أحمد الخميسي لـ"العرب": الأدب يغير الواقع ببطء وهو ليس خطابا سياسيا
العالم غير مهتم بترجمة الأدب العربي لسببين مثيرين للجدل.
السبت 2024/11/30
ShareWhatsAppTwitterFacebook
التمييز بين الذكاء الاصطناعي والقلب البشري سيظل ممكنا
في المشهد الثقافي المصري تبرز شخصية متفردة يقف صاحبها الآن على أعتاب ستين عاما من الكتابة، منذ أن نشر أولى قصصه في مجلة “القصة” عام 1965 بعنوان “الشوق”، ولم يكن عمره تجاوز السبعة عشر عاما، إنه الأديب أحمد الخميسي، الذي كان لـ"العرب" معه هذا الحوار حول تجربته ورؤاه.
في بدايات الكاتب أحمد الخميسي قدمه يوسف إدريس في مجلة “الكاتب” سنة 1966 بنشر قصته “استرجاع الأحلام”. لتتواصل تجربته كاتبا من المخلصين للقصة القصيرة، مهما علا شأنها أو هبط بين فنون الكتابة.
ويكشف الخميسي في حواره مع “العرب” عن شعوره بالارتباك الشديد في ما يخص الذكاء الاصطناعي وقدراته العجيبة، وما يمكن أن يؤديه من أدوار تتصل بالكتابة الأدبية، قائلا “جربت أن أطلب منه كتابة قصة فقدم لي قصة قصيرة تكاد أن تكون جيدة.”
إدريس والثقافة المصرية
◙ الغرب لا يترجم الأدب العربي لأنه لا يمثل إضافة ذات شأن كما أن العرب لا يشكلون ثقلا اقتصاديا وسياسيا دوليا
يعلنها الكاتب المصري بتعجب وفزع، ورغم ذلك يعتقد أن إمكانية التمييز بين الذكاء الاصطناعي والقلب البشري ستظل قائمة، لكنها معلقة بخيط رفيع جدا، “في ما مضى كنا نخشى من تحول الإنسان إلى آلة، الآن أصبح الخوف من أن تتحول الآلة إلى إنسان، وهو أمر مفزع.”
إذا ذُكرت القصة القصيرة يُذكر في الحال اسم يوسف إدريس، فهو كما تشير الألقاب “تشيخوف مصر” أو “تشيخوف العرب”، وهو أيضا كان وما زال باعثا للجدل، ورغم الاتفاق على حجم موهبته لكن آراء كثيرة تذهب إلى أنه نجح بشخصيته في إزاحة كثيرين من طريقه ليبقى الأوحد على عرش القصة القصيرة.
تسأل “العرب” أحمد الخميسي عن رأيه في ذلك، فيعلق إنه “أمر مضحك”، ويفسر قائلا “من المضحك القول إن يوسف إدريس نجح في إزاحة الكثيرين عن طريقه، ولا يقصد بذلك سوى تشويه أديب عظيم، فقد برز في زمنه وإلى جواره أساتذة كبار في فن القصة القصيرة مثل يوسف الشاروني، وأبوالمعاطي أبوالنجا، ويوسف جوهر، ومحمود البدوي، وغيرهم، ولم يحدث في تاريخ الآداب العربية أو العالمية أن أزاح كاتب كبير أديبا عن الطريق، هذا لم يحدث.”
ويتابع “في زمن ما كان ليف تولستوي يكتب وإلى جواره في نفس السنوات أنطون تشيخوف، ودوستيوفسكي، وتورجنيف، ولم يستطع أحد أن يزيح أحدا. وفي سنوات مشتركة ظهر إبداع نجيب محفوظ ويوسف إدريس وبهاء طاهر ولم يقم أحد بإزاحة الآخر، ولم يكن أحد ليستطيع ذلك حتى لو أراد. الأدب الحقيقي يشق طريقه دائما.”
وعلى العكس مما يقال، يرى الخميسي أن إدريس تولى بدأب وانتظام تقديم الأدباء الشبان من جيل الستينات على صفحات مجلة “الكاتب”، أمثال يحيي الطاهر عبدالله، ومحمد البساطي، ومحمد روميش، وغيرهم، وكتب مقدمات لقصصهم وعاونهم على النشر في مختلف المنابر. مشددا على أنه “لا يحتاج أي كاتب كبير إلى إزاحة أحد، إنه قائم بموهبته وتفرده، ولونه الخاص، لاسيما حين يكون الحديث عن يوسف إدريس.”
يصف الخميسي إدريس بأنه والد القصة القصيرة في الأدب العربي الذي غرس قدميه، واحدة في أوجاع الريف المصري والثانية في هموم المدينة والموظفين والطلاب والعمال. وكانت القصة القصيرة قبله تحبو، وتقف ثم تقع، إلى أن ظهر ذلك الكاتب العبقري وشاد للقصة صرحا مجيدا، فهو موهبة لا تتكرر، تشربت عذوبة ماء النيل وصلابة أحجار الأهرامات.
◙ الخميسي يصف إدريس بأنه والد القصة القصيرة في الأدب العربي الذي غرس قدميه واحدة في أوجاع الريف المصري والثانية في هموم المدينة والموظفين
تعد قضية الحرية لبنة أساسية في إبداع وفكر الكاتب أحمد الخميسي، الذي يعلق على مقولة يوسف إدريس بأن هامش الحرية المتاح في العالم العربي كله لا يكفي كاتبا واحدا، باعتقاده أن “الكاتب العبقري” كان يبالغ في قوله ذلك ليظهر فقط حجم أزمة الحرية في عالمنا العربي، وهي مبالغة يعرفها الفن ويستخدمها لإظهار الحقيقة بتكبيرها وتضخيمها، إلا أن صيحة إدريس تعكس في النهاية أزمة الحرية في بلادنا، وما زلنا حتى اللحظة التي ندير فيها هذا الحوار نسمع عن أدباء وشعراء يدخلون السجون بسبب أعمالهم.
ويضيف الخميسي في حواره لـ”العرب”، “حتى النكتة أصبحت خطرا، وسببا لوضع مبدع خلف القضبان. ولا شك أن الفن مجال واسع وعريق للمكر، والتلميح.” ويذكر في هذا المضمار أن الأدباء زمن الاتحاد السوفيتي كانوا يُضمنون أعمالهم بعض المقاطع لتنشغل الرقابة بحذفها عن معنى العمل العام.
ويتساءل “نعم للفن طرقه الماكرة، لكن ماذا إن أراد الفنان أن يقول كلمته صريحة؟ ماذا إن كان العمل الأدبي يقتضي بطبيعته الفنية التصريح؟ الأسوأ من ذلك أن الوضع العام وأزمة الحريات جعلا الأدباء يفكرون وهم يبدعون في الرقيب والمنع فصاروا يقيدون أنفسهم بأنفسهم في مجرى العملية الإبداعية منذ البداية.”
وتسأل “العرب” الكاتب المصري حول رؤيته لإصلاح حال الثقافة المصرية وأول القرارات التي سيتخذها إن قُدِّر له أن يجلس على مقعد المسؤول الثقافي الأول في مصر ليوم واحد، فيقول إن “القرار الأول أن ينصت الوزير أيا كان لصوت المثقفين والأدباء، ويعقد المسؤول الثقافي معهم لقاء شهريا يستمع فيه لاقتراحاتهم وملاحظاتهم وتصورهم لخطط نشر الثقافة وأن يأخذ بما يجمعون عليه، لأن المسؤول الثقافي في نهاية الأمر مجرد موظف، تعتمده في ذلك المنصب الجهات الأمنية وليس الثقافية، بالتالي فإحاطته بالحركة الثقافية بل والثقافة عادة ما تكون ضئيلة.”
وينتقل إلى قرار ثان واجب، وهو أن تصبح ميزانية وزارة الثقافة معلنة وشفافة وتنشر سنويا، ليعرف الجميع كم من أموال تتلقى الوزارة، وعلى ماذا تنفق تلك الأموال، وهل تستفيد بها الثقافة أم أن من يستفيد بمعظمها هم الموظفون والبيروقراطية؟ ولا يرى أحمد الخميسي في أداء وزير الثقافة المصري أحمد فؤاد هنو حتى الآن عملا باهرا، ويصفه بأنه يبدو أنيقا ومهذبا، لكن الأناقة ليست عملا، بل ويتم في حضوره إغلاق المسارح مثل المسرح العائم وتحويله إلى جراج سيارات، وإغلاق دور العرض، ولم نسمع له صوتا.
هبات جماهيرية بلا قيادة
◙ أحمد الخميسي حصل على جائزة ساويرس الثقافية في القصة القصيرة عام 2011 عن مجموعته القصصية “كناري”
حصل الكاتب المصري أحمد الخميسي على جائزة ساويرس الثقافية في القصة القصيرة عام 2011 عن مجموعته القصصية “كناري”، وعام 2017 عن مجموعته القصصية “أنا وأنت”، وتضم قائمة أعماله مجموعات قصصية عديدة منها “قطعة ليل” و”كناري” و”ليل بلا قمر”، وآخرها “حفيف صندل”.
بعد مرور أربعة عشر عاما على ما مر بالمنطقة من أحداث جسام، يصف الخميسي الربيع العربي بأنه “خدعة قامت على حقيقة”، مفسرا بأن الواقع العربي كان متخما بالغضب، والإحباط، والبحث عن طريق يفضي إلى العدالة والكرامة والحرية، هذه هي الحقيقة، أما الخدعة فقد تمت حين جرى تفجير شحنة الغضب تلك مع التحكم في مسارها وتوجيهها لطريق محدد يضمن من ناحية التنفيس عن الغضب، ويضمن من ناحية ثانية ألا تطال الثورة أساس الفساد وجذوره، بحيث يتم فقط استبدال الوجوه بوجوه أخرى مع بقاء الأوضاع على ما كانت عليه.
ويضيف لـ”العرب” أن الحقيقة تجسدت في الاستياء الشعبي العارم، وتجسدت الخدعة في استثمار ذلك الاستياء لصالح نفس الفئات الحاكمة التي تراكم الاستياء ضدها، لذلك لم نر بعد ذلك تغييرا حقيقيا في شتى مناحي الحياة، وظلت شعارات الجماهير “حرية كرامة عدالة اجتماعية” مجرد أمنيات في غياب قوى طليعية ترسم طريقا آخر للغضب. كانت هبات جماهيرية بلا قيادة، حكمها اليأس وحده، فكان حتما أن تؤدي إلى دورة جديدة من نفس الحال.
كتب أحمد الخميسي في هذا الصدد عام 2012 قصة “رأس الديك الأحمر”، وكان اسمها عنوانا لمجموعته التي صدرت نهاية ذلك العام، وتصور القصة انفصال الرأس عن الجسد، أي انفصال الغضب عن قيادة ورأس مفكر، فطار جسد الديك الأحمر وحده، بينما ظل رأسه ينظر إليه مندهشا متسائلا “هذا أنا من دوني.. فكيف حدث هذا.”
◙ قضية الحرية تعد لبنة أساسية في إبداع وفكر الكاتب أحمد الخميسي
يقود الحوار إلى سؤال عن جدوى الكتابة وقدرة الأدب على التغيير، ما يعتبره الخميسي سؤالا كثيرا ما يحط بثقله على روح الكاتب وعلى طموحه إلى الاستمرار، متذكرا الأديب الشهير عادل كامل الذي كان زميل نجيب محفوظ منذ الخطوات الأولى، لكنه توقف عن الكتابة بعد روايتين عظيمتين لأنه لم يجد جدوى من الكتابة.
يعبّر في المقابل عن اعتقاده بأن الكاتب الكبير يدرك أن جدوى الكتابة المادية أو الاجتماعية إما معدومة أو تكاد أن تكون معدومة، وأن تأثير الكتابة في الناس عملية بطيئة للغاية، وتتم على مدى زمني طويل لأن الأدب يخاطب النفوس التي تختمر فيها المعاني والأفكار في زمن طويل.
ويدلل على ذلك بأننا مازلنا نقرأ أعمال ستيفان زفايج العظيمة التي كتبها منذ تسعين عاما، وهي الآن تغيرنا، ونقرأ أعمال يحيي حقي التي كتبها منذ نحو مئة عام، لكن تأثيرها يقع الآن، فالأدب يغير الواقع لكن بتريث وبطء، إنه ليس خطابا سياسيا ليشعل الحماس في لحظة، كما يقول.
حصل أحمد الخميسي على درجة الدكتوراه في فلسفة الأدب من جامعة موسكو، وكرمه اتحاد الأدباء العرب لدوره الأدبي والثقافي، ومنحه اتحاد كتاب روسيا العضوية الشرفية تقديرا لما قدمه للتعريف بالأدبين الروسي والعربي عبر الترجمات العديدة التي قدمها للأدب الروسي.
تسأله “العرب” عن المسؤول عن عدم وجود حركة ترجمة عكسية للأدب العربي إلى اللغات الأجنبية، هل الإبداع ذاته ومستواه أم عدم القدرة على تسويقه أم دور النشر أم المؤسسة الرسمية للدولة؟ فيحدد سببين لذلك، أولهما يبدو مفهوما ومنطقيا بينما قد يفتح الثاني الباب أمام نقاش وجدل.
ويقول “إذا أردت الصدق فإن هناك سببين لذلك؛ الأول أننا لا نشغل مركزا متقدما صناعيا وعسكريا يروج ويفسح المجال للغتنا وآدابنا في الثقافات الأخرى، والسبب الثاني أن ما نكتبه وما نبدعه هو بدرجة ما صدى لإنجازات الأدب الأوروبي وإلى حد ما نسخة لكن قومية من الأدب العالمي.”
ويذكر بهذا الصدد أن مترجما اقترح على “دار التقدم” في الاتحاد السوفيتي - وكانت وقتها الجهة المسؤولة عن الترجمات إلى الروسية - ترجمة ثلاثية نجيب محفوظ وأرفق اقتراحه بجزء قام بترجمته بالفعل، لكن حين قرأ المسؤولون ذلك الجزء قالوا له “وما أهمية أن نكرر نشر ديكنز أو بلزاك من اللغة العربية.”
ويختتم الأديب أحمد الخميسي حواره مع “العرب” قائلا “إن السبب في عدم ترجمة آدابنا أن ما نكتبه لا يمثل إضافة ذات شأن إلى الآداب الأجنبية، ويأتي بعد ذلك اعتبار أننا لا نشكل ثقلا اقتصاديا وسياسيا دوليا، لكن ذلك لا ينفي أن لدينا أدبا رفيعا على أعلى مستوى وجدير بالترجمة.”
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد شعير
كاتب مصري
العالم غير مهتم بترجمة الأدب العربي لسببين مثيرين للجدل.
السبت 2024/11/30
ShareWhatsAppTwitterFacebook
التمييز بين الذكاء الاصطناعي والقلب البشري سيظل ممكنا
في المشهد الثقافي المصري تبرز شخصية متفردة يقف صاحبها الآن على أعتاب ستين عاما من الكتابة، منذ أن نشر أولى قصصه في مجلة “القصة” عام 1965 بعنوان “الشوق”، ولم يكن عمره تجاوز السبعة عشر عاما، إنه الأديب أحمد الخميسي، الذي كان لـ"العرب" معه هذا الحوار حول تجربته ورؤاه.
في بدايات الكاتب أحمد الخميسي قدمه يوسف إدريس في مجلة “الكاتب” سنة 1966 بنشر قصته “استرجاع الأحلام”. لتتواصل تجربته كاتبا من المخلصين للقصة القصيرة، مهما علا شأنها أو هبط بين فنون الكتابة.
ويكشف الخميسي في حواره مع “العرب” عن شعوره بالارتباك الشديد في ما يخص الذكاء الاصطناعي وقدراته العجيبة، وما يمكن أن يؤديه من أدوار تتصل بالكتابة الأدبية، قائلا “جربت أن أطلب منه كتابة قصة فقدم لي قصة قصيرة تكاد أن تكون جيدة.”
إدريس والثقافة المصرية
◙ الغرب لا يترجم الأدب العربي لأنه لا يمثل إضافة ذات شأن كما أن العرب لا يشكلون ثقلا اقتصاديا وسياسيا دوليا
يعلنها الكاتب المصري بتعجب وفزع، ورغم ذلك يعتقد أن إمكانية التمييز بين الذكاء الاصطناعي والقلب البشري ستظل قائمة، لكنها معلقة بخيط رفيع جدا، “في ما مضى كنا نخشى من تحول الإنسان إلى آلة، الآن أصبح الخوف من أن تتحول الآلة إلى إنسان، وهو أمر مفزع.”
إذا ذُكرت القصة القصيرة يُذكر في الحال اسم يوسف إدريس، فهو كما تشير الألقاب “تشيخوف مصر” أو “تشيخوف العرب”، وهو أيضا كان وما زال باعثا للجدل، ورغم الاتفاق على حجم موهبته لكن آراء كثيرة تذهب إلى أنه نجح بشخصيته في إزاحة كثيرين من طريقه ليبقى الأوحد على عرش القصة القصيرة.
تسأل “العرب” أحمد الخميسي عن رأيه في ذلك، فيعلق إنه “أمر مضحك”، ويفسر قائلا “من المضحك القول إن يوسف إدريس نجح في إزاحة الكثيرين عن طريقه، ولا يقصد بذلك سوى تشويه أديب عظيم، فقد برز في زمنه وإلى جواره أساتذة كبار في فن القصة القصيرة مثل يوسف الشاروني، وأبوالمعاطي أبوالنجا، ويوسف جوهر، ومحمود البدوي، وغيرهم، ولم يحدث في تاريخ الآداب العربية أو العالمية أن أزاح كاتب كبير أديبا عن الطريق، هذا لم يحدث.”
ويتابع “في زمن ما كان ليف تولستوي يكتب وإلى جواره في نفس السنوات أنطون تشيخوف، ودوستيوفسكي، وتورجنيف، ولم يستطع أحد أن يزيح أحدا. وفي سنوات مشتركة ظهر إبداع نجيب محفوظ ويوسف إدريس وبهاء طاهر ولم يقم أحد بإزاحة الآخر، ولم يكن أحد ليستطيع ذلك حتى لو أراد. الأدب الحقيقي يشق طريقه دائما.”
وعلى العكس مما يقال، يرى الخميسي أن إدريس تولى بدأب وانتظام تقديم الأدباء الشبان من جيل الستينات على صفحات مجلة “الكاتب”، أمثال يحيي الطاهر عبدالله، ومحمد البساطي، ومحمد روميش، وغيرهم، وكتب مقدمات لقصصهم وعاونهم على النشر في مختلف المنابر. مشددا على أنه “لا يحتاج أي كاتب كبير إلى إزاحة أحد، إنه قائم بموهبته وتفرده، ولونه الخاص، لاسيما حين يكون الحديث عن يوسف إدريس.”
يصف الخميسي إدريس بأنه والد القصة القصيرة في الأدب العربي الذي غرس قدميه، واحدة في أوجاع الريف المصري والثانية في هموم المدينة والموظفين والطلاب والعمال. وكانت القصة القصيرة قبله تحبو، وتقف ثم تقع، إلى أن ظهر ذلك الكاتب العبقري وشاد للقصة صرحا مجيدا، فهو موهبة لا تتكرر، تشربت عذوبة ماء النيل وصلابة أحجار الأهرامات.
◙ الخميسي يصف إدريس بأنه والد القصة القصيرة في الأدب العربي الذي غرس قدميه واحدة في أوجاع الريف المصري والثانية في هموم المدينة والموظفين
تعد قضية الحرية لبنة أساسية في إبداع وفكر الكاتب أحمد الخميسي، الذي يعلق على مقولة يوسف إدريس بأن هامش الحرية المتاح في العالم العربي كله لا يكفي كاتبا واحدا، باعتقاده أن “الكاتب العبقري” كان يبالغ في قوله ذلك ليظهر فقط حجم أزمة الحرية في عالمنا العربي، وهي مبالغة يعرفها الفن ويستخدمها لإظهار الحقيقة بتكبيرها وتضخيمها، إلا أن صيحة إدريس تعكس في النهاية أزمة الحرية في بلادنا، وما زلنا حتى اللحظة التي ندير فيها هذا الحوار نسمع عن أدباء وشعراء يدخلون السجون بسبب أعمالهم.
ويضيف الخميسي في حواره لـ”العرب”، “حتى النكتة أصبحت خطرا، وسببا لوضع مبدع خلف القضبان. ولا شك أن الفن مجال واسع وعريق للمكر، والتلميح.” ويذكر في هذا المضمار أن الأدباء زمن الاتحاد السوفيتي كانوا يُضمنون أعمالهم بعض المقاطع لتنشغل الرقابة بحذفها عن معنى العمل العام.
ويتساءل “نعم للفن طرقه الماكرة، لكن ماذا إن أراد الفنان أن يقول كلمته صريحة؟ ماذا إن كان العمل الأدبي يقتضي بطبيعته الفنية التصريح؟ الأسوأ من ذلك أن الوضع العام وأزمة الحريات جعلا الأدباء يفكرون وهم يبدعون في الرقيب والمنع فصاروا يقيدون أنفسهم بأنفسهم في مجرى العملية الإبداعية منذ البداية.”
وتسأل “العرب” الكاتب المصري حول رؤيته لإصلاح حال الثقافة المصرية وأول القرارات التي سيتخذها إن قُدِّر له أن يجلس على مقعد المسؤول الثقافي الأول في مصر ليوم واحد، فيقول إن “القرار الأول أن ينصت الوزير أيا كان لصوت المثقفين والأدباء، ويعقد المسؤول الثقافي معهم لقاء شهريا يستمع فيه لاقتراحاتهم وملاحظاتهم وتصورهم لخطط نشر الثقافة وأن يأخذ بما يجمعون عليه، لأن المسؤول الثقافي في نهاية الأمر مجرد موظف، تعتمده في ذلك المنصب الجهات الأمنية وليس الثقافية، بالتالي فإحاطته بالحركة الثقافية بل والثقافة عادة ما تكون ضئيلة.”
وينتقل إلى قرار ثان واجب، وهو أن تصبح ميزانية وزارة الثقافة معلنة وشفافة وتنشر سنويا، ليعرف الجميع كم من أموال تتلقى الوزارة، وعلى ماذا تنفق تلك الأموال، وهل تستفيد بها الثقافة أم أن من يستفيد بمعظمها هم الموظفون والبيروقراطية؟ ولا يرى أحمد الخميسي في أداء وزير الثقافة المصري أحمد فؤاد هنو حتى الآن عملا باهرا، ويصفه بأنه يبدو أنيقا ومهذبا، لكن الأناقة ليست عملا، بل ويتم في حضوره إغلاق المسارح مثل المسرح العائم وتحويله إلى جراج سيارات، وإغلاق دور العرض، ولم نسمع له صوتا.
هبات جماهيرية بلا قيادة
◙ أحمد الخميسي حصل على جائزة ساويرس الثقافية في القصة القصيرة عام 2011 عن مجموعته القصصية “كناري”
حصل الكاتب المصري أحمد الخميسي على جائزة ساويرس الثقافية في القصة القصيرة عام 2011 عن مجموعته القصصية “كناري”، وعام 2017 عن مجموعته القصصية “أنا وأنت”، وتضم قائمة أعماله مجموعات قصصية عديدة منها “قطعة ليل” و”كناري” و”ليل بلا قمر”، وآخرها “حفيف صندل”.
بعد مرور أربعة عشر عاما على ما مر بالمنطقة من أحداث جسام، يصف الخميسي الربيع العربي بأنه “خدعة قامت على حقيقة”، مفسرا بأن الواقع العربي كان متخما بالغضب، والإحباط، والبحث عن طريق يفضي إلى العدالة والكرامة والحرية، هذه هي الحقيقة، أما الخدعة فقد تمت حين جرى تفجير شحنة الغضب تلك مع التحكم في مسارها وتوجيهها لطريق محدد يضمن من ناحية التنفيس عن الغضب، ويضمن من ناحية ثانية ألا تطال الثورة أساس الفساد وجذوره، بحيث يتم فقط استبدال الوجوه بوجوه أخرى مع بقاء الأوضاع على ما كانت عليه.
ويضيف لـ”العرب” أن الحقيقة تجسدت في الاستياء الشعبي العارم، وتجسدت الخدعة في استثمار ذلك الاستياء لصالح نفس الفئات الحاكمة التي تراكم الاستياء ضدها، لذلك لم نر بعد ذلك تغييرا حقيقيا في شتى مناحي الحياة، وظلت شعارات الجماهير “حرية كرامة عدالة اجتماعية” مجرد أمنيات في غياب قوى طليعية ترسم طريقا آخر للغضب. كانت هبات جماهيرية بلا قيادة، حكمها اليأس وحده، فكان حتما أن تؤدي إلى دورة جديدة من نفس الحال.
كتب أحمد الخميسي في هذا الصدد عام 2012 قصة “رأس الديك الأحمر”، وكان اسمها عنوانا لمجموعته التي صدرت نهاية ذلك العام، وتصور القصة انفصال الرأس عن الجسد، أي انفصال الغضب عن قيادة ورأس مفكر، فطار جسد الديك الأحمر وحده، بينما ظل رأسه ينظر إليه مندهشا متسائلا “هذا أنا من دوني.. فكيف حدث هذا.”
◙ قضية الحرية تعد لبنة أساسية في إبداع وفكر الكاتب أحمد الخميسي
يقود الحوار إلى سؤال عن جدوى الكتابة وقدرة الأدب على التغيير، ما يعتبره الخميسي سؤالا كثيرا ما يحط بثقله على روح الكاتب وعلى طموحه إلى الاستمرار، متذكرا الأديب الشهير عادل كامل الذي كان زميل نجيب محفوظ منذ الخطوات الأولى، لكنه توقف عن الكتابة بعد روايتين عظيمتين لأنه لم يجد جدوى من الكتابة.
يعبّر في المقابل عن اعتقاده بأن الكاتب الكبير يدرك أن جدوى الكتابة المادية أو الاجتماعية إما معدومة أو تكاد أن تكون معدومة، وأن تأثير الكتابة في الناس عملية بطيئة للغاية، وتتم على مدى زمني طويل لأن الأدب يخاطب النفوس التي تختمر فيها المعاني والأفكار في زمن طويل.
ويدلل على ذلك بأننا مازلنا نقرأ أعمال ستيفان زفايج العظيمة التي كتبها منذ تسعين عاما، وهي الآن تغيرنا، ونقرأ أعمال يحيي حقي التي كتبها منذ نحو مئة عام، لكن تأثيرها يقع الآن، فالأدب يغير الواقع لكن بتريث وبطء، إنه ليس خطابا سياسيا ليشعل الحماس في لحظة، كما يقول.
حصل أحمد الخميسي على درجة الدكتوراه في فلسفة الأدب من جامعة موسكو، وكرمه اتحاد الأدباء العرب لدوره الأدبي والثقافي، ومنحه اتحاد كتاب روسيا العضوية الشرفية تقديرا لما قدمه للتعريف بالأدبين الروسي والعربي عبر الترجمات العديدة التي قدمها للأدب الروسي.
تسأله “العرب” عن المسؤول عن عدم وجود حركة ترجمة عكسية للأدب العربي إلى اللغات الأجنبية، هل الإبداع ذاته ومستواه أم عدم القدرة على تسويقه أم دور النشر أم المؤسسة الرسمية للدولة؟ فيحدد سببين لذلك، أولهما يبدو مفهوما ومنطقيا بينما قد يفتح الثاني الباب أمام نقاش وجدل.
ويقول “إذا أردت الصدق فإن هناك سببين لذلك؛ الأول أننا لا نشغل مركزا متقدما صناعيا وعسكريا يروج ويفسح المجال للغتنا وآدابنا في الثقافات الأخرى، والسبب الثاني أن ما نكتبه وما نبدعه هو بدرجة ما صدى لإنجازات الأدب الأوروبي وإلى حد ما نسخة لكن قومية من الأدب العالمي.”
ويذكر بهذا الصدد أن مترجما اقترح على “دار التقدم” في الاتحاد السوفيتي - وكانت وقتها الجهة المسؤولة عن الترجمات إلى الروسية - ترجمة ثلاثية نجيب محفوظ وأرفق اقتراحه بجزء قام بترجمته بالفعل، لكن حين قرأ المسؤولون ذلك الجزء قالوا له “وما أهمية أن نكرر نشر ديكنز أو بلزاك من اللغة العربية.”
ويختتم الأديب أحمد الخميسي حواره مع “العرب” قائلا “إن السبب في عدم ترجمة آدابنا أن ما نكتبه لا يمثل إضافة ذات شأن إلى الآداب الأجنبية، ويأتي بعد ذلك اعتبار أننا لا نشكل ثقلا اقتصاديا وسياسيا دوليا، لكن ذلك لا ينفي أن لدينا أدبا رفيعا على أعلى مستوى وجدير بالترجمة.”
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد شعير
كاتب مصري