تعالوا لنجرب فوائد اللاقراءة!
"كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه"؟ دليل فرنسي جريء ومشوق يحرض على عدم القراءة.
اللاقراءة فعل ثقافي (لوحة للفنان علي رضا درويش)
كثيرة هي الكتابات التي تحدثت عن القراءة، وشروطها، وطرائقها. وهذا الاهتمام لم يتوقف عند كُتاب الغرب على نحو الكاتب الشهير ألبرتو مانغويل الذي يعد من أفضل مَن كتبوا في تاريخ القراءة. وهناك مَن قدم إرشادات أخذت عناوين “أسس تنمية عادة القراءة” كما فعلت الباحثة الأميركية دونالين ملير. وفي عالمنا العربي تدخل كتابات عبدالفتاح كيليطو وعبدالسلام بنعالي تحت هذا النوع من الكتب التي تبقى إشكالية.
تتوالى الكتابات التي هي أشبه بمرشد للقارئ، وإن كان هناك مَن تحفظوا، على هذه الوظيفة، مثل فيرجينيا وولف، التي رأت أن على القارئ “ألا يتبع أي نصيحة”، وأن يتبع استنتاجاته الخاصة.
مع كل هذا الفيض من الكتابات عن القراءة وتاريخها وعوالمها، إلا أن أحدا لم يتوقف عند المعنى المضاد للقراءة أي “اللاقراءة”، أو حتى معوقات القراءة كالنسيان الذي يعتبر جزءا من القراءة، وليس آفة القراءة. وهو الاشتغال الذي توقف عنده الناقد والمحلل النفسي الفرنسي، بيير بيار، فيتوقف عند المعنى المضاد للقراءة في كتابه “كيف نتحدث عن كتب لم تقرأها؟” الصادر عن دار “كلمات للنشر والتوزيع – الكويت” بترجمة غسان لطفي.
القراءة واللاقراءة
في حديث سابق للكاتب ثروت أباظة خلال جلسة جمعته بالدكتور طه حسين عن الناقد محمد مندور، قال أباظة “إن مندور كان ينقد الكتب دون قراءتها، كان يلقي نظرة سريعة على فهارسها أو عناوين موضوعاتها، ثم يكتب عنها”، وقد أرجع هذا إلى شدة حب مندور للمال. في الحقيقة لا نعرف مدى صدق ما ذكر على لسان أباظة، لكن السؤال كيف لإنسان أن يتحدثَ (أو يكتب)عن كتب لم يقرأها؟ وهو الأمر الذي يوليه بيار عنايته في هذا الكتاب.
وبناء على هذا يضع حدا فاصلا بين القراءة واللاقراءة، وإن كان يقر بأن الحد الفاصل بينهما غير واضح تماما. فيقول من خبرته إنه بإمكان الإنسان أن يخوض نقاشا محتدما عن كتاب لم يقرأه، وإن كان يرى أن هذا يحدث في حالة لو أن المحاور لم يقرأ الكتاب هو أيضا.
يتساءل “هل يستوجب عليّ عند الكتابة عن كتاب ما أن أكون قرأته، وفي أضعف الاحتمالات أكون مسكته بيدي؟ النظرة العجلى سترفض وتقول لا، بالطبع، كيف؟ لكنّ ثمة رأيا قائما على استقصاء أفكار وحيوات كُتاب مارسوا أفعال الكتابة والتحدث عن الكُتب عبر طرائق غير التي نعرفها. وهو ما فعله بيار، الذي قدم لنا قائمة جديدة عن طرائق وكيفيات القراءة”.
وذكر أن هناك أنواعا مختلفة من الكتب مثل: كتب الشاشات، أو التعويض، أو الافتراضية، أي تلك التي لا تشبه الكتب الواقعية في شيء. والمقصود بها هي تلك التي يود أن يعرفها القارئ أو يظن ما يعرفه عن الكتاب، وبالتالي فكل الأحاديث المتبادلة عنه، والخطابات التي ننسجها حول الكتاب هي في جزء كبير منها خطابات عن خطابات أخرى عن الكتب.
يعنون بيير بيار أحد فصول الكتاب هكذا “في كيفيات اللاقراءة وطرائقها”، وهو عنوان يثير شهية القراء، وكأننا أمام بوصلة توجيه سلبية للقراءة، برفضها وعدم قراءتها على عكس ما ذكره غوركي بأن “على الأرض ما يستحق القراءة” أو حتى كافكا الذي اعتبر الكتب مثل “الفأس التي تكسر البحر المتجمد بداخلنا”.
إلا أن الكتاب هنا يحرضنا على عدم القراءة. هل فعلا نحتاج إلى خارطة طريق نسلكها كي لا نقرأ؟ مع الأسف المؤلف يعدد هذه الطرائق، ويذكر منها “ألا نفتح أي كتابٍ. وهذا الامتناع هو شأن كل قارئ، حتى ولو كان مواظبا على القراءة، فهم أيضا مُجبرون على التحدث عن كُتُبٍ لم يقرأوها، وهو ما يقودنا إلى اللاقارئ الكلي، الذي لا يفتح كتابا قط، دون أن يمنعه هذا من أن يعرف الكتب وأن يتحدث عنها”، ويضرب مثالا برجل المكتبة في كتاب “رجل بلا صفات” لروبرت موزيل، فهذا المكتبي الذي استعان به بطل الرواية بحثا عن “فكرة منقذة” من أجل استجلاء “قوة الخصم” بألا يدخل إلى بطون الكتب. وهذا الحذر ليس استهزاء أو لأنه عدو للكتب، بل على العكس لأنه يحبها، وهذا الحب يدفعه إلى أن يبقى بحذر على تخومها، فإن اهتمامه الزائد بكتاب يجره إلى إهمال الكتب الأخرى.
"أضرار" القراءة
بقدر أن المؤلف لا يعطي لمسألة أن يعترف مثقف بأنه لم يقرأ هذا الكتاب أو ذلك، يكفي أن يعلم شيئا عن مضمونه كي يحدد موقعه بين الكتب. فالتمييز بين مضمون الكتب، وموقعه هو تمييز حاسم ومحوري، وهو الذي يمكن الذين لا تخيفهم الثقافة من أن يتحدثوا عن أي موضوع دون عناء يذكر. إلا أنه في الوقت ذاته يعول على ما أسماه “المكتبة الجماعية” فهي المهمة حقا لأن الإحاطة بها والتمكن منها، هما المحك الحقيقي في الكلام على الكتب. فيكفي أي مثقف أن يطلع على عنوان الكتاب، أو أن يلقي نظرة على غلافه لكي تتداعى في ذهنه سلسلة من الصور والانطباعات التي سرعان ما تتحول إلى رأي أولي.
هل فعلا نحتاج إلى خارطة طريق نسلكها كي لا نقرأ؟
هذا الأمر يصل بنا إلى اللاقراءة، ويرى بيار أنه ليس ناتجا عن انعدام القراءة، بل هو فعل بأتم معنى الكلمة، يتمثل في أن نختار موقعنا في خضم الكتب الهائلة المحيطة بنا، لكي لا نغرق فيها. والفارق بين انعدام القراءة واللاقراءة، أن في الحالة الأولى الشخص الذي لا يقرأ لا يهتم بالكتاب أي المضمون والموقع معا. أما النوع الثاني فالشخص يمتنع عن القراءة، يفعل ذلك سعيا منه، ليمسك بجوهر الكتاب، وعلاقته بالكُتُب الأخرى. وهي ذات الفكرة التي تتردد عند بول فاليري حيث يقول صراحة “إن القارئ الحق المهتم بالتفكير بالأدب، لا يعنيه هذا الكتاب أو ذاك بل يعنيه مجموع كل الكتب الأخرى”.
النوع الآخر من القراء، هم مَن يتصفحون الكتب فقط، وحسب قول بول فاليري، الذي يعد واحدا ممن حذروا من خطر القراءة، وأيضا دعا إلى فصل الكاتب عن نصوصه؛ يكفي أن نتصفح كتابا لكي نكتب عنه مقالا كاملا. فمع أنه من النوع الذي لا يقرأ كثيرا على عكس أناتول فرانس الذي “كان يقرأ أكثر مما يجب”، فهو حسب الوصف “القارئ الذي لا يتوقف”، إلا أن هذا لا يمنعه من تكوين آراء دقيقة عن كُتاب يجهلهم، بل ويفيض في الحديث عنهم، على نحو ما فعل مع مارسيل بروست بعد وفاته، بكتابة مقالة ضافية، أكدت عبقريته عندما برهن على صدق نظريته في عدم القراءة، فامتناعه عن قراءة بروست هو أفضل إطراء يمكن أن يطريه به.
النوع الثالث من القراء هم من ينتمون إلى “الكتب التي سمعنا بها” فكما يقول أمبرتو إيكو ليس ضررويا أن نُمسك كتابا بيدنا لنتكلم عنه بالتفصيل، فيكفي أن نسمع ونقرأ ما يقوله عنه غيرنا من القراء. وهناك أيضا الكُتب التي نسيناها، وهي نماذج من كتب قرأناها إلا أننا نسينا موضوعها، بل نسينا أننا قرأناه، ويتساءل بيار هل هذه الكتب تبقى ضمن قائمة الكتب التي قرأناها؟ يقر أولا أنه لا يوجد قارئ في مأمن من عملية النسيان، بما في ذلك مونتين الذي يرتبط اسمه بالثقافة الكلاسيكية والمكتبات، فهو على حد تعبير فاليري “قارئ نسِي” وقد يرجع هذا إلى سبب فيزيقي حيث نقص الذاكرة. وإن كان هناك من يعتقد أن مسألة النسيان طبيعية، فالكتاب مجرد حامل مؤقت لحكمة، ما إن يؤدي وظيفته حتى يختفي بعد أن يؤدي رسالته.
وإن كانت القراءة عند مونتين ليست مرتبطة بضعف الذاكرة فحسب، بل مرتبطة أيضا بالخوف من الجنون، ومع أنها عامل إثراء أثناء حصولها، فهي تتسبب في الوقت نفسه بضياع الشخصية، من حيث إنها لا تكف عن تحويلنا إلى ذوات عاجزة عن التوافق مع نفسها. وعلى النقيض تُمارس الكتب التي لا نقرأها دورا مهما في أنها تساعدنا في حماية صورتنا، خشية أن تتهدد أمام ذواتنا وأيضا أمام الآخرين، فيأتي الجواب عن هذه الكتب (وهو ما يدفعنا بألا نخجل) كحيل دفاعية للحفاظ على هذه الصورة. فالكتب تزودنا بالعناصر التي تنقص شخصيتنا. وبذلك تكون الكتب فرصة سانحة لمن ينتهزها؛ لاكتشاف الذات، كما تفعل السيرة الذاتية. كما أن اللغة تجد في عبورها الكتاب، وسيلة لكي تتحدث عما يتوارى عادة فينا.
العجيب أن أوسكار وايلد في رده على استبيان بشأن “أفضل مئة كتاب يمكن أن ننصح بقراءتها”، توقف عند قسم سماه الكتب التي “نُثني الناس عن قراءتها”، واعتبر أن من سينتخب أسوأ مئة كتاب، سيُسدي لجيل الشباب خدمة جليلة. والمستخلص من فكرة وايلد أن للقراءة مثلما لها فوائد أو “مباهج” كما عدها أورهان باموق، لها أيضا أضرارها على نحو ما اعترف أورهان باموق في مقالة “كيف تخلصتُ من بعض كتبي” إلى درجة أنه شعرَ بالخجل من أنه أولاها بعض الأهمية في وقت من الأوقات.
ممدوح فراج النابي
كاتب مصري
"كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه"؟ دليل فرنسي جريء ومشوق يحرض على عدم القراءة.
اللاقراءة فعل ثقافي (لوحة للفنان علي رضا درويش)
كثيرة هي الكتابات التي تحدثت عن القراءة، وشروطها، وطرائقها. وهذا الاهتمام لم يتوقف عند كُتاب الغرب على نحو الكاتب الشهير ألبرتو مانغويل الذي يعد من أفضل مَن كتبوا في تاريخ القراءة. وهناك مَن قدم إرشادات أخذت عناوين “أسس تنمية عادة القراءة” كما فعلت الباحثة الأميركية دونالين ملير. وفي عالمنا العربي تدخل كتابات عبدالفتاح كيليطو وعبدالسلام بنعالي تحت هذا النوع من الكتب التي تبقى إشكالية.
تتوالى الكتابات التي هي أشبه بمرشد للقارئ، وإن كان هناك مَن تحفظوا، على هذه الوظيفة، مثل فيرجينيا وولف، التي رأت أن على القارئ “ألا يتبع أي نصيحة”، وأن يتبع استنتاجاته الخاصة.
مع كل هذا الفيض من الكتابات عن القراءة وتاريخها وعوالمها، إلا أن أحدا لم يتوقف عند المعنى المضاد للقراءة أي “اللاقراءة”، أو حتى معوقات القراءة كالنسيان الذي يعتبر جزءا من القراءة، وليس آفة القراءة. وهو الاشتغال الذي توقف عنده الناقد والمحلل النفسي الفرنسي، بيير بيار، فيتوقف عند المعنى المضاد للقراءة في كتابه “كيف نتحدث عن كتب لم تقرأها؟” الصادر عن دار “كلمات للنشر والتوزيع – الكويت” بترجمة غسان لطفي.
القراءة واللاقراءة
في حديث سابق للكاتب ثروت أباظة خلال جلسة جمعته بالدكتور طه حسين عن الناقد محمد مندور، قال أباظة “إن مندور كان ينقد الكتب دون قراءتها، كان يلقي نظرة سريعة على فهارسها أو عناوين موضوعاتها، ثم يكتب عنها”، وقد أرجع هذا إلى شدة حب مندور للمال. في الحقيقة لا نعرف مدى صدق ما ذكر على لسان أباظة، لكن السؤال كيف لإنسان أن يتحدثَ (أو يكتب)عن كتب لم يقرأها؟ وهو الأمر الذي يوليه بيار عنايته في هذا الكتاب.
وبناء على هذا يضع حدا فاصلا بين القراءة واللاقراءة، وإن كان يقر بأن الحد الفاصل بينهما غير واضح تماما. فيقول من خبرته إنه بإمكان الإنسان أن يخوض نقاشا محتدما عن كتاب لم يقرأه، وإن كان يرى أن هذا يحدث في حالة لو أن المحاور لم يقرأ الكتاب هو أيضا.
ليس ضروريا أن نمسك كتابا لنتكلم عنه بالتفصيل، فيكفي أن نسمع ونقرأ ما يقوله عنه غيرنا
يتساءل “هل يستوجب عليّ عند الكتابة عن كتاب ما أن أكون قرأته، وفي أضعف الاحتمالات أكون مسكته بيدي؟ النظرة العجلى سترفض وتقول لا، بالطبع، كيف؟ لكنّ ثمة رأيا قائما على استقصاء أفكار وحيوات كُتاب مارسوا أفعال الكتابة والتحدث عن الكُتب عبر طرائق غير التي نعرفها. وهو ما فعله بيار، الذي قدم لنا قائمة جديدة عن طرائق وكيفيات القراءة”.
وذكر أن هناك أنواعا مختلفة من الكتب مثل: كتب الشاشات، أو التعويض، أو الافتراضية، أي تلك التي لا تشبه الكتب الواقعية في شيء. والمقصود بها هي تلك التي يود أن يعرفها القارئ أو يظن ما يعرفه عن الكتاب، وبالتالي فكل الأحاديث المتبادلة عنه، والخطابات التي ننسجها حول الكتاب هي في جزء كبير منها خطابات عن خطابات أخرى عن الكتب.
يعنون بيير بيار أحد فصول الكتاب هكذا “في كيفيات اللاقراءة وطرائقها”، وهو عنوان يثير شهية القراء، وكأننا أمام بوصلة توجيه سلبية للقراءة، برفضها وعدم قراءتها على عكس ما ذكره غوركي بأن “على الأرض ما يستحق القراءة” أو حتى كافكا الذي اعتبر الكتب مثل “الفأس التي تكسر البحر المتجمد بداخلنا”.
إلا أن الكتاب هنا يحرضنا على عدم القراءة. هل فعلا نحتاج إلى خارطة طريق نسلكها كي لا نقرأ؟ مع الأسف المؤلف يعدد هذه الطرائق، ويذكر منها “ألا نفتح أي كتابٍ. وهذا الامتناع هو شأن كل قارئ، حتى ولو كان مواظبا على القراءة، فهم أيضا مُجبرون على التحدث عن كُتُبٍ لم يقرأوها، وهو ما يقودنا إلى اللاقارئ الكلي، الذي لا يفتح كتابا قط، دون أن يمنعه هذا من أن يعرف الكتب وأن يتحدث عنها”، ويضرب مثالا برجل المكتبة في كتاب “رجل بلا صفات” لروبرت موزيل، فهذا المكتبي الذي استعان به بطل الرواية بحثا عن “فكرة منقذة” من أجل استجلاء “قوة الخصم” بألا يدخل إلى بطون الكتب. وهذا الحذر ليس استهزاء أو لأنه عدو للكتب، بل على العكس لأنه يحبها، وهذا الحب يدفعه إلى أن يبقى بحذر على تخومها، فإن اهتمامه الزائد بكتاب يجره إلى إهمال الكتب الأخرى.
"أضرار" القراءة
بقدر أن المؤلف لا يعطي لمسألة أن يعترف مثقف بأنه لم يقرأ هذا الكتاب أو ذلك، يكفي أن يعلم شيئا عن مضمونه كي يحدد موقعه بين الكتب. فالتمييز بين مضمون الكتب، وموقعه هو تمييز حاسم ومحوري، وهو الذي يمكن الذين لا تخيفهم الثقافة من أن يتحدثوا عن أي موضوع دون عناء يذكر. إلا أنه في الوقت ذاته يعول على ما أسماه “المكتبة الجماعية” فهي المهمة حقا لأن الإحاطة بها والتمكن منها، هما المحك الحقيقي في الكلام على الكتب. فيكفي أي مثقف أن يطلع على عنوان الكتاب، أو أن يلقي نظرة على غلافه لكي تتداعى في ذهنه سلسلة من الصور والانطباعات التي سرعان ما تتحول إلى رأي أولي.
هل فعلا نحتاج إلى خارطة طريق نسلكها كي لا نقرأ؟
هذا الأمر يصل بنا إلى اللاقراءة، ويرى بيار أنه ليس ناتجا عن انعدام القراءة، بل هو فعل بأتم معنى الكلمة، يتمثل في أن نختار موقعنا في خضم الكتب الهائلة المحيطة بنا، لكي لا نغرق فيها. والفارق بين انعدام القراءة واللاقراءة، أن في الحالة الأولى الشخص الذي لا يقرأ لا يهتم بالكتاب أي المضمون والموقع معا. أما النوع الثاني فالشخص يمتنع عن القراءة، يفعل ذلك سعيا منه، ليمسك بجوهر الكتاب، وعلاقته بالكُتُب الأخرى. وهي ذات الفكرة التي تتردد عند بول فاليري حيث يقول صراحة “إن القارئ الحق المهتم بالتفكير بالأدب، لا يعنيه هذا الكتاب أو ذاك بل يعنيه مجموع كل الكتب الأخرى”.
النوع الآخر من القراء، هم مَن يتصفحون الكتب فقط، وحسب قول بول فاليري، الذي يعد واحدا ممن حذروا من خطر القراءة، وأيضا دعا إلى فصل الكاتب عن نصوصه؛ يكفي أن نتصفح كتابا لكي نكتب عنه مقالا كاملا. فمع أنه من النوع الذي لا يقرأ كثيرا على عكس أناتول فرانس الذي “كان يقرأ أكثر مما يجب”، فهو حسب الوصف “القارئ الذي لا يتوقف”، إلا أن هذا لا يمنعه من تكوين آراء دقيقة عن كُتاب يجهلهم، بل ويفيض في الحديث عنهم، على نحو ما فعل مع مارسيل بروست بعد وفاته، بكتابة مقالة ضافية، أكدت عبقريته عندما برهن على صدق نظريته في عدم القراءة، فامتناعه عن قراءة بروست هو أفضل إطراء يمكن أن يطريه به.
النوع الثالث من القراء هم من ينتمون إلى “الكتب التي سمعنا بها” فكما يقول أمبرتو إيكو ليس ضررويا أن نُمسك كتابا بيدنا لنتكلم عنه بالتفصيل، فيكفي أن نسمع ونقرأ ما يقوله عنه غيرنا من القراء. وهناك أيضا الكُتب التي نسيناها، وهي نماذج من كتب قرأناها إلا أننا نسينا موضوعها، بل نسينا أننا قرأناه، ويتساءل بيار هل هذه الكتب تبقى ضمن قائمة الكتب التي قرأناها؟ يقر أولا أنه لا يوجد قارئ في مأمن من عملية النسيان، بما في ذلك مونتين الذي يرتبط اسمه بالثقافة الكلاسيكية والمكتبات، فهو على حد تعبير فاليري “قارئ نسِي” وقد يرجع هذا إلى سبب فيزيقي حيث نقص الذاكرة. وإن كان هناك من يعتقد أن مسألة النسيان طبيعية، فالكتاب مجرد حامل مؤقت لحكمة، ما إن يؤدي وظيفته حتى يختفي بعد أن يؤدي رسالته.
وإن كانت القراءة عند مونتين ليست مرتبطة بضعف الذاكرة فحسب، بل مرتبطة أيضا بالخوف من الجنون، ومع أنها عامل إثراء أثناء حصولها، فهي تتسبب في الوقت نفسه بضياع الشخصية، من حيث إنها لا تكف عن تحويلنا إلى ذوات عاجزة عن التوافق مع نفسها. وعلى النقيض تُمارس الكتب التي لا نقرأها دورا مهما في أنها تساعدنا في حماية صورتنا، خشية أن تتهدد أمام ذواتنا وأيضا أمام الآخرين، فيأتي الجواب عن هذه الكتب (وهو ما يدفعنا بألا نخجل) كحيل دفاعية للحفاظ على هذه الصورة. فالكتب تزودنا بالعناصر التي تنقص شخصيتنا. وبذلك تكون الكتب فرصة سانحة لمن ينتهزها؛ لاكتشاف الذات، كما تفعل السيرة الذاتية. كما أن اللغة تجد في عبورها الكتاب، وسيلة لكي تتحدث عما يتوارى عادة فينا.
العجيب أن أوسكار وايلد في رده على استبيان بشأن “أفضل مئة كتاب يمكن أن ننصح بقراءتها”، توقف عند قسم سماه الكتب التي “نُثني الناس عن قراءتها”، واعتبر أن من سينتخب أسوأ مئة كتاب، سيُسدي لجيل الشباب خدمة جليلة. والمستخلص من فكرة وايلد أن للقراءة مثلما لها فوائد أو “مباهج” كما عدها أورهان باموق، لها أيضا أضرارها على نحو ما اعترف أورهان باموق في مقالة “كيف تخلصتُ من بعض كتبي” إلى درجة أنه شعرَ بالخجل من أنه أولاها بعض الأهمية في وقت من الأوقات.
ممدوح فراج النابي
كاتب مصري