الكاتب/ـة :
موليم لعروسي
المحاور/ة :
عبد الحقّ لَبيض
* كلُّ فنّ يبحث عن لحظة تأسيس. غير أنّنا نلاحظ، في سياق البحث في تاريخ الفنّ التشكيليّ المغربيّ، أنّ الأمر ليس بالسهولة التي تعرفها الأشكالُ التعبيريّة الأخرى. فإلامَ تُرجعون ذلك؟
ــــ الأسباب متشعّبة، لكنّنا نحصرها في سببيْن رئيسيْن. أوّلًا: نقص المعلومة التاريخيّة. وثانيًا: أنّ ما حدث في الفنون التشكيليّة سبق حصولَ المغرب على استقلاله، بحيث لم يسمح لنا الكمُّ المتوفِّر، ولا الانشغالُ المؤطِّر لسيرورة التكوّن، بالحديث عن "لوحة التأسيس."
ولكنْ يمكن الاستشهادُ بأعمال بنعلي الرباطي، وهو من مواليد القرن التاسع عشر. صحيح أنه ظهرتْ لوحاتٌ في الثلاثينيّات والأربعينيّات، غير أنّها كانت متفرّقةً من حيث الزمان، ومتباعدةً في أشكالها الجماليّة، بحيث لم تستطع أن تشكّل تيّارًا فنّيًّا قويًّا يمكن أن نعتبره بداياتٍ تأسيسيّةً واعيةً لسيرورة اشتغاله وأفقه المنتظر.
أعتقد أنّ الجدل حول تأسيس الفنّ التشكيليّ في المغرب يعتريه بعضُ الغموض لكونه جدلًا محكومًا بإكراهاتٍ إيديولوجيّة. فأوّل الذين اهتمّوا بهذا الفنّ وبلوروه في حواملَ مستقلّة ومتميّزة هم الفنّانون الأجانب الذين استوطنوا المغربَ وانبهروا بطبيعته وعمرانه وأنماطِ حياته وعكسوها في أعمالهم. لذلك فإنّ السؤال الذي يجب أن يُطرح هنا هو: هل نستند في تأريخنا للفنّ التشكيليّ المغربيّ إلى قوانينَ خارج العمل الفنيّ، وتتحكّم فينا نوازعُ إيديولوجيّة، أمْ نرتهن إلى الاشتراطات الموضوعيّة التي شكّلت الإطار المرجعيّ للعمل التشكيليّ لدى هؤلاء الفنّانين "المستشرقين" الملتحمين بالمغرب وثقافته؟
مثلُ هذه الأسئلة لم يكن مسموحًا صوغُه في عهد الاستقلال لأنّ كلَّ ما ارتبط بالمستعمِر كان مرفوضًا، وكان الكلّ يبحث عن "البصمة المغربيّة" الحاملة لتوقيع الانتماء الأصيل إلى الأرض والإنسان المغربيّيْن. لكن اليوم، بعد كلّ هذه السنوات من الاستقلال وفكّ الارتباط بذلك الحسّ الوطنيّ الجيّاش، لا بدّ لنا من إعادة التأمّل في مسار تشكّل تاريخ الفنّ التشكيليّ المغربيّ، فنعترف بأنّ ما أنتجه الأجانب، ومنهم فنّانون لم يغادروا المغربَ حتى لحظة الوفاة، هو فنٌّ مغربيٌّ أصيل.
أنظرْ إلى ما يجري اليوم في حقل الرياضة، حيث يتمّ التهافتُ على اللاعب من أصولٍ مغربيّة، علمًا أنّه لم يولد في المغرب ولم يترعرع فيه، وربّما لم يزره ولو مرةً واحدة، ومع ذلك نعتبره وطنيًّا يشرِّف المغربَ بإنجازاته. فما بالنا بما أنجزه أجانبُ ارتبط عملُهم بالأرض والإنسان والهويّة في المغرب؟ كيف لنا ألّا نعتبر إنجازَ ماجوريل في مرّاكش، حاضنتِه الأبديّة، إبداعًا مغربيًّا؟ كيف ننكر انتماءَ أعمال ماريانو بيرتوتشي إلى الفنّ المغربيّ؟ علينا ألّا نرتكب الخطأ الذي اقترفته الحضارةُ العربيّة الإسلاميّة حين تنكّرتْ لكلِّ ما هو "جاهليّ" لا يتوافق مع قيمها ومعتقداتها وتركته للأوروبيّين، فتبنّوه فيما بعد مثلما تبنّوا الحضاراتِ الأخرى واعتبروها أصولًا لحضارتهم.
ولننظرْ أيضًا إلى حجم الرفض الذي واجه الفنَّ التشكيليّ الفطريّ لا لشيءٍ إلّا لأنّ مبدعيه تلامذةٌ لهؤلاء المستشرقين، فصُنِّف، تبعًا لذلك، فنًّا استعماريًّا يَعكس رؤيةَ المستعمر ومطامعَه؛ الشيء الذي ألغى كلّ اعتبار لجماليّات هذا الفنّ، وظلم الفنّانين الذين انخرطوا في موجته.
* لكنْ في هذه الحالة سنكون أمام سؤالٍ أكثر استعصاءً: فهل يمكن اعتبارُ ما أنتجه المستشرقون في مجالاتٍ معرفيّةٍ أخرى إنتاجًا مغربيًّا أو عربيًّا ما دام قد اتّخذ من المغرب أو من العرب منطلقًا له وموضوعًا لدراسته؟
ــــ أحيلك على ما أنتجه روّادُ الفكر العربيّ، ولنأخذْ على سبيل المثال كتاب فجر الإسلام لأحمد أمين. أليس هذا مرجعًا يُعتدّ به في ثقافتنا وفكرنا العربيّيْن؟ عد إلى أهمّ مراجعه التأسيسيّة، تجدْها كلّها استشراقيّة. معنى ذلك أنّ بدايات فكرنا العربيّ لا تخرج عن التأطير المعرفيّ الذي وَجّه الفكرَ الاستشراقيّ. فكرة القوميّة العربية نفسها، ألم يؤدِّ الفكرُ الاستشراقيّ دورًا حاسمًا في بلورة مشروعها ورسم أبجديّاته الأولى؟ ألم يخطّط المستشرقون، ووراءهم القوى السياسيّة الغربيّة، لفصل العرب عن مركز الخلافة العثمانيّة من أجل إضعاف سطوتها وامتدادها، بإذكاء النعرة العربيّة والعداءِ لكلّ ما هو عثمانيّ؟ بل هناك باحثون يؤكّدون اليوم أنّ بروز النزعة الإسلامويّة يعود، في جزءٍ كبيرٍ منه، إلى ما قام به المستشرقون من "تمجيدٍ مبالَغٍ فيه" للإسلام وللحضارة الإسلاميّة، ما ذكّى الإحساسَ بعظمة الأمّة الإسلاميّة وبمجدها التليد وبضرورة العودة إلى منابعها المضيئة لتأكيد هويّة الانتماء إليها واتخاذها منطلقًا لبناء الذات.
طبعًا الفرق بين المستشرقين الكتّاب، والمستشرقين المصوِّرين، أنّ الأولين لم ينتجوا روايةً أو مسرحيّةً بالعربيّة، في حين أنّ الآخرين أبدعوا أعمالًا فنيّةً. ويكفي أن نعود إلى الكنانيش التي كان يدوِّن عليها هؤلاء المستشرقون آراءهم من المغرب لنكتشف حبَّهم العميقَ للمغرب، ولثقافته وحضارته، خصوصًا أنّهم كانوا يعتبرون الحضارة المغربيّة الحضارة الوحيدة التي لم "تدنّسها" الحضارةُ العثمانيّة.
* هل يعني ذلك أنّ الفنّ التشكيليّ المغربيّ مجرّدُ وليدٍ للاصطدام مع الغرب، أم أنّ ثمّة عواملَ داخليّة وخاصّة ساهمتْ في أسباب النشأة والتطوّر لكي يبدو هذا الوليد متميّزًا بخصوصيّاته الثقافيّة والجماليّة؟
ــــ يصعب أن نعثر على الزمان الذي بدأ فيه الانتقال نحو "الفنّ" كما يراه الغرب، خصوصًا إذا سلّمنا بأنّ للفنّ المغربيّ منبعيْن أساسييْن: 1) الصنائع والحِرف والعمارة المغربيّة؛ و2) التأثير الغربيّ (الأوروبيّ تحديدًا) الذي أثار الانتباهَ إلى أنّ بإمكان رسمٍ أو تزويقٍ معيّن أن يُتأمّل لذاته، وألّا يكون مرتبطًا بشيءٍ آخر أداتيّ، مثل الصندوق الخشبيّ، أو الزربية، أو الفسيفساء على الحائط. فلقد بدأ يُنظر إلى العمل الفنيّ لذاته، ككيانٍ مستقلٍّ عن الشيء النفعيّ الذي كان يحتويه في داخله؛ وهذا ما رأيناه يتحقّق مع تيّار الفنّ الفطريّ من خلال بعض الخدم المغاربة الذين كانوا يعملون عند الأوروبيّين المقيمين، وتعلّموا الرسمَ على أيديهم، ليتحوّلوا بعد ذلك إلى فنّانين تشكيليّين يرسمون ما كانوا يتخيّلونه أو يحلمون به على ورقٍ مستقلّ، ثمّ يضعون له إطارًا ويعلّقونه على الجدار.
(الفنّان الراحل فريد بلكاهية)
إضافةً إلى هؤلاء نجد ثلّةً من التشكيليّين المغاربة الذين تعلّموا على يد هؤلاء المستشرقين، إلّا أّنهم خطّوا لأنفسهم مساراتٍ مستقلّةً، دعموها بتعليمٍ أكاديميّ أو بتمرّنٍ عند فنّانين مستشرقين كبار، أمثال: الجيلالي الغرباوي، وعبد الكبير ربيع، ومريم مزيان، وفريد بلكاهية من جهة؛ ومحمد المليحي، ومحمد شبعة، من جهةٍ أخرى.
ولم يتوقّف تأثيرُ الاستشراق في هذا الإطار فقط، بل يمكن اعتبارُ ثورة هؤلاء على الاستشراق أساسيّةً في تحديد ملامح الفنّ التشكيليّ المغربيّ بعد الاستقلال. فغالبيّة فنّاني الشمال المغربيّ درسوا فنّ التصوير على يد الفنّان المستشرق برتوتشي الذي كان يَفرض عليهم طريقةً معيّنةً في الرسم؛ إلّا أّنهم ثاروا على هذه الطريقة وذهبوا إلى أوروبا ليتعلّموا طرقًا أخرى، ثمّ عادوا ليدافعوا عن اتجاهٍ حديثٍ في الفنّ، معتبرين أنّ هؤلاء المستشرقين يريدوننا أن نظلّ متخلّفين ومرتبطين بالماضي، بينما العالم يتقدّم نحو المستقبل.
* لكنْ في خضمّ صراع الأنا والآخر داخل اللوحة الفنّيّة، أمكننا الحديثُ تاريخيًّا، لا إيديولوجيًّا، عن لوحةٍ مغربيّةٍ، مستقلّةٍ لذاتها، وتُتأمّل في ذاتها.
ــــ إذا أردنا أن نتحدّثَ بهذه المعايير أمكنتنا الإشارةُ إلى بنعلي الرباطي وعبد السلام الفاسي بن العربي، اللّذيْن يعدّان أوّلَ فنّانيْن أنتجا لوحةً فنّيّةً تشكيليّة. وإذا عدنا إلى الرباطي فسنجد أنّ ما أنتجه كان لصالح المستشرقين، إذ استغلّه هؤلاء ليرسم ما في داخل البيوت المغربيّة من مواقف يصعب ولوجُهم إليها.
أمّا بصدد أوّل لوحةٍ وصلتنا أخبارُها الموثوقة، فيمكننا الحديث عن اسميْن كبيريْن: محمد بنعلال وفريد بلكاهية؛ وقد نضيف إليهما الجيلالي الغرباوي. هؤلاء هم الفنّانون الذين أحدثوا ثورةً فنيّةً انطلاقًا من نهاية الأربعينيّات لأنّهم وضعوا اللوحةَ في مركز الاهتمام الفنّيّ على مستوى التلقّي والنقد.
* ذكرتم تيّار الفنّ الفطريّ الذي لا يمكن مؤرِّخَ الفنّ أن يمرّ عليه مرورَ الكرام، على الرّغم ممّا قيل فيه من أنّه فنٌّ استعماريٌّ واستشراقيّ. ما الأثر الذي تركه الفنُّ الفطريّ في تأسيس قواعد الفنّ التشكيليّ المغربيّ؟
ــــ في أوروبا، كان الفنّ تابعًا للدين، وكان الفنّان مجبرًا على أن يأتي الكنيسةَ ليرسم على جدارها. لكنّه، بعد سلسلة تغيّراتٍ اجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة، بدأ يعمل داخل مرسمه وينقل ما أنتجه على الخشب (أو على أيّ سندٍ آخر) إلى الكنيسة. الشيء ذاته، وإنْ بسيرورةٍ مختلفة، وقع عندنا في الضفة الجنوبيّة للبحر المتوسّط، حيث كانت الحِرَف تتطوّر بشكلٍ خطّيّ، إلى أن توقّفتْ بعد اكتسحتها المنتجاتُ الأوروبيّة. غير أنّ دخولَ الاستعمار جعل المقيمَ العامّ الفرنسيّ آنذاك، المارشال ليوطي، يدعم الصناعةَ التقليديّة، فيستجلب أساتذةً متخصّصين من الجزائر، ويرسلهم إلى مدينة آسفي، التي شهدتْ تطوّرًا كبيرًا في صناعة الفخّار. هذا التطوّر أذكى روحَ الإبداع، الذي بدأ يأخذ أشكالًا لا تقتصر على الصنعة والحرفة.
إضافةً إلى ذلك، بدأ المغاربة ينتقلون من العيش التقليديّ إلى العيش العصريّ، ما خلق نوعًا من التفكير الجديد في العمل الفنّيّ، إذ بات المغربيّ يريد أن يراه مستقلًّا لذاته، يزيّن به بيتَه وفضاءاتِ عمله. من هنا كانت الحاجة ماسّةً إلى الفنّ التشكيليّ الحاملِ لهويّة مغربيّة وملتحم بقضايا الإنسان المغربيّ. ومن ثمّ اكتسب الفنُّ الفطريّ شرعيّةَ وجوده، وصار تعبيرًا عن الخصوصيّات الثقافيّة المغربيّة، ولا يمكن القفز عليه بدعوى أنّه فنٌّ استشراقيّ أو مدعوم من طرف المستعمِر.
* غالبًا ما انطلقت الأشكالُ التعبيريّة من فكرةٍ معيّنة وقادها مفكّرون وكتّاب لهم حضورُهم القويّ في الساحة، ولهم باعٌ في الثقافة والعلم وتقنيّات الكتابة. إلّا أنّنا في الفنّ التشكيليّ المغربيّ نجد أنّ الذين أسّسوا له كانوا، في غالبيّتهم، حرفيّين وصنّاعًا أميّين أو خدمًا في بيوت الأوروبيّين (محمد بنعلال، مولاي أحمد الدريسي، الشعيبيّة طلال). لماذا تمّ الدفع بهذه الثلّة من الفنّانين إلى واجهة التأسيس؟ ولماذا كان الغرب متحمّسًا لهذا النوع من الفنّ الفطريّ؟
ــــ هذه الأحكام أرخت ظلمًا كبيرًا على هذا الجيل العصاميّ من الفنّانين المغاربة. فقط أشير إلى أنّ الفنّانة الشعيبيّة طلال تُعتبر شابّةً في زمنها مقارنةً بالاسمين الآخريْن، إذ لم تظهر إلّا في المنتصف الثاني من الستينيّات. وهناك أناس قبلها اشتغلوا بالطريقة ذاتها. لكنّ الأعلام الذين ذكرتهم هم الأساسيّون. ويمكن أن نضيف إليهم الورديغي، وميلود لبيض، قبل أن يتحوّل الأخير إلى فنّان عالِم.
بالنسبة إلى التشجيع الأوروبيّ الذي لاقاه تيّارُ النزعة الفطريّة، فسببُه لم يكن الرغبةَ في إبقاء الفنّ التشكيليّ المغربيّ متخلّفًا، وإنّما القناعة بجدوى هذا الفنّ في الحياة اليوميّة، خصوصًا أنّ أوروبا عرفتْ بعد الحرب العالميّة الثانية ثورةً على الأطر الفكريّة والفنيّة القديمة، وأصبحتْ تهتمّ بكلّ ما ينبع من أعماق الناس بطريقةٍ لا تشوبها صرامةُ التفكير العلميّ والمنطقيّ. وقد تابعتُ معارضَ عديدةً، ولاحظتُ حجمَ الاهتمام الذي يوليه الجمهورُ ــــ الذي لا علاقة له بموقف الاستعماريّين من الفنّ المغربيّ ــــ بهذا الفنّ الذي يروْنه فنًّا معبّرًا عن وجدانهم وأحلامهم؛ إضافةً إلى أنّهم كانوا يَعدّون الفنَّ الحديث، وخصوصًا التجريديّ، فنًّا يستنسخ المشهدَ التشكيليّ الغربيّ ولا يتميّز عنه بأيّة خصوصيّة.
* ارتبطتْ فكرة تطوّر تاريخ الفنّ التشكيليّ المغربيّ بفترة الخمسينيّات، حين تمّ الانتقالُ من الرسم التصويريّ المحض إلى التعبير عن مكنون الفرد النفسيّ والفكريّ. فما هي مميّزات هذه المرحلة، التي توسم بأنّها مرحلةُ الحداثة في التشكيل المغربيّ؟ وما قدرتها على أن تزيح من المشهد التشكيليّ المغربيّ سطوةَ اللوحة الفطريّة، وتحدّ، بالتالي، من دور الأجانب في توجيه الذائقة الفنيّة والبصريّة في المغرب؟
ــــ كان الفنّان الفطريّ يدّعي أنّ ما يفعله هِبةٌ من الله، أو من وحي رؤيةٍ في منام، أو نتيجةٌ لتلبّس روحه قوًى جنيّة. الغالب في الفنّان الفطريّ أنّه لا يدّعي أنّه يملك طريقةً خاصّة للتعبير، بل يكتفي بالقول إنّه ينقل ما يشاهده إلى اللوحة، مضيفًا إليه تقنيّاتِ الإنجاز. لكنْ، ولأوّل مرةٍ في تاريخ الفنّ المغربيّ، سنة 1953، سيرسم فريد بلكاهية صورةً ذاتيّةً، وهو ما لم يكن مستساغًا ضمن مناخ تقليديّ لا يؤمن بالفرديّة. هكذا بتنا أمام بزوغ مقوّمٍ أساسٍ من مقوّمات الحداثة؛ فلا حداثة من دون أن يحسّ الفردُ بذاتيّته المستقلّة عن الجماعة. ثمّ إنّ بلكاهية أنجز عملَه في لحظة نفي ملك المغرب محمّد الخامس، وما تلاها من انتفاضة المغاربة ضدّ الفرنسيّين وحملِهم لشعار الهويّة "أنا مغربيّ" في مواجهة الاستعمار. وستغطّي أعمالُ بلكاهية عشرَ سنوات من عمر الفنّ التشكيليّ المغربيّ، يشتغل خلالها على مواضيع التحرّر والاستعمار، وإفريقيا الجنوبيّة، والتمييز العنصريّ، والحرب الجزائريّة.
ثمّ ظهرت أسماءٌ وازنة أثّرت في المشهد التشكيليّ المغربيّ، ومنها الجيلالي الغرباوي، الذي رسم أوّل عملٍ تشكيليٍّ تجريديّ، فخرج من التشخيص إلى التعبير، وإنْ كانت قوّة بلكاهية تجلّت أكثر لأنّها ارتبطتْ باستفاقة شعب.
* هيمن تيّارُ التجريد على تيّار التشخيص في مرحلة الحداثة التشكيليّة. فهل لذلك علاقةٌ بالمتلقّي الذي بدأ ذهنُه يتفتّح على عوالم الفنّ العالميّ، أم أنّ للأمر صلةً بالسؤال الدينيّ أو السياسيّ الذي كان شاهرًا سيفَه؟
ــــ بعد الاستقلال ظهر صنفٌ جديدٌ من الفنّانين الذين درسوا في أوروبا واستقرّوا في العديد من عواصمها الفنّيّة الكبرى. هكذا حجّ المليحي وشبعة إلى مدريد ثمّ روما، قبل أن يعرّج بلكاهية على باريس، وشبعة على روما، وسوف يلتحق بهم الغرباوي في فترةٍ ما، في حين سيتوجّه الشرقاويّ إلى باريس قبل أن يستقرّ في بولونيا، ليجتمع كلُّ هذا الجيل في روما، عاصمةِ الفنّ الغربيّ، وفيها سيتعرّفون إلى جلّ الأسماء الأساسيّة في التشكيل العربيّ.
(لوحة للجيلاوي الغرباوي)
وقد صادف رحلاتِ هؤلاء الفنّانين المغاربة شيوعُ تيّار التجريد في المشهد التشكيليّ العالميّ. فراحوا يستوعبون مناهجه ويمارسونه للتعبير عن روح المغامرة التي تتيحها لهم فكرةُ الحداثة التي خلّصتهم من الإرث الفنيّ الاستعماريّ.
عندما عاد هؤلاء إلى أرض الوطن وتكتّل عددٌ منهم في "مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء،" راحوا يطرحون، شأن عبد الكبير الخطيبي وعبد الله العروي، سؤالًا جوهريًّا: "مَن نحن؟" وسوف تتبنّى هذا السؤالَ، بشكلٍ أعمق وأكثر تنظيمًا، مجلّةُ أنفاس، التي كان يديرها الكاتب والشاعر المغربيّ عبد اللطيف اللعبيّ، ومعه مجموعةٌ من المفكّرين والكتّاب والتشكيليّين المغاربة. لقد أضحى سؤال "من نحن؟" سؤالًا سياسيًّا؛ وهو ما دفع بأجهزة النظام القمعيّة إلى تسليط أدواتها على هذه المجموعة، ما أودى بالعديد من رموزها إلى غياهب السجون.
هذه الفترة وُسمت بـ"فترة الرصاص،" وفيها توحّش النظامُ كثيرًا، حتى إنّه لم يكن يريد أن يَسمع صوتًا غير صوته! ومن هذا المنطلق ارتأى الفنّانون التشكيليّون أن يتوجّهوا بأعمالهم إلى فضاءات الرمز لضمان لحظة "صمتٍ تعبيريّ" يناجي النظامَ من خلالها أن يترك اللوحةَ في عالمها المسكون بالإيحاءات، بعيدًا عن حشر أنفه في قراءة اللوحات المباشرة. كما عادوا إلى متون التراث الشعبيّ لضمان مساحة أمان، متوسّلين الرمزَ منقذًا لحياتهم من التشرّد أو المنفى أو السجون المظلمة في صحاري لا حدود لوحشيّتها. لهذا ارتبط العديدُ من الفنّانين التجريديّين بالتصوّف، في محاولةٍ للبحث عن الذات والصفاء. ولم تقتصر الحال على التشكيل المغربيّ، بل جاورته في همومه أشكالٌ تعبيريّةٌ أخرى: فصعد في سماء الأغنية العصريّة نجمُ مجموعة "ناس الغيوان" ذات النفس الصوفيّ، كما ظهرتْ أعمال مسرحية تجريبيّة تَنشد الغموضَ والتوحّدَ مع ذاتها. لقد أباحت هذه الأشكالُ الفنيّة همسًا في أذن النظام: اتركْنا في سلام! أتركْنا نشتغل على الفنّ من دون أن ننازعك احتكارَكَ للعنف! وسيظلّ الوضع على جموده حتى التسعينيّات، وذلك مع الانفتاح النسبيّ الذي أطلقه النظامُ تجاه المعارضة وإدماجها في الحكم، وبتنا نشهد على تحوّلٍ آخر في مسارات الفنّ والفكر المغربيّيْن.
أمّا عن التشخيص، فأعتقد أنّه، إذا ذُكر، ففي سياق تبرير موقفٍ معيّن من التجريد. ففي الثمانينيّات، لاحظنا مطالبةَ مجموعةٍ من الفنّانين بالتشخيص. إلّا أنّ ذلك لم يشكّل ثورةً ذات وقعٍ مؤثّرٍ في المشهد الفنيّ التشكيليّ.
* هل اكتسبت اللوحة التشكيليّة المغربيّة هويّتَها من التحامها بهموم الشعب؟ ألم يشكّل هذا التوجّه استنزافًا لمقدرة الفنان المغربيّ الإبداعيّة حين حشرها في البعد الإيديولوجيّ؟
ــــ بالفعل. فكما أنّ العديد من التشكيليّين المغاربة انتقلوا إلى التجريد المحض، حاول فنّانون آخرون إعادةَ الاعتبار إلى الموروث الثقافيّ والبصريّ. لكنّ "إعادة الاعتبار" هذه لا يمكن أن تتمّ بدمج الموروث في اللوحة كما هو، بل بمحاولة إعطائه بعدًا جماليًّا جديدًا. وهذا ما يدافع عنه المليحيّ، الذي يرى أنّ علينا أن نصل إلى القانون الداخلي للفنّ الشعبيّ من أجل إعطائه نفسًا معاصرًا، لا أن نُبقي عليه جامدًا كما هو دَيدَنُ بعض المشتغلين بعالم التشكيل الذين أعادوا إنتاجَ الرمز الفنيّ كما هو، فجاءت لوحاتُهم قاحلةً، ما أنتج انكفاءً هويّاتيًّا عقيمًا.
وهذه الحال لا تقتصر على المغرب؛ ففي العالم العربيّ من ينافح اليوم عن الخط العربيّ باعتباره في حدّ ذاته فنًّا. وهذا غير صحيحٍ لأنّ الخطّ صناعة تخضع لمبدإ المحاكاة والتكرار، وهذا مُنافٍ لطبيعة الفنّ الذي هو إبداعٌ على غير مثالٍ سبق. إنّ الخط هو كنزٌ يمكن استثمارُه في أعمالٍ إبداعيّةٍ، كما فعل فريد بلكاهية بشكلٍ لافتٍ، وهو ما جعله حاضرًا في المتاحف العالميّة.
* لننتقلْ من التجربة الفنّيّة العمليّة إلى الجانب المؤسّساتيّ المرتبط بها، وأعني هنا ــــ بالخصوص ــــ مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء وتطوان. هل كان لمثل هذه المؤسّسات التعليميّة دورٌ في خلق مواصفاتٍ معيّنة للمبدع والمتلقّي؟
ــــ المدرسة، في حدّ ذاتها، لا تَضمن وجودَ مبدعين. فقط أشير إلى أنّ مدرسة الفنون الجميلة قد برز نجمُها في الدار البيضاء، في بداية الستينيّات، بفضل مجموعة فنّانين، على رأسهم فريد بلكاهية، الذي كان مديرًا لها، وحاول تكريسَ الاتجاه الرمزيّ الذي تحدّثنا عنه وإدراجَه في مناهج التعليم داخل المؤسّسة، بمعيّة المليحي وشبعة.
لكنْ، في سبعينيّات القرن العشرين، توقّف مسارُ "الفرسان الثلاثة" بفعل القمع، إذ سُجن شبعة، وانسحب المليحي، وظلّ بلكاهية وحده يقاوم الخواء وتعنّتَ السلطة. بعدها، التحق إطارٌ من بلديّة الدار البيضاء ليسهر على تسيير المدرسة إلى حدود 1989، حين اتصلتْ إدارةُ المدينة بكلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة وطلبتْ منها أن تعيّن لجنةً لإعادة النظر في نظام التعليم. وقد كان لي شرفُ الوجود في هذه اللجنة، إلى جانب صديقي عبد الكبير ربيع. وكان أوّل ما فكرنا فيه هو أن نخلق شبكةَ اتصالٍ مع مدرسة الفنون الجميلة في مدينة تطوان، التي بقيتْ تمارس طريقةَ التدريس التي اعتمدها برتوتشي حتى التسعينيّات، وهي الفترة التي تقاعد فيها السرغيني عن إدارة المؤسّسة، وخلفه عبد الكريم الوزاني، الذي كان يحضر معنا الاجتماعات في مدرسة الفنون الجميلة في فرنسا. وقد صادف في هذه الفترة أن عُيّن في مدرسة الفنون الجميلة في تطوان الفنّان فوزي لعتريس، الذي كان يحمل رؤيةً مغايرةً عن الفنّ التشكيليّ.
هذا النوع من التعليم في الدار البيضاء وتطوان هو الذي أوجد مجموعةً من الشباب الذين انفتحوا على العالم بفعل اشتراطاتٍ تاريخيّةٍ محدّدة، أهمُّها ثورةُ الاتصال والمعلومات وانهيارُ جدار برلين؛ ما خلق أفقًا جديدًا للفنّ التشكيليّ في المغرب. وعندما نظّمتُ المعرض الكبير في معهد العالم العربيّ في باريس، مع زميلي الفرنسيّ جون هوبير ماتان في 2014 ــــ 2015، ظهر لي إلى أيّ حدٍّ أفاد ذلك الإصلاحُ الذي مسّ المدرستيْن الفنيّتين في الدار البيضاء وتطوان حركةَ التشكيل المغربيّ وفتحها على العالميّة؛ فغالبيّة الفنّانين المشاركين في هذا المعرض تلقّوا تعليمَهم في صفوف هاتيْن المدرستيْن العريقتيْن.
* تطوّر الإحساسُ بالتصوير الفنّيّ ليلاحق آلةَ التصوير الفوتوغرافيّ. إلى أيّ حدٍّ يمكننا الحديث عن وجود فنّ تصوير فوتوغرافيّ في المغرب؟ وهل يمكننا إدراجُه ضمن الفنون التشكيليّة البصريّة؟
ــــ أوّل فنّان مصوِّر في تاريخ المغرب هو الملك المغربيّ عبد العزيز (حكم المغرب ما بين 1894 و1908)، الذي تعلّم هذا الفنّ على يد أستاذه غابيرييل فيري. وأهمُّ ما خلفه من صور فنيّة تصويرُه لحريمه، وهو ما كان مستحيلًا في ذلك الوقت. لم يكن ذلك الملك مجرّدَ هاوٍ للتصوير بل كان متمكّنًا من دقائق أموره وعارفًا بتقنيّاته. لكنّ الوزير محمد بنعيسى (وزير الثقافة المغربيّ السابق، ومؤسّس مهرجان أصيلة الثقافيّ) هو أوّل فنان مغربيّ أقام معرضًا لفنّ التصوير الفوتوغرافيّ يروي فيه تجربتَه. وهو ما لفت انتباهَ الجمهور إلى أنّ آلة التصوير لا تصلح لإنتاج الصورة الشخصيّة الرسميّة فحسب، وإنّما هي كذلك بحثٌ في الذات، ويمكن استثمارُها إبداعيًّا كما تُستثمر الريشةُ والقلم.
* نحن اليوم في زمن ما بعد الحداثة. ما هي الموضوعات التي يشتغل عليها هذا الفنّ؟ وهل تمكّن من تأصيل وجوده في المشهد التشكيليّ المغربيّ؟
ــــ بالطبع يمكننا الحديث اليوم في المغرب عن الفنّ التشكيليّ ما بعد الحداثيّ. وينطلق هذا الفنّ من مسألة أساسيّة هي هدم الحدود بين الفنون، إذ يمكن أن يشتغل الفنّان على لوحةٍ صباغيّةٍ لكنّه يوظِّف فيها الكولّاج، أو يضيف إليها الصورَ الفوتوغرافيّة أو الأسلاكَ الكهربائيّة. لم تعد اللوحة، مع فنّ ما بعد الحداثة، لوحةً "صافية،" وأزيلت عنها الهالةُ التي كانت تلفّها بها الحداثةُ التشكيليّة. فإذا كانت الموادّ "النبيلة" في الفنّ الحداثيّ هي الصباغة الزيتيّة، والقماش، والتمكّن من التقنية، واحترامُ الفضاءات، فإنّ الفنّ ما بعد الحداثيّ هدم حدودَ التقنيّات وحدودَ الموادّ وحدودَ الفضاءات.
وفي ما يتعلق بهدم الفضاءات تحديدًا، لم يعد المرْسم هو مكانَ اختبار تجربة الفنّان الإبداعيّة، وإنّما صارت كلُّ الفضاءات الخارجيّة ملْكًا لاختبار هذه التجربة وتعريتها أمام الناس. ولم يعد للمتحف تلك القداسةُ المتفرّدة، التي تجعل منه المكانَ الوحيد لعرض اللوحة. كلّ هذه الأشياء أضحت تخترق جسد الفنّ التشكيليّ المغربيّ بشكلٍ ملفتٍ للانتباه.
كما استطاع الفنُّ التشكيليّ المغربيّ المعاصر اقتحامَ موضوعاتٍ لم يسبق أن اقتحمها: مثل النقد الاجتماعيّ، ونقد الفكر الدينيّ، والاهتمام بالطبيعة.
* باتت المرأة تحتلّ مكانًا بارزًا في المشهد التشكيليّ المغربيّ، ما يثير سؤالًا حول خصوصيّة اللوحة التشكيليّة المغربيّة، موضوعًا أو تقنيّةَ إنتاج.
ــــ إذا كنت تقصد بسؤالك وجودَ فنٍّ تشكيليٍّ نسويّ بخصائص متفرّدة، فإنني أعتقد أنّ ذلك موجودٌ فعلًا. وسأحيلك على مناسبتيْن مهمّتيْن أبرزتا أهميّة الوجود النسائيّ في المشهد التشكيليّ المغربيّ:
1) معرض معهد العالم العربيّ في باريس، الذي أشرفتُ عليه شخصيًّا ووصلتْ نسبةُ حضور الفنّانات التشكيليّات المغربيّات فيه إلى 25%؛ وهي نسبةٌ مهمّة في فنٍّ لم يَعرف دخولَ المرأة إلى سراديبه إلّا حديثَا، وتحديدَا مع تيّار الحداثة في الغرب.
2) المعرض الذي أقيم في متحف محمد السادس تحت اسم "نساءٌ من الحداثة،" حيث ظهرت لنا موضوعاتٌ خاصّة بالمرأة، يصعب على الرجل اقتحامُها، مثل موضوع الجسد، وموضوع المساواة. أمّا تقنيًّا فلا أعتقد أنّ ثمّة ما يميّز المرأة عن الرجل في توظيف الألوان أو الأشكال.
* أيُّ أفقٍ تتوقّعه للفنّ التشكيليّ المغربيّ؟
ــــ الفنّ التشكيليّ المغربيّ يعدّ من أهمّ الساحات الفنّيّة على مستوى البحر المتوسّط. لكنّه يبقى في حاجةٍ إلى دعم المؤسّسات الاقتصاديّة والخدماتيّة في القطاع الخاصّ. فلا تقدّم للفنّ التشكيليّ المغربيّ في غياب استراتيجيّة الاقتناء، وغيابِ أسواق كبرى لرواج اللوحة واقتنائها. المتاحف لا تكفي وحدها لإشاعة العمل والتعريف به. وحده الاقتناء مَخرجٌ للفنّ التشكيليّ المغربيّ من كلّ أزماته، خصوصًا أنّه لا يشكو نقصًا في مستوى الإبداعيّة، لا بالمقاييس الوطنيّة فحسب، وإنّما بالمقاييس العالميّة أيضًا.
المغرب
موليم لعروسي
المحاور/ة :
عبد الحقّ لَبيض
* كلُّ فنّ يبحث عن لحظة تأسيس. غير أنّنا نلاحظ، في سياق البحث في تاريخ الفنّ التشكيليّ المغربيّ، أنّ الأمر ليس بالسهولة التي تعرفها الأشكالُ التعبيريّة الأخرى. فإلامَ تُرجعون ذلك؟
ــــ الأسباب متشعّبة، لكنّنا نحصرها في سببيْن رئيسيْن. أوّلًا: نقص المعلومة التاريخيّة. وثانيًا: أنّ ما حدث في الفنون التشكيليّة سبق حصولَ المغرب على استقلاله، بحيث لم يسمح لنا الكمُّ المتوفِّر، ولا الانشغالُ المؤطِّر لسيرورة التكوّن، بالحديث عن "لوحة التأسيس."
ولكنْ يمكن الاستشهادُ بأعمال بنعلي الرباطي، وهو من مواليد القرن التاسع عشر. صحيح أنه ظهرتْ لوحاتٌ في الثلاثينيّات والأربعينيّات، غير أنّها كانت متفرّقةً من حيث الزمان، ومتباعدةً في أشكالها الجماليّة، بحيث لم تستطع أن تشكّل تيّارًا فنّيًّا قويًّا يمكن أن نعتبره بداياتٍ تأسيسيّةً واعيةً لسيرورة اشتغاله وأفقه المنتظر.
أعتقد أنّ الجدل حول تأسيس الفنّ التشكيليّ في المغرب يعتريه بعضُ الغموض لكونه جدلًا محكومًا بإكراهاتٍ إيديولوجيّة. فأوّل الذين اهتمّوا بهذا الفنّ وبلوروه في حواملَ مستقلّة ومتميّزة هم الفنّانون الأجانب الذين استوطنوا المغربَ وانبهروا بطبيعته وعمرانه وأنماطِ حياته وعكسوها في أعمالهم. لذلك فإنّ السؤال الذي يجب أن يُطرح هنا هو: هل نستند في تأريخنا للفنّ التشكيليّ المغربيّ إلى قوانينَ خارج العمل الفنيّ، وتتحكّم فينا نوازعُ إيديولوجيّة، أمْ نرتهن إلى الاشتراطات الموضوعيّة التي شكّلت الإطار المرجعيّ للعمل التشكيليّ لدى هؤلاء الفنّانين "المستشرقين" الملتحمين بالمغرب وثقافته؟
مثلُ هذه الأسئلة لم يكن مسموحًا صوغُه في عهد الاستقلال لأنّ كلَّ ما ارتبط بالمستعمِر كان مرفوضًا، وكان الكلّ يبحث عن "البصمة المغربيّة" الحاملة لتوقيع الانتماء الأصيل إلى الأرض والإنسان المغربيّيْن. لكن اليوم، بعد كلّ هذه السنوات من الاستقلال وفكّ الارتباط بذلك الحسّ الوطنيّ الجيّاش، لا بدّ لنا من إعادة التأمّل في مسار تشكّل تاريخ الفنّ التشكيليّ المغربيّ، فنعترف بأنّ ما أنتجه الأجانب، ومنهم فنّانون لم يغادروا المغربَ حتى لحظة الوفاة، هو فنٌّ مغربيٌّ أصيل.
أنظرْ إلى ما يجري اليوم في حقل الرياضة، حيث يتمّ التهافتُ على اللاعب من أصولٍ مغربيّة، علمًا أنّه لم يولد في المغرب ولم يترعرع فيه، وربّما لم يزره ولو مرةً واحدة، ومع ذلك نعتبره وطنيًّا يشرِّف المغربَ بإنجازاته. فما بالنا بما أنجزه أجانبُ ارتبط عملُهم بالأرض والإنسان والهويّة في المغرب؟ كيف لنا ألّا نعتبر إنجازَ ماجوريل في مرّاكش، حاضنتِه الأبديّة، إبداعًا مغربيًّا؟ كيف ننكر انتماءَ أعمال ماريانو بيرتوتشي إلى الفنّ المغربيّ؟ علينا ألّا نرتكب الخطأ الذي اقترفته الحضارةُ العربيّة الإسلاميّة حين تنكّرتْ لكلِّ ما هو "جاهليّ" لا يتوافق مع قيمها ومعتقداتها وتركته للأوروبيّين، فتبنّوه فيما بعد مثلما تبنّوا الحضاراتِ الأخرى واعتبروها أصولًا لحضارتهم.
ولننظرْ أيضًا إلى حجم الرفض الذي واجه الفنَّ التشكيليّ الفطريّ لا لشيءٍ إلّا لأنّ مبدعيه تلامذةٌ لهؤلاء المستشرقين، فصُنِّف، تبعًا لذلك، فنًّا استعماريًّا يَعكس رؤيةَ المستعمر ومطامعَه؛ الشيء الذي ألغى كلّ اعتبار لجماليّات هذا الفنّ، وظلم الفنّانين الذين انخرطوا في موجته.
* لكنْ في هذه الحالة سنكون أمام سؤالٍ أكثر استعصاءً: فهل يمكن اعتبارُ ما أنتجه المستشرقون في مجالاتٍ معرفيّةٍ أخرى إنتاجًا مغربيًّا أو عربيًّا ما دام قد اتّخذ من المغرب أو من العرب منطلقًا له وموضوعًا لدراسته؟
ــــ أحيلك على ما أنتجه روّادُ الفكر العربيّ، ولنأخذْ على سبيل المثال كتاب فجر الإسلام لأحمد أمين. أليس هذا مرجعًا يُعتدّ به في ثقافتنا وفكرنا العربيّيْن؟ عد إلى أهمّ مراجعه التأسيسيّة، تجدْها كلّها استشراقيّة. معنى ذلك أنّ بدايات فكرنا العربيّ لا تخرج عن التأطير المعرفيّ الذي وَجّه الفكرَ الاستشراقيّ. فكرة القوميّة العربية نفسها، ألم يؤدِّ الفكرُ الاستشراقيّ دورًا حاسمًا في بلورة مشروعها ورسم أبجديّاته الأولى؟ ألم يخطّط المستشرقون، ووراءهم القوى السياسيّة الغربيّة، لفصل العرب عن مركز الخلافة العثمانيّة من أجل إضعاف سطوتها وامتدادها، بإذكاء النعرة العربيّة والعداءِ لكلّ ما هو عثمانيّ؟ بل هناك باحثون يؤكّدون اليوم أنّ بروز النزعة الإسلامويّة يعود، في جزءٍ كبيرٍ منه، إلى ما قام به المستشرقون من "تمجيدٍ مبالَغٍ فيه" للإسلام وللحضارة الإسلاميّة، ما ذكّى الإحساسَ بعظمة الأمّة الإسلاميّة وبمجدها التليد وبضرورة العودة إلى منابعها المضيئة لتأكيد هويّة الانتماء إليها واتخاذها منطلقًا لبناء الذات.
طبعًا الفرق بين المستشرقين الكتّاب، والمستشرقين المصوِّرين، أنّ الأولين لم ينتجوا روايةً أو مسرحيّةً بالعربيّة، في حين أنّ الآخرين أبدعوا أعمالًا فنيّةً. ويكفي أن نعود إلى الكنانيش التي كان يدوِّن عليها هؤلاء المستشرقون آراءهم من المغرب لنكتشف حبَّهم العميقَ للمغرب، ولثقافته وحضارته، خصوصًا أنّهم كانوا يعتبرون الحضارة المغربيّة الحضارة الوحيدة التي لم "تدنّسها" الحضارةُ العثمانيّة.
* هل يعني ذلك أنّ الفنّ التشكيليّ المغربيّ مجرّدُ وليدٍ للاصطدام مع الغرب، أم أنّ ثمّة عواملَ داخليّة وخاصّة ساهمتْ في أسباب النشأة والتطوّر لكي يبدو هذا الوليد متميّزًا بخصوصيّاته الثقافيّة والجماليّة؟
ــــ يصعب أن نعثر على الزمان الذي بدأ فيه الانتقال نحو "الفنّ" كما يراه الغرب، خصوصًا إذا سلّمنا بأنّ للفنّ المغربيّ منبعيْن أساسييْن: 1) الصنائع والحِرف والعمارة المغربيّة؛ و2) التأثير الغربيّ (الأوروبيّ تحديدًا) الذي أثار الانتباهَ إلى أنّ بإمكان رسمٍ أو تزويقٍ معيّن أن يُتأمّل لذاته، وألّا يكون مرتبطًا بشيءٍ آخر أداتيّ، مثل الصندوق الخشبيّ، أو الزربية، أو الفسيفساء على الحائط. فلقد بدأ يُنظر إلى العمل الفنيّ لذاته، ككيانٍ مستقلٍّ عن الشيء النفعيّ الذي كان يحتويه في داخله؛ وهذا ما رأيناه يتحقّق مع تيّار الفنّ الفطريّ من خلال بعض الخدم المغاربة الذين كانوا يعملون عند الأوروبيّين المقيمين، وتعلّموا الرسمَ على أيديهم، ليتحوّلوا بعد ذلك إلى فنّانين تشكيليّين يرسمون ما كانوا يتخيّلونه أو يحلمون به على ورقٍ مستقلّ، ثمّ يضعون له إطارًا ويعلّقونه على الجدار.
(الفنّان الراحل فريد بلكاهية)
إضافةً إلى هؤلاء نجد ثلّةً من التشكيليّين المغاربة الذين تعلّموا على يد هؤلاء المستشرقين، إلّا أّنهم خطّوا لأنفسهم مساراتٍ مستقلّةً، دعموها بتعليمٍ أكاديميّ أو بتمرّنٍ عند فنّانين مستشرقين كبار، أمثال: الجيلالي الغرباوي، وعبد الكبير ربيع، ومريم مزيان، وفريد بلكاهية من جهة؛ ومحمد المليحي، ومحمد شبعة، من جهةٍ أخرى.
ولم يتوقّف تأثيرُ الاستشراق في هذا الإطار فقط، بل يمكن اعتبارُ ثورة هؤلاء على الاستشراق أساسيّةً في تحديد ملامح الفنّ التشكيليّ المغربيّ بعد الاستقلال. فغالبيّة فنّاني الشمال المغربيّ درسوا فنّ التصوير على يد الفنّان المستشرق برتوتشي الذي كان يَفرض عليهم طريقةً معيّنةً في الرسم؛ إلّا أّنهم ثاروا على هذه الطريقة وذهبوا إلى أوروبا ليتعلّموا طرقًا أخرى، ثمّ عادوا ليدافعوا عن اتجاهٍ حديثٍ في الفنّ، معتبرين أنّ هؤلاء المستشرقين يريدوننا أن نظلّ متخلّفين ومرتبطين بالماضي، بينما العالم يتقدّم نحو المستقبل.
* لكنْ في خضمّ صراع الأنا والآخر داخل اللوحة الفنّيّة، أمكننا الحديثُ تاريخيًّا، لا إيديولوجيًّا، عن لوحةٍ مغربيّةٍ، مستقلّةٍ لذاتها، وتُتأمّل في ذاتها.
ــــ إذا أردنا أن نتحدّثَ بهذه المعايير أمكنتنا الإشارةُ إلى بنعلي الرباطي وعبد السلام الفاسي بن العربي، اللّذيْن يعدّان أوّلَ فنّانيْن أنتجا لوحةً فنّيّةً تشكيليّة. وإذا عدنا إلى الرباطي فسنجد أنّ ما أنتجه كان لصالح المستشرقين، إذ استغلّه هؤلاء ليرسم ما في داخل البيوت المغربيّة من مواقف يصعب ولوجُهم إليها.
أمّا بصدد أوّل لوحةٍ وصلتنا أخبارُها الموثوقة، فيمكننا الحديث عن اسميْن كبيريْن: محمد بنعلال وفريد بلكاهية؛ وقد نضيف إليهما الجيلالي الغرباوي. هؤلاء هم الفنّانون الذين أحدثوا ثورةً فنيّةً انطلاقًا من نهاية الأربعينيّات لأنّهم وضعوا اللوحةَ في مركز الاهتمام الفنّيّ على مستوى التلقّي والنقد.
* ذكرتم تيّار الفنّ الفطريّ الذي لا يمكن مؤرِّخَ الفنّ أن يمرّ عليه مرورَ الكرام، على الرّغم ممّا قيل فيه من أنّه فنٌّ استعماريٌّ واستشراقيّ. ما الأثر الذي تركه الفنُّ الفطريّ في تأسيس قواعد الفنّ التشكيليّ المغربيّ؟
ــــ في أوروبا، كان الفنّ تابعًا للدين، وكان الفنّان مجبرًا على أن يأتي الكنيسةَ ليرسم على جدارها. لكنّه، بعد سلسلة تغيّراتٍ اجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة، بدأ يعمل داخل مرسمه وينقل ما أنتجه على الخشب (أو على أيّ سندٍ آخر) إلى الكنيسة. الشيء ذاته، وإنْ بسيرورةٍ مختلفة، وقع عندنا في الضفة الجنوبيّة للبحر المتوسّط، حيث كانت الحِرَف تتطوّر بشكلٍ خطّيّ، إلى أن توقّفتْ بعد اكتسحتها المنتجاتُ الأوروبيّة. غير أنّ دخولَ الاستعمار جعل المقيمَ العامّ الفرنسيّ آنذاك، المارشال ليوطي، يدعم الصناعةَ التقليديّة، فيستجلب أساتذةً متخصّصين من الجزائر، ويرسلهم إلى مدينة آسفي، التي شهدتْ تطوّرًا كبيرًا في صناعة الفخّار. هذا التطوّر أذكى روحَ الإبداع، الذي بدأ يأخذ أشكالًا لا تقتصر على الصنعة والحرفة.
إضافةً إلى ذلك، بدأ المغاربة ينتقلون من العيش التقليديّ إلى العيش العصريّ، ما خلق نوعًا من التفكير الجديد في العمل الفنّيّ، إذ بات المغربيّ يريد أن يراه مستقلًّا لذاته، يزيّن به بيتَه وفضاءاتِ عمله. من هنا كانت الحاجة ماسّةً إلى الفنّ التشكيليّ الحاملِ لهويّة مغربيّة وملتحم بقضايا الإنسان المغربيّ. ومن ثمّ اكتسب الفنُّ الفطريّ شرعيّةَ وجوده، وصار تعبيرًا عن الخصوصيّات الثقافيّة المغربيّة، ولا يمكن القفز عليه بدعوى أنّه فنٌّ استشراقيّ أو مدعوم من طرف المستعمِر.
* غالبًا ما انطلقت الأشكالُ التعبيريّة من فكرةٍ معيّنة وقادها مفكّرون وكتّاب لهم حضورُهم القويّ في الساحة، ولهم باعٌ في الثقافة والعلم وتقنيّات الكتابة. إلّا أنّنا في الفنّ التشكيليّ المغربيّ نجد أنّ الذين أسّسوا له كانوا، في غالبيّتهم، حرفيّين وصنّاعًا أميّين أو خدمًا في بيوت الأوروبيّين (محمد بنعلال، مولاي أحمد الدريسي، الشعيبيّة طلال). لماذا تمّ الدفع بهذه الثلّة من الفنّانين إلى واجهة التأسيس؟ ولماذا كان الغرب متحمّسًا لهذا النوع من الفنّ الفطريّ؟
ــــ هذه الأحكام أرخت ظلمًا كبيرًا على هذا الجيل العصاميّ من الفنّانين المغاربة. فقط أشير إلى أنّ الفنّانة الشعيبيّة طلال تُعتبر شابّةً في زمنها مقارنةً بالاسمين الآخريْن، إذ لم تظهر إلّا في المنتصف الثاني من الستينيّات. وهناك أناس قبلها اشتغلوا بالطريقة ذاتها. لكنّ الأعلام الذين ذكرتهم هم الأساسيّون. ويمكن أن نضيف إليهم الورديغي، وميلود لبيض، قبل أن يتحوّل الأخير إلى فنّان عالِم.
بالنسبة إلى التشجيع الأوروبيّ الذي لاقاه تيّارُ النزعة الفطريّة، فسببُه لم يكن الرغبةَ في إبقاء الفنّ التشكيليّ المغربيّ متخلّفًا، وإنّما القناعة بجدوى هذا الفنّ في الحياة اليوميّة، خصوصًا أنّ أوروبا عرفتْ بعد الحرب العالميّة الثانية ثورةً على الأطر الفكريّة والفنيّة القديمة، وأصبحتْ تهتمّ بكلّ ما ينبع من أعماق الناس بطريقةٍ لا تشوبها صرامةُ التفكير العلميّ والمنطقيّ. وقد تابعتُ معارضَ عديدةً، ولاحظتُ حجمَ الاهتمام الذي يوليه الجمهورُ ــــ الذي لا علاقة له بموقف الاستعماريّين من الفنّ المغربيّ ــــ بهذا الفنّ الذي يروْنه فنًّا معبّرًا عن وجدانهم وأحلامهم؛ إضافةً إلى أنّهم كانوا يَعدّون الفنَّ الحديث، وخصوصًا التجريديّ، فنًّا يستنسخ المشهدَ التشكيليّ الغربيّ ولا يتميّز عنه بأيّة خصوصيّة.
* ارتبطتْ فكرة تطوّر تاريخ الفنّ التشكيليّ المغربيّ بفترة الخمسينيّات، حين تمّ الانتقالُ من الرسم التصويريّ المحض إلى التعبير عن مكنون الفرد النفسيّ والفكريّ. فما هي مميّزات هذه المرحلة، التي توسم بأنّها مرحلةُ الحداثة في التشكيل المغربيّ؟ وما قدرتها على أن تزيح من المشهد التشكيليّ المغربيّ سطوةَ اللوحة الفطريّة، وتحدّ، بالتالي، من دور الأجانب في توجيه الذائقة الفنيّة والبصريّة في المغرب؟
ــــ كان الفنّان الفطريّ يدّعي أنّ ما يفعله هِبةٌ من الله، أو من وحي رؤيةٍ في منام، أو نتيجةٌ لتلبّس روحه قوًى جنيّة. الغالب في الفنّان الفطريّ أنّه لا يدّعي أنّه يملك طريقةً خاصّة للتعبير، بل يكتفي بالقول إنّه ينقل ما يشاهده إلى اللوحة، مضيفًا إليه تقنيّاتِ الإنجاز. لكنْ، ولأوّل مرةٍ في تاريخ الفنّ المغربيّ، سنة 1953، سيرسم فريد بلكاهية صورةً ذاتيّةً، وهو ما لم يكن مستساغًا ضمن مناخ تقليديّ لا يؤمن بالفرديّة. هكذا بتنا أمام بزوغ مقوّمٍ أساسٍ من مقوّمات الحداثة؛ فلا حداثة من دون أن يحسّ الفردُ بذاتيّته المستقلّة عن الجماعة. ثمّ إنّ بلكاهية أنجز عملَه في لحظة نفي ملك المغرب محمّد الخامس، وما تلاها من انتفاضة المغاربة ضدّ الفرنسيّين وحملِهم لشعار الهويّة "أنا مغربيّ" في مواجهة الاستعمار. وستغطّي أعمالُ بلكاهية عشرَ سنوات من عمر الفنّ التشكيليّ المغربيّ، يشتغل خلالها على مواضيع التحرّر والاستعمار، وإفريقيا الجنوبيّة، والتمييز العنصريّ، والحرب الجزائريّة.
ثمّ ظهرت أسماءٌ وازنة أثّرت في المشهد التشكيليّ المغربيّ، ومنها الجيلالي الغرباوي، الذي رسم أوّل عملٍ تشكيليٍّ تجريديّ، فخرج من التشخيص إلى التعبير، وإنْ كانت قوّة بلكاهية تجلّت أكثر لأنّها ارتبطتْ باستفاقة شعب.
* هيمن تيّارُ التجريد على تيّار التشخيص في مرحلة الحداثة التشكيليّة. فهل لذلك علاقةٌ بالمتلقّي الذي بدأ ذهنُه يتفتّح على عوالم الفنّ العالميّ، أم أنّ للأمر صلةً بالسؤال الدينيّ أو السياسيّ الذي كان شاهرًا سيفَه؟
ــــ بعد الاستقلال ظهر صنفٌ جديدٌ من الفنّانين الذين درسوا في أوروبا واستقرّوا في العديد من عواصمها الفنّيّة الكبرى. هكذا حجّ المليحي وشبعة إلى مدريد ثمّ روما، قبل أن يعرّج بلكاهية على باريس، وشبعة على روما، وسوف يلتحق بهم الغرباوي في فترةٍ ما، في حين سيتوجّه الشرقاويّ إلى باريس قبل أن يستقرّ في بولونيا، ليجتمع كلُّ هذا الجيل في روما، عاصمةِ الفنّ الغربيّ، وفيها سيتعرّفون إلى جلّ الأسماء الأساسيّة في التشكيل العربيّ.
(لوحة للجيلاوي الغرباوي)
وقد صادف رحلاتِ هؤلاء الفنّانين المغاربة شيوعُ تيّار التجريد في المشهد التشكيليّ العالميّ. فراحوا يستوعبون مناهجه ويمارسونه للتعبير عن روح المغامرة التي تتيحها لهم فكرةُ الحداثة التي خلّصتهم من الإرث الفنيّ الاستعماريّ.
عندما عاد هؤلاء إلى أرض الوطن وتكتّل عددٌ منهم في "مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء،" راحوا يطرحون، شأن عبد الكبير الخطيبي وعبد الله العروي، سؤالًا جوهريًّا: "مَن نحن؟" وسوف تتبنّى هذا السؤالَ، بشكلٍ أعمق وأكثر تنظيمًا، مجلّةُ أنفاس، التي كان يديرها الكاتب والشاعر المغربيّ عبد اللطيف اللعبيّ، ومعه مجموعةٌ من المفكّرين والكتّاب والتشكيليّين المغاربة. لقد أضحى سؤال "من نحن؟" سؤالًا سياسيًّا؛ وهو ما دفع بأجهزة النظام القمعيّة إلى تسليط أدواتها على هذه المجموعة، ما أودى بالعديد من رموزها إلى غياهب السجون.
هذه الفترة وُسمت بـ"فترة الرصاص،" وفيها توحّش النظامُ كثيرًا، حتى إنّه لم يكن يريد أن يَسمع صوتًا غير صوته! ومن هذا المنطلق ارتأى الفنّانون التشكيليّون أن يتوجّهوا بأعمالهم إلى فضاءات الرمز لضمان لحظة "صمتٍ تعبيريّ" يناجي النظامَ من خلالها أن يترك اللوحةَ في عالمها المسكون بالإيحاءات، بعيدًا عن حشر أنفه في قراءة اللوحات المباشرة. كما عادوا إلى متون التراث الشعبيّ لضمان مساحة أمان، متوسّلين الرمزَ منقذًا لحياتهم من التشرّد أو المنفى أو السجون المظلمة في صحاري لا حدود لوحشيّتها. لهذا ارتبط العديدُ من الفنّانين التجريديّين بالتصوّف، في محاولةٍ للبحث عن الذات والصفاء. ولم تقتصر الحال على التشكيل المغربيّ، بل جاورته في همومه أشكالٌ تعبيريّةٌ أخرى: فصعد في سماء الأغنية العصريّة نجمُ مجموعة "ناس الغيوان" ذات النفس الصوفيّ، كما ظهرتْ أعمال مسرحية تجريبيّة تَنشد الغموضَ والتوحّدَ مع ذاتها. لقد أباحت هذه الأشكالُ الفنيّة همسًا في أذن النظام: اتركْنا في سلام! أتركْنا نشتغل على الفنّ من دون أن ننازعك احتكارَكَ للعنف! وسيظلّ الوضع على جموده حتى التسعينيّات، وذلك مع الانفتاح النسبيّ الذي أطلقه النظامُ تجاه المعارضة وإدماجها في الحكم، وبتنا نشهد على تحوّلٍ آخر في مسارات الفنّ والفكر المغربيّيْن.
أمّا عن التشخيص، فأعتقد أنّه، إذا ذُكر، ففي سياق تبرير موقفٍ معيّن من التجريد. ففي الثمانينيّات، لاحظنا مطالبةَ مجموعةٍ من الفنّانين بالتشخيص. إلّا أنّ ذلك لم يشكّل ثورةً ذات وقعٍ مؤثّرٍ في المشهد الفنيّ التشكيليّ.
* هل اكتسبت اللوحة التشكيليّة المغربيّة هويّتَها من التحامها بهموم الشعب؟ ألم يشكّل هذا التوجّه استنزافًا لمقدرة الفنان المغربيّ الإبداعيّة حين حشرها في البعد الإيديولوجيّ؟
ــــ بالفعل. فكما أنّ العديد من التشكيليّين المغاربة انتقلوا إلى التجريد المحض، حاول فنّانون آخرون إعادةَ الاعتبار إلى الموروث الثقافيّ والبصريّ. لكنّ "إعادة الاعتبار" هذه لا يمكن أن تتمّ بدمج الموروث في اللوحة كما هو، بل بمحاولة إعطائه بعدًا جماليًّا جديدًا. وهذا ما يدافع عنه المليحيّ، الذي يرى أنّ علينا أن نصل إلى القانون الداخلي للفنّ الشعبيّ من أجل إعطائه نفسًا معاصرًا، لا أن نُبقي عليه جامدًا كما هو دَيدَنُ بعض المشتغلين بعالم التشكيل الذين أعادوا إنتاجَ الرمز الفنيّ كما هو، فجاءت لوحاتُهم قاحلةً، ما أنتج انكفاءً هويّاتيًّا عقيمًا.
وهذه الحال لا تقتصر على المغرب؛ ففي العالم العربيّ من ينافح اليوم عن الخط العربيّ باعتباره في حدّ ذاته فنًّا. وهذا غير صحيحٍ لأنّ الخطّ صناعة تخضع لمبدإ المحاكاة والتكرار، وهذا مُنافٍ لطبيعة الفنّ الذي هو إبداعٌ على غير مثالٍ سبق. إنّ الخط هو كنزٌ يمكن استثمارُه في أعمالٍ إبداعيّةٍ، كما فعل فريد بلكاهية بشكلٍ لافتٍ، وهو ما جعله حاضرًا في المتاحف العالميّة.
* لننتقلْ من التجربة الفنّيّة العمليّة إلى الجانب المؤسّساتيّ المرتبط بها، وأعني هنا ــــ بالخصوص ــــ مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء وتطوان. هل كان لمثل هذه المؤسّسات التعليميّة دورٌ في خلق مواصفاتٍ معيّنة للمبدع والمتلقّي؟
ــــ المدرسة، في حدّ ذاتها، لا تَضمن وجودَ مبدعين. فقط أشير إلى أنّ مدرسة الفنون الجميلة قد برز نجمُها في الدار البيضاء، في بداية الستينيّات، بفضل مجموعة فنّانين، على رأسهم فريد بلكاهية، الذي كان مديرًا لها، وحاول تكريسَ الاتجاه الرمزيّ الذي تحدّثنا عنه وإدراجَه في مناهج التعليم داخل المؤسّسة، بمعيّة المليحي وشبعة.
لكنْ، في سبعينيّات القرن العشرين، توقّف مسارُ "الفرسان الثلاثة" بفعل القمع، إذ سُجن شبعة، وانسحب المليحي، وظلّ بلكاهية وحده يقاوم الخواء وتعنّتَ السلطة. بعدها، التحق إطارٌ من بلديّة الدار البيضاء ليسهر على تسيير المدرسة إلى حدود 1989، حين اتصلتْ إدارةُ المدينة بكلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة وطلبتْ منها أن تعيّن لجنةً لإعادة النظر في نظام التعليم. وقد كان لي شرفُ الوجود في هذه اللجنة، إلى جانب صديقي عبد الكبير ربيع. وكان أوّل ما فكرنا فيه هو أن نخلق شبكةَ اتصالٍ مع مدرسة الفنون الجميلة في مدينة تطوان، التي بقيتْ تمارس طريقةَ التدريس التي اعتمدها برتوتشي حتى التسعينيّات، وهي الفترة التي تقاعد فيها السرغيني عن إدارة المؤسّسة، وخلفه عبد الكريم الوزاني، الذي كان يحضر معنا الاجتماعات في مدرسة الفنون الجميلة في فرنسا. وقد صادف في هذه الفترة أن عُيّن في مدرسة الفنون الجميلة في تطوان الفنّان فوزي لعتريس، الذي كان يحمل رؤيةً مغايرةً عن الفنّ التشكيليّ.
هذا النوع من التعليم في الدار البيضاء وتطوان هو الذي أوجد مجموعةً من الشباب الذين انفتحوا على العالم بفعل اشتراطاتٍ تاريخيّةٍ محدّدة، أهمُّها ثورةُ الاتصال والمعلومات وانهيارُ جدار برلين؛ ما خلق أفقًا جديدًا للفنّ التشكيليّ في المغرب. وعندما نظّمتُ المعرض الكبير في معهد العالم العربيّ في باريس، مع زميلي الفرنسيّ جون هوبير ماتان في 2014 ــــ 2015، ظهر لي إلى أيّ حدٍّ أفاد ذلك الإصلاحُ الذي مسّ المدرستيْن الفنيّتين في الدار البيضاء وتطوان حركةَ التشكيل المغربيّ وفتحها على العالميّة؛ فغالبيّة الفنّانين المشاركين في هذا المعرض تلقّوا تعليمَهم في صفوف هاتيْن المدرستيْن العريقتيْن.
* تطوّر الإحساسُ بالتصوير الفنّيّ ليلاحق آلةَ التصوير الفوتوغرافيّ. إلى أيّ حدٍّ يمكننا الحديث عن وجود فنّ تصوير فوتوغرافيّ في المغرب؟ وهل يمكننا إدراجُه ضمن الفنون التشكيليّة البصريّة؟
ــــ أوّل فنّان مصوِّر في تاريخ المغرب هو الملك المغربيّ عبد العزيز (حكم المغرب ما بين 1894 و1908)، الذي تعلّم هذا الفنّ على يد أستاذه غابيرييل فيري. وأهمُّ ما خلفه من صور فنيّة تصويرُه لحريمه، وهو ما كان مستحيلًا في ذلك الوقت. لم يكن ذلك الملك مجرّدَ هاوٍ للتصوير بل كان متمكّنًا من دقائق أموره وعارفًا بتقنيّاته. لكنّ الوزير محمد بنعيسى (وزير الثقافة المغربيّ السابق، ومؤسّس مهرجان أصيلة الثقافيّ) هو أوّل فنان مغربيّ أقام معرضًا لفنّ التصوير الفوتوغرافيّ يروي فيه تجربتَه. وهو ما لفت انتباهَ الجمهور إلى أنّ آلة التصوير لا تصلح لإنتاج الصورة الشخصيّة الرسميّة فحسب، وإنّما هي كذلك بحثٌ في الذات، ويمكن استثمارُها إبداعيًّا كما تُستثمر الريشةُ والقلم.
* نحن اليوم في زمن ما بعد الحداثة. ما هي الموضوعات التي يشتغل عليها هذا الفنّ؟ وهل تمكّن من تأصيل وجوده في المشهد التشكيليّ المغربيّ؟
ــــ بالطبع يمكننا الحديث اليوم في المغرب عن الفنّ التشكيليّ ما بعد الحداثيّ. وينطلق هذا الفنّ من مسألة أساسيّة هي هدم الحدود بين الفنون، إذ يمكن أن يشتغل الفنّان على لوحةٍ صباغيّةٍ لكنّه يوظِّف فيها الكولّاج، أو يضيف إليها الصورَ الفوتوغرافيّة أو الأسلاكَ الكهربائيّة. لم تعد اللوحة، مع فنّ ما بعد الحداثة، لوحةً "صافية،" وأزيلت عنها الهالةُ التي كانت تلفّها بها الحداثةُ التشكيليّة. فإذا كانت الموادّ "النبيلة" في الفنّ الحداثيّ هي الصباغة الزيتيّة، والقماش، والتمكّن من التقنية، واحترامُ الفضاءات، فإنّ الفنّ ما بعد الحداثيّ هدم حدودَ التقنيّات وحدودَ الموادّ وحدودَ الفضاءات.
وفي ما يتعلق بهدم الفضاءات تحديدًا، لم يعد المرْسم هو مكانَ اختبار تجربة الفنّان الإبداعيّة، وإنّما صارت كلُّ الفضاءات الخارجيّة ملْكًا لاختبار هذه التجربة وتعريتها أمام الناس. ولم يعد للمتحف تلك القداسةُ المتفرّدة، التي تجعل منه المكانَ الوحيد لعرض اللوحة. كلّ هذه الأشياء أضحت تخترق جسد الفنّ التشكيليّ المغربيّ بشكلٍ ملفتٍ للانتباه.
كما استطاع الفنُّ التشكيليّ المغربيّ المعاصر اقتحامَ موضوعاتٍ لم يسبق أن اقتحمها: مثل النقد الاجتماعيّ، ونقد الفكر الدينيّ، والاهتمام بالطبيعة.
* باتت المرأة تحتلّ مكانًا بارزًا في المشهد التشكيليّ المغربيّ، ما يثير سؤالًا حول خصوصيّة اللوحة التشكيليّة المغربيّة، موضوعًا أو تقنيّةَ إنتاج.
ــــ إذا كنت تقصد بسؤالك وجودَ فنٍّ تشكيليٍّ نسويّ بخصائص متفرّدة، فإنني أعتقد أنّ ذلك موجودٌ فعلًا. وسأحيلك على مناسبتيْن مهمّتيْن أبرزتا أهميّة الوجود النسائيّ في المشهد التشكيليّ المغربيّ:
1) معرض معهد العالم العربيّ في باريس، الذي أشرفتُ عليه شخصيًّا ووصلتْ نسبةُ حضور الفنّانات التشكيليّات المغربيّات فيه إلى 25%؛ وهي نسبةٌ مهمّة في فنٍّ لم يَعرف دخولَ المرأة إلى سراديبه إلّا حديثَا، وتحديدَا مع تيّار الحداثة في الغرب.
2) المعرض الذي أقيم في متحف محمد السادس تحت اسم "نساءٌ من الحداثة،" حيث ظهرت لنا موضوعاتٌ خاصّة بالمرأة، يصعب على الرجل اقتحامُها، مثل موضوع الجسد، وموضوع المساواة. أمّا تقنيًّا فلا أعتقد أنّ ثمّة ما يميّز المرأة عن الرجل في توظيف الألوان أو الأشكال.
* أيُّ أفقٍ تتوقّعه للفنّ التشكيليّ المغربيّ؟
ــــ الفنّ التشكيليّ المغربيّ يعدّ من أهمّ الساحات الفنّيّة على مستوى البحر المتوسّط. لكنّه يبقى في حاجةٍ إلى دعم المؤسّسات الاقتصاديّة والخدماتيّة في القطاع الخاصّ. فلا تقدّم للفنّ التشكيليّ المغربيّ في غياب استراتيجيّة الاقتناء، وغيابِ أسواق كبرى لرواج اللوحة واقتنائها. المتاحف لا تكفي وحدها لإشاعة العمل والتعريف به. وحده الاقتناء مَخرجٌ للفنّ التشكيليّ المغربيّ من كلّ أزماته، خصوصًا أنّه لا يشكو نقصًا في مستوى الإبداعيّة، لا بالمقاييس الوطنيّة فحسب، وإنّما بالمقاييس العالميّة أيضًا.
المغرب