لسينما أداة فعالة في تشكيل قيم العالم الذي نحيا فيه
أحمد ثامر جهاد: المخرج حر في طرح تصوره للنص الأدبي.
بين الفيلم والرواية علاقة وثيقة
تساهم السينما في تشكيل وعي الناس بشكل عميق وغاية في التأثير، ولذا نجدها في صدارة الفنون التي تواكب الأحداث الكبرى وتقدم قراءات لها، تمثل كل منها رؤية الجهة التي تريد تعميم تصورها. كما أن للسينما علاقة متشابكة مع الأدب وخاصة الأدب الروائي الذي أخذت منه الكثير ومازالت علاقتهما وثيقة.
يبدو أن ما يشكل مقتربا أساسيا يوحد إلى حد كبير عديد القراءات التي يضمها كتاب “خطاب الفيلم السينمائي.. قراءة في المضامين والدلالات والمواقف” للنقاد السينمائي أحمد ثامر جهاد، التي أنجزها على مدى سنوات عدة هو سعيها الحثيث إلى تتبع أثر السينما على المتلقي فنيا وثقافيا عبر ما تثيره من قضايا مختلفة تهم عالمنا. وفي أفق القراءة النقدية ثمة على الدوام محاولة واعية لإلغاء الحدود الفاصلة بين الفيلم وعالمه.
ويرى جهاد أنه مهما تفردت خواص الفيلم وجرى توصيفه كقيمة جمالية محضة، فإن الفيلم يبرهن على ذاته داخل حدود اللغة التي تجعله مرتبطا بالعالم الواقعي. ولن يكون الخيال السينمائي والحال كذلك مفهوما ومثمنا على نحو منصف ما لم تتم معرفة الكيفية التي تنتج بوساطتها دلالة العالم سينمائيا، فالعالم داخل الفيلم السينمائي هو عالم التجربة وقد أطرتها الدلالة بإطارها الفاعل المضيء.
الرواية والفيلم
بقدر ما يدعو الناقد خلال قراءاته السينمائية المتباينة إلى تخطي فكرة عد الفيلم متعة عابرة، فإنه يمارس تأثيرا متطلبا يجنح إجمالا إلى إبراز قيمة هذا العرض السينمائي أو ذاك، ساعيا في الوقت نفسه إلى إغناء ذائقة المتلقي وتثقيف حواسه وتوسيع مداركه، ومن ثم استثمار كل ضروب وعي الجمال ونشره والتحليق في فسيح سمائه. في مهمة كهذه لن يكون بوسعنا الكف عن التفكر بكل ما للسينما من تأثير بالغ على وعي الجمهور، لجهة الإمتاع وإعادة صياغة الرؤى، فالسينما في نهاية الأمر تساهم بقوة في تشكيل قيم العالم الذي نحيا فيه.
يقسم جهاد كتابه إلى ثلاثة أقسام في الأول يحلل فضاءات ما يزيد عن عشرين فيلما من بين هذه الأفلام “شفرة دافنشي” للمخرج الأميركي رون هوارد، “أشباح غويا” و”النصر” للمخرج الإيطالي ماركو بيلوتشيو، و”التحدي” للمخرج الأميركي إدوارد زويك، و”إيقاظ الموتي” المخرج مارتن سكورسيزي، و”برسيبوليس أو بلاد الفرس” للمخرجة الإيرانية الأصل مارجان ساترابي، و”جلسة فرويد الأخيرة” للمخرج ماثيو براون وغيرها.
أما في القسم الثاني فيتناول عددا من القضايا المحورية في السينما العالمية منها البنية الجمالية في الفيلم التسجيلي ومسار الفيلم الأميركي وحرب العراق على الشاشة الأميركية وتأثيرات العصر الإلكتروني والانحياز إلى السينما الرقمية وغير ذلك، وهو خلال ذلك يتعرض لعدد من المخرجين وأعمالهم محللا عددا كبيرا من الأفلام، ويخصص القسم الثالث لأدبيات السينما العالمية.
ويرى جهاد أنه بسبب أصالة العلاقة بين الرواية والفيلم وتداخلها لا يستطيع المتلقي لدى مشاهدته فيلما سينمائيا مأخوذا عن عمل أدبي التخلص من رغبته الشديدة في المقارنة بين النسختين الفنيتين لاستخراج حكم متسرع يتأسس غالبا على سؤال وحيد ومحدد، يختزل في تقليديته تاريخا نظريا وفنيا متشعبا: أيهما كان الأفضل بالنسبة إلينا، الراوية أم الفيلم؟ وكما السؤال قد لا يبدو الجواب موفقا دائما.
ويضيف أن كثيرا ما يقال في الأدبيات السينمائية إن السينما تكون بارعة في ما تعجز عنه الرواية والعكس صحيح. مع أن هذه الفرضيات الكلاسيكية ما عادت تصمد أمام بعض المجالات الإخراجية المجددة في سينما اليوم، فقد باتت هناك حلول وسطية ونقاط التقاء عدة يمكن أن تضمن النجاح للطرفين والأمثلة عديدة على ذلك، خاصة في الأفلام التي يسعى مخرجوها إلى خلق نسخهم الإبداعية المقتبسة من الأدب بحس تجريبي يبعدهم عن النقل الحرفي للرواية عبر تقديم كتابة سينمائية تأويلية للأدب بالصوت والصورة.
واعتبر النقاد أن أسلوب التجريب في السينما يعزز لدى المخرج حريته في طرح تصوره الخاص للنص الأدبي محطما إلى أقصى حد هيمنة أدبية السرد الواصف واستطراداته عبر معالجة بصرية للسيناريو تذيب المحكي الروائي في المحكي الفيلمي، وتمنح الأخير طاقته التعبيرية المطلوبة، وذلك باستخدام طرائق عدة بين الحذف والتقطيع والإضافة والاستعارة وزاويا التصوير ومدة اللقطات والمشاهد. لتكون عندنا ها هنا جدلية من نوع آخر تنتظم فيها كل عناصر الفيلم السينمائي وبلغة مغايرة ليست هي الرواية، على اعتبار أن السينما لا تتكلم إلا لغتها الخاصة بتعبير رولان بارت.
ويلفت جهاد إلى أنه ربما من الصعب الجزم بأن الرواية قد استنفدت نفسها في السينما، أو حتى مجرد الادعاء بأن السينما، عبر تعاطيها المتواصل مع الرواية، قد استنفدت سبل تأثير النصوص الروائية على المتلقي. كما أنه ليس من مصلحة أحد اندثار جنس أدبي أو فني لصالح خلود نوع آخر، لكن من الممكن القول في الأدبيات السينمائية: إن جدلا فنيا وفكريا كبيرا ترك أثره العميق على مجمل العلاقة الجدلية بين الجنسين الفنيين المتجاورين “الرواية والفيلم” بشكل صاغ على نحو تاريخي/ فني أطر هذه العلاقة، التي يمكن تتبع أول خيوطها مع بدايات السينما التي أفادت – كما هو معلوم – من الأدب عامة والنوع الروائي الكلاسيكي خاصة في مراحل نشأتها الأولى، لتظهر بعد انقضاء سنوات زاخرة بالمخاضات الفنية علامات مختلفة ذات دلالة عميقة، تشير إلى تأثر النوع الروائي الحديث بآلية العمل السينمائي وحداثته، خاصة مع رواج الموجات الطليعية وتيار الرواية الجديدة في فرنسا في المرحلة المحققة لتلك العلاقة.
الكتاب يضم قراءات سينمائية متباينة تدعو إلى تخطي فكرة اعتبار الفيلم متعة عابرة بل هو وسيلة لبناء الوعي
في ما كان الاتجاه الجديد الذي تبلور خلال هاتين المرحلتين، يمتص الخبرات ويستلهم خصائص الجنسين في نشاط فني يمزج تقنيات السينما بحداثة أساليب الرواية، وهو الاتجاه الأهم الذي تبناه جيل من الكتاب السينمائيين في أميركا وأوربا، من الذين أخذوا يكتبون للسينما بتصميم مسبق، إلى جوار السينمائيين الذين حاولوا طرح أفكارهم عبر المدونة الروائية بوصفها شكلا تعبيريا أصيلا لرؤية العالم.
ويتابع “في تلك المناخات لم يعد الجهد النقدي مقتصرا على قراءة الفن الجماهيري الأكثر انتشارا وتأثيرا، بل إن التباينات البنيوية لهذا الجنس أو ذاك والاستقلالية الجمالية لشكل الخطاب السينمائي في عمل ما، هي التي أصبحت ميدانا تأويليا مرجحا لعمل الناقد. لتلك الأسباب مجتمعة أصبحت صورة هذا الجدل العميق معبرة بشكل جلي عن الميل المبدئي إلى الإقرار بتقارب هذين الجنسين رغم استقلاليتهما النسبية، وهو ما يمكن فهمه ضمن مناخ فكري عام، أشاع النقد “ما بعد الحداثي” فيه فكرة تداخل الأجناس الفنية والأدبية تحت مسميات إبداعية متقاربة.
ويقول جهاد إن المخرج رودريغو غارسيا ابن الروائي الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز حاول بناء فيلمه الموسوم “تسع حيوات” (إنتاج 2005) وفق مقترب سينمائي يشابه طرائق السرد الأدبي لمجموعة قصص قصيرة تنتظم في سياق فني يخالف إلى حد معين ما اعتدنا مشاهدته من أفلام نمطية. فنحن إزاء تسع قصص كما يشي عنوان الفيلم، لكل قصة منها حياة خاصة، مثلما أن لكل حياة قصتها أيضا.
وكانت نزوات القص الماركيزي المباركة قد علمتنا أن حكاية واحدة قد تكون غير كافية أحيانا لقول كل شيء، إذا ما كان في الأفق ثمة خيال جامح وألم أبدي. ومنذ البداية يشعر المشاهد القارئ أن الشبه بين المخرج رودريغو غارسيا وبين الأب ماركيز يكمن في الرغبة المهيمنة على كليهما في رواية القصص بوسائل تعبيرية مختلفة، ولا غرابة في ذلك فهما أبناء القارة اللاتينية الساحرة، رغم أن رودريغو كما يتضح في هذا الفيلم يفتقد إلى الخبرة والتقنية التي صنعت مجد عرابه الكولومبي.
الفيلم الروائي والتسجيلي
اليوم تراجعت الحدود الفاصلة أجناسيا وجماليا بين مختلف الأنواع السينمائية وبين السينما وباقي الإبداعات الأدبية والفنية
يوضح النقاد السينمائيون أنه لزمن طويل كانت هنالك، فضلا عن عناصر الالتقاء، نقاط افتراق بين الفيلم الروائي والتسجيلي، فبينما يميل الأول إلى خلق وحدة خيالية متكاملة للموضوع الذي يعالجه بإمكانيات غير محدودة، يسعى الآخر إلى المراهنة على التأثير الملموس الذي تنتجه إعادة تصوير الواقع بحزمة ضوء منضبطة، من دون أن يعني ذلك أن أمام الفيلم التسجيلي فرصا ضعيفة لأن يكون إنجازا فنيا مبتكرا وموهوبا في تناوله لفكرة ما أو موضوع محدد.
من المعروف أن نقاط الافتراق التي أشّرتها الأدبيات السينمائية تكمن تحديدا في طبيعة البنية الفنية التي يرتكز عليها كلا النموذجين “الروائي والتسجيلي” خارج التفسيرات المبالغة التي ترى في الفيلم التسجيلي نوعا سينمائيا أدنى مرتبة وأقل جاذبية للمتفرجين من باقي الأنواع السينمائية الأخرى. فهذا التصور يتناسى إلى حد كبير أن المقدرة على خلق شكل فني ناجح لا يتوفر على امتياز هذا النوع الفني أو ذالك، ولا يؤمن بالكيفية التي تتساوى في ضوئها العبقرية الخلاقة المنتجة لقصيدة شعرية مع نظيرتها المنتجة لعمل روائي جبار أو لوحة باهرة الجمال.
من هنا نرى كيف أن النوعين السينمائيين تجاوزا تعارضاتهما وأنتجا مقترباتهما، عبر التطور الهائل الذي أتى على كل أشكال الصناعة السينمائية وديمومة تجدد وسائلها فأنتج نماذجه السينمائية المتميزة. لقد انداحت اليوم الحدود الفاصلة أجناسيا وجماليا بين مختلف الأنواع السينمائية من ناحية وبينها وباقي الإبداعات الأدبية والفنية من ناحية أخرى، وذلك تحت تأثير التداخل الحاصل بين كل هذه الأنواع سعيا وراء شكل فني بليغ، يعبّر أكثر من سواه عن أزمة الحياة الإنسانية بسعتها وتنوعها، ويقترب أكثر من لغة عالمنا المعاصر بكل ما ينتجه من مفاهيم ورؤى، تتكلم ذاتها في خطاب إبداعي جمالي يمتلك مصداقيته وفرادته وبراهينه على محنة الإنسان والعالم وسعادتهما المنشودة.
ولا حاجة بنا إلى أن نبرهن أن في الفيلم الروائي اليوم قدرا من الصنعة التسجيلية أو العكس، مثلما نجد في الرواية أو القصيدة بنية سينمائية ناجزة والعكس صحيح أيضا. يحدث هذا وفقا لطبيعة نظام اللغة الذي يجعل الصور والكلمات نصا فنيا قائما بذاته هو حصيلة إعمال الخيال والواقع معا، لاسيما أن المادة الخام لمجمل إبداعنا هي ضفاف حياتنا الواقعية أو المتخيلة، يعاد تمثلها وصياغتها في شكل أدبي أو فني محدد لتعطي التأثير المطلوب.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري
أحمد ثامر جهاد: المخرج حر في طرح تصوره للنص الأدبي.
بين الفيلم والرواية علاقة وثيقة
تساهم السينما في تشكيل وعي الناس بشكل عميق وغاية في التأثير، ولذا نجدها في صدارة الفنون التي تواكب الأحداث الكبرى وتقدم قراءات لها، تمثل كل منها رؤية الجهة التي تريد تعميم تصورها. كما أن للسينما علاقة متشابكة مع الأدب وخاصة الأدب الروائي الذي أخذت منه الكثير ومازالت علاقتهما وثيقة.
يبدو أن ما يشكل مقتربا أساسيا يوحد إلى حد كبير عديد القراءات التي يضمها كتاب “خطاب الفيلم السينمائي.. قراءة في المضامين والدلالات والمواقف” للنقاد السينمائي أحمد ثامر جهاد، التي أنجزها على مدى سنوات عدة هو سعيها الحثيث إلى تتبع أثر السينما على المتلقي فنيا وثقافيا عبر ما تثيره من قضايا مختلفة تهم عالمنا. وفي أفق القراءة النقدية ثمة على الدوام محاولة واعية لإلغاء الحدود الفاصلة بين الفيلم وعالمه.
ويرى جهاد أنه مهما تفردت خواص الفيلم وجرى توصيفه كقيمة جمالية محضة، فإن الفيلم يبرهن على ذاته داخل حدود اللغة التي تجعله مرتبطا بالعالم الواقعي. ولن يكون الخيال السينمائي والحال كذلك مفهوما ومثمنا على نحو منصف ما لم تتم معرفة الكيفية التي تنتج بوساطتها دلالة العالم سينمائيا، فالعالم داخل الفيلم السينمائي هو عالم التجربة وقد أطرتها الدلالة بإطارها الفاعل المضيء.
الرواية والفيلم
بقدر ما يدعو الناقد خلال قراءاته السينمائية المتباينة إلى تخطي فكرة عد الفيلم متعة عابرة، فإنه يمارس تأثيرا متطلبا يجنح إجمالا إلى إبراز قيمة هذا العرض السينمائي أو ذاك، ساعيا في الوقت نفسه إلى إغناء ذائقة المتلقي وتثقيف حواسه وتوسيع مداركه، ومن ثم استثمار كل ضروب وعي الجمال ونشره والتحليق في فسيح سمائه. في مهمة كهذه لن يكون بوسعنا الكف عن التفكر بكل ما للسينما من تأثير بالغ على وعي الجمهور، لجهة الإمتاع وإعادة صياغة الرؤى، فالسينما في نهاية الأمر تساهم بقوة في تشكيل قيم العالم الذي نحيا فيه.
يقسم جهاد كتابه إلى ثلاثة أقسام في الأول يحلل فضاءات ما يزيد عن عشرين فيلما من بين هذه الأفلام “شفرة دافنشي” للمخرج الأميركي رون هوارد، “أشباح غويا” و”النصر” للمخرج الإيطالي ماركو بيلوتشيو، و”التحدي” للمخرج الأميركي إدوارد زويك، و”إيقاظ الموتي” المخرج مارتن سكورسيزي، و”برسيبوليس أو بلاد الفرس” للمخرجة الإيرانية الأصل مارجان ساترابي، و”جلسة فرويد الأخيرة” للمخرج ماثيو براون وغيرها.
أما في القسم الثاني فيتناول عددا من القضايا المحورية في السينما العالمية منها البنية الجمالية في الفيلم التسجيلي ومسار الفيلم الأميركي وحرب العراق على الشاشة الأميركية وتأثيرات العصر الإلكتروني والانحياز إلى السينما الرقمية وغير ذلك، وهو خلال ذلك يتعرض لعدد من المخرجين وأعمالهم محللا عددا كبيرا من الأفلام، ويخصص القسم الثالث لأدبيات السينما العالمية.
ويرى جهاد أنه بسبب أصالة العلاقة بين الرواية والفيلم وتداخلها لا يستطيع المتلقي لدى مشاهدته فيلما سينمائيا مأخوذا عن عمل أدبي التخلص من رغبته الشديدة في المقارنة بين النسختين الفنيتين لاستخراج حكم متسرع يتأسس غالبا على سؤال وحيد ومحدد، يختزل في تقليديته تاريخا نظريا وفنيا متشعبا: أيهما كان الأفضل بالنسبة إلينا، الراوية أم الفيلم؟ وكما السؤال قد لا يبدو الجواب موفقا دائما.
ويضيف أن كثيرا ما يقال في الأدبيات السينمائية إن السينما تكون بارعة في ما تعجز عنه الرواية والعكس صحيح. مع أن هذه الفرضيات الكلاسيكية ما عادت تصمد أمام بعض المجالات الإخراجية المجددة في سينما اليوم، فقد باتت هناك حلول وسطية ونقاط التقاء عدة يمكن أن تضمن النجاح للطرفين والأمثلة عديدة على ذلك، خاصة في الأفلام التي يسعى مخرجوها إلى خلق نسخهم الإبداعية المقتبسة من الأدب بحس تجريبي يبعدهم عن النقل الحرفي للرواية عبر تقديم كتابة سينمائية تأويلية للأدب بالصوت والصورة.
واعتبر النقاد أن أسلوب التجريب في السينما يعزز لدى المخرج حريته في طرح تصوره الخاص للنص الأدبي محطما إلى أقصى حد هيمنة أدبية السرد الواصف واستطراداته عبر معالجة بصرية للسيناريو تذيب المحكي الروائي في المحكي الفيلمي، وتمنح الأخير طاقته التعبيرية المطلوبة، وذلك باستخدام طرائق عدة بين الحذف والتقطيع والإضافة والاستعارة وزاويا التصوير ومدة اللقطات والمشاهد. لتكون عندنا ها هنا جدلية من نوع آخر تنتظم فيها كل عناصر الفيلم السينمائي وبلغة مغايرة ليست هي الرواية، على اعتبار أن السينما لا تتكلم إلا لغتها الخاصة بتعبير رولان بارت.
ويلفت جهاد إلى أنه ربما من الصعب الجزم بأن الرواية قد استنفدت نفسها في السينما، أو حتى مجرد الادعاء بأن السينما، عبر تعاطيها المتواصل مع الرواية، قد استنفدت سبل تأثير النصوص الروائية على المتلقي. كما أنه ليس من مصلحة أحد اندثار جنس أدبي أو فني لصالح خلود نوع آخر، لكن من الممكن القول في الأدبيات السينمائية: إن جدلا فنيا وفكريا كبيرا ترك أثره العميق على مجمل العلاقة الجدلية بين الجنسين الفنيين المتجاورين “الرواية والفيلم” بشكل صاغ على نحو تاريخي/ فني أطر هذه العلاقة، التي يمكن تتبع أول خيوطها مع بدايات السينما التي أفادت – كما هو معلوم – من الأدب عامة والنوع الروائي الكلاسيكي خاصة في مراحل نشأتها الأولى، لتظهر بعد انقضاء سنوات زاخرة بالمخاضات الفنية علامات مختلفة ذات دلالة عميقة، تشير إلى تأثر النوع الروائي الحديث بآلية العمل السينمائي وحداثته، خاصة مع رواج الموجات الطليعية وتيار الرواية الجديدة في فرنسا في المرحلة المحققة لتلك العلاقة.
الكتاب يضم قراءات سينمائية متباينة تدعو إلى تخطي فكرة اعتبار الفيلم متعة عابرة بل هو وسيلة لبناء الوعي
في ما كان الاتجاه الجديد الذي تبلور خلال هاتين المرحلتين، يمتص الخبرات ويستلهم خصائص الجنسين في نشاط فني يمزج تقنيات السينما بحداثة أساليب الرواية، وهو الاتجاه الأهم الذي تبناه جيل من الكتاب السينمائيين في أميركا وأوربا، من الذين أخذوا يكتبون للسينما بتصميم مسبق، إلى جوار السينمائيين الذين حاولوا طرح أفكارهم عبر المدونة الروائية بوصفها شكلا تعبيريا أصيلا لرؤية العالم.
ويتابع “في تلك المناخات لم يعد الجهد النقدي مقتصرا على قراءة الفن الجماهيري الأكثر انتشارا وتأثيرا، بل إن التباينات البنيوية لهذا الجنس أو ذاك والاستقلالية الجمالية لشكل الخطاب السينمائي في عمل ما، هي التي أصبحت ميدانا تأويليا مرجحا لعمل الناقد. لتلك الأسباب مجتمعة أصبحت صورة هذا الجدل العميق معبرة بشكل جلي عن الميل المبدئي إلى الإقرار بتقارب هذين الجنسين رغم استقلاليتهما النسبية، وهو ما يمكن فهمه ضمن مناخ فكري عام، أشاع النقد “ما بعد الحداثي” فيه فكرة تداخل الأجناس الفنية والأدبية تحت مسميات إبداعية متقاربة.
ويقول جهاد إن المخرج رودريغو غارسيا ابن الروائي الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز حاول بناء فيلمه الموسوم “تسع حيوات” (إنتاج 2005) وفق مقترب سينمائي يشابه طرائق السرد الأدبي لمجموعة قصص قصيرة تنتظم في سياق فني يخالف إلى حد معين ما اعتدنا مشاهدته من أفلام نمطية. فنحن إزاء تسع قصص كما يشي عنوان الفيلم، لكل قصة منها حياة خاصة، مثلما أن لكل حياة قصتها أيضا.
وكانت نزوات القص الماركيزي المباركة قد علمتنا أن حكاية واحدة قد تكون غير كافية أحيانا لقول كل شيء، إذا ما كان في الأفق ثمة خيال جامح وألم أبدي. ومنذ البداية يشعر المشاهد القارئ أن الشبه بين المخرج رودريغو غارسيا وبين الأب ماركيز يكمن في الرغبة المهيمنة على كليهما في رواية القصص بوسائل تعبيرية مختلفة، ولا غرابة في ذلك فهما أبناء القارة اللاتينية الساحرة، رغم أن رودريغو كما يتضح في هذا الفيلم يفتقد إلى الخبرة والتقنية التي صنعت مجد عرابه الكولومبي.
الفيلم الروائي والتسجيلي
اليوم تراجعت الحدود الفاصلة أجناسيا وجماليا بين مختلف الأنواع السينمائية وبين السينما وباقي الإبداعات الأدبية والفنية
يوضح النقاد السينمائيون أنه لزمن طويل كانت هنالك، فضلا عن عناصر الالتقاء، نقاط افتراق بين الفيلم الروائي والتسجيلي، فبينما يميل الأول إلى خلق وحدة خيالية متكاملة للموضوع الذي يعالجه بإمكانيات غير محدودة، يسعى الآخر إلى المراهنة على التأثير الملموس الذي تنتجه إعادة تصوير الواقع بحزمة ضوء منضبطة، من دون أن يعني ذلك أن أمام الفيلم التسجيلي فرصا ضعيفة لأن يكون إنجازا فنيا مبتكرا وموهوبا في تناوله لفكرة ما أو موضوع محدد.
من المعروف أن نقاط الافتراق التي أشّرتها الأدبيات السينمائية تكمن تحديدا في طبيعة البنية الفنية التي يرتكز عليها كلا النموذجين “الروائي والتسجيلي” خارج التفسيرات المبالغة التي ترى في الفيلم التسجيلي نوعا سينمائيا أدنى مرتبة وأقل جاذبية للمتفرجين من باقي الأنواع السينمائية الأخرى. فهذا التصور يتناسى إلى حد كبير أن المقدرة على خلق شكل فني ناجح لا يتوفر على امتياز هذا النوع الفني أو ذالك، ولا يؤمن بالكيفية التي تتساوى في ضوئها العبقرية الخلاقة المنتجة لقصيدة شعرية مع نظيرتها المنتجة لعمل روائي جبار أو لوحة باهرة الجمال.
من هنا نرى كيف أن النوعين السينمائيين تجاوزا تعارضاتهما وأنتجا مقترباتهما، عبر التطور الهائل الذي أتى على كل أشكال الصناعة السينمائية وديمومة تجدد وسائلها فأنتج نماذجه السينمائية المتميزة. لقد انداحت اليوم الحدود الفاصلة أجناسيا وجماليا بين مختلف الأنواع السينمائية من ناحية وبينها وباقي الإبداعات الأدبية والفنية من ناحية أخرى، وذلك تحت تأثير التداخل الحاصل بين كل هذه الأنواع سعيا وراء شكل فني بليغ، يعبّر أكثر من سواه عن أزمة الحياة الإنسانية بسعتها وتنوعها، ويقترب أكثر من لغة عالمنا المعاصر بكل ما ينتجه من مفاهيم ورؤى، تتكلم ذاتها في خطاب إبداعي جمالي يمتلك مصداقيته وفرادته وبراهينه على محنة الإنسان والعالم وسعادتهما المنشودة.
ولا حاجة بنا إلى أن نبرهن أن في الفيلم الروائي اليوم قدرا من الصنعة التسجيلية أو العكس، مثلما نجد في الرواية أو القصيدة بنية سينمائية ناجزة والعكس صحيح أيضا. يحدث هذا وفقا لطبيعة نظام اللغة الذي يجعل الصور والكلمات نصا فنيا قائما بذاته هو حصيلة إعمال الخيال والواقع معا، لاسيما أن المادة الخام لمجمل إبداعنا هي ضفاف حياتنا الواقعية أو المتخيلة، يعاد تمثلها وصياغتها في شكل أدبي أو فني محدد لتعطي التأثير المطلوب.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري