"البراعم الحمراء".. عن صراع العلمانية والأوساط الدينية في تركيا
دراما تتناول فقدان الفرد لهويته وحريته في مواجهة المجموعة.
الجمعة 2024/11/22
ShareWhatsAppTwitterFacebook
تصوير درامي للصراع بين العلمانية والأوساط الدينية في تركيا
أي صراع يعيشه المجتمع التركي المنقسم بين علمانيين ومتدينين؟ ذلك ما تختصره قصة مسلسل "البراعم الحمراء" الذي أثار ضجة كبيرة في تركيا بتناوله حكايات وعلاقات بين مجتمعين متناقضين يسعى كل واحد منهما إلى إحكام سيطرته على الدولة، من خلال قصة متخيلة لطائفة دينية متشددة تصارع أخرى علمانية ساعية لفرض ضوابطها العقائدية والسلوكية على المجتمع.
متحدين كل التضييقات الممارسة ضده والتي عجلت بانتهاء جزئه الأول وتوقفه عند الحلقة التاسعة عشرة، أطلق صناع مسلسل “البراعم الحمراء” الجزء الثاني منه، معلنين أن المسلسل سيدبلج أيضا باللهجة السورية في الفترة القادمة.
المسلسل من إخراج أومور أتاي، وتأليف شكري نجاتي شاهين وبطولة كل من أوزكان دينيز، أوزغو نامال، شريف إيرول، أركان افجي، مارت يازجي أوغلو وهازال توراسان.
الطفل برعم ابن بيئته
“البراعم الحمراء” عنوان قد يحيلنا إلى الزهور ذات البراعم الحمراء التي تشتهر بتداخلها ونموها في شكل كتل صغيرة، وهو أيضا إحالة إلى الكثير من البراعم الصغيرة التي تظهر في عدد من النباتات. والبراعم الحمراء هنا، هي الأطفال الصغار الذين يولدون في جماعات أو طوائف تشترك في فكر واحد، كما تشير عبارة “حمراء” إلى أنه سيكون فكرا متشددا دمويا، فيكبر أولئك الأطفال كالبراعم ويكتسبون تدريجيا فكر الجماعة ويبذلون العمر من أجل الدفاع عنه واستمراره ونشره.
◄ المسلسل يتعمق في التضاد بين التحرر والانغلاق الذي هو تجسيد درامي للصراع بين العلمانية والدين في تركيا
والمسلسل بالفعل كذلك، فهو يتحدث عن طائفة دينية متشددة عرفها بطائفة “الفانيون”، يعيشون في خانقاه تجمعهم، لديهم مرشد واحد يقودهم، منصب يمنح بالوراثة وتدور حوله صراعات وحروب خفية داخلية، والبقية أتباع له يأتمرون لأمره، يلبسهم ما يشاء، يحلل لهم ما يريد ويحرم عليهم ما يراه غير مناسب لاستمرار نفوذه، مستندا دوما على تأويله الخاص للنص القرآني وللأحاديث المروية عن الرسول محمد وصحابته ومن سبقه من مرشدين للطائفة. وهكذا فإن من السهل أن يغير مرشد الجماعة فيقودها نحو التحرر قليلا ليأتي آخر فيعيد توجيه البوصلة نحو المزيد من التشدد القيمي والسلوكي.
وربط بعض النقاد بين “الفانيين” والصوفية من خلال الخانقاه التي كانت تجمع الفانيين وقادتهم بين أسوارها، ويتخذونها مقرا رئيسيا لهم، إلى جانب الحي السكني المحيط بها. لكن الأفكار التي يدافع عنها هؤلاء بعيدة كل البعد عن الصوفية وإنما هي أقرب للأصولية المتشددة، فهم يحرمون على المرأة كل شيء حتى الطلاق والتعليم والزواج بأجنبي من خارج الطائفة.
والخانقاه هي المكان الذي ينقطع فيه المتصوف للعبادة، اقتضت وظيفته أن يكون له تخطيط خاص، فهي تجمع بين تخطيط المسجد والمدرسة ويضاف إلى هذين التخطيطين الغرف التي يختلي أو ينقطع فيها المتصوف للعبادة والتي عرفت في العمارة الإسلامية باسم الخلوة. في العصر المملوكي أطلقت كلمة خانقاه على المجموعات الدينية الكاملة للسلاطين مثل خانقاه السلطان بيبرس الجاشنكير، وقد حافظ المسلسل على إطلاق وصف “خانقاه” على المكان الذي يعيش فيه الفانيون.
يتركز الصراع في المسلسل بين طائفتين إحداهما تتمسك بالعلم والأخرى بتطبيق متشدد للدين، الأولى ينتمي أفرادها إلى ثورة 28 فبراير 1997 أو ما يعرف أيضا بانقلاب ما بعد الحداثة، الرافضون لكل أشكال حرية الممارسة الدينية التي تحد من حقوق أي إنسان في العيش الآمن، يقابلها “الفانيون” الذين يعاملون النساء الجواري للنكاح ويجعلوهن رهن الخدمة المنزلية، ويفرضن زواج القاصرات بالقوة. طائفة تؤمن بأن دراسة المرأة حرب ضد الدين وتخريب للفطرة وتدمير للعائلة والمجتمع “الفاني”.
ومنذ البداية يوضح لنا المخرج ملامح هذا الصراع وقطبيه الذي هو تصوير درامي للصراع بين العلمانية والأوساط الدينية في تركيا، مستخدما حوارا وديكورات تذكر برموز للنقيضين، أبرزها صور كمال أتاتورك المنتشرة في كل مكان، كلماته وفلسفته على لسان العلمانيين إلى جانب ذكرى عملية 28 فبراير التي كانت فترة للانتهاك الشديد للحريات الدينية في تركيا، والتي كانت نتيجتها إغلاق المؤسسات الدينية ومدارس الأئمة والخطباء وحظر الحجاب في الجامعات. وقد تم تشكيل حزب العدالة والتنمية الحاكم اليوم كرد فعل على كل ذلك.
تتصاعد الأحداث في المسلسل بمجرد أن تتعرف مريم (أوزغو نامال)، امرأة من الفانيون تسعى لحماية ابنتها زينب (14 عاما) منهم وتعليمها رغما عن رفض والدها ومرشد الطائفة، على الطبيب النفسي لافنت ألكانلي (أوزكان دينيز)، ابن عالم الفيزياء الشهير سوافي ألكانلي (شريف إيرول) أشهر العلمانيين والمعارضين للفانيين وواحد ممن وقف ضدهم في انقلاب ما بعد الحداثة، وهو أيضا مفكر يشكك في وجود الله ويسعى لتعميم التفكير العلماني.
◄ براعة في تقمص الشخصيات
هذه العلاقة بين امرأة من الفانيين ورجل ينظر إليه على أنه من “الكفار” ستعقد الأحداث وتعرضهم جميعا للكثير من المخاطر، وحين تحاول مريم تهريب ابنتها للدراسة في فرنسا، تتهم بالزنا لترددها على بيت الطبيب، ثم ترغم الطفلة زينب على الزواج من جنيد (مرت يازجي أوغلو)، حفيد المرشد الأكبر والذي سيصبح المرشد الجديد للجماعة، ويعاني من اضطراب نفسي خطير يهدد حياته سببه أحداث غامضة كان شاهدا عليها في طفولته وتتعلق في أغلبها بوفاة أمه واختفاء والده.
ويبرز أيضا نعيم زوج مريم الذي يسعى إلى تزويج ابنته من جنيد من أجل المال والجاه، وبعض المكانة في الجماعة يعوض بها ما خسره جراء زلزال 2023 المدمر الذي هز جنوب شرق تركيا. رجل متلون، يقدم ولاءه لأي كان مقابل الحصول على مكانة اجتماعية، عنيف لا يعرف سوى الضرب والمكائد.
في الأثناء تظهر بوادر قصة حب تنشأ بين الطبيب النفسي ومريم، فتشتعل الغيرة في قلب زوجته، ويتكشف لنا أن ابنتهما ميرا هي ابنة مريم، تركت في المستشفى يوم ولدت ظنا من الأطباء أنها متوفية، وحين وجدها لافنت وزوجته الشابة أخذاها ونسباها إليهما، ودفنا السر في قلبيهما.
ويصور المسلسل عائلة الطبيب لافانت العلمانية المدافعة عن القيم الأتاتوركية كعائلة ممزقة، فزوجة الطبيب تهرب من بيتها إلى ألمانيا باحثة عن فرصة عمل تنسيها عدم قدرتها على حب ابنتها المتبناة وخلافاتها المستمرة مع زوجها. أما الجد (والد لافانت) فيعيش صراعا مع ابنته وقطيعة مستمرة
منذ أكثر من 13 عاما، في حين صورت الحفيدة ميرا على أنها فتاة مراهقة طائشة تتورط في تعاطي المخدرات وتورط والدها معها في مشاكل تدليس وصفة طبية. وتجمعها علاقة سيئة بوالديها، فتشك في نسبها لهم وتحاول معرفة حقيقة الأمر.
الوحيدان اللذان يظهرهما المسلسل على أنهما يظهران تفانيا في الخير وخدمة الآخرين هما الطبيب لافانت الذي يحاول التقرب من ابنته وخدمة والده حاد الطباع والدفاع عن مرضاه، ومريم الأم المستعدة لفعل أي شيء من أجل ابنتها ودفاعا عن الطبيب وعائلته وحمايتهم من الفانيين. وتأتي الطفلة زينب كنسخة ثالثة عنها، ورغم أنها فتاة صغيرة إلا أنها تسعى للدفاع عن حقوق بنات “الفانيين” بحيل ومكائد تدبرها بنفسها.
ويتعمق الجزء الثاني من المسلسل في هذا التضاد الثنائي بين التحرر والانغلاق الذي هو تجسيد درامي للصراع بين العلمانية والدين في تركيا، لكنه يأخذنا أكثر إلى عالم المرض النفسي عبر شخصية جنيد الذي تسوء حالته بعودة والده وحيد، الولد الذي قتل والده المرشد الأكبر وتسبب في تدهور حال ابنه المرشد الأصغر ليستولي على قيادة الجماعة، مؤتمرا بتعليمات قوى مجهولة تراسله بطرق غامضة.
جنيد هو أيضا صورة مصغرة عن التدين الصوفي، الشاب المحب للمعرفة، المطلع على الكثير من العلوم والفلسفات، وهو رغم حداثة سنه يملك قدرة على الإقناع وعقلا راجحا ولسانا فصيحا، لكنه ما إن تتدهور حالته النفسية حتى يجن جنونه ويحاول الهرب من نفسه قبل الآخرين.
صراع على البقاء
◄ المخرج أومور أتاي قد نجح في تصوير عالمين مختلفين، بكل انفعالاتهما الفكرية والنفسية والسلوكية، منوعا في اللقطات القريبة والبعيدة
أحداث كثيرة وحكايات جانبية يتطرق إليها المسلسل تدور كلها في فلك الصراع على البقاء، وتتراوح بين مواقف وأحداث داعمة للحرية، حرية الجسد والفكر والسلوك والعقيدة، وبين مواقف متشددة تمنع كل الحقوق وتندد بصوت عال باتفاقية إسطنبول.
“خذوا اتفاقية إسطنبول واغربوا عن وجوهنا”، هكذا جاء في إحدى الحلقات على لسان الفانيين، هذه الاتفاقية هي اتفاقية المجلس الأوروبي لمنع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف المنزلي أو اتفاقية إسطنبول هي اتفاقية مناهضة للعنف ضد المرأة، أبرمها المجلس الأوروبي وفتح باب التوقيع عليها في الحادي عشر من مايو 2011 بإسطنبول، لكن تركيا انسحبت منها منذ العام 2021 واجتاحت البلد آنذاك احتجاجات مناهضة ومحذرة من خطر ذلك على واقع النساء في بلد تقول تقارير حقوقية إن 400 امرأة تموت فيه سنويا بسبب العنف الأسري والزوجي.
من ناحية أخرى، يشكك المسلسل ومنذ جزئه الأول حتى في حقيقة طائفة الفانيين أي في حقيقة العديد من الطوائف الدينية المتشددة، ويظهرها على أنها طائفة أوجدتها سلطة عليا بعض أفرادها من العلمانيين المتشدين، وهي تتحرك بأوامرها من أجل أهداف أكبر من مجرد صراع داخلي أو صراع بينهم وبين العلمانيين، وقد تكون هذه السلطة من داخل هياكل الدولة نفسها.
من خلال كل ذلك، يمكننا القول إن كاتب “البراعم الحمراء” شكري نجاتي شاهين نجح في اللعب على وتر التناقض، وإبراز مهارة في عكس صورة مقنعة جعلت الخيال أقرب للحقيقة، فهو وإن أظهر الفانيين أصحاب “الدين”
يواجهون سلطة علمانية/ لا أدرية ممثلة في الطبيب ووالده ومن يشبهونهما، إلا أنه ركز أيضا على نقاط الضعف في كل مجتمع منهما، مستخدما الأمثال والأقوال الشهيرة والحكم والنص القرآني وحتى الحجج العلمية والطبية
لكشف العنف الممارس في المجتمعين، واهتم كثيرا بشؤون المرأة في “الطائفتين” وشؤون الطفل، هذا البرعم الأحمر الذي ينشأ مختلفا عمن سبقوه، له رأي وموقف ومن حقه أن يعيش تجربة لا تشبه تجربة الآباء والسابقين، من حقه أن يطلع على كل المذاهب الفكرية ويقرر بماذا يؤمن وكيف يعيش، فهو ابن المستقبل وليس آباءه وأجداده.
تبنى الكاتب مواقف تقترب من أفكار فلاسفة الحرية، التي ترى أن الحرية أساس الأخلاق وشرط الإيمان وجوهر إنسانية الإنسان، ويذهب البعض إلى القول بأسبقيتها على كل شيء حتى إنهم يعتبرون الدكتاتورية غير أخلاقية، حتى عندما تمنع الحرام، بينما تكون الديمقراطية أخلاقية حتى عندما تسمح به.
ورأى بعض النقاد أن الكاتب التركي خط مقاربة درامية لفلسفة جان جاك روسو التي تقول إن الإنسان طيب بطبعه، لكن وجوده داخل مجتمع واحتكامه لظروف وضوابط قد يقوده إلى أن يكون شريرا أو طيبا. لذلك أرانا كيف يواجه الفرد الجماعة وأفكارها خاصة مع إعلان الطبيب لافنت ومريم رغبتهما في الزواج بعد طلاقها وطردها من مجتمع الفانيين.
تفوق إخراجي
◄ صراع بين طائفتين إحداهما تتمسك بالعلم والأخرى بتطبيق متشدد للدين، الأولى ينتمي أفرادها إلى ثورة 28 فبراير يقابلها الفانيون
أظهر الممثلون في “البراعم الحمراء” باختلاف مساحات الدور الممنوحة لهم وباختلاف تجاربهم وأعمارهم، براعة في تقمص شخصياتهم وقدرة على الإقناع بها، بينما يبدو دور أوزكان دينيز الحلقة الأضعف بينهم فهو يبدي ردود أفعال وحركات جسدية شبيهة بأدواره السابقة، وحده النص والحوار والمشاهد الثنائية بينه وبين بقية الشخصيات ما يمنح دوره بعض اللمسات الجديدة.
ومن الناحية التقنية، يمكن القول إن المخرج أومور أتاي قد نجح في تصوير عالمين مختلفين، بكل انفعالاتهما الفكرية والنفسية والسلوكية، منوعا في اللقطات القريبة والبعيدة، ومهتما باختيار الديكورات ومواقع التصوير. وهو يواصل مسيرة المسلسلات التركية التي تعتمد أحدث التقنيات في الإخراج وتوظف مواقع التصوير للترويج لجمال البيئة والمعمار التركي مما يجعل العمل الفني مبهرا، يصور الكثير من الأماكن الجميلة في إسطنبول، ورغم أن أغلب أحداث المسلسل تدور في فلك 3 أمكنة رئيسية هي منزل الطبيب لافانت والخانقاه والجسر الذي يحاول جنيد الانتحار من فوقه، إلا أن الحلقات تتضمن أحيانا مشاهد سريعة لأماكن طبيعية ومنشآت أخرى مقسمة بين أماكن للعلمانيين وأخرى للفانيين.
◄ أحداث المسلسل تتراوح بين مواقف وأحداث داعمة للحرية، حرية الجسد والفكر والسلوك والعقيدة، وبين مواقف متشددة تمنع كل الحقوق وتندد بصوت عال باتفاقية إسطنبول
ورغم طرحه العميق لمسألة الحقوق والحريات وتناوله كل مجتمع (علماني/ ديني متشدد) بالنقد والتفكيك، إلا أن المسلسل لم يثر سوى حفيظة بعض الأوساط الدينية في تركيا، حيث رافقت عرض حلقاته موجة كبيرة من الانتقادات، خاصة بعد تطرق إحدى حلقات موسمه الأول إلى ما يسمى بمبدأ التطهير، حين يطلب نعيم من زوجته مريم أن تضربه بالعصا تطهيرا له من ذنبه.
وتجاوز عدد الشكاوى في حق المسلسل 32 ألف شكوى. وفرضت عقوبات قاسية على المسلسل وصلت إلى وقف عرضه لمدة أسبوعين، وغرامة مالية قدرت بما يعادل 275 ألف يورو ضد قناة “فوكس.تي.في” التي تعرضه، بتهمة انتهاكها للقيم الوطنية والأخلاقية، وكذلك تشويه سمعة الأشخاص ذوي الخلفيات الدينية.
ولم ينته المسلسل بعد، وفي كل حلقة تزداد الأمور تعقيدا لكن فيما توضحه بعض الإشارات نرجح أن يسير المخرج بالمسلسل نحو نقطة وسط، مكان للتفاوض لا ترجح فيه الكفة لصالح أحد وإنما يتفق فيه الطرفان على العيش سوية دون المساس بالحريات الأساسية للإنسان. وهو ما يمهد له على لسان البطلة مريم وابنتيها بالقول “هذه الأرض تتسع لنا جميعا، وهذا البلد يمكن أن يتحملنا كلنا.”