مركز "إثراء" يجيب عن سؤال لماذا نقرأ
مسرح "إثراء" يستقطب المثقفين العالميين ليفتح ملفات الثقافة المغلقة.
أي واقع للقراءة بالعربية
في العالم العربي لا تتوقف الأسئلة عن واقع القراءة أو جدواها أو رهاناتها وتحدياتها وغير ذلك. ولعل الإقرار بضعف القراءة وتداول نسب قراءة مغلوطة بل ووهمية غالبا ما يساهم في تقديم صورة مغلوطة عن القراءة في العالم العربي، مع التفاوت طبعا بين الدول العربية.
كثيرة هي مسابقات القراءة في عالمنا العربي. قليلة هي الكتب، كثيرة هي الجوائز الأدبية في العالم. قليل هو الأثر، كثيرون تلاحقهم الشهرة. قليلون يصنعون القيمة.
وسط هذه الكثرة والقلة لا أتردد للحظة، كلما تلقيت دعوة من مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) مبادرة أرامكو الثقافية، في حضور فعاليات الحفل الختامي لمسابقة “أقرأ”، التي انطلقت بفكرة بذرتها الصغيرة في عام 2013، وسرعان ما نضجت شجرة وارفة عتيقة تضرب بجذورها في أعماق الأرض حيث الماضي والهوية والأصالة، وتعانق فروعها عنان السماء، حيث الحلم والمستقبل.
أسئلة وإجابات
أولا وقبل كل شيء يمنحنا الأدب متعة عميقة تستحوذ علينا وتوسع أذهاننا، وهذا ما يدفعنا إلى القراءة
في كل مرة كنت أحضر حفل “أقرأ” الختامي تلاحقني عدة أسئلة: ما القراءة؟ ومن هم القراء وماذا يقرأون؟ ولمن يقرأون وما جدوى القراءة؟ وما الأثر وما العائد؟ وهل يختلف أن تقرأ مئة كتاب وأن تقرأ مكتبة كاملة؟ ثم ماذا بعد أن يسدل الستار وتختفي الأضواء، ويتوج بالجوائز قارئ العام للعالم العربي، ونصف العام، والمدرسة القارئة والقارئ الواعد وغيرها من الجوائز التي تتطور مع كل نسخة جديدة من مسابقة أكملت بنجاح باهر نسختها التاسعة وصارت برنامجًا ثقافيًّا شاملًا، يتضمن دورات تدريبية ومشاغل عمل وساعات من النقاش والقراءة والاستماع والتدريب، على أيدي مبدعين من مختلف أنحاء العالم، تتخلل ذلك “أسفار أقرأ” إلى بعض العواصم العربية، و”مارثون أقرأ” ومعرض المقايضة وتبادل الكتب لتعميق دور المسابقة في تكوين جيل عربي قارئ ومرتبط بالكتاب.
كانت أسئلتي تلاحقني منذ أن بدأت المسابقة محلية مقصورة على أبناء المنطقة الشرقية في السعودية وبناتها، ثم بعد توسعها لتشمل جميع مناطق المملكة، وصولًا إلى فتح أبوابها أمام كل القراء من مختلف البلدان العربية، وبينما كنت غارقًا في أسئلتي البسيطة أفاقني الناقد الأدبي الدكتور عبدالله الغذامي، أستاذ النقد والنظرية بجامعة الملك سعود، في محاضرة ثرية له ضمن الحفل الختامي للمسابقة، حيث طرح أسئلة أكثر عمقًا عن نوعية القراءة، وهل نقرأ نحن هذا الكتاب أو تلك الرواية لأن كاتبها حاصل على جائزة نوبل أو غيرها من الجوائز، هل نقرأ لأن هذا الكتاب مصنف ضمن الأكثر مبيعًا، تلك الحيلة الترويجية التي يتقنها الناشرون كما يطلقون على بعض الكتب أنها ممنوعة من النشر، أم الأمر يرجع إلى الوقوع في أسر أبيات شعرية وقصائد ومقولات متداولة بكثافة، تعطل لدى المتلقي طاقات التفكير والانطلاق والإبداع وتقيده فتميت النص، كما يموت المؤلف وكذلك القارئ.
ينتصر الغذامي للمقروئية، والقراءة الحرة وإعمال الفكر والعقل وإطلاق العنان للخيال، والبحث عن مضمرات المعاني والدلالات، والقفز فوق أشواك سطوة الآلة، والتقنية، وحضارة الصورة، والمشهد.
في كل مرة كنت أحضر حفل "أقرأ" الختامي تلاحقني عدة أسئلة حول القراءة ومن هم القراء وغير ذلك
أعشق الأدب وأقرأ معظم روايات الروائيين العرب وكتاباتهم وبعض ترجمات كبار الأدباء في العالم، لا تعنيني جائزة نوبل كثيرا، لكنها وغيرها من الجوائز البارزة تُعرف لي الكتاب والمبدعين ولا تمنعني من السؤال عن فائدة الأدب ودور الأدباء. أجلس في قاعة الحفل الختامي بـ”إثراء” مصادفة إلى جوار عبدالرازق قرنح الروائي التنزاني المولود في زنجبار من أصول يمنية، الحائز على جائز نوبل في الأدب عام 2021.
ويبدو أن أصداء فورة أسئلتي وثورتها تجاوزت حدود رأسي إلى مسامعه، فاستهل كلمة له في ختام حفل “أقرأ” بمركز الملك عبدالعزيز الثقافي بقوله “دعوني أبدأ بقولي إن مَن يُسائل عن فائدة الأدب، شخص لن ترضيه أيّ إجابة يسمعها. لم يقدّر صاحب هذا السؤال الضرورة القصوى للحكاية، والغناء، والرقص، التي طالما كانت مهمّة لوجود المجتمع البشري، ليس بوصفها زينة أو محض لهوٍ، بل ممارسات تعزّز التعاطف، والتضامن، واكتشاف الذات البشريّة في سياقٍ زمني مُشترك”.
وأضاف “أولًا وقبل كل شيء، يمنحنا الأدب المتعة، متعة عميقة، ليست تلك التي تجعلنا نبتسم أو تخفّف ثقل قلوبنا، بل متعة تستحوذ علينا وتوسّع أذهاننا. إذا لم نشعر بهذه المتعة عند قراءة كتاب أو الاستماع إلى نصٍّ، فإننا نتوقّف ونضع الكتاب جانبًا، أو ننطفئ ونتوقّف عن الإصغاء”.
شعرت بالرضا بفعل كلمات قُرنح، وفي الوقت نفسه كدت أنفجر ضاحكًا على نفسي في حين يواصل قرنح كلمته، إذ يذكرني حديثه بشيخ مسجد حارتنا، حين سأله رجل بسيط عن أمر من أمور حياته، فاستهل الخطيب خطبة الجمعة بالقول: حدثني أحد السفهاء متسائلًا عن كذا وكذا.
على مسرح "إثراء"
وأنا على حالي هذه تتوالى فعاليات الحفل الختامي لمسابقة “أقرأ” على مدى يومين، اكتظ فيهما مركز “إثراء” بأكثر من 16 ألف زائر وزائرة، من مختلف بقاع العالم، أعترف كما اعترف د. الغذامي وآخرون بأننا شركاء في الجهل باسم هان كانغ الروائية الكورية الجنوبية التي أعلنوا قبل أيام فوزها بجائزة نوبل في الأدب لهذا العام 2024، لتشعل بداخلي ثورة المساءلات مجددًا: هل نحن مقصرون في القراءة والانفتاح على آداب المبدعين في العالم وكتاباتهم؟ هل هناك قصور وتقصير في جهود الترجمة والنشر، ما دور المترجم إذن؟
“القراءة جسر عبور”… هذا شعار دورة هذا العام في مسابقة “أقرأ”، لكن ما دور الأدب والترجمة في إكمال ملحمة العبور إلى أدغال أفريقيا وجبال آسيا، وصقيع أوروبا وسامبا أميركا اللاتينية، وفنون أستراليا وأميركا الشمالية وجنونها بلغاتها ولهجاتها؟
في مداخلتها وحوارها بالحفل الختامي لمسابقة “أقرأ”، تجيبنا البولندية أولغا توكارتشوك الحائزة على نوبل والمان بوكر في الأدب في عام 2018 بقولها “يبدأ الأدب حين يوقّع إنسانٌ نصًّا كتبه باسمه، حين يقف إنسان وراء عملٍ بصفته مؤلفه، ليعبّر بالكلمات عن تجربته الفريدة بعمقها، وكثافتها، ووجعها أحيانًا، ويجازف بفعله هذا ويعرّض نفسه لسوء الفهم، أو التجاهل، أو غضب الناس، أو رفضهم. الأدب هو تلك اللحظة الخاصة التي تلتقي فيها لغة الفرد ولغة الآخر، هو المساحة التي يتحول فيها الخاص إلى عام”.
وتضيف “تتساوى مسؤولية المترجم ومسؤولية الكاتب؛ فكلتاهما تقف حارسًة على واحدة من أهم ظواهر الحضارة الإنسانية، وهي القدرة على نقل تجربة الفرد إلى الجموع، وجعل تلك التجربة مشتركة في فعل الإبداع الثقافي المدهش”.
على مدى يومين نجح مركز “إثراء” في الإجابة عن سؤالي لماذا “أقرأ”؟ فقد جمع كل أطراف النقاش تحت سقف واحد: جمع القراء من مختلف البلدان العربية، وجمع الكتاب والشعراء والمبدعين الروائيين والموسيقيين والمخرجين والمصورين وصناع الأفلام من مختلف أنحاء العالم، في حلبة واحدة، وحدات تتكامل في لوحة فسيفساء تنسجم تفاصيلها بنعومة، تصحبهم الموسيقى والشعر والصور الثابتة والمتحركة والأغاني وخبرات واسعة وعميقة للجان تحكيم رفيعة المستوى.
الدهشة كانت حاضرة بامتياز في كل تفاصيل الحفل على مدى يومين؛ التحضيرات، الإضاءة، الإخراج، القاعات المكتبية، فريق عمل احترافي ضخم من العاملين بمركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي، إضافة إلى المتطوعين والمتطوعات من أبناء وبنات المملكة، تاهت أذني بينما أسمع وزاغ بصري وأنا أتابع وشممت رائحة الفخر وتذوقت طعم الفوز بجوائز المسابقة ولمست كل هذه المشاعر والأحاسيس في عيون الحضور قبل المتسابقين والمتسابقات، حين استبقت الشاعرة السودانية روضة الحاج عضو لجنة تحكيم مسابقة “أقرأ”، قولَها: الكل فائز في هذه الليلة.
تشتتت حواسي أكثر قرب ترتيبات إعلان الفائزين، لتسعفني صاحبة “فوضى الحواس” الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي وتجيب عن سؤالي الأول: لماذا “أقرأ”؟ فتقول: نحن أمة تقرأ، وتتفتح في مروجها الكتب كما تتفتح الورود. اقرأ كأنك تعيش أبدا، واكتب كأنك تموت غدا. قالتها حين فرغ الشاعر السوداني البارز محمد عبدالباري من إلقاء بعض قصائده بمسرح “إثراء”، أردد بهمس بيتًا من قصيدته “ما لم تقله زرقاء اليمامة”: “النص للعراف والتأويل لي … يتشاكسان هناك قال وفسرا”.
أعشق الشعر وأتذوقه ولا أحفظ منه شيئًا؛ لا خوفًا من الوقوع في أسر بعض الأبيات والقصائد كما حذرنا عبدالله الغذامي، بل لأعاود متعة قراءة الشعر ولذة الاستماع لإلقاء الشعر وأحاديث الشعراء، تلك المتعة الخالصة التي قدمها حمود الصاهود الشاعر والباحث المهتم بالأدب والثقافة العربية في أولى حلقات بودكاست مع الصاهود على مسرح “إثراء”.
ليلتان من الدهشة والسحر الخالص، وفقرات عنوانها الرقي والثقافة والمعرفة والجمال، احتضنها مسرح “إثراء” قلعة للإبداع بالمنطقة الشرقية، مر من هنا رموز وفطاحل في الشعر والرواية والمسرح والنقد والموسيقى والغناء وصناعة الأفلام، ليس أعلاهم حائزو نوبل، أو غيرها من الجوائز المهمة، ولكن أغلبهم حاز الجائزة الكبرى وهي محبة جماهير القراء والمشاهدين والمستمعين.
في حياتي قرأت كثيرًا مما أرغب في قراءته، وتجرأت اليوم على الكتابة ونقل بعض تفاصيل حفل “أقرأ” الختامي، وفي محاولاتي للكتابة، كتبت فقط ما أستطيعه.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
سمير محمود
مسرح "إثراء" يستقطب المثقفين العالميين ليفتح ملفات الثقافة المغلقة.
أي واقع للقراءة بالعربية
في العالم العربي لا تتوقف الأسئلة عن واقع القراءة أو جدواها أو رهاناتها وتحدياتها وغير ذلك. ولعل الإقرار بضعف القراءة وتداول نسب قراءة مغلوطة بل ووهمية غالبا ما يساهم في تقديم صورة مغلوطة عن القراءة في العالم العربي، مع التفاوت طبعا بين الدول العربية.
كثيرة هي مسابقات القراءة في عالمنا العربي. قليلة هي الكتب، كثيرة هي الجوائز الأدبية في العالم. قليل هو الأثر، كثيرون تلاحقهم الشهرة. قليلون يصنعون القيمة.
وسط هذه الكثرة والقلة لا أتردد للحظة، كلما تلقيت دعوة من مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) مبادرة أرامكو الثقافية، في حضور فعاليات الحفل الختامي لمسابقة “أقرأ”، التي انطلقت بفكرة بذرتها الصغيرة في عام 2013، وسرعان ما نضجت شجرة وارفة عتيقة تضرب بجذورها في أعماق الأرض حيث الماضي والهوية والأصالة، وتعانق فروعها عنان السماء، حيث الحلم والمستقبل.
أسئلة وإجابات
أولا وقبل كل شيء يمنحنا الأدب متعة عميقة تستحوذ علينا وتوسع أذهاننا، وهذا ما يدفعنا إلى القراءة
في كل مرة كنت أحضر حفل “أقرأ” الختامي تلاحقني عدة أسئلة: ما القراءة؟ ومن هم القراء وماذا يقرأون؟ ولمن يقرأون وما جدوى القراءة؟ وما الأثر وما العائد؟ وهل يختلف أن تقرأ مئة كتاب وأن تقرأ مكتبة كاملة؟ ثم ماذا بعد أن يسدل الستار وتختفي الأضواء، ويتوج بالجوائز قارئ العام للعالم العربي، ونصف العام، والمدرسة القارئة والقارئ الواعد وغيرها من الجوائز التي تتطور مع كل نسخة جديدة من مسابقة أكملت بنجاح باهر نسختها التاسعة وصارت برنامجًا ثقافيًّا شاملًا، يتضمن دورات تدريبية ومشاغل عمل وساعات من النقاش والقراءة والاستماع والتدريب، على أيدي مبدعين من مختلف أنحاء العالم، تتخلل ذلك “أسفار أقرأ” إلى بعض العواصم العربية، و”مارثون أقرأ” ومعرض المقايضة وتبادل الكتب لتعميق دور المسابقة في تكوين جيل عربي قارئ ومرتبط بالكتاب.
كانت أسئلتي تلاحقني منذ أن بدأت المسابقة محلية مقصورة على أبناء المنطقة الشرقية في السعودية وبناتها، ثم بعد توسعها لتشمل جميع مناطق المملكة، وصولًا إلى فتح أبوابها أمام كل القراء من مختلف البلدان العربية، وبينما كنت غارقًا في أسئلتي البسيطة أفاقني الناقد الأدبي الدكتور عبدالله الغذامي، أستاذ النقد والنظرية بجامعة الملك سعود، في محاضرة ثرية له ضمن الحفل الختامي للمسابقة، حيث طرح أسئلة أكثر عمقًا عن نوعية القراءة، وهل نقرأ نحن هذا الكتاب أو تلك الرواية لأن كاتبها حاصل على جائزة نوبل أو غيرها من الجوائز، هل نقرأ لأن هذا الكتاب مصنف ضمن الأكثر مبيعًا، تلك الحيلة الترويجية التي يتقنها الناشرون كما يطلقون على بعض الكتب أنها ممنوعة من النشر، أم الأمر يرجع إلى الوقوع في أسر أبيات شعرية وقصائد ومقولات متداولة بكثافة، تعطل لدى المتلقي طاقات التفكير والانطلاق والإبداع وتقيده فتميت النص، كما يموت المؤلف وكذلك القارئ.
ينتصر الغذامي للمقروئية، والقراءة الحرة وإعمال الفكر والعقل وإطلاق العنان للخيال، والبحث عن مضمرات المعاني والدلالات، والقفز فوق أشواك سطوة الآلة، والتقنية، وحضارة الصورة، والمشهد.
في كل مرة كنت أحضر حفل "أقرأ" الختامي تلاحقني عدة أسئلة حول القراءة ومن هم القراء وغير ذلك
أعشق الأدب وأقرأ معظم روايات الروائيين العرب وكتاباتهم وبعض ترجمات كبار الأدباء في العالم، لا تعنيني جائزة نوبل كثيرا، لكنها وغيرها من الجوائز البارزة تُعرف لي الكتاب والمبدعين ولا تمنعني من السؤال عن فائدة الأدب ودور الأدباء. أجلس في قاعة الحفل الختامي بـ”إثراء” مصادفة إلى جوار عبدالرازق قرنح الروائي التنزاني المولود في زنجبار من أصول يمنية، الحائز على جائز نوبل في الأدب عام 2021.
ويبدو أن أصداء فورة أسئلتي وثورتها تجاوزت حدود رأسي إلى مسامعه، فاستهل كلمة له في ختام حفل “أقرأ” بمركز الملك عبدالعزيز الثقافي بقوله “دعوني أبدأ بقولي إن مَن يُسائل عن فائدة الأدب، شخص لن ترضيه أيّ إجابة يسمعها. لم يقدّر صاحب هذا السؤال الضرورة القصوى للحكاية، والغناء، والرقص، التي طالما كانت مهمّة لوجود المجتمع البشري، ليس بوصفها زينة أو محض لهوٍ، بل ممارسات تعزّز التعاطف، والتضامن، واكتشاف الذات البشريّة في سياقٍ زمني مُشترك”.
وأضاف “أولًا وقبل كل شيء، يمنحنا الأدب المتعة، متعة عميقة، ليست تلك التي تجعلنا نبتسم أو تخفّف ثقل قلوبنا، بل متعة تستحوذ علينا وتوسّع أذهاننا. إذا لم نشعر بهذه المتعة عند قراءة كتاب أو الاستماع إلى نصٍّ، فإننا نتوقّف ونضع الكتاب جانبًا، أو ننطفئ ونتوقّف عن الإصغاء”.
شعرت بالرضا بفعل كلمات قُرنح، وفي الوقت نفسه كدت أنفجر ضاحكًا على نفسي في حين يواصل قرنح كلمته، إذ يذكرني حديثه بشيخ مسجد حارتنا، حين سأله رجل بسيط عن أمر من أمور حياته، فاستهل الخطيب خطبة الجمعة بالقول: حدثني أحد السفهاء متسائلًا عن كذا وكذا.
على مسرح "إثراء"
وأنا على حالي هذه تتوالى فعاليات الحفل الختامي لمسابقة “أقرأ” على مدى يومين، اكتظ فيهما مركز “إثراء” بأكثر من 16 ألف زائر وزائرة، من مختلف بقاع العالم، أعترف كما اعترف د. الغذامي وآخرون بأننا شركاء في الجهل باسم هان كانغ الروائية الكورية الجنوبية التي أعلنوا قبل أيام فوزها بجائزة نوبل في الأدب لهذا العام 2024، لتشعل بداخلي ثورة المساءلات مجددًا: هل نحن مقصرون في القراءة والانفتاح على آداب المبدعين في العالم وكتاباتهم؟ هل هناك قصور وتقصير في جهود الترجمة والنشر، ما دور المترجم إذن؟
“القراءة جسر عبور”… هذا شعار دورة هذا العام في مسابقة “أقرأ”، لكن ما دور الأدب والترجمة في إكمال ملحمة العبور إلى أدغال أفريقيا وجبال آسيا، وصقيع أوروبا وسامبا أميركا اللاتينية، وفنون أستراليا وأميركا الشمالية وجنونها بلغاتها ولهجاتها؟
في مداخلتها وحوارها بالحفل الختامي لمسابقة “أقرأ”، تجيبنا البولندية أولغا توكارتشوك الحائزة على نوبل والمان بوكر في الأدب في عام 2018 بقولها “يبدأ الأدب حين يوقّع إنسانٌ نصًّا كتبه باسمه، حين يقف إنسان وراء عملٍ بصفته مؤلفه، ليعبّر بالكلمات عن تجربته الفريدة بعمقها، وكثافتها، ووجعها أحيانًا، ويجازف بفعله هذا ويعرّض نفسه لسوء الفهم، أو التجاهل، أو غضب الناس، أو رفضهم. الأدب هو تلك اللحظة الخاصة التي تلتقي فيها لغة الفرد ولغة الآخر، هو المساحة التي يتحول فيها الخاص إلى عام”.
وتضيف “تتساوى مسؤولية المترجم ومسؤولية الكاتب؛ فكلتاهما تقف حارسًة على واحدة من أهم ظواهر الحضارة الإنسانية، وهي القدرة على نقل تجربة الفرد إلى الجموع، وجعل تلك التجربة مشتركة في فعل الإبداع الثقافي المدهش”.
على مدى يومين نجح مركز “إثراء” في الإجابة عن سؤالي لماذا “أقرأ”؟ فقد جمع كل أطراف النقاش تحت سقف واحد: جمع القراء من مختلف البلدان العربية، وجمع الكتاب والشعراء والمبدعين الروائيين والموسيقيين والمخرجين والمصورين وصناع الأفلام من مختلف أنحاء العالم، في حلبة واحدة، وحدات تتكامل في لوحة فسيفساء تنسجم تفاصيلها بنعومة، تصحبهم الموسيقى والشعر والصور الثابتة والمتحركة والأغاني وخبرات واسعة وعميقة للجان تحكيم رفيعة المستوى.
الدهشة كانت حاضرة بامتياز في كل تفاصيل الحفل على مدى يومين؛ التحضيرات، الإضاءة، الإخراج، القاعات المكتبية، فريق عمل احترافي ضخم من العاملين بمركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي، إضافة إلى المتطوعين والمتطوعات من أبناء وبنات المملكة، تاهت أذني بينما أسمع وزاغ بصري وأنا أتابع وشممت رائحة الفخر وتذوقت طعم الفوز بجوائز المسابقة ولمست كل هذه المشاعر والأحاسيس في عيون الحضور قبل المتسابقين والمتسابقات، حين استبقت الشاعرة السودانية روضة الحاج عضو لجنة تحكيم مسابقة “أقرأ”، قولَها: الكل فائز في هذه الليلة.
تشتتت حواسي أكثر قرب ترتيبات إعلان الفائزين، لتسعفني صاحبة “فوضى الحواس” الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي وتجيب عن سؤالي الأول: لماذا “أقرأ”؟ فتقول: نحن أمة تقرأ، وتتفتح في مروجها الكتب كما تتفتح الورود. اقرأ كأنك تعيش أبدا، واكتب كأنك تموت غدا. قالتها حين فرغ الشاعر السوداني البارز محمد عبدالباري من إلقاء بعض قصائده بمسرح “إثراء”، أردد بهمس بيتًا من قصيدته “ما لم تقله زرقاء اليمامة”: “النص للعراف والتأويل لي … يتشاكسان هناك قال وفسرا”.
أعشق الشعر وأتذوقه ولا أحفظ منه شيئًا؛ لا خوفًا من الوقوع في أسر بعض الأبيات والقصائد كما حذرنا عبدالله الغذامي، بل لأعاود متعة قراءة الشعر ولذة الاستماع لإلقاء الشعر وأحاديث الشعراء، تلك المتعة الخالصة التي قدمها حمود الصاهود الشاعر والباحث المهتم بالأدب والثقافة العربية في أولى حلقات بودكاست مع الصاهود على مسرح “إثراء”.
ليلتان من الدهشة والسحر الخالص، وفقرات عنوانها الرقي والثقافة والمعرفة والجمال، احتضنها مسرح “إثراء” قلعة للإبداع بالمنطقة الشرقية، مر من هنا رموز وفطاحل في الشعر والرواية والمسرح والنقد والموسيقى والغناء وصناعة الأفلام، ليس أعلاهم حائزو نوبل، أو غيرها من الجوائز المهمة، ولكن أغلبهم حاز الجائزة الكبرى وهي محبة جماهير القراء والمشاهدين والمستمعين.
في حياتي قرأت كثيرًا مما أرغب في قراءته، وتجرأت اليوم على الكتابة ونقل بعض تفاصيل حفل “أقرأ” الختامي، وفي محاولاتي للكتابة، كتبت فقط ما أستطيعه.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
سمير محمود