فنانون مغاربة وغربيون يخلقون لغة كونية تتجاوز حدود المقروء
"رقصة العلامة".. معرض في الرباط يحوّل الحروف إلى كتابة بصرية.
الأحد 2024/11/03
من الحروفية إلى الكتابة البصرية
لم يعد الفن تجربة سابقة يقدمها الفنان بثقة كاملة إلى المتلقي كرسالة جمالية وفكرية وغيرها من الخطابات التي تحملها، بل إن الفن اليوم خطاب متجدد يقحم المتلقي في إنشاء معناه وجماليته وأفكاره وفق تصوراته وتجربته الخاصة، إنه ليس تجربة سابقة بل تجريب مستمر، ما يفرض على العمل الفني تحقيق قدرة رمزية كبيرة تقول ولا تقول وتفتح المجال للتأويل، وهو ما انتهجه فنانون مغاربة وغربيون في معرض فني جديد في الرباط.
يمثل معرض “رقصة العلامة”، الذي افتتح مؤخرا في دار العرض عبلة عبابو بالرباط، تأملاً بصرياً في العلاقة بين الكاليغرافيا والكتابة البصرية وأشكال التعبير المعاصرة، حيث تتعانق الرموز وتتراقص ضمن فضاء بصري ملهم يضم أعمال أحد عشر فناناً بينهم خطاطون ومصورون صباغيون وفوتوغرافيون، يعيدون تشكيل اللغة، ليس بألفاظها البصرية التقليدية ولكن بصورها الرمزية، ليخلقوا بذلك لغة كونية تتجاوز حدود المقروء.
يحتفي المعرض بالفن في علاقته بالكتابي، ويعكس تطوره من كونه وسيلة للكتابة إلى وسيلة تعبير بصري متكامل، بحيث لا تلتزم الأعمال بالضرورة بقابلية القراءة وتفكيك شفرة المكتوب بسهولة، بل تستمد من الحروف والإماءة (geste) أشكالا وتراكيب تجريبية تعيد ابتكارها في قوالب بصرية، وتستخرج من النمط الكتابي “لغة بصرية” كونية، يمكن للكل أن يقرأها انطلاقا من محليته ومن معرفته الكونية.
فن الكتابة البصرية
المعرض يضعنا إزاء ما يمكننا أن نصطلح عليه بـ"الكتابة – البصرية"، وهي كتابة تعتمد على منطلقات الفنون البصرية
يضعنا هذا المعرض إزاء ما يمكننا أن نصطلح عليه بـ”الكتابة – البصرية”، وهي كتابة تعتمد على منطلقات الفنون البصرية، لتؤلف أعمالا نابعة من بحث عن لغة جمعاء، تتجاوز حدود المنطوق والمقروء وحتى البصري.. وتتخذ لنفسها قوة اختراقية لكل الأفضية والثقافات والجغرافيات، حيث يمكنها أن تتمتع بأحقية التأوّل المفتوح.
يحدثنا المفكر المغربي عبدالكبير الخطيبي عن الحضارة العربية بأنها “حضارة العلامة”، التي تتحول إلى صورة، هذه الأخيرة التي تتخذ حضورها الفني في هذا المعرض من معطى إيقاعي ومن قوة الرمز، فتتجلى العلامة هنا إذن، في أبعاد متنوعة، وتتراقص متنقلة بين الأسندة والتقنيات المتعددة: الفوتوغرافيا، القماشة، الجلد، النحاس، الحديد، الورق… ولا تتوقف أعمال المعرض عند تخوم العلامة فحسب، بل تتجاوزها إلى جغرافيات الأثر، الذي يتبع قانون المحو وصيغ الاختفاء، وسحرية الزوال الذي يلزمنا إعمال الحدس ويرغمنا على تقفيه. مما يجعلنا نلج عوالم “ذوبان العلامات”، حيث لا يمكننا أن نعزل علامة عن علامة أخرى، أو نقرأ الواحدة دون الأخرى. وهو ما يتحقق عبر الترحال بين جغرافيات كل الأعمال.
وقد توفقت عبلة عبابو، القائمة على المعرض والمشرفة عليه، في اختيارها للأعمال الفنية التي تتكامل بصريا وعلاماتيا وكتابيا. وفي هذا الصدد تخبرنا، بأن “الحروفية – أو الكتابة البصرية (l’écriture visuelle) – والفن المعاصر يلتقيان في قدرتهما على تجاوز الحدود اللغوية والثقافية، حيث يمكن للحروفية والكتابة في الفن – بوصفهما فنا للعلامات – أن تخاطبا العالم بلسان بصري متفرد، لا يحتاج إلى ترجمة لفظية”، حيث تتحول الكتابة إلى شكل من أشكال الرسم المقنن (Codifié).
وتؤكد على فكرة أن “فن الكتابة البصرية لا ينحصر فقط في الفن العربي، بل يمكنها أن تكون جزءا من مشهد عالمي يتناغم مع الفنون البصرية الأخرى، مشيرة إلى أن الحروفية، بتركيزها على الأشكال والخطوط، تمتلك القدرة على أن تتجاوز الحواجز اللغوية، مما يجعلها فناً كونيا (Art universel)”. وهو ما تحقق في الفن الصيني أو الياباني الذي قاد رولان بارت للقول بأن “للتصوير والكتابة الأداة نفسها: الريشة”، أو حتى مع مدرسة البعد الواحد، ومع مجموعة من الفنانين المغاربة.
فنانون من مختلف الثقافات
مما يقودنا، وانطلاقا من هذا الحدث الفني، إلى القول بأن الحروفية (la calligraphie lettré) أو الكتابة البصرية اتجاه فني له مساراته التاريخية الخاصة، النابعة من الأبعاد الحضارية والأركيولوجية والجمالية والدينية والروحانية… وقد اتخذ مع الفن الحديث ومن ثم المعاصر أبعادا إستتيقية تجعل له حضورا علاماتيا ورمزيا قد تصعب قراءته وتشفيره أحيانا. فالكاليغرافيا المعاصرة ليست مجرد نسخ، بل هي تأويل بصري للعالم المعيش ( Lebenswelt بقول هورسل) وأيضًا من منظور فينومينولوجي وهيرمينوطيقي. لهذا فهو فن في حد ذاته يتم تقديره بالطريقة نفسها للفن عموما. ومع عدم وجود نظير حقيقي له في أوروبا، فإن وجوده عن طريق تعديل العلاقة بين الكتابة والصورة يؤثر على تعريفه فنا، لهذا يروم البعض – عندنا – إلى معارضته مجانا.
لقد انفتح فن الحروفية على آفاق كتابية معاصرة ولم يعد يستند على موتيفات تؤثث فضاءات المجرد صباغيا، ليصبح قادراً على نقل التجربة الجمالية باستخدام الخطوط والأشكال، حيث استبدل التزامه بالمقروئية بلغة كونية (وكتابة اختراقية) تُترجم المعاني من خلال التكوينات الشكلية، مما يتيح لها القدرة على أن تكون فناً يتجاوز المحلية.
أعمال الفنانين المشاركين في المعرض تطرح تساؤلات حول إمكانية خلق لغة جديدة من الحروف والكتابة والأشكال، حيث تصبح الكاليغرافيا عنصراً للخلق الفني الحر وتصير الكتابة إبداعا لأكوان صباغية تتراقص فيها العلامات. يشير عمل الفنان محمد المرابطي بتعاون مع الفنان وضيف الله، على سبيل التمثيل، إلى كيفية دمج الحروف في أعمال تستحضر رقتها العلاماتية كأنها فراشات متطايرة في جو يتمتع ببعد روحي، ليصنعا تجربة بصرية – بيدين – تكتسب ثراءها من التواشج بين التجريد والشاعرية. كل ذلك في فضاء صباغي روحاني يبحث عن إعادة تمثيل الأماكن الروحانية بشكل أقرب إلى إيقاعات المجرد.
لوحات تتحدى المقروء
أعمال الفنانين غير العرب تمنحنا بعدا جماليا يوضح الكيفية الإستتيقية التي قد تتولد عن التفاعل الحضاري والثقافي
تُبرز أعمال الفنان البصري عبدالصمد بويسرامن نوعاً آخر من هذا التحول. إذ يركز الفنان على تأثير اللون وأبعاده في العمل الفني. يعتقد بويسرامن أن الألوان، عندما تفقد دلالاتها الثقافية أو العرقية، تصبح وسيلة للتعبير الحر، ممثلة بذلك تحدياً للأطر التقليدية للفن في علاقته الأركيولوجية بالمكتوب، الذي يتحول إلى نوع من الطبقات الحضارية المتراكبة (superposés) والمتراكمة. وهي بدورها تصير تعبيرا جماليا عمّا يسميه الفنان بـ”صور كتابية للنسيج الاجتماعي الطبقي”. إذ لا تتوقف الصيغ الكتابية عنده على أيّ بعد حروفي في حد ذاته، بل تتجاوزه إلى كتابة خطية تتشكل عبرها الأفضية والمساحات والمشاهد. كل ذلك في بعد مونوكرومي يُكسب المنجز بعده المعاصر، ويتضح الأمر جليا في تلك المنجزات التي تتشكل من لعب (مصفوفي) حيث ينسج الفنان لوحاته زمكانيا.
وبالطريقة ذاتها، تعيد الفنانة الفرنسية ساندي بريشلر اكتشاف الكتابة كعلامة تجريدية، في مشروعها الفني “سيميائيات الفراغ” (Sémantiques du vide) حيث تدمج الجسد والخط في علاقة عضوية، مستلهمةً من أشكال تعبير متعددة مثل الرسم والأداء والفنون التشكيلية، في محاولة للتعبير عن “الكلمة المطلقة”. وضمن هذا المعرض تضع المتلقي إزاء لوحات تُكتب بمحو، وتُملأ بفراغ، في تناقض بين الكتلة والخواء، كأنها تُسيّج بياض العمل بكتابة أفقية وعمودية متصاعدة وتنازلية في آن، يمكن النظر إليها من اليمين كما من الشمال، ضمن تجربة سيميائية بصرية، تحوّل كل العلامات إلى علامة واحدة ممددة على امتداد كل مساحة العمل.
بينما تحرص الفنانة نجوى الحيتمي في عملها على إخفاء العلامات الكتابية والحرفية في خلفية اللوحة، بحيث تتلاشى المقروئية في سبيل خلق مساحة من التأمل والتساؤل. تسعى الحيتمي إلى تقليل العناصر التي يمكن أن تُعتبر إضافية أو زائدة عن حاجة اللوحة، فتقدم أعمالاً تتسم بالبساطة ولكنها تحمل في طياتها عمقاً يعكس رحلة داخلية للبحث عن الذات، ضمن تسامٍ بصري وروحاني، يهب العلامة انفتاحا على الحسي والجواني. فتأتي بالتالي، منسابة مع الضربة التي تتولد عنها ومتناسبة مع الفضاء الهندسي الذي يقع خلفها.
على العكس من ذلك، يستمد الفنان نورالدين شاطر الإلهام من الحروف العربية ويستخدمها كمادة خام لمزج الفكرة مع الشكل، مما يجعلها جزءا من السرد البصري في العمل، ليؤسس بذلك لمشهدية شاعرية يتمازج فيها التجريد بروح الخط، ليعبر عن بعد تشكيلي لغوي في بعد كاليغرافي متحرر من قيود النسخ، لكنه يعلي في الوقت عينه من الرسم الكتابي، بوصفه فنا مستقلا بذاته وقائما بوصفه تعبيرا جماليا حضاريا وإنسانيا. لهذا يملأ تارة مساحة اللوحة بالأحرف وإيقاعاتها أو يمنع للحرف الواحد – الألف أو الميم في هذه الحال – أحقية الوجود المطلق بعده إماءة حرة. أو يعمل على استخلاص حركية وعنفوان الكتابة الكاليغرافية ليشكل لوحات من مشاهد هندسية وحدائقية متولد من تداخل الخطوط وتراقصها.
هذا ويسعى الفنان التيباري كانتور إلى جعل الحروفية أو الكتابة بشكل عام، ميدانا مفتوحا للتجريب الحسي، فيقدم لوحات تعتمد على تفاعل اللون والخط ليخلق بذلك فضاءً تتفاعل فيه الحرية الفنية مع الانضباط الخطي، لتكون تجربة جمالية غامرة تعبّر عن روح الخط العربي عبر عدسة الحداثة. إذ تنبثق جمل وأحرف وفقرات مدونة من صلب المشهد المجرد المطلق، كأن تلك الكتابة تعكّر صفو الصمت المستحوذ على الفضاء العام للوحة، وتمنحها ملمسا وتضاريس حية.. فيصير المنجز الصباغي في هذه الحالة بدنا ينبض بالحياة، وناطقا بالمعاني المنثورة على امتداد مساحته. ومن جانبه يرى العربي الشرقاوي أن الخط العربي هو لغة بصرية سلسة ومجردة، خالية من التقاليد.
بالنسبة إليه، يتحول الحرف إلى فكرة عالمية تتأرجح بين التعبير التصويري والرمزية. إذ يستخدم الشرقاوي روح الحرف، عبر مواد مختلفة، مثل الجلد الذي يصبغه بالحناء، لخلق تفاعل بين الملمس واللون والعلامة. ويرمز هذا الدعم، التقليدي والبدني، إلى الحوار بين الجذور الثقافية المغربية والاستكشاف الفني المعاصر. حيث يصبح الحرف مجزّأ وعبارة عن موجات إيمائية ديناميكية، توضح تأثير الإيماءة الفنية على شخصية العلامة العربية، وتحولها إلى طاقة بصرية خالصة تتحدى القراءة وتدعو إلى التأمل. ليفقد بالتالي، الخط دوره الوظيفي ويندمج في لغة تشكيلية مستقلة، حيث يتم تعديل كل حرف وفقًا لإيماءات الفنان.
المشترك والمختلف
من خلال سلسلتها الفنية “كاليغرافيا الدياجر” (Calligraphie des Ténèbres) تسعى الفنانة الفرنسية هيلين بروغنيس لالتقاط معان رمزية عبر التصوير الفوتوغرافي، مستكشفةً الحدود بين الضوء والظلام بطريقة تعكس ثنائية جمالية وروحية، وتجعل من الحروف طاقة بصرية مستمدة من عالم الغيب والسر.
تجعل هذه الفنانة من الفضاء الفوتوغرافي مجالاً للتعبير عن الهشاشة والغموض، تلتقط الحروف كأنها بقايا ضوء تحكي قصة منسية. يصبح التصوير هنا وسيلة لرسم الضوء في الظلام، مما يعكس تجربة عميقة تتأمل الثنائيات بين الحضور والغياب.
أما الفنان دانيال جونسون فيذهب في عمله نحو استخدام ألوان مشبعة وتراكب خطوط، في إحالة إلى الثقافة العربية والعالم الداخلي والخارجي، حيث يتحول الحرف – وتصير الكتابة – نوافذ زخرفية – المشربية – التي تميز العمارة الإسلامية التقليدية، لينشئ بذلك عملاً يعبر عن التوترات الثقافية المعاصرة.
وتأتي أعمال جان هنري كومبير في هذا السياق لتجسد شراكة فريدة بين ثقافتين مختلفتين، حيث تعبّر تداخلات الحروف عن حوار ثقافي بين الشرق والغرب. محولا عمله المعدني إلى زربية صلبة معلقة على الجدار، تخترقها فراغات وتتشكل من التحام علاماتي. أما الفنانة فاليري هِربين فتعمل على إثارة خيال المتلقي من خلال رحلة بصرية تقوده إلى ما وراء الواقع، مما يضعه في حيرة تامة من الدعامات والعناصر والمواد والمشاهد غير المألوفة. فهي تبحث عما تسميه بالتعبير عبر القلب، لتشكل أعمالا حلمية.. مثلما تتضح لنا في لوحته “التشكيل البيئي 4” (Ecomorphisme)، حيث تنبع الأحرف، أو إيماءات الأحرف – العربية – بالأحرى، من تدفق لوني متماثل محوريا، كأنه انفجار لوني – كوني – تتولد عن يمينه وشماله الحضارات، المتمثلة في العلامات.
تمنحنا هذه الأعمال، لفنانين غير عرب، بعدا جماليا يوضح الكيفية الإستتيقية التي قد تتولد عن التفاعل الحضاري والثقافي والفني بين الغرب والشرق، وكيف يؤثر هذا الأخير في الثاني. إذ تعبّر الحروف والكتابة عن قوة جمالية مستقاة من الرمزية العميقة للثقافة العربية، ممزوجة بتأثيرات غربية. يشكل هذا التعاون بين الفنانين تعبيراً فريداً عن الوحدة في التنوع، فالعمل الفني يتجاوز حدود الثقافات، ليصبح لوحة تجسد حواراً صامتاً، حيث تتلاقى الأرواح ضمن أشكال وخطوط تتراقص في وئام.
في ضوء هذه التجارب المختلفة، يصبح من الممكن رؤية الكتابة البصرية والحروفية المعاصرة بعدها وسيلة تعبير فني معاصر يمتلك بعداً كونياً، يمكنها أن تحاكي مختلف الأجيال والثقافات عبر لغتها البصرية. هذا المعرض ليس مجرد عرض للحروف، بل هو رقصة متفردة، تؤكد أن الكتابة في الفن تمتلك طاقة فنية لا تتوقف عند حاجز اللغة، بل تتجاوزها إلى مجال الفنون العالمية، لتكون لغة كونية متفردة تخاطب الروح والجمال.
عزالدين بوركة
شاعر وباحث مغربي
"رقصة العلامة".. معرض في الرباط يحوّل الحروف إلى كتابة بصرية.
الأحد 2024/11/03
من الحروفية إلى الكتابة البصرية
لم يعد الفن تجربة سابقة يقدمها الفنان بثقة كاملة إلى المتلقي كرسالة جمالية وفكرية وغيرها من الخطابات التي تحملها، بل إن الفن اليوم خطاب متجدد يقحم المتلقي في إنشاء معناه وجماليته وأفكاره وفق تصوراته وتجربته الخاصة، إنه ليس تجربة سابقة بل تجريب مستمر، ما يفرض على العمل الفني تحقيق قدرة رمزية كبيرة تقول ولا تقول وتفتح المجال للتأويل، وهو ما انتهجه فنانون مغاربة وغربيون في معرض فني جديد في الرباط.
يمثل معرض “رقصة العلامة”، الذي افتتح مؤخرا في دار العرض عبلة عبابو بالرباط، تأملاً بصرياً في العلاقة بين الكاليغرافيا والكتابة البصرية وأشكال التعبير المعاصرة، حيث تتعانق الرموز وتتراقص ضمن فضاء بصري ملهم يضم أعمال أحد عشر فناناً بينهم خطاطون ومصورون صباغيون وفوتوغرافيون، يعيدون تشكيل اللغة، ليس بألفاظها البصرية التقليدية ولكن بصورها الرمزية، ليخلقوا بذلك لغة كونية تتجاوز حدود المقروء.
يحتفي المعرض بالفن في علاقته بالكتابي، ويعكس تطوره من كونه وسيلة للكتابة إلى وسيلة تعبير بصري متكامل، بحيث لا تلتزم الأعمال بالضرورة بقابلية القراءة وتفكيك شفرة المكتوب بسهولة، بل تستمد من الحروف والإماءة (geste) أشكالا وتراكيب تجريبية تعيد ابتكارها في قوالب بصرية، وتستخرج من النمط الكتابي “لغة بصرية” كونية، يمكن للكل أن يقرأها انطلاقا من محليته ومن معرفته الكونية.
فن الكتابة البصرية
المعرض يضعنا إزاء ما يمكننا أن نصطلح عليه بـ"الكتابة – البصرية"، وهي كتابة تعتمد على منطلقات الفنون البصرية
يضعنا هذا المعرض إزاء ما يمكننا أن نصطلح عليه بـ”الكتابة – البصرية”، وهي كتابة تعتمد على منطلقات الفنون البصرية، لتؤلف أعمالا نابعة من بحث عن لغة جمعاء، تتجاوز حدود المنطوق والمقروء وحتى البصري.. وتتخذ لنفسها قوة اختراقية لكل الأفضية والثقافات والجغرافيات، حيث يمكنها أن تتمتع بأحقية التأوّل المفتوح.
يحدثنا المفكر المغربي عبدالكبير الخطيبي عن الحضارة العربية بأنها “حضارة العلامة”، التي تتحول إلى صورة، هذه الأخيرة التي تتخذ حضورها الفني في هذا المعرض من معطى إيقاعي ومن قوة الرمز، فتتجلى العلامة هنا إذن، في أبعاد متنوعة، وتتراقص متنقلة بين الأسندة والتقنيات المتعددة: الفوتوغرافيا، القماشة، الجلد، النحاس، الحديد، الورق… ولا تتوقف أعمال المعرض عند تخوم العلامة فحسب، بل تتجاوزها إلى جغرافيات الأثر، الذي يتبع قانون المحو وصيغ الاختفاء، وسحرية الزوال الذي يلزمنا إعمال الحدس ويرغمنا على تقفيه. مما يجعلنا نلج عوالم “ذوبان العلامات”، حيث لا يمكننا أن نعزل علامة عن علامة أخرى، أو نقرأ الواحدة دون الأخرى. وهو ما يتحقق عبر الترحال بين جغرافيات كل الأعمال.
وقد توفقت عبلة عبابو، القائمة على المعرض والمشرفة عليه، في اختيارها للأعمال الفنية التي تتكامل بصريا وعلاماتيا وكتابيا. وفي هذا الصدد تخبرنا، بأن “الحروفية – أو الكتابة البصرية (l’écriture visuelle) – والفن المعاصر يلتقيان في قدرتهما على تجاوز الحدود اللغوية والثقافية، حيث يمكن للحروفية والكتابة في الفن – بوصفهما فنا للعلامات – أن تخاطبا العالم بلسان بصري متفرد، لا يحتاج إلى ترجمة لفظية”، حيث تتحول الكتابة إلى شكل من أشكال الرسم المقنن (Codifié).
وتؤكد على فكرة أن “فن الكتابة البصرية لا ينحصر فقط في الفن العربي، بل يمكنها أن تكون جزءا من مشهد عالمي يتناغم مع الفنون البصرية الأخرى، مشيرة إلى أن الحروفية، بتركيزها على الأشكال والخطوط، تمتلك القدرة على أن تتجاوز الحواجز اللغوية، مما يجعلها فناً كونيا (Art universel)”. وهو ما تحقق في الفن الصيني أو الياباني الذي قاد رولان بارت للقول بأن “للتصوير والكتابة الأداة نفسها: الريشة”، أو حتى مع مدرسة البعد الواحد، ومع مجموعة من الفنانين المغاربة.
فنانون من مختلف الثقافات
مما يقودنا، وانطلاقا من هذا الحدث الفني، إلى القول بأن الحروفية (la calligraphie lettré) أو الكتابة البصرية اتجاه فني له مساراته التاريخية الخاصة، النابعة من الأبعاد الحضارية والأركيولوجية والجمالية والدينية والروحانية… وقد اتخذ مع الفن الحديث ومن ثم المعاصر أبعادا إستتيقية تجعل له حضورا علاماتيا ورمزيا قد تصعب قراءته وتشفيره أحيانا. فالكاليغرافيا المعاصرة ليست مجرد نسخ، بل هي تأويل بصري للعالم المعيش ( Lebenswelt بقول هورسل) وأيضًا من منظور فينومينولوجي وهيرمينوطيقي. لهذا فهو فن في حد ذاته يتم تقديره بالطريقة نفسها للفن عموما. ومع عدم وجود نظير حقيقي له في أوروبا، فإن وجوده عن طريق تعديل العلاقة بين الكتابة والصورة يؤثر على تعريفه فنا، لهذا يروم البعض – عندنا – إلى معارضته مجانا.
لقد انفتح فن الحروفية على آفاق كتابية معاصرة ولم يعد يستند على موتيفات تؤثث فضاءات المجرد صباغيا، ليصبح قادراً على نقل التجربة الجمالية باستخدام الخطوط والأشكال، حيث استبدل التزامه بالمقروئية بلغة كونية (وكتابة اختراقية) تُترجم المعاني من خلال التكوينات الشكلية، مما يتيح لها القدرة على أن تكون فناً يتجاوز المحلية.
أعمال الفنانين المشاركين في المعرض تطرح تساؤلات حول إمكانية خلق لغة جديدة من الحروف والكتابة والأشكال، حيث تصبح الكاليغرافيا عنصراً للخلق الفني الحر وتصير الكتابة إبداعا لأكوان صباغية تتراقص فيها العلامات. يشير عمل الفنان محمد المرابطي بتعاون مع الفنان وضيف الله، على سبيل التمثيل، إلى كيفية دمج الحروف في أعمال تستحضر رقتها العلاماتية كأنها فراشات متطايرة في جو يتمتع ببعد روحي، ليصنعا تجربة بصرية – بيدين – تكتسب ثراءها من التواشج بين التجريد والشاعرية. كل ذلك في فضاء صباغي روحاني يبحث عن إعادة تمثيل الأماكن الروحانية بشكل أقرب إلى إيقاعات المجرد.
لوحات تتحدى المقروء
أعمال الفنانين غير العرب تمنحنا بعدا جماليا يوضح الكيفية الإستتيقية التي قد تتولد عن التفاعل الحضاري والثقافي
تُبرز أعمال الفنان البصري عبدالصمد بويسرامن نوعاً آخر من هذا التحول. إذ يركز الفنان على تأثير اللون وأبعاده في العمل الفني. يعتقد بويسرامن أن الألوان، عندما تفقد دلالاتها الثقافية أو العرقية، تصبح وسيلة للتعبير الحر، ممثلة بذلك تحدياً للأطر التقليدية للفن في علاقته الأركيولوجية بالمكتوب، الذي يتحول إلى نوع من الطبقات الحضارية المتراكبة (superposés) والمتراكمة. وهي بدورها تصير تعبيرا جماليا عمّا يسميه الفنان بـ”صور كتابية للنسيج الاجتماعي الطبقي”. إذ لا تتوقف الصيغ الكتابية عنده على أيّ بعد حروفي في حد ذاته، بل تتجاوزه إلى كتابة خطية تتشكل عبرها الأفضية والمساحات والمشاهد. كل ذلك في بعد مونوكرومي يُكسب المنجز بعده المعاصر، ويتضح الأمر جليا في تلك المنجزات التي تتشكل من لعب (مصفوفي) حيث ينسج الفنان لوحاته زمكانيا.
وبالطريقة ذاتها، تعيد الفنانة الفرنسية ساندي بريشلر اكتشاف الكتابة كعلامة تجريدية، في مشروعها الفني “سيميائيات الفراغ” (Sémantiques du vide) حيث تدمج الجسد والخط في علاقة عضوية، مستلهمةً من أشكال تعبير متعددة مثل الرسم والأداء والفنون التشكيلية، في محاولة للتعبير عن “الكلمة المطلقة”. وضمن هذا المعرض تضع المتلقي إزاء لوحات تُكتب بمحو، وتُملأ بفراغ، في تناقض بين الكتلة والخواء، كأنها تُسيّج بياض العمل بكتابة أفقية وعمودية متصاعدة وتنازلية في آن، يمكن النظر إليها من اليمين كما من الشمال، ضمن تجربة سيميائية بصرية، تحوّل كل العلامات إلى علامة واحدة ممددة على امتداد كل مساحة العمل.
بينما تحرص الفنانة نجوى الحيتمي في عملها على إخفاء العلامات الكتابية والحرفية في خلفية اللوحة، بحيث تتلاشى المقروئية في سبيل خلق مساحة من التأمل والتساؤل. تسعى الحيتمي إلى تقليل العناصر التي يمكن أن تُعتبر إضافية أو زائدة عن حاجة اللوحة، فتقدم أعمالاً تتسم بالبساطة ولكنها تحمل في طياتها عمقاً يعكس رحلة داخلية للبحث عن الذات، ضمن تسامٍ بصري وروحاني، يهب العلامة انفتاحا على الحسي والجواني. فتأتي بالتالي، منسابة مع الضربة التي تتولد عنها ومتناسبة مع الفضاء الهندسي الذي يقع خلفها.
على العكس من ذلك، يستمد الفنان نورالدين شاطر الإلهام من الحروف العربية ويستخدمها كمادة خام لمزج الفكرة مع الشكل، مما يجعلها جزءا من السرد البصري في العمل، ليؤسس بذلك لمشهدية شاعرية يتمازج فيها التجريد بروح الخط، ليعبر عن بعد تشكيلي لغوي في بعد كاليغرافي متحرر من قيود النسخ، لكنه يعلي في الوقت عينه من الرسم الكتابي، بوصفه فنا مستقلا بذاته وقائما بوصفه تعبيرا جماليا حضاريا وإنسانيا. لهذا يملأ تارة مساحة اللوحة بالأحرف وإيقاعاتها أو يمنع للحرف الواحد – الألف أو الميم في هذه الحال – أحقية الوجود المطلق بعده إماءة حرة. أو يعمل على استخلاص حركية وعنفوان الكتابة الكاليغرافية ليشكل لوحات من مشاهد هندسية وحدائقية متولد من تداخل الخطوط وتراقصها.
هذا ويسعى الفنان التيباري كانتور إلى جعل الحروفية أو الكتابة بشكل عام، ميدانا مفتوحا للتجريب الحسي، فيقدم لوحات تعتمد على تفاعل اللون والخط ليخلق بذلك فضاءً تتفاعل فيه الحرية الفنية مع الانضباط الخطي، لتكون تجربة جمالية غامرة تعبّر عن روح الخط العربي عبر عدسة الحداثة. إذ تنبثق جمل وأحرف وفقرات مدونة من صلب المشهد المجرد المطلق، كأن تلك الكتابة تعكّر صفو الصمت المستحوذ على الفضاء العام للوحة، وتمنحها ملمسا وتضاريس حية.. فيصير المنجز الصباغي في هذه الحالة بدنا ينبض بالحياة، وناطقا بالمعاني المنثورة على امتداد مساحته. ومن جانبه يرى العربي الشرقاوي أن الخط العربي هو لغة بصرية سلسة ومجردة، خالية من التقاليد.
بالنسبة إليه، يتحول الحرف إلى فكرة عالمية تتأرجح بين التعبير التصويري والرمزية. إذ يستخدم الشرقاوي روح الحرف، عبر مواد مختلفة، مثل الجلد الذي يصبغه بالحناء، لخلق تفاعل بين الملمس واللون والعلامة. ويرمز هذا الدعم، التقليدي والبدني، إلى الحوار بين الجذور الثقافية المغربية والاستكشاف الفني المعاصر. حيث يصبح الحرف مجزّأ وعبارة عن موجات إيمائية ديناميكية، توضح تأثير الإيماءة الفنية على شخصية العلامة العربية، وتحولها إلى طاقة بصرية خالصة تتحدى القراءة وتدعو إلى التأمل. ليفقد بالتالي، الخط دوره الوظيفي ويندمج في لغة تشكيلية مستقلة، حيث يتم تعديل كل حرف وفقًا لإيماءات الفنان.
المشترك والمختلف
من خلال سلسلتها الفنية “كاليغرافيا الدياجر” (Calligraphie des Ténèbres) تسعى الفنانة الفرنسية هيلين بروغنيس لالتقاط معان رمزية عبر التصوير الفوتوغرافي، مستكشفةً الحدود بين الضوء والظلام بطريقة تعكس ثنائية جمالية وروحية، وتجعل من الحروف طاقة بصرية مستمدة من عالم الغيب والسر.
تجعل هذه الفنانة من الفضاء الفوتوغرافي مجالاً للتعبير عن الهشاشة والغموض، تلتقط الحروف كأنها بقايا ضوء تحكي قصة منسية. يصبح التصوير هنا وسيلة لرسم الضوء في الظلام، مما يعكس تجربة عميقة تتأمل الثنائيات بين الحضور والغياب.
أما الفنان دانيال جونسون فيذهب في عمله نحو استخدام ألوان مشبعة وتراكب خطوط، في إحالة إلى الثقافة العربية والعالم الداخلي والخارجي، حيث يتحول الحرف – وتصير الكتابة – نوافذ زخرفية – المشربية – التي تميز العمارة الإسلامية التقليدية، لينشئ بذلك عملاً يعبر عن التوترات الثقافية المعاصرة.
وتأتي أعمال جان هنري كومبير في هذا السياق لتجسد شراكة فريدة بين ثقافتين مختلفتين، حيث تعبّر تداخلات الحروف عن حوار ثقافي بين الشرق والغرب. محولا عمله المعدني إلى زربية صلبة معلقة على الجدار، تخترقها فراغات وتتشكل من التحام علاماتي. أما الفنانة فاليري هِربين فتعمل على إثارة خيال المتلقي من خلال رحلة بصرية تقوده إلى ما وراء الواقع، مما يضعه في حيرة تامة من الدعامات والعناصر والمواد والمشاهد غير المألوفة. فهي تبحث عما تسميه بالتعبير عبر القلب، لتشكل أعمالا حلمية.. مثلما تتضح لنا في لوحته “التشكيل البيئي 4” (Ecomorphisme)، حيث تنبع الأحرف، أو إيماءات الأحرف – العربية – بالأحرى، من تدفق لوني متماثل محوريا، كأنه انفجار لوني – كوني – تتولد عن يمينه وشماله الحضارات، المتمثلة في العلامات.
تمنحنا هذه الأعمال، لفنانين غير عرب، بعدا جماليا يوضح الكيفية الإستتيقية التي قد تتولد عن التفاعل الحضاري والثقافي والفني بين الغرب والشرق، وكيف يؤثر هذا الأخير في الثاني. إذ تعبّر الحروف والكتابة عن قوة جمالية مستقاة من الرمزية العميقة للثقافة العربية، ممزوجة بتأثيرات غربية. يشكل هذا التعاون بين الفنانين تعبيراً فريداً عن الوحدة في التنوع، فالعمل الفني يتجاوز حدود الثقافات، ليصبح لوحة تجسد حواراً صامتاً، حيث تتلاقى الأرواح ضمن أشكال وخطوط تتراقص في وئام.
في ضوء هذه التجارب المختلفة، يصبح من الممكن رؤية الكتابة البصرية والحروفية المعاصرة بعدها وسيلة تعبير فني معاصر يمتلك بعداً كونياً، يمكنها أن تحاكي مختلف الأجيال والثقافات عبر لغتها البصرية. هذا المعرض ليس مجرد عرض للحروف، بل هو رقصة متفردة، تؤكد أن الكتابة في الفن تمتلك طاقة فنية لا تتوقف عند حاجز اللغة، بل تتجاوزها إلى مجال الفنون العالمية، لتكون لغة كونية متفردة تخاطب الروح والجمال.
عزالدين بوركة
شاعر وباحث مغربي