التعددية الثقافية ترفض النموذج القومي القديم
ويل كيمليكا: التعددية الثقافية الليبرالية ظاهرة معقدة ليست مبدأ واحدا.
التعددية الثقافية توجه مفروض على الجميع
انتشرت في مختلف أصقاع الأرض اليوم وفي كل الدول تقريبا المناداة بالتعددية الثقافية وإلغاء الدول القومية المنغلقة، وهو توجه يلقى ترحيبا كبيرا من الأقليات خاصة وهو مدعوم من الليبرالية، بينما يواجه رفضا كبيرا من الدول ذات البناء القومي القديم، ومن البنى الاجتماعية التي ترى في ترسيخ التعدد غايات أخرى.
"الأوديسا" هي الملحمة الثانية الكبرى التي كتبها الشاعر اليوناني هوميروس، وكانت الملحمة الأولى هي “الإلياذة” التي تصور حرب طروادة التي انتهت بانتصار اليونانيين وتدمير طروادة، وبعد هذا الانتصار عاد اليونانيون إلى بلادهم ماعدا أوديسيوس، أو هو باللاتينية أوليس “Ulysses”، أو هكذا كان الرومان ينطقون اسمه، وهو يعني باليونانية “ابن الغضب”، فلم يسمح له بالعودة إلى بلده لأنه كان قد أهان إله البحر “بوزيدون”، فصمم الإله على ألا يعود إلى بلده قبل عشْر سنوات يقضيها بين أمواج البحر وأحداث الشاطئ، ولقد روى هوميروس في الأوديسا مغامرات أوديسيوس وما لقيه ـ ومن معه من البحارة ـ من أهوالٍ إلى أن عادوا إلى وطنهم.
وقد استخدم الفيلسوف الكندي وأستاذ فلسفة سياسية ويل كيمليكا اسم ملحمة هوميروس في عنوان كتابه “أوديسا التعددية الثقافية: سبر السياسات الجديدة في التنوع” الذي ترجمه وقدم له إمام عبدالفتاح إمام، ليخبرنا أنه سيعرض علينا ملحمة عن التعددية الثقافية تشبه ملحمة هوميروس القديمة التي روى فيها مغامرات أوديسيوس، وذلك في إطار استكشاف العملية الجارية لتدويل التعددية الثقافية، والتعرف على التحديات والخيارات الصعبة التي تثيرها.
نشر التعددية
يرى كيمليكا في كتابه، الصادر أخيرا عن مؤسسة هنداوي، أن الأربعين سنة الأخيرة شهدت ثورة حقيقية في جميع أنحاء العالم في العلاقات بين الدول والأقليات العرقية؛ فقد بدأت تختفي النماذج القديمة للدولة القومية ذات النسيج المتماثل والمنسجم، كما ازدادت المنازعات حولها وراحت تحل محلها نماذج من التعددية الثقافية للدولة والمواطنة، وقد انعكس ذلك، مثلا، في التبني الواسع الانتشار للتكيف الثقافي والديني عند الجماعات المهاجرة، وقبول حق استقلال الأراضي واللغة للأقليات القومية، والاعترافات بمطالب البلاد وحقها في الحكم الذاتي بالنسبة إلى الشعوب الأصلية.
وكثيرا ما كان هذا التغير نتيجة للعمليات السياسية المحلية التي تنشأ داخليا. وبعد فترة المنازعات والمفاوضات الداخلية، واستجابة لتحرك مكثف من بعض الأقليات، انتهى عدد من البلدان إلى أن النماذج القديمة لم تعد تتناسب مع ظروفها التاريخية والسكانية الخاصة.
ويضيف “كان لهذا التغير التدريجي بعد دولي، كما كانت هناك منظمات دولية بين الحكومات تشجع الدول، وربما تضغط عليها أحيانا، لكي تتبنى منظور التعددية الثقافية أكثر مما تفعل. وسوف تجد الحكومات ـ التي هي على استعداد للنظر في مسألة تبني المواطنة المتعددة الثقافات ـ ‘طابورا‘ طويلا من المنظمات الدولية على استعدادٍ لتقديم العون والمهارات الفنية، والخبرة، والدعم المالي، في حين أن الدول التي تمسكت بالنظم القديمة في التماثل والتجانس والاستبعاد وجدت نفسها خاضعة للرقابة الدولية والنقد والجزاء”.
باختصار نحن نشاهد الآن ازديادا في تدويل علاقة الأقلية بالدولة. كما نشاهد انتشارا عاميا لفكرة التعددية الثقافية كإطار جديد لإصلاح هذه العلاقة. وفي استطاعتنا أن نفرق بين مستويين لفكرة التعددية الثقافية تصبح الفكرة عندهما عالمية أو كونية.
أولا، هناك انتشار كوني للخطاب السياسي للتعددية الثقافية، هناك مجموعة منتشرة من الأفكار حول أهمية التكيف مع الاختلاف والتنوع تناولتها شبكات دولية غير حكومية، ويتناولها العلماء والباحثون، وواضعو الخطط السياسية.
ثانيا، هناك تقنين للتعددية الثقافية في مجموعة من القواعد الدولية القانونية (أو شبه القانونية) تتجسد في إعلانات لحقوق الأقلية، ولقد شهدت السنوات الخمس عشرة الأخيرة بصفةٍ خاصةٍ تكثيفا للجهود وتنمية للمعايير الدولية لحقوق الأقليات على الصعيدين المحلي والكوني. أما من الناحية الكونية أو العالمية فقد تبنت الأمم المتحدة في العام 1992م إعلانا بشأن حقوق الأشخاص الذين ينتمون إلى أقلياتٍ قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية، كما ناقشت مسودة لإعلان حقوق الشعوب الأصلية، وهناك منظمات دولية أخرى بين الحكومات، طورت بدورها قواعد ومعايير جديدة بشأن حقوق الأقليات، وحقوق الشعوب الأصلية.
معارضة التعددية الثقافية الليبرالية ليست فقط نتيجة للأحكام المبتسرة والجهل وكره الأجانب بل لما لها من أعباء ومخاطر
ويوضح كيمليكا أن كثيرا من المجتمعات ينقصها التطور السياسي للتعامل البناء مع مسائل التنوع؛ لهذا لا تستطيع تقدير جدارة نماذج التعددية الثقافية التي انبثقت داخل الأنظمة الديمقراطية الناضجة، ولعلاج هذه المشكلة البارزة، يلزم تأسيس برامج تعليمية لتعليم قيمة التسامح في المدارس وأجهزة الإعلام، لابتكار ثقافةٍ متداخلة، وحوارٍ ديني متبادل، وفهمٍ متبادل، وبعموميةٍ أكثر للترويج لأفكار الحداثة وما بعد الحداثة بشأن الهويات المتعددة والمتداخلة لتحل محل مفاهيم ما قبل الحداثة حول التضاد الثنائي الثابت بين اﻟ “نحن” و”الآخر”.
ولا يدهشنا أن هذه البرامج كثيرا ما استقبلها المستفيدون منها على أنها تعكس موقفا أبويا متعاليا تجاه المجتمعات والثقافات غير الغربية؛ ومن ثم فقد استاءوا منها ورفضوها. فضلا عن ذلك، فهي لا تعالج المشكلة الحقيقية. إن معارضة التعددية الثقافية الليبرالية ليست فقط نتيجة للأحكام المبتسرة، والجهل، وكره الأجانب. الواقع أن للتعددية الثقافية أعباء ومخاطر عديدة، وإن هذه الأعباء تتنوع تنوعا هائلا داخل المجتمعات وبين بعضها والبعض؛ فالتعددية الثقافية لا تتحدى، فقط، فهم الشعوب التقليدي لهويتها السياسية والثقافية، بل أيضا مضامينها الكامنة لمسار العمل الديمقراطي، والتطور الاقتصادي، واحترام حقوق الإنسان، بل حتى الأمن السياسي ـ الجغرافي.
التعددية الثقافية، في بعض الأزمنة والأماكن، يمكن أن تكون اختيارا يحمل قدرا كبيرا من المخاطرة، وهذه المضامين، لا للارتباط غير المنطقي بهويات ما قبل الحداثة، هي التي تدعم معارضة التعددية الثقافية الليبرالية في دول ما بعد الاستعمار وما بعد الشيوعية. إن استراتيجيات المجتمع الدولي الحالية لنشر التعددية الثقافية الليبرالية لا تعالج تلك المخاوف بصورةٍ كافية. ونتيجة لذلك، فإن كثيرا من جوانب الخطاب السياسي والقواعد القانونية التي يروج لها المجتمع الدولي يبدو ساذجا وتعسفيا، بل خطرا على كثير من الناس في دول ما بعد الاستعمار وما بعد الشيوعية، إن الحجج المعتادة للدفاع عن التعددية الثقافية الليبرالية ـ أكثر بقليلٍ من تفاهاتٍ حول قيمة التنوع والتسامح ـ لم ترتبط ببساطةٍ بإدراك الناس للأخطار والأعباء المحتملة التي ينطوي عليها تنظيم علاقة الدولة بالأقليات.
ويشير إلى أن التعددية الثقافية، في جميع أشكالها المختلفة، تتضمن رفض النماذج القديمة للقومية المتجانسة. وربما افترض المرء أن التعددية الثقافية والقومية من ألد الأعداء، وأنهما أيديولوجيتان متناقضتان، وأن مساندة إحداهما تستتبع نبذ الأخرى، وبناء على هذه النظرة فإن محصلة العلاقة بين سياسات التعددية الثقافية وسياسات بناء الدولة القومية تكون صفرا، إلى درجة أن التعددية الثقافية لا يمكن أن تضرب بجذورها إلا في الدولة وفي المجتمع “ما بعد القومية”. أما الواقع فهو أن هذا النوع من التعددية الثقافية الذي انبثق في الغرب قد حول بناء الدولة القومية لكنه لم يحل محلها.
أساليب مختلفة
لقد واصلت جميع البلاد الغربية تبني عددٍ من السياسات لغرس الهويات القومية والولاءات، من ضمنها التعليم الإجباري للغة القومية والتاريخ والمؤسسات في المدارس، واختبارات اللغة للمواطنة، وتمويل أجهزة الإعلام القومية، والمتاحف، وانتشار الرموز الوطنية، والإعلام، والأناشيد الوطنية، والإجازات، هذا إذا شئنا أن نذكر أمثلة قليلة فقط، ويصدق ذلك على البلاد ذات التوجه القوي نحو التعددية الثقافية في القائمة التي ذكرتها من قبل، كما في البلاد التي قامت ببعض التحول الطفيف ـ إذ كان هناك تحول على الإطلاق ـ إلى الاتجاه نحو التعددية الثقافية.
وحيثما كان هناك تبن لسياسات التعددية الثقافية، فإن هذا التحول يعمل على استكمال وتشكيل سياسة بناء الدولة القومية بحيث لا تهمش الأخيرة الأقليات، مثلا، عن طريق ضمان ألا تعمل سياسة بناء الدولة القومية على استبعاد الغرباء، وجماعات الطوائف العرقية المغلقة، أو الاستيعاب القوي للمهاجرين، أو تقويض الحكم الذاتي للأقليات القومية والسكان الأصليين في تلك البلاد الغربية التي تحركت بقوة في اتجاه التعددية الثقافية، فإن المنظور الذي سوف ينتج من الأفضل أن نصفه بأنه منظور تختلط فيه أقوى أشكال بناء الدولة القومية وتندمج مع أقوى أشكال حقوق الأقليات.
ويقول كيمليكا إن تقديري لقوة التعددية الثقافية في البلدان المختلفة لا يتتبع مدى رفض هذه البلدان لبناء الدولة القومية، وإنما يتتبع مدى تحول عملية بناء القومية إلى اتجاهٍ أكثر تعددية. ومن هذه الزاوية، فإن تصوري للاختلافات بين التعددية الثقافية القوية والمتوسطة والضعيفة يختلف عن الطريقة التي تستخدم أحيانا هذه المصطلحات، ويميز ديفيد ميلر الأشكال القوية والأشكال الضعيفة من التعددية الثقافية؛ حيث أطلق عليها راديكالية ومعتدلة.
لكن من وجهة نظره فإن التعددية الثقافية الراديكالية تتضمن الالتزام بالتكيف مع الأقليات من دون مساندة الوحدة مع (أو الولاء) ﻟ (المجتمع السياسي والدولة الكبرى)، فهو يميز هذا الشكل من التعددية المعتدلة الذي يجمع بين التعددية الثقافية وبين سياسات بناء الدولة القومية التي تسعى إلى زرع الهوية السياسية والولاء السياسي، فالتعددية الثقافية المعتدلة في السياق البريطاني، مثلا، تفيد المواطنين بأن هناك طرقا شرعية مختلفة لكي يكون المرء بريطانيا، وأن كونك بريطانيا لا يتناقض مع التعبير العام، والتكيف مع الهويات الأخرى بما في ذلك “كونك مسلما” أو “كونك اسكتلنديا”، في حين أن التعددية الثقافية الراديكالية تعفي أو تعوق الأقليات عن تبني هذه الهوية السياسية ذات العرقية الشاملة والتناسق العالي.
ويؤكد كيمليكا أن التعددية الثقافية الليبرالية هي ظاهرة أكثر تعقيدا مما يعرفه كثير من الناس، وهي ليست مبدأ واحدا أو سياسة واحدة، وإنما هي مظلة لأساليب تختلف بشكلٍ كبيرٍ من مجموعة إلى أخرى. وكل واحد من هذه الأساليب هو نفسه متعدد الأبعاد، فهو يدمج عناصر اقتصادية وسياسية وثقافية معا بطرقٍ مختلفة، ولكل منها أيضا حلقاته المعقدة بسياسات وتطبيقات بناء الدولة القومية، وهناك ميل طبيعي إلى تبسيط هذا التعقيد ورد التعددية الثقافية إلى مبدأ أو بعد واحد، كما لو كانت المسألة كلها تدور حول “حماية التراث الثقافي المعرض للخطر”، أو ﻟ “تصحيح أوضاع الهويات الموصومة”، أو ﻟ “رفض القومية”، لكننا في حاجة إلى تجنب هذه الافتراضات السابقة المبسطة، ولكي نفحص، بذهن مفتوح أكثر، الطريقة التي ظهرت من خلالها هذه السياسات المختلفة، وما الذي كانت تنوي إنجازه، وكيف تطبق من الناحية العملية.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري
ويل كيمليكا: التعددية الثقافية الليبرالية ظاهرة معقدة ليست مبدأ واحدا.
التعددية الثقافية توجه مفروض على الجميع
انتشرت في مختلف أصقاع الأرض اليوم وفي كل الدول تقريبا المناداة بالتعددية الثقافية وإلغاء الدول القومية المنغلقة، وهو توجه يلقى ترحيبا كبيرا من الأقليات خاصة وهو مدعوم من الليبرالية، بينما يواجه رفضا كبيرا من الدول ذات البناء القومي القديم، ومن البنى الاجتماعية التي ترى في ترسيخ التعدد غايات أخرى.
"الأوديسا" هي الملحمة الثانية الكبرى التي كتبها الشاعر اليوناني هوميروس، وكانت الملحمة الأولى هي “الإلياذة” التي تصور حرب طروادة التي انتهت بانتصار اليونانيين وتدمير طروادة، وبعد هذا الانتصار عاد اليونانيون إلى بلادهم ماعدا أوديسيوس، أو هو باللاتينية أوليس “Ulysses”، أو هكذا كان الرومان ينطقون اسمه، وهو يعني باليونانية “ابن الغضب”، فلم يسمح له بالعودة إلى بلده لأنه كان قد أهان إله البحر “بوزيدون”، فصمم الإله على ألا يعود إلى بلده قبل عشْر سنوات يقضيها بين أمواج البحر وأحداث الشاطئ، ولقد روى هوميروس في الأوديسا مغامرات أوديسيوس وما لقيه ـ ومن معه من البحارة ـ من أهوالٍ إلى أن عادوا إلى وطنهم.
وقد استخدم الفيلسوف الكندي وأستاذ فلسفة سياسية ويل كيمليكا اسم ملحمة هوميروس في عنوان كتابه “أوديسا التعددية الثقافية: سبر السياسات الجديدة في التنوع” الذي ترجمه وقدم له إمام عبدالفتاح إمام، ليخبرنا أنه سيعرض علينا ملحمة عن التعددية الثقافية تشبه ملحمة هوميروس القديمة التي روى فيها مغامرات أوديسيوس، وذلك في إطار استكشاف العملية الجارية لتدويل التعددية الثقافية، والتعرف على التحديات والخيارات الصعبة التي تثيرها.
نشر التعددية
يرى كيمليكا في كتابه، الصادر أخيرا عن مؤسسة هنداوي، أن الأربعين سنة الأخيرة شهدت ثورة حقيقية في جميع أنحاء العالم في العلاقات بين الدول والأقليات العرقية؛ فقد بدأت تختفي النماذج القديمة للدولة القومية ذات النسيج المتماثل والمنسجم، كما ازدادت المنازعات حولها وراحت تحل محلها نماذج من التعددية الثقافية للدولة والمواطنة، وقد انعكس ذلك، مثلا، في التبني الواسع الانتشار للتكيف الثقافي والديني عند الجماعات المهاجرة، وقبول حق استقلال الأراضي واللغة للأقليات القومية، والاعترافات بمطالب البلاد وحقها في الحكم الذاتي بالنسبة إلى الشعوب الأصلية.
وكثيرا ما كان هذا التغير نتيجة للعمليات السياسية المحلية التي تنشأ داخليا. وبعد فترة المنازعات والمفاوضات الداخلية، واستجابة لتحرك مكثف من بعض الأقليات، انتهى عدد من البلدان إلى أن النماذج القديمة لم تعد تتناسب مع ظروفها التاريخية والسكانية الخاصة.
ويضيف “كان لهذا التغير التدريجي بعد دولي، كما كانت هناك منظمات دولية بين الحكومات تشجع الدول، وربما تضغط عليها أحيانا، لكي تتبنى منظور التعددية الثقافية أكثر مما تفعل. وسوف تجد الحكومات ـ التي هي على استعداد للنظر في مسألة تبني المواطنة المتعددة الثقافات ـ ‘طابورا‘ طويلا من المنظمات الدولية على استعدادٍ لتقديم العون والمهارات الفنية، والخبرة، والدعم المالي، في حين أن الدول التي تمسكت بالنظم القديمة في التماثل والتجانس والاستبعاد وجدت نفسها خاضعة للرقابة الدولية والنقد والجزاء”.
باختصار نحن نشاهد الآن ازديادا في تدويل علاقة الأقلية بالدولة. كما نشاهد انتشارا عاميا لفكرة التعددية الثقافية كإطار جديد لإصلاح هذه العلاقة. وفي استطاعتنا أن نفرق بين مستويين لفكرة التعددية الثقافية تصبح الفكرة عندهما عالمية أو كونية.
أولا، هناك انتشار كوني للخطاب السياسي للتعددية الثقافية، هناك مجموعة منتشرة من الأفكار حول أهمية التكيف مع الاختلاف والتنوع تناولتها شبكات دولية غير حكومية، ويتناولها العلماء والباحثون، وواضعو الخطط السياسية.
ثانيا، هناك تقنين للتعددية الثقافية في مجموعة من القواعد الدولية القانونية (أو شبه القانونية) تتجسد في إعلانات لحقوق الأقلية، ولقد شهدت السنوات الخمس عشرة الأخيرة بصفةٍ خاصةٍ تكثيفا للجهود وتنمية للمعايير الدولية لحقوق الأقليات على الصعيدين المحلي والكوني. أما من الناحية الكونية أو العالمية فقد تبنت الأمم المتحدة في العام 1992م إعلانا بشأن حقوق الأشخاص الذين ينتمون إلى أقلياتٍ قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية، كما ناقشت مسودة لإعلان حقوق الشعوب الأصلية، وهناك منظمات دولية أخرى بين الحكومات، طورت بدورها قواعد ومعايير جديدة بشأن حقوق الأقليات، وحقوق الشعوب الأصلية.
معارضة التعددية الثقافية الليبرالية ليست فقط نتيجة للأحكام المبتسرة والجهل وكره الأجانب بل لما لها من أعباء ومخاطر
ويوضح كيمليكا أن كثيرا من المجتمعات ينقصها التطور السياسي للتعامل البناء مع مسائل التنوع؛ لهذا لا تستطيع تقدير جدارة نماذج التعددية الثقافية التي انبثقت داخل الأنظمة الديمقراطية الناضجة، ولعلاج هذه المشكلة البارزة، يلزم تأسيس برامج تعليمية لتعليم قيمة التسامح في المدارس وأجهزة الإعلام، لابتكار ثقافةٍ متداخلة، وحوارٍ ديني متبادل، وفهمٍ متبادل، وبعموميةٍ أكثر للترويج لأفكار الحداثة وما بعد الحداثة بشأن الهويات المتعددة والمتداخلة لتحل محل مفاهيم ما قبل الحداثة حول التضاد الثنائي الثابت بين اﻟ “نحن” و”الآخر”.
ولا يدهشنا أن هذه البرامج كثيرا ما استقبلها المستفيدون منها على أنها تعكس موقفا أبويا متعاليا تجاه المجتمعات والثقافات غير الغربية؛ ومن ثم فقد استاءوا منها ورفضوها. فضلا عن ذلك، فهي لا تعالج المشكلة الحقيقية. إن معارضة التعددية الثقافية الليبرالية ليست فقط نتيجة للأحكام المبتسرة، والجهل، وكره الأجانب. الواقع أن للتعددية الثقافية أعباء ومخاطر عديدة، وإن هذه الأعباء تتنوع تنوعا هائلا داخل المجتمعات وبين بعضها والبعض؛ فالتعددية الثقافية لا تتحدى، فقط، فهم الشعوب التقليدي لهويتها السياسية والثقافية، بل أيضا مضامينها الكامنة لمسار العمل الديمقراطي، والتطور الاقتصادي، واحترام حقوق الإنسان، بل حتى الأمن السياسي ـ الجغرافي.
التعددية الثقافية، في بعض الأزمنة والأماكن، يمكن أن تكون اختيارا يحمل قدرا كبيرا من المخاطرة، وهذه المضامين، لا للارتباط غير المنطقي بهويات ما قبل الحداثة، هي التي تدعم معارضة التعددية الثقافية الليبرالية في دول ما بعد الاستعمار وما بعد الشيوعية. إن استراتيجيات المجتمع الدولي الحالية لنشر التعددية الثقافية الليبرالية لا تعالج تلك المخاوف بصورةٍ كافية. ونتيجة لذلك، فإن كثيرا من جوانب الخطاب السياسي والقواعد القانونية التي يروج لها المجتمع الدولي يبدو ساذجا وتعسفيا، بل خطرا على كثير من الناس في دول ما بعد الاستعمار وما بعد الشيوعية، إن الحجج المعتادة للدفاع عن التعددية الثقافية الليبرالية ـ أكثر بقليلٍ من تفاهاتٍ حول قيمة التنوع والتسامح ـ لم ترتبط ببساطةٍ بإدراك الناس للأخطار والأعباء المحتملة التي ينطوي عليها تنظيم علاقة الدولة بالأقليات.
ويشير إلى أن التعددية الثقافية، في جميع أشكالها المختلفة، تتضمن رفض النماذج القديمة للقومية المتجانسة. وربما افترض المرء أن التعددية الثقافية والقومية من ألد الأعداء، وأنهما أيديولوجيتان متناقضتان، وأن مساندة إحداهما تستتبع نبذ الأخرى، وبناء على هذه النظرة فإن محصلة العلاقة بين سياسات التعددية الثقافية وسياسات بناء الدولة القومية تكون صفرا، إلى درجة أن التعددية الثقافية لا يمكن أن تضرب بجذورها إلا في الدولة وفي المجتمع “ما بعد القومية”. أما الواقع فهو أن هذا النوع من التعددية الثقافية الذي انبثق في الغرب قد حول بناء الدولة القومية لكنه لم يحل محلها.
أساليب مختلفة
لقد واصلت جميع البلاد الغربية تبني عددٍ من السياسات لغرس الهويات القومية والولاءات، من ضمنها التعليم الإجباري للغة القومية والتاريخ والمؤسسات في المدارس، واختبارات اللغة للمواطنة، وتمويل أجهزة الإعلام القومية، والمتاحف، وانتشار الرموز الوطنية، والإعلام، والأناشيد الوطنية، والإجازات، هذا إذا شئنا أن نذكر أمثلة قليلة فقط، ويصدق ذلك على البلاد ذات التوجه القوي نحو التعددية الثقافية في القائمة التي ذكرتها من قبل، كما في البلاد التي قامت ببعض التحول الطفيف ـ إذ كان هناك تحول على الإطلاق ـ إلى الاتجاه نحو التعددية الثقافية.
وحيثما كان هناك تبن لسياسات التعددية الثقافية، فإن هذا التحول يعمل على استكمال وتشكيل سياسة بناء الدولة القومية بحيث لا تهمش الأخيرة الأقليات، مثلا، عن طريق ضمان ألا تعمل سياسة بناء الدولة القومية على استبعاد الغرباء، وجماعات الطوائف العرقية المغلقة، أو الاستيعاب القوي للمهاجرين، أو تقويض الحكم الذاتي للأقليات القومية والسكان الأصليين في تلك البلاد الغربية التي تحركت بقوة في اتجاه التعددية الثقافية، فإن المنظور الذي سوف ينتج من الأفضل أن نصفه بأنه منظور تختلط فيه أقوى أشكال بناء الدولة القومية وتندمج مع أقوى أشكال حقوق الأقليات.
ويقول كيمليكا إن تقديري لقوة التعددية الثقافية في البلدان المختلفة لا يتتبع مدى رفض هذه البلدان لبناء الدولة القومية، وإنما يتتبع مدى تحول عملية بناء القومية إلى اتجاهٍ أكثر تعددية. ومن هذه الزاوية، فإن تصوري للاختلافات بين التعددية الثقافية القوية والمتوسطة والضعيفة يختلف عن الطريقة التي تستخدم أحيانا هذه المصطلحات، ويميز ديفيد ميلر الأشكال القوية والأشكال الضعيفة من التعددية الثقافية؛ حيث أطلق عليها راديكالية ومعتدلة.
الفيلسوف الكندي يعرض علينا ملحمة عن التعددية الثقافية تشبه ملحمة هوميروس القديمة التي روى فيها مغامرات أوديسيوس
لكن من وجهة نظره فإن التعددية الثقافية الراديكالية تتضمن الالتزام بالتكيف مع الأقليات من دون مساندة الوحدة مع (أو الولاء) ﻟ (المجتمع السياسي والدولة الكبرى)، فهو يميز هذا الشكل من التعددية المعتدلة الذي يجمع بين التعددية الثقافية وبين سياسات بناء الدولة القومية التي تسعى إلى زرع الهوية السياسية والولاء السياسي، فالتعددية الثقافية المعتدلة في السياق البريطاني، مثلا، تفيد المواطنين بأن هناك طرقا شرعية مختلفة لكي يكون المرء بريطانيا، وأن كونك بريطانيا لا يتناقض مع التعبير العام، والتكيف مع الهويات الأخرى بما في ذلك “كونك مسلما” أو “كونك اسكتلنديا”، في حين أن التعددية الثقافية الراديكالية تعفي أو تعوق الأقليات عن تبني هذه الهوية السياسية ذات العرقية الشاملة والتناسق العالي.
ويؤكد كيمليكا أن التعددية الثقافية الليبرالية هي ظاهرة أكثر تعقيدا مما يعرفه كثير من الناس، وهي ليست مبدأ واحدا أو سياسة واحدة، وإنما هي مظلة لأساليب تختلف بشكلٍ كبيرٍ من مجموعة إلى أخرى. وكل واحد من هذه الأساليب هو نفسه متعدد الأبعاد، فهو يدمج عناصر اقتصادية وسياسية وثقافية معا بطرقٍ مختلفة، ولكل منها أيضا حلقاته المعقدة بسياسات وتطبيقات بناء الدولة القومية، وهناك ميل طبيعي إلى تبسيط هذا التعقيد ورد التعددية الثقافية إلى مبدأ أو بعد واحد، كما لو كانت المسألة كلها تدور حول “حماية التراث الثقافي المعرض للخطر”، أو ﻟ “تصحيح أوضاع الهويات الموصومة”، أو ﻟ “رفض القومية”، لكننا في حاجة إلى تجنب هذه الافتراضات السابقة المبسطة، ولكي نفحص، بذهن مفتوح أكثر، الطريقة التي ظهرت من خلالها هذه السياسات المختلفة، وما الذي كانت تنوي إنجازه، وكيف تطبق من الناحية العملية.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري