قول في التردد
أحمد برقاوي
الجمعة، 1/11/2024 11:48 م
يقول المعجم العربي في فعل تردد يتردد: لا يثبت على رأي، يترجّح، يتراجع، ولم يحسم في الأمر، وتردد في اتخاذ الموقف، ويضيف: شك فيه فلم يثبته ولم يحسمه، والمتردد من لم يحسم أمره.
ويورد المؤرخون خبراً عن رواية شفاهية مفادها:
بأنه عندما اتخذ المنصور قراراً في قتل أبي مسلم الخرساني كتب إليه عيسى بن علي:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا تدبر فإن فساد الرأي أن تتعجلا
ويقال بأن المنصور قد رد عليه قائلاً:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
لا تمهل الأعداء يوماً بقدرة وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا
فهل التردد موقف حسن أم موقف مرذول؟
دعوني أقدم تعريفي أولاً للتردد قائلاً: التردد في الأصل انشطار مؤقت عند صاحب أو أصحاب القرار يقود إلى حواره نفسه أو حواره مع بعضهم، كل طرف يشهر في وجه الآخر قيمه المختلفة وأسبابه المتعددة: خوفاً، مجاملة، مصلحه انتهازية، تزلفاً، حذراً، انتظاراً، تعقلاً، وهكذا. ولأن التردد حالة إرادية فإن التخلص منها قرار إرادة تعيد الذات إلى وحدتها والذوات إلى اتفاقهم.
وأنا هنا لا أتحدث عن التردد بوصفه حالة مرضية يعاني منها الفرد، وتحتاج إلى محلل نفسي وطبيب للعلاج، بل عن التردد في اتخاذ القرارات المرتبطة بالواقع وحياة الناس. وبل قرارات مؤسسات، كل مؤسسة في حقل عملها، أو قرارات تتحول إلى قوانين تتخذها أعلى سلطة تشريعية في الدولة، أو قرارات الحرب والسلم في حالات الصراع. أو قرارات ملك أو رئيس متعلقة بالوطن.
فمن حيث المبدأ التردد صراع قيم، فما هي القيمة التي ستجنى من الفعل؟
لو طبقنا حالة التردد على مثالنا السابق حول مقتل أبي مسلم الخرساني مثلاً، فنحن
هنا أمام صراع على السلطة، فحين أحس المنصور بخطر مسلم الخرساني والي خرسان الذي له فضل في القضاء على الدولة الأموية، حزم أمره دون تردد في قتل أبي مسلم، ولم يستمع إلى نصيحة عيسى بن علي، فقتله، حدثت معارك مع أهل خرسان انتهت بانتصار المنصور. الصراع هنا مرتبط بمصير السلطة.
والحق إن حالات الصراع المرتبطة بالمصير والسلوك الموافق لها تحتاج إلى تردد في بعض الأحيان بوصفه أي التردد نوعاً من التروي وحسابات الربح والخسارة.
ويكون التردد ثمرة من ثمرات تعدد الاحتمالات الناتجة عن القرارات المصيرية، فمنها السلبي ومنها الإيجابي. وهنا يمكن ارتكاب الخطأ أو يكون الخيار مصيباً.
لكن الاختلاف ليس دائماً صراعاً، فقد يكون الاختلاف اختلافاً في درجة الخير الناتج عن هذا السلوك أو ذاك. وهو اختلاف محمود، وعندها يكون التردد شكلاً من أشكال التروي في اتخاذ القرار.
فالتردد الناتج عن درجة الخير كماً وكيفاً، وذو علاقة بالمصلحة الكلية، هو سلوك عقلي إن لم يصل التردد إلى حالة عدم اتخاذ القرار. فالتردد الذي يلغي الفعل من أصله تردد ينجب فقدان القدرة على حل المشاكل، وكل تأخير أو تجاهل في حل المشكلة يفاقم المشكلة، وقد تصل إلى حالة لا يعود ينفع معها شيء.
وأهم شرط من شروط تجاوز التردد هو الوعي العقلي الواقعي، حيث يصبح السلوك خاضعاً لمنطق العقل والواقع.
إن غياب هذا الشرط، أي وحدة العقلي والواقعي، إما أن يفضي إلى السلوك الأحمق من جهة، أو إلى ضياع الفرصة الملائمة.
ولهذا يمكن أن نميز بين نوعين من التردد، تردد إيجابي يستند إلى التفكير العقلي الواقعي، ويفضي إلى الفعل الإيجابي، والتردد السلبي- الأحمق الذي يقود إلى الكارثة.
ولكن لوعدنا إلى القول المنسوب إلى أبي جعفر المنصور: «إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة» وحررناه من مناسبته، ومنحناه معنىً كلياً، فإن الرأي هنا هو العقل الواقعي، عندها لا يكون للتردد ضرورة، والعزيمة هنا هي الانتقال إلى الفعل دون تردد.
أحمد برقاوي
الجمعة، 1/11/2024 11:48 م
يقول المعجم العربي في فعل تردد يتردد: لا يثبت على رأي، يترجّح، يتراجع، ولم يحسم في الأمر، وتردد في اتخاذ الموقف، ويضيف: شك فيه فلم يثبته ولم يحسمه، والمتردد من لم يحسم أمره.
ويورد المؤرخون خبراً عن رواية شفاهية مفادها:
بأنه عندما اتخذ المنصور قراراً في قتل أبي مسلم الخرساني كتب إليه عيسى بن علي:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا تدبر فإن فساد الرأي أن تتعجلا
ويقال بأن المنصور قد رد عليه قائلاً:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
لا تمهل الأعداء يوماً بقدرة وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا
فهل التردد موقف حسن أم موقف مرذول؟
دعوني أقدم تعريفي أولاً للتردد قائلاً: التردد في الأصل انشطار مؤقت عند صاحب أو أصحاب القرار يقود إلى حواره نفسه أو حواره مع بعضهم، كل طرف يشهر في وجه الآخر قيمه المختلفة وأسبابه المتعددة: خوفاً، مجاملة، مصلحه انتهازية، تزلفاً، حذراً، انتظاراً، تعقلاً، وهكذا. ولأن التردد حالة إرادية فإن التخلص منها قرار إرادة تعيد الذات إلى وحدتها والذوات إلى اتفاقهم.
وأنا هنا لا أتحدث عن التردد بوصفه حالة مرضية يعاني منها الفرد، وتحتاج إلى محلل نفسي وطبيب للعلاج، بل عن التردد في اتخاذ القرارات المرتبطة بالواقع وحياة الناس. وبل قرارات مؤسسات، كل مؤسسة في حقل عملها، أو قرارات تتحول إلى قوانين تتخذها أعلى سلطة تشريعية في الدولة، أو قرارات الحرب والسلم في حالات الصراع. أو قرارات ملك أو رئيس متعلقة بالوطن.
فمن حيث المبدأ التردد صراع قيم، فما هي القيمة التي ستجنى من الفعل؟
لو طبقنا حالة التردد على مثالنا السابق حول مقتل أبي مسلم الخرساني مثلاً، فنحن
هنا أمام صراع على السلطة، فحين أحس المنصور بخطر مسلم الخرساني والي خرسان الذي له فضل في القضاء على الدولة الأموية، حزم أمره دون تردد في قتل أبي مسلم، ولم يستمع إلى نصيحة عيسى بن علي، فقتله، حدثت معارك مع أهل خرسان انتهت بانتصار المنصور. الصراع هنا مرتبط بمصير السلطة.
والحق إن حالات الصراع المرتبطة بالمصير والسلوك الموافق لها تحتاج إلى تردد في بعض الأحيان بوصفه أي التردد نوعاً من التروي وحسابات الربح والخسارة.
ويكون التردد ثمرة من ثمرات تعدد الاحتمالات الناتجة عن القرارات المصيرية، فمنها السلبي ومنها الإيجابي. وهنا يمكن ارتكاب الخطأ أو يكون الخيار مصيباً.
لكن الاختلاف ليس دائماً صراعاً، فقد يكون الاختلاف اختلافاً في درجة الخير الناتج عن هذا السلوك أو ذاك. وهو اختلاف محمود، وعندها يكون التردد شكلاً من أشكال التروي في اتخاذ القرار.
فالتردد الناتج عن درجة الخير كماً وكيفاً، وذو علاقة بالمصلحة الكلية، هو سلوك عقلي إن لم يصل التردد إلى حالة عدم اتخاذ القرار. فالتردد الذي يلغي الفعل من أصله تردد ينجب فقدان القدرة على حل المشاكل، وكل تأخير أو تجاهل في حل المشكلة يفاقم المشكلة، وقد تصل إلى حالة لا يعود ينفع معها شيء.
وأهم شرط من شروط تجاوز التردد هو الوعي العقلي الواقعي، حيث يصبح السلوك خاضعاً لمنطق العقل والواقع.
إن غياب هذا الشرط، أي وحدة العقلي والواقعي، إما أن يفضي إلى السلوك الأحمق من جهة، أو إلى ضياع الفرصة الملائمة.
ولهذا يمكن أن نميز بين نوعين من التردد، تردد إيجابي يستند إلى التفكير العقلي الواقعي، ويفضي إلى الفعل الإيجابي، والتردد السلبي- الأحمق الذي يقود إلى الكارثة.
ولكن لوعدنا إلى القول المنسوب إلى أبي جعفر المنصور: «إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة» وحررناه من مناسبته، ومنحناه معنىً كلياً، فإن الرأي هنا هو العقل الواقعي، عندها لا يكون للتردد ضرورة، والعزيمة هنا هي الانتقال إلى الفعل دون تردد.