال الكتابة، بل من خلال التظاهر والاحتجاج المباشر في الشاعر. في العام 1967 أصدرت مجموعة “رقصة الأسف” التي تعد أفضل أعمالها الشعرية وأكثرها بساطة وتأثيرا، فعلى الرغم من حضور ثيمة الحرب بقوة، غير أن هذه جاءت متداخلة مع أسى ليفرتوف الشخصي جراء وفاة أختها أولغا عام 1964.
ويلفت إلى أن ليفرتوف على امتداد حياتها الشعرية التي أنتجت نحو أربعين مجموعة شعرية وعددا لا يحصى من المقالات النقدية، حافظت، على الرغم من احتجاج كثر، على قناعتها بأن “الشاعر هو كل لا يمكن فصمه إلى جزئين، جزء هو الشعر، والآخر هو الحياة،” وبالتالي حافظت على انشغالها بالشأن العام، وعلى حركتها الاحتجاجية، من دون أن تسقط شعرها إلى مستوى المباشرة أو توقعه في الوعظ والتكرار.
وقد أشاد أحد المساهمين في القاموس الموجز للسيرة الأدبية الأميركية بليفرتوف “لتأكيدها في عملها على توحيد الثقافات والأعراق من خلال الوعي بتراثها الروحي المشترك ومسؤوليتها المشتركة تجاه كوكب مشترك.”
من أعمال ليفرتوف الشعرية نذكر “الصورة المزدوجة” 1946، “الحيتان” 1952، الآن هنا” 1956، “عيون في رؤوسنا من الخلف” 1959، “أوه، ذق وانظر: قصائد جديدة” 1964، “رقصة الأسف” 1967، “الحياة في الحرب” 1968، “إعادة تعلم الأبجدية” 1970، “آثار أقدام” 1972، “مجموعة القصائد الأولى: 1940 ـ 1960” 1979، “صباحات مايو” 1986، “قصائد 1960 ـ 1967” 1983، “قصائد مختارة” 1986، ” قصائد 1986 ـ 1972″ 1987، “تنفس المياه” 1987، “قطار المساء” 1992، “الحياة حولنا، قصائد مختارة حول الطبيعة” 1997.
◄ الشاعرة حافظت على انشغالها بالشأن العام، وعلى حركتها الاحتجاجية، من دون أن تسقط شعرها إلى مستوى المباشرة
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري
دنيس ليفرتوف: الشاعر لا يمكن فصمه إلى جزأين، الشعر والحياة.
الثلاثاء 2024/12/17
ShareWhatsAppTwitterFacebook
صوت شعري واضح غير مزدحم
هناك من الأدباء من لم يتلق تعليما رسميا ومع ذلك بنى بمفرده وبشكل مختلف ثقافته الخاصة، ليخوض بدوره في التشييد الثقافي ويكون من ألمع التجارب والأسماء، ومن هؤلاء نذكر الشاعرة الأميركية دنيس ليفرتوف، التي نحتت ثقافتها بمفردها ومساعدة أمها في وقت مبكر، لتترك تجربة شعرية مازال صداها مؤثرا إلى اليوم.
خلال مسيرتها الشعرية الحافلة بالإبداع، أنشأت الأميركية دنيس ليفرتوف (1923 ـ 1997) مجموعات شعرية مرموقة تعكس معتقداتها وقيمها كفنانة وإنسانة. احتضن عملها مجموعة واسعة من الموضوعات، بما في ذلك قصائد الحرب والمعاناة وقصائد الطبيعة، وقصائد الحب، وشعر الاحتجاج، والشعر المستوحى من إيمانها بالله.
كتبت إيمي جيرستلر في مجلة لوس أنجلس تايمز للكتب أن ليفرتوف تمتلك “صوتا واضحا غير مزدحم – صوت ملتزم بالملاحظة الحادة والانخراط في الأرض، بكل ما يصاحبها من جمال وغموض وألم.”
شاعرة التفاصيل
في فترة الستينات كانت السياسة والحرب من الموضوعات الرئيسية في شعر دنيس ليفرتوف انطلاقا من رفضها للحرب الأميركية الوحشية على فيتنام. ففي مجمل أعمال تلك الفترة تتناول العنف والوحشية، لكن دون الغرق فيهما حيث تحاول جلب الجمال إلى المعادلة، وخلطه بوهج اللغة وقبح أهوال الحرب، كاشفة تكلفة الحرب ومعاناة الفيتناميين.
بعد سنوات من كتابة مثل هذا الشعر، توصلت إلى استنتاج مفاده أن الجمال والشعر والسياسة لا يمكن أن تجتمع معا، وروجت للتغيير المجتمعي من خلال خيال الفرد مؤكدة على قوة الأفراد كمدافعين عن التغيير. كما ربطت بين التجربة الشخصية والعدالة والإصلاح الاجتماعي، وهو الأمر الذي فتح هذا الباب على مصراعيه لشعرها ذي الطابع الصوفي في الجزء الأخير من حياتها. وكان هذا هو الحج – الرحلة الروحية التي قامت بها ليفرتوف نحو الفهم الروحي العميق والحقيقة في قصائدها الأخيرة.
كان صوت ليفرتوف الشعري الأميركي مدينا، من ناحية اللغة والصور البسيطة الملموسة، فضلا عن المباشرة، التي تميز بها. وعلى هذا فقد لاحظ الناقد رالف جيه ميلز الابن في مقاله في مجلة “شعراء في طور التقدم” أن شعر ليفرتوف “يشكل في الكثير من الأحيان جولة عبر المألوف والدنيوي حتى تفاجئنا فجأة غرابته وعالمه الآخر. الواقع اليومي الذي نتجاهله أو نحاول الهروب منه، تستمتع ليفرتوف به، وتنحته وتدقه في قصائد غنائية تتسم بالجمال الدقيق.”
بدوره، أوضح الناقد جوليان جيتزن، مراجع مجلة ميدويست كوارترلي، أن “اهتمام ليفرتوف بالتفاصيل المادية سمح لها بتطوير مجموعة كبيرة من الموضوعات الشعرية، لأنها، مثل ويليام كارلوس ويليامز، كانت تستلهم في الكثير من الأحيان من المتواضع، أو العادي، أو المهمش، وقد ألفت قصائد ثاقبة بشكل ملحوظ عن زهرة واحدة، ورجل يمشي مع كلبين في المطر، وحتى ضوء الشمس المتلألئ على القمامة في الشارع.”
مع بداية تورط الولايات المتحدة في الحرب على فيتنام خلال الستينات، بدأ الوعي الاجتماعي لليفرتوف يتجلى في شعرها وحياتها الخاصة بشكل أكثر اكتمالا. أسست مع مورييل روكيزر والعديد من الشعراء الآخرين احتجاج الكتاب والفنانين ضد حرب فيتنام. وشاركت في العديد من المظاهرات المناهضة للحرب في بيركلي، كاليفورنيا، وأماكن أخرى، وسُجنت لفترة وجيزة في مناسبات عديدة بتهمة العصيان المدني.
في العقود التالية، تحدثت ضد الأسلحة النووية، والمساعدات الأميركية للسلفادور، وحرب الخليج العربي. تتناول في مجموعاتها التي صدرت في سنوات1967 و1970 و1971 و1982 العديد من الموضوعات الاجتماعية والسياسية مثل حرب فيتنام، وأعمال الشغب في ديترويت، ونزع السلاح النووي. كان هدفها تحفيز الآخرين على الوعي بهذه القضايا المختلفة، وخاصة حرب فيتنام والمخاوف البيئية. وعلى النقيض من الانتقادات الإيجابية التي وجهت إلى أعمالها بشكل عام، كان المعلقون المعاصرون يميلون إلى النظر إلى قصائد ليفرتوف السياسية الصريحة بعين الشك، وكثيرا ما لاحظوا أنها تشبه النثر أكثر من الشعر وأنها غير مكتملة أو مبالغ فيها أو سطحية.
قصيدة تنويعان
1 ـ تحقيق
يا من تخرج في الوقت المحدد
لتمارس القتل،
أتعلم أن هناك عينين تراقبانك، عينان احترق جفنهما،
تريانك تتناول “الستيك”
تشتري لحم فتاتك
وتبيع عدتك الحربية
وتنام؟
ليست عجوزا،
تلك التي تعرفك عيناها.
ستعيش أكثر منك.
لقد رأت
أطفالها الخمسة
يذبلون ويموتون؛
ومنذ تلك الساعة
بدأت تراقبك،
تلك التي عيناها
مفتوحتان إلى الأبد.
2 ـ الرؤية
واضعة يديّ على عيني
أرى الدم والعظام الصغيرة؛
أو حين تغطي وسادة
المحاجر أرى رسمها؛
ليلا يصير الومض ناعما
لكنني أملك القوة الآن
لأرى أنه ليس ثمة سوى
رمادي على رمادي، ونائمين
ومذابح. أرى الأحياء والموتى؛ الموتى
كأنهم أحياء، فم أصغر أولادي يمتص
حليبي، إنه شبح؛
عبر جلده أرى
موت أولئك الذين يقال إنهم أحياء،
يأكلون الأرز ويكلمونني
لكنني أرى موتا بليدا فيهم
وبينما يتكلمون أرى نفسي
على حصيرتي، جسدا وعينين؛ عينان تريان اليد
في السماء الصافية،
يد بشرية تطلق نارا مبللة، المطر الذي
منح عيني اليقظة.
وقد أكدت ديان واكوسكي، في مراجعة ديوان “تنفس المياه” 1987، في مجلة “مراجعة الكتب النسائية”، على العناصر الصوفية في عمل ليفرتوف. حيث قال واكوسكي “إن شعر ليفرتوف، مثل أغلب التصوف الأميركي، يرتكز على المسيحية، ولكن مثل ويتمان وغيره من الصوفيين الأميركيين، فإن اكتشافها لله هو اكتشاف لله في ذاتها، ومحاولة لفهم كيف أن هذه الذات هي جزء 'طبيعي' من العالم، تختلط بكل شيء على المستوى الوثني، والإيكولوجي، والاجتماعي، والتاريخي، وبالنسبة لليفرتوف، دائما على المستوى الغنائي.”
توحيد الثقافات
هذه المختارات “تقضمنا الحياة بثغورها الصغيرة” التي اختارها وترجمها الشاعر سامر أبو هواش، وصدرت عن مشروع كلمة بالاشتراك مع منشورات الجمل، تغطي مجمل مسيرة ليفرتوف الشعرية، حيث ضمت مجموعة من قصائد دواوينها الصادرة في سنوات ما بين 1940 ـ 1987.
يقول أبو هواش “كتبت الشاعرة، المترجمة، الناشطة السياسية، دينس ليفرتوف عام 1960 معرفة بنفسها على النحو التالي ‘ولدت عند الساعة التاسعة مساء في الرابع والعشرين من أكتوبر 1923، في إيلفورد، إسكس، في ضواحي لندن. يستطيع الفلكيون أن يستنتجوا ما شاءوا من ذلك. وكان أبي بول رجلا أكاديميا. أما أمي بياتريس فأنا مدينة لها، بين أشياءكثيرة، بحبي للطبيعة وقدرتي على القراءة بصوت عال. بما أنني لم أذهب إلى المدرسة (مطلقا في حياتي) فقد توفر لي الوقت والعزلة لكي أبدأ بكتابة الشعر في سن مبكرة جدا. انتهى تعليمي الرسمي، تحت إشراف أمي في الثالثة عشرة تقريبا. وكان منزلنا يغص بالكتب، وكانت هناك مكتبة عامة محلية ممتازة. عرفتني أختي أولغا (1914 ـ 1964) إلى الشعر المعاصر، إلى الانطباعيين، وإلى المسرح، وإلى أشياء أخرى كثيرة. بعد بلوغي الثانية عشرة عندما بات مسموحا لي التجوال بمفردي في لندن صرت أمضي الكثير من وقتي في المتاحف وصالات الفن التشكيلي‘.”
وتضيف ليفرتوف “خلال مراهقتي الأولى حاولت أن أتعلم رقص الباليه، وفي نهاية مراهقتي أردت أن أكون رسامة؛ وأمضيت بضع سنوات (من دون أن أنهي التدريب الرسمي) أعمل كممرضة. بيد أن كوني شاعرة يظل الأمر الذي لم يخامرني الشك بشأنه منذ البداية. فكتابة الشعر كانت الأمر الذي أجيده، والذي طالما مارسته. وليس من مجال آخر على الإطلاق أتمنى لو أنني انخرطت فيه. من دون أن يعني هذا أنني لم أعش مراحل من الشك بقدرتي على الكتابة.”
وتتابع “في ربيع العام 1947 طردت من المستشفى البريطاني في باريس لرفضي أن أكون جزءا من فرقة تشريفات في مناسبة معينة. ذهبت مع إحدى الصديقات في رحلة عبر فرنسا. وفي نهاية الصيف ذهبنا إلى سويسرا لنبحث عن عمل والتقيت ميتش غودمان، وهو شاب أميركي كان يبدأ للتو حياته ككاتب، وكان لقاؤنا في دار الشباب في جنيف وتزوجنا بعد فترة قصيرة. جئت أمريكا عام 1948 وبعدها بعام ولد ابننا نيكولاي. صرت مواطنة أميركية عام 1955، لكني قبل ذلك كنت قد صرت كاتبة أميركية. “
ويقول أبو هواش “كما قالت ليفرتوف فهي لم تتلق أي تعليم رسمي في حياتها. تكونت ثقافتها من قراءة أمها لها بصوت مرتفع أعمال الكتاب الكبار في القرنين التاسع عشر والعشرين من أمثال تولستوي وكونراد وديكنز. كانت بداية تعرفها إلى الشعر المعاصر من خلال أختها أولغا التي كانت تكتب الشعر في طفولتها. في سن الثانية عشرة أرسلت ليفرتوف بعض قصائدها للشاعر ت. إس. إليوت الذي رد عليها برسالة تتضمن بعض النصائح العملية حول كتابة الشعر. ‘تلقيت منه رسالة مطبوعة من صفحتين، تقدم نصيحة ممتازة‘، وقد أعطتها رسالته زخما متجددا لكتابة القصائد وإرسالها.”
وبعد نشر عدد من القصائد في مجلتي “شعر لندن” و“فصلية الشعر”، نشرت ليفرتوف أولى مجموعاتها الشعرية “الصورة المزدوجة”. ولفت عملها نظر الشاعر الأميركي كنيث ركسروث الذي نشر بعضا من قصائدها في أنطولوجيا “شعراء بريطانيا الجدد 1949” وقد أبدى ركسروث لاحقا إعجابه الشديد بدرجة التحول الذي خاضته ليفرتوف بانتقالها من الشعر الموزون والتقليدي إلى الشعر الحر.
خلال تلك الفترة باتت ليفرتوف مقربة من حركة “بلاك ماونتن” الشعرية (تبعا لاسم كلية بلاك ماونتن) في أشفيل، نورث كارولينا، وتقربت خصوصا من الشاعر روبرت كريلي الذي بات من أصدقائها المقربين والشاعر روبرت دانكن وتشارلز أولسون، وثلاثتهم كانوا يشكلون عماد ما عرف بتجربة “إيست كوست” أو “الساحل الشرقي” الشعرية. وفي العام 1957 أصدرت ليفرتوف مجموعتها الشعرية الثانية “الآن وهنا” التي دفعت ركسروث إلى أن يعتبرها “من دون مقاومة أفضل شعراء الشعر الطليعي الجديد.“
يذكر ريكسروث في مجموعة مقالاته التي صدرت عام 1961 بعنوان “التجارب” على أن “تجربة ليفرتوف اختفى منها الكسل. لقد حل محله نوع من رشاقة الكلمة، نبض مثل خطوات قطة أو خفقات جناح طائر النورس. حيوية شديدة لحب يقظ تزاوج فيه الشكل والمحتوى. ماذا تريد أكثر من الشعر؟ لا يمكنك أن تطلب أكثر من ذلك.”
ويرى أبو هواش إلى أن ليفرتوف منذ العام 1965 رفعت صوتها عاليا احتجاجا على حرب فيتنام، لتصبح واحدة من أبرز الناشطين السياسيين، ولتتمكن من تجييش وتحفيز عدد كبير من الكتاب والفنانين احتجاجا على الحرب، ليس فحسب من خلال الكتابة، بل من خلال التظاهر والاحتجاج المباشر في الشاعر. في العام 1967 أصدرت مجموعة “رقصة الأسف” التي تعد أفضل أعمالها الشعرية وأكثرها بساطة وتأثيرا، فعلى الرغم من حضور ثيمة الحرب بقوة، غير أن هذه جاءت متداخلة مع أسى ليفرتوف الشخصي جراء وفاة أختها أولغا عام 1964.
ويلفت إلى أن ليفرتوف على امتداد حياتها الشعرية التي أنتجت نحو أربعين مجموعة شعرية وعددا لا يحصى من المقالات النقدية، حافظت، على الرغم من احتجاج كثر، على قناعتها بأن “الشاعر هو كل لا يمكن فصمه إلى جزئين، جزء هو الشعر، والآخر هو الحياة،” وبالتالي حافظت على انشغالها بالشأن العام، وعلى حركتها الاحتجاجية، من دون أن تسقط شعرها إلى مستوى المباشرة أو توقعه في الوعظ والتكرار.
وقد أشاد أحد المساهمين في القاموس الموجز للسيرة الأدبية الأميركية بليفرتوف “لتأكيدها في عملها على توحيد الثقافات والأعراق من خلال الوعي بتراثها الروحي المشترك ومسؤوليتها المشتركة تجاه كوكب مشترك.”
من أعمال ليفرتوف الشعرية نذكر “الصورة المزدوجة” 1946، “الحيتان” 1952، الآن هنا” 1956، “عيون في رؤوسنا من الخلف” 1959، “أوه، ذق وانظر: قصائد جديدة” 1964، “رقصة الأسف” 1967، “الحياة في الحرب” 1968، “إعادة تعلم الأبجدية” 1970، “آثار أقدام” 1972، “مجموعة القصائد الأولى: 1940 ـ 1960” 1979، “صباحات مايو” 1986، “قصائد 1960 ـ 1967” 1983، “قصائد مختارة” 1986، ” قصائد 1986 ـ 1972″ 1987، “تنفس المياه” 1987، “قطار المساء” 1992، “الحياة حولنا، قصائد مختارة حول الطبيعة” 1997.
◄ الشاعرة حافظت على انشغالها بالشأن العام، وعلى حركتها الاحتجاجية، من دون أن تسقط شعرها إلى مستوى المباشرة
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري