الجثث تروي معاناة السودانيين مع الحرب في "آيس دريم"
مسرحية "آيس دريم" صورة حية عن مقاومة الإنسان لكل الظروف التي تحاصره وتسجنه من أجل أن يحقق حلمه.
الجمعة 2024/11/29
ShareWhatsAppTwitterFacebook
جثث تنطق بأوجاع السودان
تونس - لأن "المسرح مقاومة" وفضاء حر للتعبير عن القضايا الحارقة التي يناضل من أجلها المواطن العربي أينما كان، اختارت أيام قرطاج المسرحية في دورتها الخامسة والعشرين عددا من المسرحيات المتوزعة بين عروض المسابقة الرسمية وعروض موازية تنقل لجمهور الفن الرابع أوجها متعددة عن المقاومة، وتعرض أمامه أعمالا فنية مستوحاة من الأوضاع الراهنة في مختلف الدول العربية وخاصة تلك التي تعيش أزمات أمنية وسياسية كبرى وحروبا مدمرة.
من هذه العروض، مسرحية “آيس دريم” للمخرج السوداني وليد عمر الألفي، التي لم تكن مجرد عرض مسرحي لحكايات من واقع الحياة في السودان زمن الحرب، وإنما جاءت صورة حية عن المقاومة، مقاومة الإنسان لكل الظروف التي تحاصره وتسجنه من أجل أن يحقق حلمه.
قبل الشروع في عرض المسرحية عرض لنا المخرج مقطع فيديو يوضح لنا عمق المعاناة والتحديات التي تكبدها جزء من الممثلين السودانيين المشاركين في هذا العرض، كي يصلوا إلى تونس ويحققوا حلمهم في المشاركة بأيام قرطاج المسرحية. بعضهم مرض وتنقل بين السودان والقاهرة ثم تونس في رحلة مرهقة جدا، أما النساء فواجهن مشاكل أكبر، منهن من تعرضت للتحرش وعنفت بالضرب وسرقت أمتعتها ولم تصل تونس إلا بـ”معجزة” جعلتها تبكي على ما حصل لها ولبلادها وتعبر عن خوفها من رحلة العودة التي قد يتكرر فيها سيناريو العنف من أوله.
بهذا الفيديو الذي يوثق شهادات حية يضعنا المخرج مباشرة في صلب تيمة العمل المسرحي التي لن تبتعد بنا كثيرا عن الواقع السوداني، فنحن في “آيس دريم” أمام مزيج بين التراجيديا والكوميديا السوداء، أمام حكايات مواطنين سودانيين كانوا ضحية الحرب والاقتتال الأهلي المستمر، لكنهم ليسوا مواطنين عاديين، إنهم جثث في ثلاجة للموتى، يسردون على مسامعنا حكاياتهم وكيف لقوا حتفهم مراوحين بين الحزن والفكاهة.
خمس جثث حائرة كيف قتلت، تنتظر كل واحدة منها أهلها وأحبابها لاستلامها مكررة على مسامعنا أن “إكرام الميت دفنه”، كل جثة منهم تحمل حكاية مختلفة، من الحبيبين إلى المعلم والطبيبة والرجل الغريب الذي لا يعرفه أحد منهم، ماتوا جميعا بطرق متشابهة على أيدي ميليشيات. يخاطبهم غفير المشرحة ويصدمهم بحقائق عنهم بين متحرش وزانية ورجل وحيد تنكر له أهله وعذب حتى الموت، ويعيشون صراعات كبيرة بينهم. هي خمس جثث تنتقد طمس السلطات لحقيقة موتها لتخفي بشاعة جرائم الحرب معللة وفاة البعض بوباء كورونا وانخفاض مستوى السكر في الدم وجرائم الشرف.
◙ "آيس دريم" للمخرج وليد عمر الألفي قدمت معالجة فنية مسرحية لقضية تكدس جثث المتظاهرين في المشارح منذ 2019
وهذه الفكرة استوحاها من حدث واقعي عاشته مشارح مدينتي العاصمة الخرطوم وود مدني في وسط السودان، عام 2022، حيث كشف تقارير صحافية عن إغلاق مشرحة مستشفى بشائر في جنوب الخرطوم، بعد بدء نحو ألف جثة مجهولة في التحلل؛ إضافة إلى وجود جثث مجهولة الهوية في أوسع المشارح في السودان وهي مشرحة مستشفى أمدرمان.
سينوغرافيا، اهتم المخرج بتركيز شاشة عرض عملاقة في عمق الخشبة تعرض صورا تذكر بالدماء والشرايين والانفجارات طغى عليها اللونان الأحمر الدموي والأزرق، واعتمد إضاءة مسلطة على الممثلين الذين يجلسون في صناديق بيضاء أشبه بالتوابيت، يحركونها كلما غيروا حركة أجسادهم. وحده الغفير من يتنقل بينهم.
هذه العناصر السينوغرافية عززها المخرج بموسيقى سودانية بعضها مسجل وبعضها الآخر يؤديه الممثلون، إلى جانب موسيقى تونسية مستحدثة على العرض الذي غاب بعض الممثلين فيه فاستعان وليد عمر الألفي بممثلين تونسيين لتعويضهم، وبالتالي تطلب هذا التغيير إجراء تعديلات في نص العمل الذي جاء مزيجا بين اللهجة السودانية واللغة العربية لكنه استخدم مفردات تونسية أضافت بعدا كوميديا على العمل.
ورغم أهمية الموضوع والقصص التي يتناولها العرض المسرحي إلا أنه سقط في فخ الرتابة، فجلوس الممثلين في “توابيتهم” لنحو ساعة من الزمن معتمدين بنسبة أكبر على النص المسرحي خلق بعض الملل لدى الجمهور. في آخر ربع ساعة من زمن العرض، تغادر الجثث التوابيت طلبا للحقيقة ليجدوا أنفسهم مرميين في الصحراء، لم يستلمهم أحد ولم يدفنهم أحد، فالحرب أفنت الجميع وبقيت الأرض، مشاهد الحركة الأخيرة كسرت الجمود الذي أصاب الممثلين منذ بداية العرض.
واللغة في هذا العرض هي واحدة من نقاط الضعف فيه، فاللهجة بدت في بعض المواضع غير مفهومة، إلى جانب أن أداء بعض الممثلين باللغة العربية كان غير واضح مع ضعف كبير في النحو والصرف. رغم ذلك كان النص شاعريا فلسفيا مكثفا، يطرح علينا العديد من الأفكار ويستعيد ذكرى رموز الفكر كميشال فوكو وفيكتور هيغو وبعض الأحاديث والآيات القرآنية والمصطلحات الطبية.
"آيس دريم" قدمت معالجة فنية مسرحية لقضية تكدس جثث المتظاهرين في المشارح منذ 2019، ضمن مشروع “منطقة صناعة العرض المسرحي”، في إطار ما أطلقت عليه اسم “مسرح الشدة”، ونفذت بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون “آفاق”.
في العمل الأصلي يشارك في التمثيل كل من الرشيد أحمد عيسى، محمد أحمد الشاعر، نمارق عبد الله، رماح القاضي، آدم منقة، والموسيقى لرامز سراج. أما في هذا العرض الأول بتونس فشارك الفنان التونسي عبدالرحمن الشبلي بديلا للفنان الرشيد أحمد عيسى والفنانة هدى مأمون بديلة لرماح القاضي التي ما زالت عالقة في السودان والفنان أشرف جلاصي بديلا للفنان رامز سراج، كما أشرف مكرم المانسي على العملية الفنية والإدارية بعد تغيب المخرج جراء المرض.
مقاومة من نوع خاص كتبت على الفريق السوداني إلى آخر لحظة من تجربتهم الفنية التي ورغم بعض الهنات إلا أنها نقلت مأساة آلاف السودانيين الذين لقوا حتفهم جراء الحرب، مأساة تستعيد رموزا من السودان والفن السوداني ومنهم الفنان عبدالكريم الكابلي (1933-2021)، حين تردد الجثث جميعها: “يا أصلنا ومبتدانا يا حلاة مسرح صبانا، وذكرياتنا ومشتهانا، إنت فينا كبير وريدنا ليك كثير، القوما ليك يا وطني.”
ShareWhatsAppTwitterFacebook
حنان مبروك
صحافية تونسية
مسرحية "آيس دريم" صورة حية عن مقاومة الإنسان لكل الظروف التي تحاصره وتسجنه من أجل أن يحقق حلمه.
الجمعة 2024/11/29
ShareWhatsAppTwitterFacebook
جثث تنطق بأوجاع السودان
تونس - لأن "المسرح مقاومة" وفضاء حر للتعبير عن القضايا الحارقة التي يناضل من أجلها المواطن العربي أينما كان، اختارت أيام قرطاج المسرحية في دورتها الخامسة والعشرين عددا من المسرحيات المتوزعة بين عروض المسابقة الرسمية وعروض موازية تنقل لجمهور الفن الرابع أوجها متعددة عن المقاومة، وتعرض أمامه أعمالا فنية مستوحاة من الأوضاع الراهنة في مختلف الدول العربية وخاصة تلك التي تعيش أزمات أمنية وسياسية كبرى وحروبا مدمرة.
من هذه العروض، مسرحية “آيس دريم” للمخرج السوداني وليد عمر الألفي، التي لم تكن مجرد عرض مسرحي لحكايات من واقع الحياة في السودان زمن الحرب، وإنما جاءت صورة حية عن المقاومة، مقاومة الإنسان لكل الظروف التي تحاصره وتسجنه من أجل أن يحقق حلمه.
قبل الشروع في عرض المسرحية عرض لنا المخرج مقطع فيديو يوضح لنا عمق المعاناة والتحديات التي تكبدها جزء من الممثلين السودانيين المشاركين في هذا العرض، كي يصلوا إلى تونس ويحققوا حلمهم في المشاركة بأيام قرطاج المسرحية. بعضهم مرض وتنقل بين السودان والقاهرة ثم تونس في رحلة مرهقة جدا، أما النساء فواجهن مشاكل أكبر، منهن من تعرضت للتحرش وعنفت بالضرب وسرقت أمتعتها ولم تصل تونس إلا بـ”معجزة” جعلتها تبكي على ما حصل لها ولبلادها وتعبر عن خوفها من رحلة العودة التي قد يتكرر فيها سيناريو العنف من أوله.
بهذا الفيديو الذي يوثق شهادات حية يضعنا المخرج مباشرة في صلب تيمة العمل المسرحي التي لن تبتعد بنا كثيرا عن الواقع السوداني، فنحن في “آيس دريم” أمام مزيج بين التراجيديا والكوميديا السوداء، أمام حكايات مواطنين سودانيين كانوا ضحية الحرب والاقتتال الأهلي المستمر، لكنهم ليسوا مواطنين عاديين، إنهم جثث في ثلاجة للموتى، يسردون على مسامعنا حكاياتهم وكيف لقوا حتفهم مراوحين بين الحزن والفكاهة.
خمس جثث حائرة كيف قتلت، تنتظر كل واحدة منها أهلها وأحبابها لاستلامها مكررة على مسامعنا أن “إكرام الميت دفنه”، كل جثة منهم تحمل حكاية مختلفة، من الحبيبين إلى المعلم والطبيبة والرجل الغريب الذي لا يعرفه أحد منهم، ماتوا جميعا بطرق متشابهة على أيدي ميليشيات. يخاطبهم غفير المشرحة ويصدمهم بحقائق عنهم بين متحرش وزانية ورجل وحيد تنكر له أهله وعذب حتى الموت، ويعيشون صراعات كبيرة بينهم. هي خمس جثث تنتقد طمس السلطات لحقيقة موتها لتخفي بشاعة جرائم الحرب معللة وفاة البعض بوباء كورونا وانخفاض مستوى السكر في الدم وجرائم الشرف.
◙ "آيس دريم" للمخرج وليد عمر الألفي قدمت معالجة فنية مسرحية لقضية تكدس جثث المتظاهرين في المشارح منذ 2019
وهذه الفكرة استوحاها من حدث واقعي عاشته مشارح مدينتي العاصمة الخرطوم وود مدني في وسط السودان، عام 2022، حيث كشف تقارير صحافية عن إغلاق مشرحة مستشفى بشائر في جنوب الخرطوم، بعد بدء نحو ألف جثة مجهولة في التحلل؛ إضافة إلى وجود جثث مجهولة الهوية في أوسع المشارح في السودان وهي مشرحة مستشفى أمدرمان.
سينوغرافيا، اهتم المخرج بتركيز شاشة عرض عملاقة في عمق الخشبة تعرض صورا تذكر بالدماء والشرايين والانفجارات طغى عليها اللونان الأحمر الدموي والأزرق، واعتمد إضاءة مسلطة على الممثلين الذين يجلسون في صناديق بيضاء أشبه بالتوابيت، يحركونها كلما غيروا حركة أجسادهم. وحده الغفير من يتنقل بينهم.
هذه العناصر السينوغرافية عززها المخرج بموسيقى سودانية بعضها مسجل وبعضها الآخر يؤديه الممثلون، إلى جانب موسيقى تونسية مستحدثة على العرض الذي غاب بعض الممثلين فيه فاستعان وليد عمر الألفي بممثلين تونسيين لتعويضهم، وبالتالي تطلب هذا التغيير إجراء تعديلات في نص العمل الذي جاء مزيجا بين اللهجة السودانية واللغة العربية لكنه استخدم مفردات تونسية أضافت بعدا كوميديا على العمل.
ورغم أهمية الموضوع والقصص التي يتناولها العرض المسرحي إلا أنه سقط في فخ الرتابة، فجلوس الممثلين في “توابيتهم” لنحو ساعة من الزمن معتمدين بنسبة أكبر على النص المسرحي خلق بعض الملل لدى الجمهور. في آخر ربع ساعة من زمن العرض، تغادر الجثث التوابيت طلبا للحقيقة ليجدوا أنفسهم مرميين في الصحراء، لم يستلمهم أحد ولم يدفنهم أحد، فالحرب أفنت الجميع وبقيت الأرض، مشاهد الحركة الأخيرة كسرت الجمود الذي أصاب الممثلين منذ بداية العرض.
واللغة في هذا العرض هي واحدة من نقاط الضعف فيه، فاللهجة بدت في بعض المواضع غير مفهومة، إلى جانب أن أداء بعض الممثلين باللغة العربية كان غير واضح مع ضعف كبير في النحو والصرف. رغم ذلك كان النص شاعريا فلسفيا مكثفا، يطرح علينا العديد من الأفكار ويستعيد ذكرى رموز الفكر كميشال فوكو وفيكتور هيغو وبعض الأحاديث والآيات القرآنية والمصطلحات الطبية.
"آيس دريم" قدمت معالجة فنية مسرحية لقضية تكدس جثث المتظاهرين في المشارح منذ 2019، ضمن مشروع “منطقة صناعة العرض المسرحي”، في إطار ما أطلقت عليه اسم “مسرح الشدة”، ونفذت بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون “آفاق”.
في العمل الأصلي يشارك في التمثيل كل من الرشيد أحمد عيسى، محمد أحمد الشاعر، نمارق عبد الله، رماح القاضي، آدم منقة، والموسيقى لرامز سراج. أما في هذا العرض الأول بتونس فشارك الفنان التونسي عبدالرحمن الشبلي بديلا للفنان الرشيد أحمد عيسى والفنانة هدى مأمون بديلة لرماح القاضي التي ما زالت عالقة في السودان والفنان أشرف جلاصي بديلا للفنان رامز سراج، كما أشرف مكرم المانسي على العملية الفنية والإدارية بعد تغيب المخرج جراء المرض.
مقاومة من نوع خاص كتبت على الفريق السوداني إلى آخر لحظة من تجربتهم الفنية التي ورغم بعض الهنات إلا أنها نقلت مأساة آلاف السودانيين الذين لقوا حتفهم جراء الحرب، مأساة تستعيد رموزا من السودان والفن السوداني ومنهم الفنان عبدالكريم الكابلي (1933-2021)، حين تردد الجثث جميعها: “يا أصلنا ومبتدانا يا حلاة مسرح صبانا، وذكرياتنا ومشتهانا، إنت فينا كبير وريدنا ليك كثير، القوما ليك يا وطني.”
ShareWhatsAppTwitterFacebook
حنان مبروك
صحافية تونسية