التشكيلي الفنان صلاح عبد الغفور الخال Salah Alkhal
الفنان صلاح عبد الغفور الخال
فنان من حلب عاش فيها طفولته وشبابه ،وترعرع في كنف والد مثقف مارس موهبة الفن، وأنتج أعمالاً جميلة وكان على اطلاع واسع بنتاج الفنانين في سورية، وبعض الدول الأوربية وقد أكسب صلاح ثقافة عميقة وحباُ للفن .
درسنا معاً في كلية الفنون الجميلة في دمشق، لمدة خمس سنوات، وكنت على تواصل معه في عملنا في الجامعة وفي الحياة الاجتماعية ، وكان لنا حوارات محببة في كل ميادين الثقافة والفكر، وزيارات لمعارض الفنانين ،ومحترفات أساتذتنا بشراكة العديد من طلاب وطالبات كليتنا، من العام الخامس والثمانين إلى بداية التسعينيات من القرن الماضي .
إن دمشقَ وحلب بلورتا شخصية صلاح، وبنتا ثقافتَه وموهبته وكان لموضوع تخرجه من قسم الاتصالات البصيرة (الاعلان)، حضوراً بهيّاًّ جذب الأنظار إليه ، فيه من حيث المضمون والتكنيك تخطٍّ لما عرضه أقرانه من المتخرجين. حيث نفّذ عملَه مزيجاٌ من الكولاج الورقيّ والملصقات، متداخلاً مع الرسوم والإيحاءات بالأحبار السوداء، أما الملصقات الورقيّة فكانت تحتوي على جُمَلٍ من قصص زكريا تامر، وخاصة مجموعته القصصيّة ( دمشق الحرائق ) كان لأعمالِ مشروعه قيمةً تعبيريّة ملفتةً، ونهجاً غير نمطيّ في طرح محتوى الموضوع ،ومضامينه الفكرية والفنيّة وهو بداية مهمة لطريقه الفنيّ، وفاتحة تثري الموهبة وتكرّسها فناً حقيقيّاً.
إذا ما أردنا أن نرسم شخصيّة الفنان بموضوعيّة سلوكياً ومعرفياًّ من خلال تواصله مع أفراد مجتمعه وعلاقته بالفكر والفن وتعاطيه مع صعوبات الحياة، سنقول ما يلي :" هو إنسان هادئ ولا ينفعلُ بسرعة، محاورٌ جيد لأقرانه، يحب كل ما هو جديد ويتأمله بفرح يبتعد عن الترهات، ويتغاضى عن همومه المعاشة، يحب الهدوء والسكنية ،ويستمتع بالعديد من الفنون، كالغناء والمسرح والشعر وكان يسعى ليتعلم العزف، إثناء وجوده في الجامعة وله هواجسه المحببة وتساؤلاته الجميلة، أتذكر منها ما يلي :"
هل يتضاءل الدفق الروحي اذا ما استغرقنا في ما هو مادي ؟ في الصراعات الاجتماعية / في رغباتنا والسعي اللاهث لتحقيق حاجاتنا المعاشة / في طموحاتنا ، لترك أثر ملموس في الحياة على صعيد الاسرة والوطن .
ما جدوى الأشياء المعنويّة والأخلاقيّة إذا استغرقنا بالسعي إلى حاجاتنا الصغيرة أليس الإنسان عبد لحاجاته ؟ و هذا على حساب الروح، وتحليقها في فضائها الكوني؟.
كان هذا الهم والقلق الوجوديُ يستحوذ عليه، ويحاول فكريّاُ أن يجد له حلولاً مقنعة.
قرأ (كافكا. وبابلو نيرودا , ولوركا ).وروايات من أمريكا اللاتينية . (وأحلام مستغانمي . وحيدر حيدر) وكانت قصصهم تترك فيه أثراً عميقاً.
وكان معجباً (بسلفادور دالي ولوحاته ) .
أعجب (بجان بول سارتر ووجوديته ،وأندري بريتون) وسرياليّته الشعريّة المدهشة .
أتذكر ذلك منذ خمس وثلاثين سنة . هؤلاء الكتاب والفنانين، إضافة للعديد من الروائيين الروس، أثروا بفكره وصقلوا معرفته بالأدب والفن في تلك المرحلة.
رسم صلاح العديد من اللوحات الفنيّة بتقنيّات مختلفة، من مشاهد واقعيّة وشخصيات شعبية ومشاهد من المقاهي وأسواق دمشق، ونقل بعض لوحات الاستشراق رغم عمله في مشاريع الاتصالات البصرية ، التي تأخذ منحاُ آخر من حيث المواضيع والتكنيك ومواد التنفيذ .
وأعجب بالرسوم القصصيّة، وأغلفة الكتب والإعلانات السينمائية، التي كان ينفّذها الفنانون العالميون .
وكم شعر بالإعجاب والدّهشة ! حين اطلع على أعمال الفنان الأمريكي "فرانك افرازيتا" في كتيب مصور متميز بلوحاته القصصيّة الخرافيّة.
كان عنده هاجس قويّ للاطلاع على الفنون الاوربية الحديثة " فن الكولاج . والمكس ميديا . وفن الدجتل . و المفاهيمية المحدثة " هذه الفنون تخدم إبداعه في تصميم ملصقاته الاعلانية والتصميم للشعار أو المنتج المؤسساتي (اللوغست).
تعرّفَ على الفنون الإفريقيّة ، على رسومها الرمزيّة،وتعاويذها والأقنعة الإفريقيّة المتميّزة، المغرِقة في القِدم وأعجِب ببدائيّتها وروحانيّتها.
كان يحاول قدر الامكان أن ينعتق من القضايا اليوميّة، وهموم الحياة ويلوذُ بأشعار محمود درويش ومظفر النواب وأحمد مطر، ويستغرق بالغناء العراقي الذي كنا نغنيه سويّاً.
أّجبِر إثناءَ الأحداث القاسية في سورية على السفر إلى مصر، ثم إلى تركيا ليقيم مشغلاً صناعيّاً للتحف الفنيّة، التي كانت تُصنع في حلب ودمشق ، وتعتمد على فن التصديف والعجمي والحفر على الخشب، ومعالجته بالتعتيق وورق الذهب والتقنيات القديمة المختلفة، وهذا أكسبه خبرة ومهارة في تقنيات متعددة وتجريب خامات جديدة.
وفي فترة تواصلي معه عن بعد خلال العشر سنوات الأخيرة. أرسل لي العديد من التحف والأيقونات الفنية التي صممها، إضافة للوحات الواقعية التي أنجزها في تركية ومصر.
المتأمل في أعمال صلاح و مرحلته الحالية سيلاحظ ما يلي :
" * الاستغراق في التجريد والاختزال والاطلاع على نتاج الفنانين التجريدين أمثال " كاندسكي وإخوان ميرو وجرج براك " وكيفية تعاملهم مع التكوين وتوزيع العناصر الهندسية داخل اللوحة .
* الغاء المنظور اللوني والهندسي.
*الاعتماد على القليل من الألوان لتصدير المضامين وتشكيل التكوين.
* الاتكاء على الأبيض والأسود لتجسيد الفكرة ، لتكون أشد أثراً على المتلقي.
*بحكم ممارسته لفن الإعلان والزنكو غراف فقد ظهر هذا التأثر في نتاجه الأخير، أكثر من الحس التشكيلي التصويري في اللوحة المعتادة، فاستغنى عن العديد من العناصر الفنيّة التي كانت تبني اللوّحة الكلاسيكية.
* التأثر بالرمزية والتأثيرية في عمله .
*وفي العديد من لوحاته، نلمح جسداً بشريّاَ أو عضواً من أعضائه تجرّدَ وتشوَّه تعبيريّاً ودخل في سياق اللوحة، كعنصر مهم فيها .
* وفي لوحات أخرى يود صلاح أن يطرح مفاهيم فلسفيّة عميقة تظهر بمنتهى البساطة والتكثيف. .
* بعض الأعمال يحسُّها الناظر وكأنها تحاكي الأيقونات والتمائم البدائية للإنسان القديم، الذي كان يعبِّر من خلالها عن هواجسه وأحلامه ،بمنتهى الرمزيّة والجرأة على جدران الكهوف.
* صلاح يصنف فناناً مفاهيمياً باعتقادي، فهو يريد أن يعبر عن الفكرة مكثفة ومختزلة تماماً، بأبسط العناصر والاشكال وبتقنيات معتادة.
* وأحياناً يكون هاجسه كيف أستطيع أن أعبر عن مشاعري بخطوط فقط أو بكتلة منقسمة أو ممزقة إلى نصفين؟ كيف أعبر عن الشعور بالعزلة أو بالفقد والانعتاق من خلال رسم كتلة في فضاء التكوين مثلاً؟.
* بعض لوحات صلاح نتيجة طرحه هذا توصله إلى برزخ قوامه، هل قدمت عملاً فيه محتوى حسي حقيقي وله قيمة فنيّة ؟ أو وقعتُ في الوهم بأن هناك قيمة إبداعية لهذه اللوحة؟ .
* يريد الفنان من المتلقي أن يكون مبدعاَ حاذقاً في تأويل ما يراه وفي التقاط حسِّ اللوحة التعبيريّ ودلالات محتواها.
* نشأته في حلب بالقرب من الده الذي كان بحوزته مكتبة زاخرة بالكتب الفنية، جعل صلاح يتعرف على نتاج الكثير من الفنانين المحليين مبكرا ويلتقي بهم أمثال لؤي كيالي، وفاتح المدرس و فنانين حلب عموماً، وهذا جعله قابلاً لتخطي القوالب النمطيّة ، في طرح العمل الفني المحدث وتوّاقاً لإبداع كل ماهو جديد .
واذا ما حاولنا أن تستحضر بعض الشواهد من لوحاته ونتحدث عنها فسنأخذ اللوحة
اللوحة (رقم 1)
وهي مثال جميل على حب صلاح للألوان المائية، واحدة من عدة لوحات متميزة، قام برسمها على مدار سنين طويلة، فيها من الواقعية المحببة ، ومن الحس الرومنسي في التنفيذ، وفيها بوح عاطفي لمن يراها. شاطئ بديع فيه سفن ومجموعة من الناس حولها وقد ضمنت في الملف عددا من اللوحات تشبه هذا النهج في سيرورة عمله.
اللوحة (رقم 2)
و نّصفها بما يلي :" جسدٌ بشريّ مجرد ومختزل، مرسوم بالأحبار السوداء و متشظي في فضاء اللوحة ، وكأنه يتحول إلى سحابة من الدخان، ومن حوله معالم مكانيّة يخالط هذا السواد، اللون البرتقاليّ بتهويمات خفيفة، في أماكن مدروسة، وكأن هذا اللون يربط جسراً بين المتخيل والواقعي، ويكمل العمل فنيّاً، لينتشلنا من السواد قليلاً. الخطوط الشاقوليّة والمستوية الدقيقة تزيد المشهد نزقاً وتوترتاً وتشعرنا بهم وقلق وجوديٍّ. اتى البناء في اللوحة قوياً ومدروساً وستطاع أن يؤدي وضيفته في البوح.
يحاول صلاح أن يعبر من خلاله، عما يقع على هذا الجسد من ضغوط وألآم من خلال الوضع المحيط به، بأداء تعبيري قدم لوحتَه ونقل صوت معاناته .
اللوحة (رقم 3)
كتلتان صخريتان تشدهما إلى بعضيهما خيوط متوترة تخترق جداراٌ يفصل بينهما، ويجذبهما إليه. تحسُّ بهلاميتهما وبأن هذه الخيوط نسيج حيُّ أو شرايين تشد الكتلتين إلى الجدار، وإلى بعضهما بعنف، ورغم هذا الجذب فان توازناً مؤقتاً ينشأ في هذا المشهد. اللوحة تذكرني بأعمال النحات "ديفيد بورش" ومنها منحوتة معروضة في نهاية المقال .تمثل عارضتين طويلتين متقابلتين، عُلقت صخرة في أعلاهما ، ورُبطت بوتد لحجر كبير يشدها إلى الأسفل، يحس الناظر إليها بقلق السقوط و يخشى من اختلال هذا التوازن القلق ، وتقودك فوراً إلى عمق التفكير الفيزيائي خصوصاً ،والهم الوجودي عموماً. كذلك هو الحال في لوحة صلاح. هاتان الكتلتان التي تشدهما الخيوط إلى بعضهما وإلى الجدار، فيهما خصوصية الجذب والتوازن والحركة والتغيير كل هذا يشعرك بالقلق من التكوين وأن تغيّراً عميقاً سيحطم كل شيء . إن هذا العمل فلسفي، وفيه من الديالكتيكيّة والهم الوجودي الكثير ، و يثير فيك مشاعر إنسانية غامضة، تسقطها على علاقاتك مع الأخرين وعلى انتمائك للأشياء وعدم قدرتك على الانسلاخ عما يؤرقك من الأشخاص بسبب ارتباطك العاطفي بهم مثلاً .
نحس في أعماله إذا ما قرناها بالشعر أو القص وبحثنا عما يشبهها فيهما ، أنها تشبه شعر الومضة. أو الصرخة، أو الهايكو الياباني من خلال تكثيفها العالي و رمزيتها وتعدد مضامينها .
اللوحة (رقم 4)
الرماديّ المزرقُّ , البنيُّ المنطفئ القصيُّ، والابيض الشاحبُ المتأثّر بما حوله من الألوان، مضافاً اليهم الرمادي الغامق المطفأ الذي يحتضن الجميع ويمثل خلفية اللوحة ،هذه الألوان كوَّنت العمل، أما الأشكال الهندسية التي تضمنها ، دائرتين في الوسط، وخط عريض رماديّ يفصلهما، وفسحتين من الضوء عريضتين عل شكل حرف اللام، وكتلة شبهُ مربعة على الجانب اليسار والأعلى من اللوحة. يتساءل الناظر للوهلة الأولى عن التأويلات الممكنة من مشاهدة المفردات ، فيتبادر لذهنه ما يلي هل هو باب عتيق بهذا التصميم؟. أو تبسيط هندسي لشكل الوجه؟ أم أن الحسابات الذهنية أعقد من هذا وذاك ؟.
هل هي دوّامة فكريّة لتداعيات خواطر الذاكرة، ضمن نمطيّة تفكير معينه ؟. أم هي مشهد من حلم ؟ لشخص أنهكته حوادث دهره وانطفأت انفعالاته وتجردت تماماً له على هذه الشاكلة. هل هي رسم لطفل متوحد حزين؟ هكذا يحسّ بالأشياء من حوله .
العمل ينفتح على تأويلات كثيرة ،ولا عجب أن نرى أعمالاً من الفنانين في هذه المرحلة من حياة البشرية، على هذا الشكل، فلننظر إلى تناقضات الحياة والأعباء الكثيرة التي تقع على عاتق الانسان، والصراعات الدمويّة على سطح كوكبنا، وسيطرة التكنولوجيا والذكاء الصناعي على أحاسيس البشر، واستلابهم من قبل عالم الآلات وضجيجها، واختناق الانسان من تلوث المصانع ومحاولة الفنان أن يبقى متمسكا بما هو انساني، ويتعاطف مع الاشياء الروحيّة ويبحث عنها. ألا يحتاج إلى لغة فنية مغرقة في التجريد والرمزية ليعبر عن كل هذا؟ والمتأمل بحس عميق للوحة سيشعر من خلالها أنّ هناك بوح انسانيّ ،فيه خصوصيّة عاليّة .
اللوحة (رقم5)
لوحة الكرسي النحيلة الصغيرة، التي يحيط بها اللون الأحمر وكأنه يعتصرها ،ألا تعيدنا إلى كرسي الفنان المفاهيمي "جوزيف كوزوث" وهي بتواجدها على هذا الشكل وبمفردها تثير فينا مشاعر عديدة، وتنفتح على عدة تأويلات .فتشعرك بالعزلة والهجر وبغياب كل من كان يقصدها للجلوس عليها، أحسها تصرخ: :"تعالوا إلي ثانية فقد كنت أسرُّ بوجودكم " ولعلها كرسي الأب الذي ارتحل إلى الأبد أو المحبة العاشقة التي غادرت ولن تعود أبداً.
اللوحة (رقم6)
في هذه اللوحة يؤنسن صلاح المكان، فتحس هذه الكتل البنائيّة وكأنها أشخاص، وبنفس الوقت آثار بيوت. وكأنه يقول إن للأمكنة أرواح تتجاور وتأنس لبعضها ، ولا يحس بها ويجسدها إلا الفن. أم أن الأجساد تجمّدت في الذاكرة وتحولت إلى آثار بيوت، وهذا يرجعني إلى عمل رائع (لسفادور دالي) بعنوان (ذكريات أثريّة من ملاك) والمستوحى من عمل الفنان (جان ميليت) بعنوان (صلاة المساء)
وكان موضوع اللوحة ، أن المرأة تقدم التحيّة والعرفان لزوجها، بعد حصاد الحقل، وتقف أمامه بانحناء شاكرة له تفانيه في العمل.
لقد حول سلفادور هذه اللوحة إلى أيقونة جديدة ، والناظر إليها يحس أنه يريد تخليد هذه اللحظة . وكأن الجسدين تجمدا في الحقل عند المساء للأبد، وهذا التحول له عدة دلالات وإيحاءات بديعة ويتسم بالسريالية والشاعرية الغامضة الشفافة .
ونجد عند صلاح العديد من اللوحات تأخذ هذا النهج في البوح وأن كانت لها خصوصيتها العالية وتنوع طروحاتها .
اللوحة (رقم7)
وقد سماها (أصداء زهرية)
كتل حمراء صغيرة مشدودة إلى بعضها و مندغمة تماماً لا يفصل بينها سوى خطوط شفيفة بيضاء والناظر إليها يحسها اضمامة زهور صغيرة كأني بالفنان يهمس لنا من خلال لوحته أصداء زهرية "كم تشبه هذه الورد القليلة الذاوية قلبي ".
الحديث يطول عن بوح ودلالات أعمال صلاح، وأعتقد أن الحديث عن العمل التجريدي التعبيري يقيده، فهو يحتمل عدة تأويلات ويتضمن العديد من المشاعر، وكما يعلم القارئ فمن أعقد الأمور أن تحول هذه اللغة البصرية المختزلة والغامضة إلى كلام .
وقد حاورتُ الفنان وألقيتُ عليه الأسئلة التالية :
*الكثير من الفنانين ينوّعون تقنيات تنفيذ العمل، أو يلجؤون إلى تقنيّة خاصة بهم ما رأيك بذلك ؟.
لا تشغلني تقنيّة العمل عن تنفيذه بعفويّة، ولا عن الهاجس الملح في بلورته على سطح اللوحة، وإذا احتجت إلى تقنية ما فلا أدعها تستحوذ عليّ، وتمتلكني لكي لا تصبح أعمالي نمطيّة تستحوذ عليها تقنيّات معيّنة في التنفيذ، ما يهمني هو مضمون العمل، والمفاهيم التي طرحتُها من خلاله. لا أود للمشاهد أن يكون مأسوراً بآليات التنفيذ ،بل بدلالات عناصر العمل.
* ما الذي تودُّ أن تبوح به من خلال لوحاتك في هذه المرحلة ؟
إن إحساس الإنسان في هذه المرحلة بانهيار القيم الفكرية، وطغيان العالم الصناعيّ التكنولوجيّ عليه ،وجعله كائن استهلاكي يسعى لتأمين حاجاته، وبأنه محدود وضعيف أمام تحولات عظيمة تمر بها البشرية ،وأزمات مخيفة تفوق احتماله هو ما يدفعني إلى العمل ،وما تبقّى لهذا الكائن البشري من روح وانفعالات، هو ما يحثني لأعبر عنها في عملي .
علاقتي باللوحة كالطفل الذي تمنحه لعبة، فيبتهج لها ويندمج باللعب فيها دون التفكير بمن يصنعها، ودون إجهاد نفسي بما تحتويه من الداخل.
كذلك لوحتي هي لعبتي المفضلة حين أباشر العمل بها أنفذها بعفوية وغبطة .
* ما علاقة الفن بالحياة
الإبداع هو جوهر الحياة، وهو المحرّك الأساسيّ لتطورها، منذ نشأة الإنسان على هذه الأرض. لولا إبداعاته في كل مجالات الحياة وعلى مر التاريخ لما أبصرتَ مدنيّات عديدة ، نشأت في أنحاء العالم. وما تبصره الأن في عالمنا المعاصر محاطا بكل هذه الصناعات هي إبداع إنسانيّ، أضف إليها أن الإنسان أمسى يمارس العديد من الفنون والأنشطة والفعاليات المختلفة .
وأنا ابن لهذه الحياة .ووليد لأفكارها ونتاجٌ لتحولات مجتمعاتها. أنا جزء منها وما يقع عليها أتأثر به بشكل أو بآخر، وأنا انعكاس عميق لما يكابده الناس في مسيرتهم للارتقاء، وفي تعثرهم أيضا.
الفنان هو روح المجتمع وبصيرته اليقظة ، وكلما أكرمت الدول والمجتمعات فنانيها، زادت ازدهاراً وتألقاً.
*كيف ينضج ويولد العمل على يديك؟
هو هاجسي الدائم. و عصارةُ انفعالاتي، ليس له زمان محدد. ويبقى مرتبطاً بما يحدثُ حولي، على الصعيد العام والشخصي وما يؤثر في داخلي. وهو نتاج قراءاتي ومشاهداتي الحياتيّة .
الفن دوماً كان ملاذي الجميل، الذي يجعلني أتصالحُ مع نفسي وأستعيد به توازني وراحة روحي.
عملي في هذه المرحلة أحسّه يولد كالومضة، أو هو صرخة مفاجئة ولدت نتيجة ضغوطات الحياة وأزماتها.
وهناك أعمال أبدعتها من خلال تأمل فكريّ وفلسفيّ ، في كينونة هذا الوجود. لوحات فكرت فيها طويلاً ،وأنجزتها بسرعة لكي لا تهرب مني الأفكار وهواجسها .
*بمن تأثرت من الفنانين الذين اطلعت على نتاجهم؟
لقد اطلعتُ على العديد من المدارس الفنيّة، والفنانين المجددين وأحببتُ أساليبَ طرحهم لأعمالهم ، وتعدد موضوعاتهم ومضامينها لكنني حاولت دوماً أن أقصيهم، عندما أقوم بتنفيذ لوحاتي، وحاولت جاهداً ألا استغرق في التعاطف معهم، لكي لا أقع تحت تأثير أساليبهم ، فهم مؤثرون وعميقون أمثال " سلفادور دالي .وبيكاسو . وكاندنسكي وغيرهم" فيجب على الفنان أن يكون له خصوصيّة، وأسلوباً يميزه، وأي شيءِ يطرحهُ ،المهم أن يكون منتمياً إليه فقط وعليه بصمته.
* هل تغيير الامكنة ينعكس على اللوحة لديك؟
نعم فهو يولد انفعالات غريبة، ويخلق بصورِهِ الجديدة وشخوصه مشاهدَ غير معتادة. ويوَّلد أفكاراً ثريّةً، أستطيع أن أضمِّنها لأعمالي بشكل رمزيّ تجريديّ .
*كيف يتم لك تطويرُ عملك، وما الوسائل التي تؤدي إلى تطويره؟
بالقراءة الدائمة ،وبهاجس الاطلاع على كل ما هو جديد، وبالبحث عما له خصوصية في الواقع، بخلق علاقات إنسانيّة محببة وبمشاهدة نتاج فنيٍّ مهم لفنانين، لم أطّلع على أعمالهم هكذا يتطور عملي بشكل تلقائي .
غير أن أعباء الحياة في العشر سنوات الماضية كانت ثقيلة جداً وعرقلت قليلاً مسيرتي الفنية .
هذا هو الصديق الجميل صلاح الخال وهذه أعماله تحت أنظاركم ولكم متعة التأمل فيها .
مبارك عليك معرضك الفني المتميز و نرجوا لك مزيداً من العطاء والتألق .
ناصر زين الدين Nasser Zen Aldeen
.
الفنان صلاح عبد الغفور الخال
فنان من حلب عاش فيها طفولته وشبابه ،وترعرع في كنف والد مثقف مارس موهبة الفن، وأنتج أعمالاً جميلة وكان على اطلاع واسع بنتاج الفنانين في سورية، وبعض الدول الأوربية وقد أكسب صلاح ثقافة عميقة وحباُ للفن .
درسنا معاً في كلية الفنون الجميلة في دمشق، لمدة خمس سنوات، وكنت على تواصل معه في عملنا في الجامعة وفي الحياة الاجتماعية ، وكان لنا حوارات محببة في كل ميادين الثقافة والفكر، وزيارات لمعارض الفنانين ،ومحترفات أساتذتنا بشراكة العديد من طلاب وطالبات كليتنا، من العام الخامس والثمانين إلى بداية التسعينيات من القرن الماضي .
إن دمشقَ وحلب بلورتا شخصية صلاح، وبنتا ثقافتَه وموهبته وكان لموضوع تخرجه من قسم الاتصالات البصيرة (الاعلان)، حضوراً بهيّاًّ جذب الأنظار إليه ، فيه من حيث المضمون والتكنيك تخطٍّ لما عرضه أقرانه من المتخرجين. حيث نفّذ عملَه مزيجاٌ من الكولاج الورقيّ والملصقات، متداخلاً مع الرسوم والإيحاءات بالأحبار السوداء، أما الملصقات الورقيّة فكانت تحتوي على جُمَلٍ من قصص زكريا تامر، وخاصة مجموعته القصصيّة ( دمشق الحرائق ) كان لأعمالِ مشروعه قيمةً تعبيريّة ملفتةً، ونهجاً غير نمطيّ في طرح محتوى الموضوع ،ومضامينه الفكرية والفنيّة وهو بداية مهمة لطريقه الفنيّ، وفاتحة تثري الموهبة وتكرّسها فناً حقيقيّاً.
إذا ما أردنا أن نرسم شخصيّة الفنان بموضوعيّة سلوكياً ومعرفياًّ من خلال تواصله مع أفراد مجتمعه وعلاقته بالفكر والفن وتعاطيه مع صعوبات الحياة، سنقول ما يلي :" هو إنسان هادئ ولا ينفعلُ بسرعة، محاورٌ جيد لأقرانه، يحب كل ما هو جديد ويتأمله بفرح يبتعد عن الترهات، ويتغاضى عن همومه المعاشة، يحب الهدوء والسكنية ،ويستمتع بالعديد من الفنون، كالغناء والمسرح والشعر وكان يسعى ليتعلم العزف، إثناء وجوده في الجامعة وله هواجسه المحببة وتساؤلاته الجميلة، أتذكر منها ما يلي :"
هل يتضاءل الدفق الروحي اذا ما استغرقنا في ما هو مادي ؟ في الصراعات الاجتماعية / في رغباتنا والسعي اللاهث لتحقيق حاجاتنا المعاشة / في طموحاتنا ، لترك أثر ملموس في الحياة على صعيد الاسرة والوطن .
ما جدوى الأشياء المعنويّة والأخلاقيّة إذا استغرقنا بالسعي إلى حاجاتنا الصغيرة أليس الإنسان عبد لحاجاته ؟ و هذا على حساب الروح، وتحليقها في فضائها الكوني؟.
كان هذا الهم والقلق الوجوديُ يستحوذ عليه، ويحاول فكريّاُ أن يجد له حلولاً مقنعة.
قرأ (كافكا. وبابلو نيرودا , ولوركا ).وروايات من أمريكا اللاتينية . (وأحلام مستغانمي . وحيدر حيدر) وكانت قصصهم تترك فيه أثراً عميقاً.
وكان معجباً (بسلفادور دالي ولوحاته ) .
أعجب (بجان بول سارتر ووجوديته ،وأندري بريتون) وسرياليّته الشعريّة المدهشة .
أتذكر ذلك منذ خمس وثلاثين سنة . هؤلاء الكتاب والفنانين، إضافة للعديد من الروائيين الروس، أثروا بفكره وصقلوا معرفته بالأدب والفن في تلك المرحلة.
رسم صلاح العديد من اللوحات الفنيّة بتقنيّات مختلفة، من مشاهد واقعيّة وشخصيات شعبية ومشاهد من المقاهي وأسواق دمشق، ونقل بعض لوحات الاستشراق رغم عمله في مشاريع الاتصالات البصرية ، التي تأخذ منحاُ آخر من حيث المواضيع والتكنيك ومواد التنفيذ .
وأعجب بالرسوم القصصيّة، وأغلفة الكتب والإعلانات السينمائية، التي كان ينفّذها الفنانون العالميون .
وكم شعر بالإعجاب والدّهشة ! حين اطلع على أعمال الفنان الأمريكي "فرانك افرازيتا" في كتيب مصور متميز بلوحاته القصصيّة الخرافيّة.
كان عنده هاجس قويّ للاطلاع على الفنون الاوربية الحديثة " فن الكولاج . والمكس ميديا . وفن الدجتل . و المفاهيمية المحدثة " هذه الفنون تخدم إبداعه في تصميم ملصقاته الاعلانية والتصميم للشعار أو المنتج المؤسساتي (اللوغست).
تعرّفَ على الفنون الإفريقيّة ، على رسومها الرمزيّة،وتعاويذها والأقنعة الإفريقيّة المتميّزة، المغرِقة في القِدم وأعجِب ببدائيّتها وروحانيّتها.
كان يحاول قدر الامكان أن ينعتق من القضايا اليوميّة، وهموم الحياة ويلوذُ بأشعار محمود درويش ومظفر النواب وأحمد مطر، ويستغرق بالغناء العراقي الذي كنا نغنيه سويّاً.
أّجبِر إثناءَ الأحداث القاسية في سورية على السفر إلى مصر، ثم إلى تركيا ليقيم مشغلاً صناعيّاً للتحف الفنيّة، التي كانت تُصنع في حلب ودمشق ، وتعتمد على فن التصديف والعجمي والحفر على الخشب، ومعالجته بالتعتيق وورق الذهب والتقنيات القديمة المختلفة، وهذا أكسبه خبرة ومهارة في تقنيات متعددة وتجريب خامات جديدة.
وفي فترة تواصلي معه عن بعد خلال العشر سنوات الأخيرة. أرسل لي العديد من التحف والأيقونات الفنية التي صممها، إضافة للوحات الواقعية التي أنجزها في تركية ومصر.
المتأمل في أعمال صلاح و مرحلته الحالية سيلاحظ ما يلي :
" * الاستغراق في التجريد والاختزال والاطلاع على نتاج الفنانين التجريدين أمثال " كاندسكي وإخوان ميرو وجرج براك " وكيفية تعاملهم مع التكوين وتوزيع العناصر الهندسية داخل اللوحة .
* الغاء المنظور اللوني والهندسي.
*الاعتماد على القليل من الألوان لتصدير المضامين وتشكيل التكوين.
* الاتكاء على الأبيض والأسود لتجسيد الفكرة ، لتكون أشد أثراً على المتلقي.
*بحكم ممارسته لفن الإعلان والزنكو غراف فقد ظهر هذا التأثر في نتاجه الأخير، أكثر من الحس التشكيلي التصويري في اللوحة المعتادة، فاستغنى عن العديد من العناصر الفنيّة التي كانت تبني اللوّحة الكلاسيكية.
* التأثر بالرمزية والتأثيرية في عمله .
*وفي العديد من لوحاته، نلمح جسداً بشريّاَ أو عضواً من أعضائه تجرّدَ وتشوَّه تعبيريّاً ودخل في سياق اللوحة، كعنصر مهم فيها .
* وفي لوحات أخرى يود صلاح أن يطرح مفاهيم فلسفيّة عميقة تظهر بمنتهى البساطة والتكثيف. .
* بعض الأعمال يحسُّها الناظر وكأنها تحاكي الأيقونات والتمائم البدائية للإنسان القديم، الذي كان يعبِّر من خلالها عن هواجسه وأحلامه ،بمنتهى الرمزيّة والجرأة على جدران الكهوف.
* صلاح يصنف فناناً مفاهيمياً باعتقادي، فهو يريد أن يعبر عن الفكرة مكثفة ومختزلة تماماً، بأبسط العناصر والاشكال وبتقنيات معتادة.
* وأحياناً يكون هاجسه كيف أستطيع أن أعبر عن مشاعري بخطوط فقط أو بكتلة منقسمة أو ممزقة إلى نصفين؟ كيف أعبر عن الشعور بالعزلة أو بالفقد والانعتاق من خلال رسم كتلة في فضاء التكوين مثلاً؟.
* بعض لوحات صلاح نتيجة طرحه هذا توصله إلى برزخ قوامه، هل قدمت عملاً فيه محتوى حسي حقيقي وله قيمة فنيّة ؟ أو وقعتُ في الوهم بأن هناك قيمة إبداعية لهذه اللوحة؟ .
* يريد الفنان من المتلقي أن يكون مبدعاَ حاذقاً في تأويل ما يراه وفي التقاط حسِّ اللوحة التعبيريّ ودلالات محتواها.
* نشأته في حلب بالقرب من الده الذي كان بحوزته مكتبة زاخرة بالكتب الفنية، جعل صلاح يتعرف على نتاج الكثير من الفنانين المحليين مبكرا ويلتقي بهم أمثال لؤي كيالي، وفاتح المدرس و فنانين حلب عموماً، وهذا جعله قابلاً لتخطي القوالب النمطيّة ، في طرح العمل الفني المحدث وتوّاقاً لإبداع كل ماهو جديد .
واذا ما حاولنا أن تستحضر بعض الشواهد من لوحاته ونتحدث عنها فسنأخذ اللوحة
اللوحة (رقم 1)
وهي مثال جميل على حب صلاح للألوان المائية، واحدة من عدة لوحات متميزة، قام برسمها على مدار سنين طويلة، فيها من الواقعية المحببة ، ومن الحس الرومنسي في التنفيذ، وفيها بوح عاطفي لمن يراها. شاطئ بديع فيه سفن ومجموعة من الناس حولها وقد ضمنت في الملف عددا من اللوحات تشبه هذا النهج في سيرورة عمله.
اللوحة (رقم 2)
و نّصفها بما يلي :" جسدٌ بشريّ مجرد ومختزل، مرسوم بالأحبار السوداء و متشظي في فضاء اللوحة ، وكأنه يتحول إلى سحابة من الدخان، ومن حوله معالم مكانيّة يخالط هذا السواد، اللون البرتقاليّ بتهويمات خفيفة، في أماكن مدروسة، وكأن هذا اللون يربط جسراً بين المتخيل والواقعي، ويكمل العمل فنيّاً، لينتشلنا من السواد قليلاً. الخطوط الشاقوليّة والمستوية الدقيقة تزيد المشهد نزقاً وتوترتاً وتشعرنا بهم وقلق وجوديٍّ. اتى البناء في اللوحة قوياً ومدروساً وستطاع أن يؤدي وضيفته في البوح.
يحاول صلاح أن يعبر من خلاله، عما يقع على هذا الجسد من ضغوط وألآم من خلال الوضع المحيط به، بأداء تعبيري قدم لوحتَه ونقل صوت معاناته .
اللوحة (رقم 3)
كتلتان صخريتان تشدهما إلى بعضيهما خيوط متوترة تخترق جداراٌ يفصل بينهما، ويجذبهما إليه. تحسُّ بهلاميتهما وبأن هذه الخيوط نسيج حيُّ أو شرايين تشد الكتلتين إلى الجدار، وإلى بعضهما بعنف، ورغم هذا الجذب فان توازناً مؤقتاً ينشأ في هذا المشهد. اللوحة تذكرني بأعمال النحات "ديفيد بورش" ومنها منحوتة معروضة في نهاية المقال .تمثل عارضتين طويلتين متقابلتين، عُلقت صخرة في أعلاهما ، ورُبطت بوتد لحجر كبير يشدها إلى الأسفل، يحس الناظر إليها بقلق السقوط و يخشى من اختلال هذا التوازن القلق ، وتقودك فوراً إلى عمق التفكير الفيزيائي خصوصاً ،والهم الوجودي عموماً. كذلك هو الحال في لوحة صلاح. هاتان الكتلتان التي تشدهما الخيوط إلى بعضهما وإلى الجدار، فيهما خصوصية الجذب والتوازن والحركة والتغيير كل هذا يشعرك بالقلق من التكوين وأن تغيّراً عميقاً سيحطم كل شيء . إن هذا العمل فلسفي، وفيه من الديالكتيكيّة والهم الوجودي الكثير ، و يثير فيك مشاعر إنسانية غامضة، تسقطها على علاقاتك مع الأخرين وعلى انتمائك للأشياء وعدم قدرتك على الانسلاخ عما يؤرقك من الأشخاص بسبب ارتباطك العاطفي بهم مثلاً .
نحس في أعماله إذا ما قرناها بالشعر أو القص وبحثنا عما يشبهها فيهما ، أنها تشبه شعر الومضة. أو الصرخة، أو الهايكو الياباني من خلال تكثيفها العالي و رمزيتها وتعدد مضامينها .
اللوحة (رقم 4)
الرماديّ المزرقُّ , البنيُّ المنطفئ القصيُّ، والابيض الشاحبُ المتأثّر بما حوله من الألوان، مضافاً اليهم الرمادي الغامق المطفأ الذي يحتضن الجميع ويمثل خلفية اللوحة ،هذه الألوان كوَّنت العمل، أما الأشكال الهندسية التي تضمنها ، دائرتين في الوسط، وخط عريض رماديّ يفصلهما، وفسحتين من الضوء عريضتين عل شكل حرف اللام، وكتلة شبهُ مربعة على الجانب اليسار والأعلى من اللوحة. يتساءل الناظر للوهلة الأولى عن التأويلات الممكنة من مشاهدة المفردات ، فيتبادر لذهنه ما يلي هل هو باب عتيق بهذا التصميم؟. أو تبسيط هندسي لشكل الوجه؟ أم أن الحسابات الذهنية أعقد من هذا وذاك ؟.
هل هي دوّامة فكريّة لتداعيات خواطر الذاكرة، ضمن نمطيّة تفكير معينه ؟. أم هي مشهد من حلم ؟ لشخص أنهكته حوادث دهره وانطفأت انفعالاته وتجردت تماماً له على هذه الشاكلة. هل هي رسم لطفل متوحد حزين؟ هكذا يحسّ بالأشياء من حوله .
العمل ينفتح على تأويلات كثيرة ،ولا عجب أن نرى أعمالاً من الفنانين في هذه المرحلة من حياة البشرية، على هذا الشكل، فلننظر إلى تناقضات الحياة والأعباء الكثيرة التي تقع على عاتق الانسان، والصراعات الدمويّة على سطح كوكبنا، وسيطرة التكنولوجيا والذكاء الصناعي على أحاسيس البشر، واستلابهم من قبل عالم الآلات وضجيجها، واختناق الانسان من تلوث المصانع ومحاولة الفنان أن يبقى متمسكا بما هو انساني، ويتعاطف مع الاشياء الروحيّة ويبحث عنها. ألا يحتاج إلى لغة فنية مغرقة في التجريد والرمزية ليعبر عن كل هذا؟ والمتأمل بحس عميق للوحة سيشعر من خلالها أنّ هناك بوح انسانيّ ،فيه خصوصيّة عاليّة .
اللوحة (رقم5)
لوحة الكرسي النحيلة الصغيرة، التي يحيط بها اللون الأحمر وكأنه يعتصرها ،ألا تعيدنا إلى كرسي الفنان المفاهيمي "جوزيف كوزوث" وهي بتواجدها على هذا الشكل وبمفردها تثير فينا مشاعر عديدة، وتنفتح على عدة تأويلات .فتشعرك بالعزلة والهجر وبغياب كل من كان يقصدها للجلوس عليها، أحسها تصرخ: :"تعالوا إلي ثانية فقد كنت أسرُّ بوجودكم " ولعلها كرسي الأب الذي ارتحل إلى الأبد أو المحبة العاشقة التي غادرت ولن تعود أبداً.
اللوحة (رقم6)
في هذه اللوحة يؤنسن صلاح المكان، فتحس هذه الكتل البنائيّة وكأنها أشخاص، وبنفس الوقت آثار بيوت. وكأنه يقول إن للأمكنة أرواح تتجاور وتأنس لبعضها ، ولا يحس بها ويجسدها إلا الفن. أم أن الأجساد تجمّدت في الذاكرة وتحولت إلى آثار بيوت، وهذا يرجعني إلى عمل رائع (لسفادور دالي) بعنوان (ذكريات أثريّة من ملاك) والمستوحى من عمل الفنان (جان ميليت) بعنوان (صلاة المساء)
وكان موضوع اللوحة ، أن المرأة تقدم التحيّة والعرفان لزوجها، بعد حصاد الحقل، وتقف أمامه بانحناء شاكرة له تفانيه في العمل.
لقد حول سلفادور هذه اللوحة إلى أيقونة جديدة ، والناظر إليها يحس أنه يريد تخليد هذه اللحظة . وكأن الجسدين تجمدا في الحقل عند المساء للأبد، وهذا التحول له عدة دلالات وإيحاءات بديعة ويتسم بالسريالية والشاعرية الغامضة الشفافة .
ونجد عند صلاح العديد من اللوحات تأخذ هذا النهج في البوح وأن كانت لها خصوصيتها العالية وتنوع طروحاتها .
اللوحة (رقم7)
وقد سماها (أصداء زهرية)
كتل حمراء صغيرة مشدودة إلى بعضها و مندغمة تماماً لا يفصل بينها سوى خطوط شفيفة بيضاء والناظر إليها يحسها اضمامة زهور صغيرة كأني بالفنان يهمس لنا من خلال لوحته أصداء زهرية "كم تشبه هذه الورد القليلة الذاوية قلبي ".
الحديث يطول عن بوح ودلالات أعمال صلاح، وأعتقد أن الحديث عن العمل التجريدي التعبيري يقيده، فهو يحتمل عدة تأويلات ويتضمن العديد من المشاعر، وكما يعلم القارئ فمن أعقد الأمور أن تحول هذه اللغة البصرية المختزلة والغامضة إلى كلام .
وقد حاورتُ الفنان وألقيتُ عليه الأسئلة التالية :
*الكثير من الفنانين ينوّعون تقنيات تنفيذ العمل، أو يلجؤون إلى تقنيّة خاصة بهم ما رأيك بذلك ؟.
لا تشغلني تقنيّة العمل عن تنفيذه بعفويّة، ولا عن الهاجس الملح في بلورته على سطح اللوحة، وإذا احتجت إلى تقنية ما فلا أدعها تستحوذ عليّ، وتمتلكني لكي لا تصبح أعمالي نمطيّة تستحوذ عليها تقنيّات معيّنة في التنفيذ، ما يهمني هو مضمون العمل، والمفاهيم التي طرحتُها من خلاله. لا أود للمشاهد أن يكون مأسوراً بآليات التنفيذ ،بل بدلالات عناصر العمل.
* ما الذي تودُّ أن تبوح به من خلال لوحاتك في هذه المرحلة ؟
إن إحساس الإنسان في هذه المرحلة بانهيار القيم الفكرية، وطغيان العالم الصناعيّ التكنولوجيّ عليه ،وجعله كائن استهلاكي يسعى لتأمين حاجاته، وبأنه محدود وضعيف أمام تحولات عظيمة تمر بها البشرية ،وأزمات مخيفة تفوق احتماله هو ما يدفعني إلى العمل ،وما تبقّى لهذا الكائن البشري من روح وانفعالات، هو ما يحثني لأعبر عنها في عملي .
علاقتي باللوحة كالطفل الذي تمنحه لعبة، فيبتهج لها ويندمج باللعب فيها دون التفكير بمن يصنعها، ودون إجهاد نفسي بما تحتويه من الداخل.
كذلك لوحتي هي لعبتي المفضلة حين أباشر العمل بها أنفذها بعفوية وغبطة .
* ما علاقة الفن بالحياة
الإبداع هو جوهر الحياة، وهو المحرّك الأساسيّ لتطورها، منذ نشأة الإنسان على هذه الأرض. لولا إبداعاته في كل مجالات الحياة وعلى مر التاريخ لما أبصرتَ مدنيّات عديدة ، نشأت في أنحاء العالم. وما تبصره الأن في عالمنا المعاصر محاطا بكل هذه الصناعات هي إبداع إنسانيّ، أضف إليها أن الإنسان أمسى يمارس العديد من الفنون والأنشطة والفعاليات المختلفة .
وأنا ابن لهذه الحياة .ووليد لأفكارها ونتاجٌ لتحولات مجتمعاتها. أنا جزء منها وما يقع عليها أتأثر به بشكل أو بآخر، وأنا انعكاس عميق لما يكابده الناس في مسيرتهم للارتقاء، وفي تعثرهم أيضا.
الفنان هو روح المجتمع وبصيرته اليقظة ، وكلما أكرمت الدول والمجتمعات فنانيها، زادت ازدهاراً وتألقاً.
*كيف ينضج ويولد العمل على يديك؟
هو هاجسي الدائم. و عصارةُ انفعالاتي، ليس له زمان محدد. ويبقى مرتبطاً بما يحدثُ حولي، على الصعيد العام والشخصي وما يؤثر في داخلي. وهو نتاج قراءاتي ومشاهداتي الحياتيّة .
الفن دوماً كان ملاذي الجميل، الذي يجعلني أتصالحُ مع نفسي وأستعيد به توازني وراحة روحي.
عملي في هذه المرحلة أحسّه يولد كالومضة، أو هو صرخة مفاجئة ولدت نتيجة ضغوطات الحياة وأزماتها.
وهناك أعمال أبدعتها من خلال تأمل فكريّ وفلسفيّ ، في كينونة هذا الوجود. لوحات فكرت فيها طويلاً ،وأنجزتها بسرعة لكي لا تهرب مني الأفكار وهواجسها .
*بمن تأثرت من الفنانين الذين اطلعت على نتاجهم؟
لقد اطلعتُ على العديد من المدارس الفنيّة، والفنانين المجددين وأحببتُ أساليبَ طرحهم لأعمالهم ، وتعدد موضوعاتهم ومضامينها لكنني حاولت دوماً أن أقصيهم، عندما أقوم بتنفيذ لوحاتي، وحاولت جاهداً ألا استغرق في التعاطف معهم، لكي لا أقع تحت تأثير أساليبهم ، فهم مؤثرون وعميقون أمثال " سلفادور دالي .وبيكاسو . وكاندنسكي وغيرهم" فيجب على الفنان أن يكون له خصوصيّة، وأسلوباً يميزه، وأي شيءِ يطرحهُ ،المهم أن يكون منتمياً إليه فقط وعليه بصمته.
* هل تغيير الامكنة ينعكس على اللوحة لديك؟
نعم فهو يولد انفعالات غريبة، ويخلق بصورِهِ الجديدة وشخوصه مشاهدَ غير معتادة. ويوَّلد أفكاراً ثريّةً، أستطيع أن أضمِّنها لأعمالي بشكل رمزيّ تجريديّ .
*كيف يتم لك تطويرُ عملك، وما الوسائل التي تؤدي إلى تطويره؟
بالقراءة الدائمة ،وبهاجس الاطلاع على كل ما هو جديد، وبالبحث عما له خصوصية في الواقع، بخلق علاقات إنسانيّة محببة وبمشاهدة نتاج فنيٍّ مهم لفنانين، لم أطّلع على أعمالهم هكذا يتطور عملي بشكل تلقائي .
غير أن أعباء الحياة في العشر سنوات الماضية كانت ثقيلة جداً وعرقلت قليلاً مسيرتي الفنية .
هذا هو الصديق الجميل صلاح الخال وهذه أعماله تحت أنظاركم ولكم متعة التأمل فيها .
مبارك عليك معرضك الفني المتميز و نرجوا لك مزيداً من العطاء والتألق .
ناصر زين الدين Nasser Zen Aldeen
.