لم يقدم المشرق في مواقعه فناً كهفياً حتى الآن، فكهوف أوروبا في إسبانيا وفرنسا وغيرها قدّمت معطيات الفنون الأولى، والأفكار تتضارب في اعتبارها فنوناً أم رسائل لا تملك الحضور الفني مع تقنياتها المهمة آنذاك، وإجمالاً كلُّ فن صيّاد لاقط هو فنُّ كفايةٍ وفنُّ مصلحة وجودية، ولا يمكنُ صرفُ النظر عن إمكاناته الفنية وتقنياته المبكرة. لا مجال هنا لمقولات: "الفن للفن"، و"الفن الغائي" و"الفن الهادف"، أو سريالية الفنون القديمة في عصر البدء.
في رأينا "فن الكفاية" وُلد ملازماً للخوف وعدم أمان وليس للدين، ولو أنَّ الأول أدى إلى الثاني. المحيط القاسي بالبيئة والمناخ والكائنات دفع الإنسان العاقل الأول إلى تعبيرات فنية تحمي وجوده، فالصياد الداخل في غابةٍ ما أو في السافانا كان يختبر المكان من أجل الصيد. فإن خرج منها أو خطَّ بها على حجر في الطريق إشارةً منه أو رسمَ رسومات باهتة لعدة غزلان، كان يقول لأخيه الإنسان:
إن مررتَ فلا مانع من الدخول فالصيد وفير، لكنه إنْ خرج لاهثاً دون صيدٍ نقشَ بأصابع مرتجفة إشارات أو رسومات لغزال وبجانبه رسم أسداً أو حيواناً مفترساً، تحذيراً للداخل أنه ربما لا يخرج. ربما لا ينتمي هذا النشاط النفعي إلى الفن وعالمه، ولكن مع انعدام ثقافة الكتابة وحلول الثقافة الشفهية كان هذا الأمر أول رسالةٍ في التاريخ.([[1]
إنسان الكهوف في مواقع أوروبا كان يُمنّي النفس بصيد وفير، وهذا فن التمنّي، وهو أن يجعل سهاماً مغروزة في بطن الضحية إن كان ثوراً أو أيلاً، فقال لنا: لا بأس، سوف أحصل على صيد وفير. وبعد آلاف السنين تبدلت الحالة الإنسانية، مما دفعَ "رودان" مثلاً بعد إنهاء منحوتته "المفكر" إلى أن يصرخ فيه: "انطقْ". فوظيفة الفن آنذاك لم تكن خلقَ البديل الرمزي للموضوع على الإطلاق من التمنّي إلى الكفاية، ومال فكر ذلك الإنسان إلى أداته القاتلة، ربما صارت مدللتهُ؛ فهي أساس بقائه واستمراريته.
"برونو فسكي" يتحدث عن "الأداة بكونها امتداد لليد البشرية، فهي أداة رؤية، اتحاد اليد مع العقل فَرضَ المادة بذاتها عن طريق اليد؛ لهذا كانت مسيرة البشرية عبر العصور ليست سوى تحسين عمل اليد البشرية.
([1]) في مماثلات فنية لفن الرسائل هذا ولكن بتطورات دماغية زمنية، سنجد بعد خمسين ألف عام تقريباً رسائل فنية كتابية، كرسائل تُقدم الغاية الفنية في معتقد أو شأن اجتماعي. معبد عين داره في الشمال السوري، وهو معبد آرامي وليس حثياً، هذا المعبد قدّم طبعات أقدام متسلسلة لدخول المذبح، تقول للداخل: بالقدم اليمنى إن سمحتْ. دون أي نقش يُذكر، ولكن بعد أكثر من ألف عام، نَحَتَ رجل تدمري تمثالاً مهيباً لأسد الربة اللات في تدمر، ونقش وأتفنن نقشَ أسد يحضن أيلاً في مشهد عاطفي، ومن لم يفهم رمزية العمل له أن يقرأ أسفل التمثال بالآرامية: إن الربة اللات تُبارك من لا يسفك الدم في المعبد.
تاريخ المشرق 2023 - بشار خليف
في رأينا "فن الكفاية" وُلد ملازماً للخوف وعدم أمان وليس للدين، ولو أنَّ الأول أدى إلى الثاني. المحيط القاسي بالبيئة والمناخ والكائنات دفع الإنسان العاقل الأول إلى تعبيرات فنية تحمي وجوده، فالصياد الداخل في غابةٍ ما أو في السافانا كان يختبر المكان من أجل الصيد. فإن خرج منها أو خطَّ بها على حجر في الطريق إشارةً منه أو رسمَ رسومات باهتة لعدة غزلان، كان يقول لأخيه الإنسان:
إن مررتَ فلا مانع من الدخول فالصيد وفير، لكنه إنْ خرج لاهثاً دون صيدٍ نقشَ بأصابع مرتجفة إشارات أو رسومات لغزال وبجانبه رسم أسداً أو حيواناً مفترساً، تحذيراً للداخل أنه ربما لا يخرج. ربما لا ينتمي هذا النشاط النفعي إلى الفن وعالمه، ولكن مع انعدام ثقافة الكتابة وحلول الثقافة الشفهية كان هذا الأمر أول رسالةٍ في التاريخ.([[1]
إنسان الكهوف في مواقع أوروبا كان يُمنّي النفس بصيد وفير، وهذا فن التمنّي، وهو أن يجعل سهاماً مغروزة في بطن الضحية إن كان ثوراً أو أيلاً، فقال لنا: لا بأس، سوف أحصل على صيد وفير. وبعد آلاف السنين تبدلت الحالة الإنسانية، مما دفعَ "رودان" مثلاً بعد إنهاء منحوتته "المفكر" إلى أن يصرخ فيه: "انطقْ". فوظيفة الفن آنذاك لم تكن خلقَ البديل الرمزي للموضوع على الإطلاق من التمنّي إلى الكفاية، ومال فكر ذلك الإنسان إلى أداته القاتلة، ربما صارت مدللتهُ؛ فهي أساس بقائه واستمراريته.
"برونو فسكي" يتحدث عن "الأداة بكونها امتداد لليد البشرية، فهي أداة رؤية، اتحاد اليد مع العقل فَرضَ المادة بذاتها عن طريق اليد؛ لهذا كانت مسيرة البشرية عبر العصور ليست سوى تحسين عمل اليد البشرية.
([1]) في مماثلات فنية لفن الرسائل هذا ولكن بتطورات دماغية زمنية، سنجد بعد خمسين ألف عام تقريباً رسائل فنية كتابية، كرسائل تُقدم الغاية الفنية في معتقد أو شأن اجتماعي. معبد عين داره في الشمال السوري، وهو معبد آرامي وليس حثياً، هذا المعبد قدّم طبعات أقدام متسلسلة لدخول المذبح، تقول للداخل: بالقدم اليمنى إن سمحتْ. دون أي نقش يُذكر، ولكن بعد أكثر من ألف عام، نَحَتَ رجل تدمري تمثالاً مهيباً لأسد الربة اللات في تدمر، ونقش وأتفنن نقشَ أسد يحضن أيلاً في مشهد عاطفي، ومن لم يفهم رمزية العمل له أن يقرأ أسفل التمثال بالآرامية: إن الربة اللات تُبارك من لا يسفك الدم في المعبد.
تاريخ المشرق 2023 - بشار خليف