Daad Deeb مع Hazim Kamaledin وDaad Deeb.
مادتي في المجلة العربية
الشكر الجزيل للاستاذ محمد السيف
الفن التشكيلي في ظلال السرد
دعد ديب
قد يكون الظل انعكاسًا غامضًا لكينونة ما، نلحظها كأثر على وجود غائم، كشكل آخر من تجليات الأصل الغير مرئي أو المحجوب لسبب أو لآخر، ومن هنا اقترن الظل بالسر والسريرة والوضوح بالضوء كعلاقة تبادلية بين الساتر والمستور، وبين الأصل والشبيه، وفي الكثير من الحضارات القديمة كان الظل مرادفًا للغموض والموت ولا غرابة أن سمي العالم الآخر بأرض الظلال لما تتركه الحياة للأموات من معان ومضمرات، فمهما كتب عن الموت ورغم أنه حقيقة قائمة إلا أنه بقي عالم للمجهول وبقيت معانيه المفترضة في عالم المجهول، وبقي الظل رديفًا للغموض والغياب والموت، فعندما نتحدث عن ظلال الأشخاص نفهمها بما يتبقى من نتاجهم وسلوكهم وأعمالهم بعد غروب أيامهم أو فنائهم الجسدي، فمنهم من يترك ظلال ثقيلة على الذاكرة والوجدان مثل طغاة العالم وأرباب الرعب والجريمة والعنف، ومنهم من يصبح ذكراهم أيقونة نتغنى بها وتؤلف الأشعار والدراسات والأناشيد على امتداد آثارهم المترامية .
في القرن السادس عشر أسس كارافاجيو "ميكيلانجلو ميريزي"مذهب فني عرف بالمضاء والمظلم وذلك بأن يظهر المشهد منار بمصدر واحد للضوء كشمعة مثلًا أو قنديل وما يتيحه ذلك من تسليط الضوء على وجه ما أو كائن آخر بشكل يتناوب الضوء والعتمة مخفيًا ملامح ومبديًا ملامح أخرى، مما يكثف المعنى الذي يبغي حضوره بذات الوقت مع ما يختزنه الرسم بالجوانب المعتمة والتي يفصح عنها بمواربة ما للإيماءات والتعبيرات التي يقصدها، هذا المذهب الذي تبلور في عصر النهضة الباروكي كان له مريدوه وأنصاره من الفنانين ومنهم جورج دي لاتور ورامبرانت فان راين وهذا الأخير يعتبر من أهم فناني ذلك العصر الذي يعتبر العصر الذهبي للفن في أسلوب محاكاته للصور والشخوص، فالفن ليس تمثيلًا للجسد وحسب وإنما للقوى التي تقف وراء الجسد، فهو لم يصور ما يراه مباشرة وإنما جسد ما تبعثه في نفسه تلك الوجوه من مشاعر وانفعالات؛ وما يستوحيه من معان في تفاصيلها؛ وما يستيقظ في داخل نفسه من تصورات وأفكار، ورغم أنه كان بعيدًا عن الوسامة كما كان يحكى عنه فقد كان شديد الولع بتصوير نفسه، ويقال أنه أنجز ما يقارب سبعين لوحة لرسمه ووجهه لذا اعتبر رسام البورتيرهات بلا منازع، وقد كان لتلاعبه بموضوعة الظل والضوء مقدرة كبيرة في استجلاء كوامن الموضوع الذي يرسمه وتجسيد أعماقه ودواخل نفسيته، حيث العتمة قاسم مشترك في جل لوحاته ماعدا شذرات من مجسات ضوئية أصر من خلالها على الملمح الذي يعبر عن مكابدة ما في عمق الوجه الذي يرسمه متناوبًا بين غموض ووضوح بما يستبطن حضورًا روحيًا للملامح الأمر الذي جعل لأعماله تيارًا فنيًا خاصًا به في ترجمته لملامح الشخصية الإنسانية، ولعل شغفه المتزايد برسم الوجه الإنساني قاده لتدوين يومياته "يوميات رامبرانت" الذي ترجمه ياسين طه حافظ وخص به علاقته باللوحات التي يرسمها والتي كثفت مسارات حياته وعلاقته بزوجتيه وابنه حيث لكل لوحة قصة في تاريخه وحكاية جرت أحداثها معه في مزاوجة بين فن التشكيل وأدب اليوميات راسمًا فيها حياة ظلية سعيدة ليداري الظروف السيئة التي عانى منها في آخر أيامه.
أما جورج دي لاتور فقد تميز كلك برسم البورتريه ذو العيون المتجهة للأسفل حتى أنه لقب بصاحب الجفون المسدلة، والتي تظهر من خلال ضوء شموع في الغالب حيث التأمل والسكون في الظلام، وارتبط الضوء والظل لديه بفهم صوفي عميق وحساسية مرهفة للكشف عن حالات القلق والعذاب الإنساني كما يعطي لوجوهه مساحة للتبصر المشفوع بحزن شفاف آسر، ودائمًا ثمة شمعة تظهر طرفًا للوجوه وتخفي جانبًا آخر في تلك المساحة الغامضة التي يصلها انعكاس الضوء، وقد وظف واسيني الأعرج لوحته "المجدلية التائبة" في غلاف روايته " أصابع لوليتا " حيث غلاف أي كتاب هوية بصرية للعمل إذ تظهر فيها المجدلية غارقة في ظلام دامس واضعة يدها اليمنى على جمجمة موضوعة على ركبتها، في حين أن يدها الثانية موضوعة على خدها الأيسر، وهي تحدق في الكتاب المقدس الذي وضع بجانبه قنديل زيتي يبعث بنور خافتّ يبين لنا بعض ملامح الصورة الغارقة في العتمة في تعبير إيحائي كيد على الموت ويد على الحياة حيث تمتد فكرة ثنائية الموت والحياة وثنائية العتمة والنور إلى عمق العمل، فلوليتا الضياء في قلبها وعشقها الصافي والعتمة في فعل الموت التي أقدمت عليه، وهذه الازدواجية تحاكي مجدلية دولاتور في يدها القابضة على الجمجمة؛ الموت؛ الظلام، واليد الأخرى الممدودة للحياة والنور كما هي صورة انعكاسية للعشق الأول للبطل "مريم ماجدولينا" حيث التسمية لا تحتاج إلى تفسير في تناوب ثنائية الملاك والشيطان في الأدوار المتبادلة بين السرد وبين التشكيل.
ومن بلجيكا كان لاشتباك السرد مع التشكيل حكاية أخرى في أعمال رينيه ماغريت السريالية التي يكتنفها الغموض في اختزان معنى ماوراء المنطق، تلك الأعمال التي لا تتكشف أوراقها بسهولة للوهلة الأولى، إذ وظفها الروائي حازم كمال الدين في روايته "الوقائع المربكة لسيدة النيكروفيليا" لما فيها من تصادي لمعنى عدم يقينية الأشياء في الأحداث التي تخفي أمورًا غير ظاهرة، وما اختيار كمال الدين للوحة ماغريت إلا للاشتباك الحاصل بين غرائبية سرده وغرائبيه أعمال ماغريت الذي يحفل عالمه بالثنائيات الليل والنهار؛ العتمة والنور؛ ودائمًا ثمة معنى غير مرئي في أعماله فهو يقول: "أن كل شيء نراه يخفي وراءه شيئًا آخر" ففي لوحته " René Magritte - La voix du sang (1961)." (صوت الدم) تظهر بيئة صحراوية تحوي جبال وأشجار بعيدة اجتمع فيها الليل والنهار معًا حيث يبدو النهار في الجزء السفلي منها والليل في الجزء العلوي وطريق ملتوي أمامه شجرة عملاقة خريفية وهذه الشجرة هي الأكثر بروزًا في اللوحة "شجرة تفاح في بستان خريفي؟" في أعلى جذعها باب موارب واسع من لحاء الشجرة، تحته طابق تكمن فيه بيضة أكبر من الباب، بل أكبر من المنزل المضاء تحت البيضة بطابق، وتلك البيضة الضخمة على وشك السقوط، هذا المشهد الغريب في اللوحة وهذه الغرائبية صدى آخر للوجود الغريب المفتقد للمعنى المباشر في وجود بطلة كمال الدين" داليا رشدي" وهي ممددة على فراش الموتى، وذلك العجز عن الفعل ورد الفعل في محاكاة التشكيل المخالف للطبيعة في الوجود السفلي للنهار والأعلى لليل في انقلاب المعايير والمصائر بفهم مختلف لتواتر الثنائيات وتجاورها وتناقضها.
وفي الأدب العالمي اتكأ الكثير من الأدباء على الفنون التشكيلية لاستكناه معان مدفونة في لوحات شهيرة فدان براون في "شيفرة دافنشي" وظف لوحات متحف اللوفر المتعددة وأخضعها لتفسيرات رموزه وتأويلاته المتطرفة في بنيان عمله، أما بول أوستر في روايته الجميلة "قصر القمر" فقد أعطى معنى شفيفًا لرؤاه المستوحاة من لوحات (رالف البرت بلاكلوك) " Blakelock" الذي كان مولعًا برسم المناظر الطبيعية للوحات مرسومة من لحظات مضيئة في الطبيعة ، تلك المناظر الطبيعية المضاءة بالشموع وساعات الشفق والمخيمات الهندية في عزلة الطبيعة، ولعل اهتمامه بتجسيد المشاهد الليلية جعلته يعرف باسم “رسام الظلام" معتمدًا على ضوء القمر كمصدر للضوء بكل ما توحيه العتمة من تناظر الظل والضوء في تكثيف المعنى المراد التركيز عليه يقول بول أوستر في لوحة ضوء القمر" لوحة ضوء القمر، بصفتها عملًا روحيًا عميقًا، مشهدًا للجوهر والسكون، الرسم الذي لا يتكشف لناظره من الوهلة الأولى، الرؤية المتأنية والعميقة تدخل في روح مبدعها الأصلي، لتتوغل في طبقات وعيه للأشياء، كيف تُظهر السماء في الليل في ضوء القمر، تدرجات الأخضر والدخول في لغة اللون، فالمسألة ليست في تشكيل منظر طبيعي، ولكن ذاك التداخل الغريب بين النفس وأحوالها، وماهية الطبيعة المستغلقة على الفهم، بإشارة إلى عالم الهنود، السكان الأصليين للمكان، أي إلى العالم الفطري الطبيعي المتناغم بين الطبيعة والإنسان، كلوحة تذكارية "لأغنية موت وعالم تلاشى"
حيث تظهر اللوحة قمر مستدير شاحب يضيء ما حوله وفي الجزء السفلي من اللوحة تفاصيل معتمة من أشخاص وأشجار وتفاصيل تغمرهم الظلال مما يعكس لوحة رعوية فطرية للعالم الأولي للهنود الحمر حيث يغمرهم الصفاء قبل أن يقتلعهم الرجال البيض من حياتهم حيث قرأ بول أوستر في لوحة بيكلوك بأنها أي اللوحة تمثيل لما افتقدناه أو تذكارًا لموسيقا الموت من عالم انتهى وجوده، كما يتحدث في روايته عن الأقمار المتكررة في لوحات بليكلوك بوصفها منافذ من البياض تطل على حقائق أخرى للعوالم الداخلية للفنان الذي انطفأ في جنونه وتعاسته.
وفي هذا التشابك الكبير بين التشكيل والسرد لا نستطيع التأكيد من يحتوي الآخر بين هذين الجنسين الفنيين حيث الاشتغال التشكيلي يحوي قصة وسردًا ورأيا فكريًا في جنباته، كما أن السرد يمتلأ ألوانًا حية ورؤى نابضة نكاد نتخيلها تقع أمامنا وخاصة لتلك التقنية العالية في معاني الظل والضوء، الأصل والشبيه، والعتمة والنور ومعانيها الكامنة في النفس البشرية وتجلياتها العميقة في هذين الفنين الخالدين اللذين يفتحان باستمرار أبوابًا جديدة للمتعة والمعرفة.
المراجع :
كتاب يوميات رامبرانت 1661 لالن باسز ترجمة ياسين طه حافظ –منشورات دار المدى ط1 2016
رواية قصر القمر لبول اوستر ترجمة عبد المقصود عبد الكريم –المركز القومي للترجمة ط1 2015
رواية أصابع لوليتا ل واسيني الأعرج-دار الآداب للنشر والتوزيع 2014
رواية الوقائع المربكة لسيدة النيكروفيليا ل حازم كمال الدين –دار فضاءات 2020
المحاضرة التاسعة حول الظل والضوء كلية الفنون الجميلة جامعة بابل 2017
شيفرة دافنشي لدان براون ترجمة سمة محمد عبد ربه الدار العربية للعلوم ط1 2004
الفنانون المذكورون
كارافاجيو"ميكيلانجلو ميريزي" (1571-1610) ايطالي
جورج دي لاتور (1593 -1652) فرنسي
رامبرانت فان راين (1606-1669 ) هولندي
رالف ألبرت بلاكلوك (1847 –1919) أميركي
ياسر دريباتي
- Mohammad Yassin Sobeih
مقال ثري ومهم، دمت بتألق