خسارة جديدة تحل على السينما العربية.
رحل الفريد المتعدد، الاستثنائي الكثير.
رحل السينمائي المتفرد في تعدد هوياته الروحية والسينمائية.
رحل قيس الزبيدي الذي يحتار المرء في وضعه في مكان واحد داخل الجغرافية، وفي تصنيف واحد داخل السينما.
هو الذي نحب أن نرى أنفسنا نتنافس في سحبه كل الى جهته عند تقديمه، فهو العراقي والسوري والفلسطيني بحسب الهوية والهوى والخيار.
وهو المخرج والمونتير والباحث والناقد والأستاذ والأكاديمي. وهو الوثائقي والروائي، الكلاسيكي والطليعي، التجريدي والتجريبي.
هو قيس الزبيدي الذي ما من أحد عبر درب السينما العربية كصانع أم كناقد، كدارس أو كباحث، إلا وكان عليه أن يمر بقيس الزبيدي.
تشرفت شخصياً بالكتابة عن فيلمه الفريد "اليازرلي" في موسوعة مهرجان دبي لأفصل ١٠٠ فيلم في تاريخ السينما العربية.
وداعاً قيس الزبيدي
"اليازرلي"
رندة الرهونجي
حين نتساءل عن سبب احتفاظ بعض الأعمال السينمائية بمكانتها ضمن كلاسيكيات السينما خالدة، يحيلنا الجواب إلى زمن انتاجها، وما قدمته من رؤية انشقت عن الأنساق الأسلوبية السائدة، مما جعلها نموذجاً للأفلام الطليعية ووثيقة إبداعية مبتكرة.
فيلم "اليازرلي" 1974 سيناريو وإخراج السينمائي العراقي قيس الزبيدي، والمأخوذ عن قصة قصيرة للروائي السوري حنّا مينة بعنوان "على الأكياس"، هو واحد من تلك الأفلام التي سجّلت مغامرة في التجديد والتجريب في السينما العربية.
بدأت مغامرة التجديد في "اليازرلي" بدايةً من اختيار قصة قصيرة لتحويلها إلى عمل روائي طويل، وما يطرحه هذا النقل من صعوبة في مقاربة الجنسين الفنيين. فالقصة القصيرة القائمة عادة على التكثيف السردي والدرامي، تتناقض وهيكلية الفيلم الروائي الطويل، المبني على التعددية في مستويات السرد داخل نسيج الحدث وتفاعله الدرامي التصاعدي.
لكن "اليازرلي" قدّم رؤيته السينمائية الخاصة لقصة "على الأكياس"، فاحتفظ بفضاء النص، وبشخوص القصة وظرفها الحياتي وجوهر بؤسها الإنساني، واختار وسائط تعبير أبقت على شعرية التكثيف، وشكلت انزياحاً سينمائياً وصل إلى التجريب الطليعي أنذاك.
فأبقى المخرج على الحكاية المتمحورة حول الطفل (أكرم العابد) الذي ينتظر مع والدته (منى واصف) وأخواته الثلاث كل مساء عودة الأب (عبد الرحمن آل رشي)، الغائب في قرى الإسكندرون الجبلية التي يقصدها لبيع مشبّك الحلوى، فيؤمّن بثمنها ما يعيل أسرة تعيش معركة يومية مع الجوع والفاقة والحرمان.
يقرر الإبن ترك المدرسة ليذهب إلى العمل ليملأ فراغ المعيل الغائب الذي أصبح انتظاره أمل الأسرة الوحيد وصلاتها اليومية، فينضم إلى الفتيان الذين يعملون لدى اليازرلي (عدنان بركات)، رئيس مستودع الحبوب في المرفأ، والذي تجتمع فيه كل تناقضات وتعرجات شخصيات حنا مينة الروائية، الثرية سينمائياً.
عند المسافة التي تفصل مستودع الحبوب عن البحر، وعلى امتداد الصقالات الحديدية، وفوق الرمال المشتعلة من لهيب الشمس الحارق، بنى قيس الزبيدي حقل صياغاته البصرية، فعمد إلى بناء مشهدية تتخذ من حجم اللقطات وزوايا التصوير وحركة الكاميرا وإيقاعها بؤرة التوظيف الدلالي لفكرة الإجهاد والقهر والإستغلال.
تدفع الصدفة لاكتشاف أن الطفل يجيد الكتابة بالأحرف العربية والأجنبية، وهو ما سيحوله من حمّال إلى كاتب على أكياس الحبوب. يقف قيس الزبيدي عند هذه المرحلة من حياة بطله الصغير، ولن يكمل السرد باتجاه مصيره بعد سنوات من عمله في المرفأ كما فعلت أحداث القصة التي حكت فصلا من فصول السيرة الذاتية لكاتبها. بل سيبقى "اليازرلي" في فضاءالمرفأ، جاعلاً منه مركز البناء الحكائي لفيلمه. وسينطلق من هناك إلى مستويات لا تعنيها تتمة الحكاية، بقدر ما تُعنى بإلتقاط اللحظة الراهنة وتكبيرها من خلال إعادة صوغ الجوهر القصصي سينمائياً.
أمعن "اليازرلي" في كسر القوالب ليحيل الفيلم إلى حقل "تجريبي"، رغم الإشكالية التي يطرحها هذا المصطلح على تبدل دلالاته. ابتداءاً من تسميته بالفيلم "الطليعي" في عشرينات القرن الماضي، إلى فيلم "العالم السفلي" في ستيناته، بقي الفيلم "التجريبي"يغطي نطاقاً واسعاً من الأساليب الفنية، لكن خصائصه بقيت في جميعها محددة.
قارب "اليازرلي" غياب السرد الخطي في التجريب من خلال تبنيه لأشكال متعددة للسرد. واعتمد التقطيع المونتاجي الحاد والسريع والذي يشكل سمة أساسية من سمات الإيقاع التجريبي، مذكّرا بتخصص مخرجه الأكاديمي في المونتاج والذي جعل منه في "اليازرلي" البطل الشكلي للفيلم. فعكس من خلال تنقلاته الحادة بين مشاهد الواقع والحلم والذكريات، صراع الطفل الداخلي في عالم موحش لا زال يبحث لنفسه فيه عن مخرجٍ نفسي آمنٍ.
لكن "اليازرلي" لعله في مزجه بين الأنواع السينمائية قد بدا أقرب إلى "التجديد". فنراه يتنقل بين واقعية السينما الإيطالية الجديدة، مع الأولاد في أزقة المدينة الساحلية، وبين أداء مسرحي بريختي يسعى إلى تغريب المشاهد في طريقة أداء الممثلين لحواراتهم، وبين اعتماد قطع للتسلسل الزمني الواقعي من خلال لقطات فلاش باك للحلم بالأب البعيد، وبين الفانتازيا الدلالية في مشهد العربة التي تحمل الأخت الغائبة. ويتخلل كل ذلك، عبوراً عبثياً لشخصية مجنون المدينة (عصام عبه جي) كناقل للتهويمات الإيروتيكية، والتي ذهب فيها الزبيدي بجرأة إلى أبعد مما ذهبت إليه القصة نفسها، وهو في ذلك قد حمّل الفيلم الزخم الإيروتيكي الذي تضمنه أدب حنا مينة.
فيلم "اليازرلي" حالة خاصة في السينما السورية، وبصمة في السينما العربية، تأتي دوما لتذّكر أن ما استطاعت تحقيقه سينما القطاع العام في سبعينات القرن المنصرم من مغامرات انتاجية في زمن انفتاح ثقافي وفكري، من فرادة وطليعية وحداثة، أتى متناغما مع محيطه العربي، لم يكن لجهة انتاجية أخرى أن تراهن عليه. وبقيت تلك الأعمال السينمائية من أهم أفلام تاريخ السينما العربية.
رحل الفريد المتعدد، الاستثنائي الكثير.
رحل السينمائي المتفرد في تعدد هوياته الروحية والسينمائية.
رحل قيس الزبيدي الذي يحتار المرء في وضعه في مكان واحد داخل الجغرافية، وفي تصنيف واحد داخل السينما.
هو الذي نحب أن نرى أنفسنا نتنافس في سحبه كل الى جهته عند تقديمه، فهو العراقي والسوري والفلسطيني بحسب الهوية والهوى والخيار.
وهو المخرج والمونتير والباحث والناقد والأستاذ والأكاديمي. وهو الوثائقي والروائي، الكلاسيكي والطليعي، التجريدي والتجريبي.
هو قيس الزبيدي الذي ما من أحد عبر درب السينما العربية كصانع أم كناقد، كدارس أو كباحث، إلا وكان عليه أن يمر بقيس الزبيدي.
تشرفت شخصياً بالكتابة عن فيلمه الفريد "اليازرلي" في موسوعة مهرجان دبي لأفصل ١٠٠ فيلم في تاريخ السينما العربية.
وداعاً قيس الزبيدي
"اليازرلي"
رندة الرهونجي
حين نتساءل عن سبب احتفاظ بعض الأعمال السينمائية بمكانتها ضمن كلاسيكيات السينما خالدة، يحيلنا الجواب إلى زمن انتاجها، وما قدمته من رؤية انشقت عن الأنساق الأسلوبية السائدة، مما جعلها نموذجاً للأفلام الطليعية ووثيقة إبداعية مبتكرة.
فيلم "اليازرلي" 1974 سيناريو وإخراج السينمائي العراقي قيس الزبيدي، والمأخوذ عن قصة قصيرة للروائي السوري حنّا مينة بعنوان "على الأكياس"، هو واحد من تلك الأفلام التي سجّلت مغامرة في التجديد والتجريب في السينما العربية.
بدأت مغامرة التجديد في "اليازرلي" بدايةً من اختيار قصة قصيرة لتحويلها إلى عمل روائي طويل، وما يطرحه هذا النقل من صعوبة في مقاربة الجنسين الفنيين. فالقصة القصيرة القائمة عادة على التكثيف السردي والدرامي، تتناقض وهيكلية الفيلم الروائي الطويل، المبني على التعددية في مستويات السرد داخل نسيج الحدث وتفاعله الدرامي التصاعدي.
لكن "اليازرلي" قدّم رؤيته السينمائية الخاصة لقصة "على الأكياس"، فاحتفظ بفضاء النص، وبشخوص القصة وظرفها الحياتي وجوهر بؤسها الإنساني، واختار وسائط تعبير أبقت على شعرية التكثيف، وشكلت انزياحاً سينمائياً وصل إلى التجريب الطليعي أنذاك.
فأبقى المخرج على الحكاية المتمحورة حول الطفل (أكرم العابد) الذي ينتظر مع والدته (منى واصف) وأخواته الثلاث كل مساء عودة الأب (عبد الرحمن آل رشي)، الغائب في قرى الإسكندرون الجبلية التي يقصدها لبيع مشبّك الحلوى، فيؤمّن بثمنها ما يعيل أسرة تعيش معركة يومية مع الجوع والفاقة والحرمان.
يقرر الإبن ترك المدرسة ليذهب إلى العمل ليملأ فراغ المعيل الغائب الذي أصبح انتظاره أمل الأسرة الوحيد وصلاتها اليومية، فينضم إلى الفتيان الذين يعملون لدى اليازرلي (عدنان بركات)، رئيس مستودع الحبوب في المرفأ، والذي تجتمع فيه كل تناقضات وتعرجات شخصيات حنا مينة الروائية، الثرية سينمائياً.
عند المسافة التي تفصل مستودع الحبوب عن البحر، وعلى امتداد الصقالات الحديدية، وفوق الرمال المشتعلة من لهيب الشمس الحارق، بنى قيس الزبيدي حقل صياغاته البصرية، فعمد إلى بناء مشهدية تتخذ من حجم اللقطات وزوايا التصوير وحركة الكاميرا وإيقاعها بؤرة التوظيف الدلالي لفكرة الإجهاد والقهر والإستغلال.
تدفع الصدفة لاكتشاف أن الطفل يجيد الكتابة بالأحرف العربية والأجنبية، وهو ما سيحوله من حمّال إلى كاتب على أكياس الحبوب. يقف قيس الزبيدي عند هذه المرحلة من حياة بطله الصغير، ولن يكمل السرد باتجاه مصيره بعد سنوات من عمله في المرفأ كما فعلت أحداث القصة التي حكت فصلا من فصول السيرة الذاتية لكاتبها. بل سيبقى "اليازرلي" في فضاءالمرفأ، جاعلاً منه مركز البناء الحكائي لفيلمه. وسينطلق من هناك إلى مستويات لا تعنيها تتمة الحكاية، بقدر ما تُعنى بإلتقاط اللحظة الراهنة وتكبيرها من خلال إعادة صوغ الجوهر القصصي سينمائياً.
أمعن "اليازرلي" في كسر القوالب ليحيل الفيلم إلى حقل "تجريبي"، رغم الإشكالية التي يطرحها هذا المصطلح على تبدل دلالاته. ابتداءاً من تسميته بالفيلم "الطليعي" في عشرينات القرن الماضي، إلى فيلم "العالم السفلي" في ستيناته، بقي الفيلم "التجريبي"يغطي نطاقاً واسعاً من الأساليب الفنية، لكن خصائصه بقيت في جميعها محددة.
قارب "اليازرلي" غياب السرد الخطي في التجريب من خلال تبنيه لأشكال متعددة للسرد. واعتمد التقطيع المونتاجي الحاد والسريع والذي يشكل سمة أساسية من سمات الإيقاع التجريبي، مذكّرا بتخصص مخرجه الأكاديمي في المونتاج والذي جعل منه في "اليازرلي" البطل الشكلي للفيلم. فعكس من خلال تنقلاته الحادة بين مشاهد الواقع والحلم والذكريات، صراع الطفل الداخلي في عالم موحش لا زال يبحث لنفسه فيه عن مخرجٍ نفسي آمنٍ.
لكن "اليازرلي" لعله في مزجه بين الأنواع السينمائية قد بدا أقرب إلى "التجديد". فنراه يتنقل بين واقعية السينما الإيطالية الجديدة، مع الأولاد في أزقة المدينة الساحلية، وبين أداء مسرحي بريختي يسعى إلى تغريب المشاهد في طريقة أداء الممثلين لحواراتهم، وبين اعتماد قطع للتسلسل الزمني الواقعي من خلال لقطات فلاش باك للحلم بالأب البعيد، وبين الفانتازيا الدلالية في مشهد العربة التي تحمل الأخت الغائبة. ويتخلل كل ذلك، عبوراً عبثياً لشخصية مجنون المدينة (عصام عبه جي) كناقل للتهويمات الإيروتيكية، والتي ذهب فيها الزبيدي بجرأة إلى أبعد مما ذهبت إليه القصة نفسها، وهو في ذلك قد حمّل الفيلم الزخم الإيروتيكي الذي تضمنه أدب حنا مينة.
فيلم "اليازرلي" حالة خاصة في السينما السورية، وبصمة في السينما العربية، تأتي دوما لتذّكر أن ما استطاعت تحقيقه سينما القطاع العام في سبعينات القرن المنصرم من مغامرات انتاجية في زمن انفتاح ثقافي وفكري، من فرادة وطليعية وحداثة، أتى متناغما مع محيطه العربي، لم يكن لجهة انتاجية أخرى أن تراهن عليه. وبقيت تلك الأعمال السينمائية من أهم أفلام تاريخ السينما العربية.