الصورة الفوتوغرافية ترنيمة متتالية ونوع من المواجهة
رولان بارت: الصورة شاهد عمومي لمّا كانت الشعوب تدفع للتخلي عن الأثر.
الأحد 2024/11/24
ShareWhatsAppTwitterFacebook
الصور تسحب منا إدراك الديمومة وجدانيا أو رمزيا
في نهاية السبعينات، أرادت المجلة السينمائية الفرنسية “دفاتر السينما” إطلاق مجموعة كتب تتمحور حول الفنون البصرية، وطلبت من المفكر رولان بارت تأليف أحد الأعمال الأولى وأن يكون عن السينما، لكنه أسرّ لأصدقائه “ليس لدي ما أقوله عن السينما، ومن ناحية أخرى، ربما يمكنني الكتابة عن التصوير الفوتوغرافي”، وبالفعل أمضى بعض الوقت في النظر إلى الصور القديمة لوالدته، ثم ذهب إلى صور أخرى يعيد قراءتها جماليا وفلسفيا، ليبدأ في الكتابة، فكان كتابه “الغرفة المضيئة.. تأملات في الفوتوغرافيا”.
يشير رولان بارت في كتابه “الغرفة المضيئة.. تأملات في الفوتوغرافيا”، الذي ترجمته الدكتورة هالة نمر وصدر عن المركز القومي للترجمة، إلى أنه “منذ زمن طويل، عثرت على صورة فوتوغرافية لجيروم الأخ الأصغر لنابليون، التقطت له عام 1852، قلت لنفسي آنذاك، بدهشة لم أستطع أبدا التخفيف من حدتها منذ ذلك الحين ‘إني أرى العيون التي رأت الإمبراطور’. كنت أتكلم أحيانا عن هذه الدهشة، ولكن لما لم يبد أن أحدا يشاركني إياها، ولا حتى يدركها، فقد نسيتها (الحياة تتكون من تلك اللحظات الصغيرة من الشعور بالوحدة).”
ويضيف “نحا اهتمامي بالفوتوغرافيا منحى ثقافيا. قررت أنني أحب الصورة الفوتوغرافية أكثر من السينما، رغم أنني لم أتمكن حينها من الفصل بينهما. ألح هذا السؤال، استولت عليّ رغبة وجودية حيال الفوتوغرافيا في حد ذاتها، ما الملامح الأساسية التي تميزها عن عالم الصور، ما كانت تعنيه تلك الرغبة بالنسبة إلي هو أنني، على الرغم من الشواهد التي تبلورها التكنولوجيا والممارسة التطبيقية، ورغم انتشارها المعاصر الهائل، فلم أكن واثقا من أن الفوتوغرافيا موجودة وأن لديها عبقريتها الخاصة بها.”
ترنيمة متتالية
عصر الفوتوغرافيا يتوافق تماما مع انبثاق الخاص داخل العام، أو بالأحرى مع استحداث قيمة اجتماعية جديدة
يقول بارت “أول شيء وجدته هو أن ما تنسخه الصورة الفوتوغرافية إلى ما لا نهاية لم يحدث مرة واحدة: إنها تكرر ميكانيكيا ما لا يمكن أن يتكرر وجوديا. في الصورة، لا يعبر الحدث مطلقا نحو شيء آخر: تعيد الصورة دائما الجزء الذي أحتاجه للكل الذي رآه؛ الصورة هي الخاص الطلق/ والعرض الأسمى، باهتة وبشكل ما ساذجة، تلك الصورة (هذه الصورة وليست الصورة)، هي لاختصار الإدراك الكلي، المناسبة، اللقاء، الواقع، بتعبيره الذي لا يكلّ. ولتعيين الواقع تقول البوذية ‘الفراغ’ وأفضل من ذلك تقول ‘تفرد اللحظة’، واقع أن تكون هذا، أن تكون ذاك، تعني تات tat في اللغة السنسكريتية ذلك، التي تذكرنا بحركة الطفل حين يشير إلى شيء ما بإصبعه وينطق بحروف متقطعة غير مكتملة.”
ويتابع “توجد الصورة الفوتوغرافية دائما على طرف هذه الحركة؛ تقول: هذا، هو ذلك، هو ذاك، لكنها لا تقول شيئا آخر. لا يمكن أن تتحول الصورة (تُنطق) فلسفيا، هي مثقلة بالكامل بالحادث العرضي التي هي بمثابة الغلاف الشفاف الرقيق له. اعرض صورك الفوتوغرافية على شخص ما؛ سوف يخرج لك صورة على الفور ‘انظر هنا، هذا هو أخي، وهناك، ذاك أنا طفل’ إلخ. ليست الصورة سوى ترنيمة متتالية من ‘انظروا’، ‘ها هو’؛ تشير إلى نوع من المواجهة، ولا تستطيع أن تخرج من هذه اللغة الإشارية الخالصة. ولذلك، بقدر ما هو جائز الحديث عن صورة؛ يتراءى لي أنه من غير المحتمل الحديث عن الفوتوغرافيا.”
ويرى بارت أن صورة ما، في الحقيقة، لا تتمايز أبدا عن مرجعيتها (عما تمثله)، أو على الأقل لا تتمايز على الفور أو لكل الناس (هذا ما تفعله أي صورة أخرى، معوقة منذ البداية بالصيغة التي يظهر بها موضوعها): إدراك الدال الفوتوغرافي ليس مستحيلا (يفعلها بعض المحترفين)، ولكن ذلك يتطلب فعلا لاحقا من المعرفة أو من التأمل.
المصورون الفوتوغرافيون الشباب الذين يجوبون العالم، يكرسون أنفسهم للقبض على الراهن، لا يعرفون أنهم عملاء الموت
من طبيعة الفوتوغرافيا أن تتضمن شيئا يبدو تحصيل الحاصل (لابد بسهولة من تقبل ذلك الاسم العام، الذي لا يحيل في هذه اللحظة إلا إلى تكرار لا يمل من الإمكانات المحتملة): الغيلون هو دائما الغليون وليس شيئا آخر. يقال إن الفوتوغرافيا تحمل دائما مرجعها معها، كلاهما مدموغان بنفس الجمود العاشق أو الجنائزي، في قلب عالم دائم الحركة: هما ملتصقان الواحد بالآخر، عضو بعضو، مثل المدان المكبل بجثة في بعض أشكال التعذيب، أو يتشابهان أيضا مع أزواج السمك تلك التي تسبح معا، وكأنه اتحاد في جماع أبدي “أسناك القرش، أعتقد، كما جاء على لسان ميشليه”. تنتمي الصورة الفوتوغرافية إلى تلك الفئة من الأشياء الصحائفية، حيث لا يمكننا فصل الصحيفتين دون تدميرهما؛ زجاج النافذة والمنظر الطبيعي، ولماذا لا؟ الخير والشر، الرغبة وموضوعها، ازدواجية يمكننا تصورها، ولكن لا يمكننا إدراكها (لم أكن أعرف أيضا أن ذلك التشبث بأن يكون المرجع حاضرا دوما هناك، سوف يظهر الجوهر الذي كنت أبحث عنه).
ويضيف بارت “يعد فعل أن أرى نفسي (غير النظر في المرآة): فعلا حديثا بالمقياس التاريخي، فقد كان للبورتريه سواء الملون، أو المرسوم، أو المنمنم، محدودية كبيرة حتى انتشار الفوتوغرافيا، بالإضافة إلى أنه كان مخصصا للإعلان عن مكانة اقتصادية واجتماعية، وفي كل الأحوال، حتى لو شابه البورتريه الأصل بشدة (هذا هو ما أبحث عنه لإثباته)، فهو لا يضاهي الصورة الفوتوغرافية، ومما يثير الفضول أننا لم نفكر في ‘اضطراب’ (الحضارة) الذي جاء به هذا الفعل الجديد.”
ويتابع “أريد تاريخا للنظرات، ذلك لأن الصورة الفوتوغرافية هي حضوري أنا نفسي بوصفي آخر؛ هي انفصال مراوغ للوعي بالهوية، إلا أن الأكثر غرابة؛ هي أن المساحة الأكبر لحديث الناس عن رؤية الازدواج، كانت في الزمن السابق للفوتوغرافيا. لقد تم تقريب ظاهرة رؤية الشخص لجسده أمامه من الهلوسة، وظلت على مر قرون مبحثا أسطوريا كبيرا. ولكننا اليوم، وكأننا نقمع الجنون العميق للفوتوغرافيا، لا تستدعي الفوتوغرافيا إرثها الأسطوري إلا بذلك الانزعاج البسيط الذي ينتابني حين أنظر إلى نفسي على ورقة. هذا الارتباك هو في عمقه اختلال الملكية، قالها القانون بطريقته: من يمتلك الصورة؟ هل الموضوع (المصوَّر)؟ هل هو المصوِّر؟ أليس المنظر الطبيعي نفسه نوعا من الاستدانة لمالك الأرض؟ وفيما يبدو أن هناك قضايا لا تعد ولا تحصى، أفصحت عن هذا اللايقين في مجتمع قام وجوده على الملكية.”
الصورة والموت
يوضح بارت أن الفوتوغرافيا حولت الذات إلى موضوع، بل إذا جاز القول، إلى موضوع متحفي: من أجل التقاط الوجوه الأولى (حوالي 1840)، كان صاحبه يرغم على البقاء لفترة طويلة تحت سطح زجاجي في شمس النهار الساطعة. لقد سببت حالة أن تصبح موضوعا، معاناة تشبه معاناة العملية الجراحية؛ ولهذا اخترع جهازا سمي مسند الرأس، جهاز غير منظور بالنسبة إلى عدسة الكاميرا، كان يسند الجسد ويثبته في عبوره إلى السكون: سنادة الرأس هذه كانت قاعدة التمثال الذي أوشكت أن أكونه والمشد لجوهري المتخيل.
ويؤكد “ما أنزع إليه في الصورة التي تؤخذ لي (المقصد تبعا لما أتطلع إليه) هو الموت: الموت هو جوهر تلك الصورة، أيضا، وللغرابة، الشيء الوحيد الذي أحتمله، وأحبه، وأئتنس به، عندما تلتقط لي صورة، هو ضجيج الآلة. بالنسبة لي، هو المصور، ليس هو العين (تخيفني العين)، إنما الإصبع: الموصول بمفصال العدسة، وبالانزلاق المعدني للصفائح (طالما احتوت الآلة على الأشياء كتلك)، أحب هذه الضوضاء الميكانيكية بطريقة تكاد تكون شهوانية، كما لو أن الضوضاء في التصوير الضوئي، هي بذاتها ـ وهي فقط ـ ما تتعلق به رغبتي، مخترقة بقرقعاتها الحادة الغلالة المميتة لوضعية الجسد الساكن.”
بالنسبة إليه، ضجيج الزمن ليس حزينا، يقول “أحب الأجراس، ساعات الحائط، ساعات اليد ـ وأتذكر أن في البداية كانت المعدات الفوتوغرافية مرتبطة بتقنيات صناعة الأثاث وميكانيكا الضبط: كانت آلات التصوير، في حقيقة الأمر، ساعات جدارية للرؤية، ومن الجائز أنه ما زال يوجد بداخلي، شخص عجوز يستمع إلى الصخب الحي في الآلة الفوتوغرافية.”
ويلفت بارت إلى أن كل المصورين الفوتوغرافيين الشباب الذين يجوبون العالم، يكرسون أنفسهم للقبض على الراهن، لا يعرفون أنهم عملاء الموت. تلك هي الطريقة التي يضطلع بها زماننا بالموت. تحت حجة ناكرة تماما للحي، يكون المصور هو الحرفي المختص بمعنى ما. لأن الصورة تاريخيا، يجب أن تكون لديها علاقة تاريخية ما مع “أزمة الموت”، التي بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومن جانبي فضلت أنه بدلا من إرجاع حلول الفوتوغرافيا باستمرار لسياقها الاجتماعي والاقتصادي، يجب أن نتساءل أيضا عن الصلة الأنثروبولوجية بين الموت والصورة الجديدة. لأن الموت، في مجتمع ما، لابد أن يكون في مكان ما. لو أنه لم يعد موجودا (أو أصبح موجودا بصورة أقل) فيما هو ديني، لابد أن يكون في مكان آخر. من الجائز في الصورة التي تنتج الموت رغبة في الحفاظ على الحياة. ولأن الفوتوغرافيا معاصرة لتراجع الطقوس، من المحتمل أن تكون قد استجابت، في مجتمعنا الحديث، لتطفل موت رمزي، خارج الدين، بعيدا عن الطقس، نوع من الغوص المفاجئ في الموت الحرفي، الحياة/ الموت: تم اختزال التصور الشامل إلى نقلة بسيطة تفصل الوضع الأولي عن الورقة النهائية.
ويتابع “مع الصورة، ندخل في الموت، في يوم ما، عند الخروج من أحد الدروس، قال لي أحد الأشخاص بازدراء ‘أنت تتكلم بسطحية شديدة عن الموت’ كما لو أن الرعب من الموت لم يكن هو بالضبط تفاهته. الرعب هو هذا: لا شيء يقال عن موت أحب الناس إليّ، لا شيء يقال عن صورته، التي أتأملها دون أن أتمكن مطلقا من سبر أغوارها، من تحويلها، ‘الفكرة’ الوحيدة التي يمكن أن تراودني هي أنه في نهاية هذا الموت الأول، يسجل موتي الشخصي. بين الاثنين، لا شيء آخر، سوى الانتظار، ليس لدي منهل آخر سوى هذه السخرية: الحديث عن ‘لا شيء يقال’.”
ويقر “لا أستطيع تحويل الصورة إلا إلى نفاية؛ إما إلى الدرج أو إلى سلة المهملات، ليس فقط لأنها تطبع بوجه عام على نوع من الورق الهالك، إنما حتى لو أنها مثبتة على مواد أكثر صلابة، تظل قابلة للزوال مثل الكائن الحي، ولدت من حبيبات الفضة التي تنبت، تتفتح في لحظة، ثم تشيح، يهاجمها الضوء، الرطوبة، تبهت، تنطفئ، تتلاشى ولا يبقى إلا رميها. كانت المجتمعات القديمة تدبر أمرها لكي تبقى الذكرى ـ بديل الحياة ـ أبدية، وعلى الأقل الشيء الذي ينطق بالموت يظل هو نفسه خالدا: فكان الصرح الأثري. ولكن يجعل الصورة، الهالكة، الشاهد العمومي وبشكل طبيعي لما كان، تخلّي المجتمع المعاصر عن الأثر. مفارقة، استحدث نفس القرن التاريخ والتصوير الفوتوغرافي. ولكن التاريخ ذاكرة مصنوعة تبعا لوصفات وضعية، خطاب فكري خالص يلغي الزمن الأسطوري. والصورة شهادة أكيدة، لكنها شهادة عابرة، حتى إن كل شيء، اليوم يجهز جنسنا لهذا العجز. لن نعود قادرين في القريب العاجل على إدراك الديمومة وجدانيا أو رمزيا.”
العام والخاص
نحن نقمع الجنون العميق للفوتوغرافيا
يؤكد بارت أن عصر الصورة هو أيضا عصر الثورات والاجتجاجات والاغتيالات، باختصار نفاد الصبر، لكل ما ينكر النضج، وبلا شك، دهشة “ذلك ـ كان ـ موجودا” سوف تختفي، هي الأخرى. لقد اختفت بالفعل، أمثل أنا، لا أعرف لماذا، أحد آخر الشهود (شاهد على ما سبق)، وهذا الكتاب هو أثره البالي. لماذا يُلغى مع هذه الصورة التي تصفر وتبهت وتنمحي، وفي يوم سوف تلقى في القمامة، إن لم يكن بيدي ـ وربما لا أقدر من باب التشاؤم ـ فعلى الأقل عند موتي؟
ويواصل “ليست فقط ‘الحياة’ (هذا كان حيا، انتصبت حيا أمام العدسة)، ولكن أيضا، أحيانا، كيف أقول؟ الحب. أمام الصورة الوحيدة التي أرى فيها أبي وأمي معا، أعرف أن الاثنين تحابا، أتأمل: الحب هو مثل كنز سوف يختفي إلى الأبد، لأنه عندما لن أكون هنا، لا أحد سوف يمكنه الشهادة على ذلك، ولن يبقى سوى الطبيعة غير المبالية. ها هنا تمزّق بالغ الحدة، غير محتمل، لقد فهم ميشيليه وحده ضد عصره التاريخ على أنه احتجاج نابع من الحب. العمل على دوام، ليس فقط الحياة، ولكن أيضا ما كان يطلق عليه، في مفرداته، التي بطلت صرعتها اليوم، الخير، العدل، الوحدة، إلخ.”
ويرى أن قراءة الصورة الفوتوغرافية العامة هي دائما، في عمقها، قراءة خاصة. هذا واضح بالنسبة للصور التي يبدو من النظرة الأولى أنه لا يربطها رابط، ولو مجازيا، بوجودي (مثلا، كل صور التقارير). تقرأ كل صورة على أنها المظهر الخاص لمرجعيتها، يتوافق عصر الفوتوغرافيا تماما مع انبثاق الخاص داخل العام، أو بالأحرى مع استحداث قيمة اجتماعية جديدة، هي الإعلان عن الخاص.
ويضيف “الخاص مستهلك كما هو على الملأ (يشهد على هذه الحركة العدوان المتوصل للصحافة ضد خصوصية النجوم والعقبات المتنامية للتشريع). ولكن بما أن الخاص ليس سلعة (واقعة تحت القوانين التاريخية للملكية)، كما هو أيضا، وأبعد من ذلك، المكان الثمين حتما، الذي لا يقبل التصرف في ملكيته، حيث صورتي فيه متحررة (متحررة من أن تُلغي)، أعيد بناء تقسيم العام والخاص، وبمقاومة ضرورية، أريد أن أعلن عن الباطنية التي أعتقد أنها تمتزج مع حقيقتي، أو، لو آثرنا، مع التصلب الذي شكل قوامي، أعيد بناء تقسيم العام والخاص، وبمقاومة ضرورية، أريد أن أعلن عن الباطن دون أن أفصح بالحميمية، أعيش الصورة والعالم الذي تمثل الصورة جانبا منه تبعا لمنطقتين: الصور من جهة، وصوري الفوتوغرافية من جهة ثانية. من جهة نجد التراخي والانفلات والضجيج والعرضية (حتى لو أصابني الذهول المفرط)؛ ومن جهة ثانية نجد التأجج، والجرح.”
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري
رولان بارت: الصورة شاهد عمومي لمّا كانت الشعوب تدفع للتخلي عن الأثر.
الأحد 2024/11/24
ShareWhatsAppTwitterFacebook
الصور تسحب منا إدراك الديمومة وجدانيا أو رمزيا
في نهاية السبعينات، أرادت المجلة السينمائية الفرنسية “دفاتر السينما” إطلاق مجموعة كتب تتمحور حول الفنون البصرية، وطلبت من المفكر رولان بارت تأليف أحد الأعمال الأولى وأن يكون عن السينما، لكنه أسرّ لأصدقائه “ليس لدي ما أقوله عن السينما، ومن ناحية أخرى، ربما يمكنني الكتابة عن التصوير الفوتوغرافي”، وبالفعل أمضى بعض الوقت في النظر إلى الصور القديمة لوالدته، ثم ذهب إلى صور أخرى يعيد قراءتها جماليا وفلسفيا، ليبدأ في الكتابة، فكان كتابه “الغرفة المضيئة.. تأملات في الفوتوغرافيا”.
يشير رولان بارت في كتابه “الغرفة المضيئة.. تأملات في الفوتوغرافيا”، الذي ترجمته الدكتورة هالة نمر وصدر عن المركز القومي للترجمة، إلى أنه “منذ زمن طويل، عثرت على صورة فوتوغرافية لجيروم الأخ الأصغر لنابليون، التقطت له عام 1852، قلت لنفسي آنذاك، بدهشة لم أستطع أبدا التخفيف من حدتها منذ ذلك الحين ‘إني أرى العيون التي رأت الإمبراطور’. كنت أتكلم أحيانا عن هذه الدهشة، ولكن لما لم يبد أن أحدا يشاركني إياها، ولا حتى يدركها، فقد نسيتها (الحياة تتكون من تلك اللحظات الصغيرة من الشعور بالوحدة).”
ويضيف “نحا اهتمامي بالفوتوغرافيا منحى ثقافيا. قررت أنني أحب الصورة الفوتوغرافية أكثر من السينما، رغم أنني لم أتمكن حينها من الفصل بينهما. ألح هذا السؤال، استولت عليّ رغبة وجودية حيال الفوتوغرافيا في حد ذاتها، ما الملامح الأساسية التي تميزها عن عالم الصور، ما كانت تعنيه تلك الرغبة بالنسبة إلي هو أنني، على الرغم من الشواهد التي تبلورها التكنولوجيا والممارسة التطبيقية، ورغم انتشارها المعاصر الهائل، فلم أكن واثقا من أن الفوتوغرافيا موجودة وأن لديها عبقريتها الخاصة بها.”
ترنيمة متتالية
عصر الفوتوغرافيا يتوافق تماما مع انبثاق الخاص داخل العام، أو بالأحرى مع استحداث قيمة اجتماعية جديدة
يقول بارت “أول شيء وجدته هو أن ما تنسخه الصورة الفوتوغرافية إلى ما لا نهاية لم يحدث مرة واحدة: إنها تكرر ميكانيكيا ما لا يمكن أن يتكرر وجوديا. في الصورة، لا يعبر الحدث مطلقا نحو شيء آخر: تعيد الصورة دائما الجزء الذي أحتاجه للكل الذي رآه؛ الصورة هي الخاص الطلق/ والعرض الأسمى، باهتة وبشكل ما ساذجة، تلك الصورة (هذه الصورة وليست الصورة)، هي لاختصار الإدراك الكلي، المناسبة، اللقاء، الواقع، بتعبيره الذي لا يكلّ. ولتعيين الواقع تقول البوذية ‘الفراغ’ وأفضل من ذلك تقول ‘تفرد اللحظة’، واقع أن تكون هذا، أن تكون ذاك، تعني تات tat في اللغة السنسكريتية ذلك، التي تذكرنا بحركة الطفل حين يشير إلى شيء ما بإصبعه وينطق بحروف متقطعة غير مكتملة.”
ويتابع “توجد الصورة الفوتوغرافية دائما على طرف هذه الحركة؛ تقول: هذا، هو ذلك، هو ذاك، لكنها لا تقول شيئا آخر. لا يمكن أن تتحول الصورة (تُنطق) فلسفيا، هي مثقلة بالكامل بالحادث العرضي التي هي بمثابة الغلاف الشفاف الرقيق له. اعرض صورك الفوتوغرافية على شخص ما؛ سوف يخرج لك صورة على الفور ‘انظر هنا، هذا هو أخي، وهناك، ذاك أنا طفل’ إلخ. ليست الصورة سوى ترنيمة متتالية من ‘انظروا’، ‘ها هو’؛ تشير إلى نوع من المواجهة، ولا تستطيع أن تخرج من هذه اللغة الإشارية الخالصة. ولذلك، بقدر ما هو جائز الحديث عن صورة؛ يتراءى لي أنه من غير المحتمل الحديث عن الفوتوغرافيا.”
ويرى بارت أن صورة ما، في الحقيقة، لا تتمايز أبدا عن مرجعيتها (عما تمثله)، أو على الأقل لا تتمايز على الفور أو لكل الناس (هذا ما تفعله أي صورة أخرى، معوقة منذ البداية بالصيغة التي يظهر بها موضوعها): إدراك الدال الفوتوغرافي ليس مستحيلا (يفعلها بعض المحترفين)، ولكن ذلك يتطلب فعلا لاحقا من المعرفة أو من التأمل.
المصورون الفوتوغرافيون الشباب الذين يجوبون العالم، يكرسون أنفسهم للقبض على الراهن، لا يعرفون أنهم عملاء الموت
من طبيعة الفوتوغرافيا أن تتضمن شيئا يبدو تحصيل الحاصل (لابد بسهولة من تقبل ذلك الاسم العام، الذي لا يحيل في هذه اللحظة إلا إلى تكرار لا يمل من الإمكانات المحتملة): الغيلون هو دائما الغليون وليس شيئا آخر. يقال إن الفوتوغرافيا تحمل دائما مرجعها معها، كلاهما مدموغان بنفس الجمود العاشق أو الجنائزي، في قلب عالم دائم الحركة: هما ملتصقان الواحد بالآخر، عضو بعضو، مثل المدان المكبل بجثة في بعض أشكال التعذيب، أو يتشابهان أيضا مع أزواج السمك تلك التي تسبح معا، وكأنه اتحاد في جماع أبدي “أسناك القرش، أعتقد، كما جاء على لسان ميشليه”. تنتمي الصورة الفوتوغرافية إلى تلك الفئة من الأشياء الصحائفية، حيث لا يمكننا فصل الصحيفتين دون تدميرهما؛ زجاج النافذة والمنظر الطبيعي، ولماذا لا؟ الخير والشر، الرغبة وموضوعها، ازدواجية يمكننا تصورها، ولكن لا يمكننا إدراكها (لم أكن أعرف أيضا أن ذلك التشبث بأن يكون المرجع حاضرا دوما هناك، سوف يظهر الجوهر الذي كنت أبحث عنه).
ويضيف بارت “يعد فعل أن أرى نفسي (غير النظر في المرآة): فعلا حديثا بالمقياس التاريخي، فقد كان للبورتريه سواء الملون، أو المرسوم، أو المنمنم، محدودية كبيرة حتى انتشار الفوتوغرافيا، بالإضافة إلى أنه كان مخصصا للإعلان عن مكانة اقتصادية واجتماعية، وفي كل الأحوال، حتى لو شابه البورتريه الأصل بشدة (هذا هو ما أبحث عنه لإثباته)، فهو لا يضاهي الصورة الفوتوغرافية، ومما يثير الفضول أننا لم نفكر في ‘اضطراب’ (الحضارة) الذي جاء به هذا الفعل الجديد.”
ويتابع “أريد تاريخا للنظرات، ذلك لأن الصورة الفوتوغرافية هي حضوري أنا نفسي بوصفي آخر؛ هي انفصال مراوغ للوعي بالهوية، إلا أن الأكثر غرابة؛ هي أن المساحة الأكبر لحديث الناس عن رؤية الازدواج، كانت في الزمن السابق للفوتوغرافيا. لقد تم تقريب ظاهرة رؤية الشخص لجسده أمامه من الهلوسة، وظلت على مر قرون مبحثا أسطوريا كبيرا. ولكننا اليوم، وكأننا نقمع الجنون العميق للفوتوغرافيا، لا تستدعي الفوتوغرافيا إرثها الأسطوري إلا بذلك الانزعاج البسيط الذي ينتابني حين أنظر إلى نفسي على ورقة. هذا الارتباك هو في عمقه اختلال الملكية، قالها القانون بطريقته: من يمتلك الصورة؟ هل الموضوع (المصوَّر)؟ هل هو المصوِّر؟ أليس المنظر الطبيعي نفسه نوعا من الاستدانة لمالك الأرض؟ وفيما يبدو أن هناك قضايا لا تعد ولا تحصى، أفصحت عن هذا اللايقين في مجتمع قام وجوده على الملكية.”
الصورة والموت
يوضح بارت أن الفوتوغرافيا حولت الذات إلى موضوع، بل إذا جاز القول، إلى موضوع متحفي: من أجل التقاط الوجوه الأولى (حوالي 1840)، كان صاحبه يرغم على البقاء لفترة طويلة تحت سطح زجاجي في شمس النهار الساطعة. لقد سببت حالة أن تصبح موضوعا، معاناة تشبه معاناة العملية الجراحية؛ ولهذا اخترع جهازا سمي مسند الرأس، جهاز غير منظور بالنسبة إلى عدسة الكاميرا، كان يسند الجسد ويثبته في عبوره إلى السكون: سنادة الرأس هذه كانت قاعدة التمثال الذي أوشكت أن أكونه والمشد لجوهري المتخيل.
ويؤكد “ما أنزع إليه في الصورة التي تؤخذ لي (المقصد تبعا لما أتطلع إليه) هو الموت: الموت هو جوهر تلك الصورة، أيضا، وللغرابة، الشيء الوحيد الذي أحتمله، وأحبه، وأئتنس به، عندما تلتقط لي صورة، هو ضجيج الآلة. بالنسبة لي، هو المصور، ليس هو العين (تخيفني العين)، إنما الإصبع: الموصول بمفصال العدسة، وبالانزلاق المعدني للصفائح (طالما احتوت الآلة على الأشياء كتلك)، أحب هذه الضوضاء الميكانيكية بطريقة تكاد تكون شهوانية، كما لو أن الضوضاء في التصوير الضوئي، هي بذاتها ـ وهي فقط ـ ما تتعلق به رغبتي، مخترقة بقرقعاتها الحادة الغلالة المميتة لوضعية الجسد الساكن.”
بالنسبة إليه، ضجيج الزمن ليس حزينا، يقول “أحب الأجراس، ساعات الحائط، ساعات اليد ـ وأتذكر أن في البداية كانت المعدات الفوتوغرافية مرتبطة بتقنيات صناعة الأثاث وميكانيكا الضبط: كانت آلات التصوير، في حقيقة الأمر، ساعات جدارية للرؤية، ومن الجائز أنه ما زال يوجد بداخلي، شخص عجوز يستمع إلى الصخب الحي في الآلة الفوتوغرافية.”
ويلفت بارت إلى أن كل المصورين الفوتوغرافيين الشباب الذين يجوبون العالم، يكرسون أنفسهم للقبض على الراهن، لا يعرفون أنهم عملاء الموت. تلك هي الطريقة التي يضطلع بها زماننا بالموت. تحت حجة ناكرة تماما للحي، يكون المصور هو الحرفي المختص بمعنى ما. لأن الصورة تاريخيا، يجب أن تكون لديها علاقة تاريخية ما مع “أزمة الموت”، التي بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومن جانبي فضلت أنه بدلا من إرجاع حلول الفوتوغرافيا باستمرار لسياقها الاجتماعي والاقتصادي، يجب أن نتساءل أيضا عن الصلة الأنثروبولوجية بين الموت والصورة الجديدة. لأن الموت، في مجتمع ما، لابد أن يكون في مكان ما. لو أنه لم يعد موجودا (أو أصبح موجودا بصورة أقل) فيما هو ديني، لابد أن يكون في مكان آخر. من الجائز في الصورة التي تنتج الموت رغبة في الحفاظ على الحياة. ولأن الفوتوغرافيا معاصرة لتراجع الطقوس، من المحتمل أن تكون قد استجابت، في مجتمعنا الحديث، لتطفل موت رمزي، خارج الدين، بعيدا عن الطقس، نوع من الغوص المفاجئ في الموت الحرفي، الحياة/ الموت: تم اختزال التصور الشامل إلى نقلة بسيطة تفصل الوضع الأولي عن الورقة النهائية.
ما تنسخه الصورة الفوتوغرافية إلى ما لا نهاية لم يحدث مرة واحدة إنها تكرر ميكانيكيا ما لا يمكن أن يتكرر وجوديا
ويتابع “مع الصورة، ندخل في الموت، في يوم ما، عند الخروج من أحد الدروس، قال لي أحد الأشخاص بازدراء ‘أنت تتكلم بسطحية شديدة عن الموت’ كما لو أن الرعب من الموت لم يكن هو بالضبط تفاهته. الرعب هو هذا: لا شيء يقال عن موت أحب الناس إليّ، لا شيء يقال عن صورته، التي أتأملها دون أن أتمكن مطلقا من سبر أغوارها، من تحويلها، ‘الفكرة’ الوحيدة التي يمكن أن تراودني هي أنه في نهاية هذا الموت الأول، يسجل موتي الشخصي. بين الاثنين، لا شيء آخر، سوى الانتظار، ليس لدي منهل آخر سوى هذه السخرية: الحديث عن ‘لا شيء يقال’.”
ويقر “لا أستطيع تحويل الصورة إلا إلى نفاية؛ إما إلى الدرج أو إلى سلة المهملات، ليس فقط لأنها تطبع بوجه عام على نوع من الورق الهالك، إنما حتى لو أنها مثبتة على مواد أكثر صلابة، تظل قابلة للزوال مثل الكائن الحي، ولدت من حبيبات الفضة التي تنبت، تتفتح في لحظة، ثم تشيح، يهاجمها الضوء، الرطوبة، تبهت، تنطفئ، تتلاشى ولا يبقى إلا رميها. كانت المجتمعات القديمة تدبر أمرها لكي تبقى الذكرى ـ بديل الحياة ـ أبدية، وعلى الأقل الشيء الذي ينطق بالموت يظل هو نفسه خالدا: فكان الصرح الأثري. ولكن يجعل الصورة، الهالكة، الشاهد العمومي وبشكل طبيعي لما كان، تخلّي المجتمع المعاصر عن الأثر. مفارقة، استحدث نفس القرن التاريخ والتصوير الفوتوغرافي. ولكن التاريخ ذاكرة مصنوعة تبعا لوصفات وضعية، خطاب فكري خالص يلغي الزمن الأسطوري. والصورة شهادة أكيدة، لكنها شهادة عابرة، حتى إن كل شيء، اليوم يجهز جنسنا لهذا العجز. لن نعود قادرين في القريب العاجل على إدراك الديمومة وجدانيا أو رمزيا.”
العام والخاص
نحن نقمع الجنون العميق للفوتوغرافيا
يؤكد بارت أن عصر الصورة هو أيضا عصر الثورات والاجتجاجات والاغتيالات، باختصار نفاد الصبر، لكل ما ينكر النضج، وبلا شك، دهشة “ذلك ـ كان ـ موجودا” سوف تختفي، هي الأخرى. لقد اختفت بالفعل، أمثل أنا، لا أعرف لماذا، أحد آخر الشهود (شاهد على ما سبق)، وهذا الكتاب هو أثره البالي. لماذا يُلغى مع هذه الصورة التي تصفر وتبهت وتنمحي، وفي يوم سوف تلقى في القمامة، إن لم يكن بيدي ـ وربما لا أقدر من باب التشاؤم ـ فعلى الأقل عند موتي؟
ويواصل “ليست فقط ‘الحياة’ (هذا كان حيا، انتصبت حيا أمام العدسة)، ولكن أيضا، أحيانا، كيف أقول؟ الحب. أمام الصورة الوحيدة التي أرى فيها أبي وأمي معا، أعرف أن الاثنين تحابا، أتأمل: الحب هو مثل كنز سوف يختفي إلى الأبد، لأنه عندما لن أكون هنا، لا أحد سوف يمكنه الشهادة على ذلك، ولن يبقى سوى الطبيعة غير المبالية. ها هنا تمزّق بالغ الحدة، غير محتمل، لقد فهم ميشيليه وحده ضد عصره التاريخ على أنه احتجاج نابع من الحب. العمل على دوام، ليس فقط الحياة، ولكن أيضا ما كان يطلق عليه، في مفرداته، التي بطلت صرعتها اليوم، الخير، العدل، الوحدة، إلخ.”
ويرى أن قراءة الصورة الفوتوغرافية العامة هي دائما، في عمقها، قراءة خاصة. هذا واضح بالنسبة للصور التي يبدو من النظرة الأولى أنه لا يربطها رابط، ولو مجازيا، بوجودي (مثلا، كل صور التقارير). تقرأ كل صورة على أنها المظهر الخاص لمرجعيتها، يتوافق عصر الفوتوغرافيا تماما مع انبثاق الخاص داخل العام، أو بالأحرى مع استحداث قيمة اجتماعية جديدة، هي الإعلان عن الخاص.
ويضيف “الخاص مستهلك كما هو على الملأ (يشهد على هذه الحركة العدوان المتوصل للصحافة ضد خصوصية النجوم والعقبات المتنامية للتشريع). ولكن بما أن الخاص ليس سلعة (واقعة تحت القوانين التاريخية للملكية)، كما هو أيضا، وأبعد من ذلك، المكان الثمين حتما، الذي لا يقبل التصرف في ملكيته، حيث صورتي فيه متحررة (متحررة من أن تُلغي)، أعيد بناء تقسيم العام والخاص، وبمقاومة ضرورية، أريد أن أعلن عن الباطنية التي أعتقد أنها تمتزج مع حقيقتي، أو، لو آثرنا، مع التصلب الذي شكل قوامي، أعيد بناء تقسيم العام والخاص، وبمقاومة ضرورية، أريد أن أعلن عن الباطن دون أن أفصح بالحميمية، أعيش الصورة والعالم الذي تمثل الصورة جانبا منه تبعا لمنطقتين: الصور من جهة، وصوري الفوتوغرافية من جهة ثانية. من جهة نجد التراخي والانفلات والضجيج والعرضية (حتى لو أصابني الذهول المفرط)؛ ومن جهة ثانية نجد التأجج، والجرح.”
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري