صلاح الزين ينتصر للأشياء العادية في "كتاب المهملات"
"كتاب المهملات" يضم عشرين شيئا مهملا، تحولت بين يدي صلاح الزين إلى ملاحم أدبية صغيرة، كتبت بلغة أنيقة ورفيعة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
إعادة تنظيم المهمل (لوحة: موفق قات)
أونتاريو (كندا) - صدر عن “محترف أوكسجين للنشر” في أونتاريو كتاب جديد للكاتب السوداني المقيم في الولايات المتحدة صلاح الزين، حمل عنوان “كتاب المهمَلات”. عشرون نصّا اجتمعت في هذا الكتاب، يقدِّمها صاحبها بوصفها كتابة عن العادي، تَهِب شهادةً للأساسِ اليتيم!
في كتاب صلاح الزين الجديد، وفي نصوصه المبتكرة هذه، نحن حيال شهادة أدبية يهبها الكاتب لكلِّ ما أهمَلناه وصار في عدادِ الأشياء العادية، تلكَ التي غرقت في ظلالِ معانيها، دون بقعةِ ضوءٍ أو التفاتةٍ منَّا، وهذا ما تشي به نصوص الزين وهي تزيحُ الغبار المتراكم عن موجوداتِ الحياة المادية، وعن عيوننا في الوقت نفسه، لنرى بكلماتِه ما عجزنا عن رؤيته في ازدحام الأزمنة وانفلاتِها من بين أيدينا.
إنّها لحظة تأمّل عميقة، فلسفية، غاضبة أحيانا وساخرة أحيانا أخرى، فلا عجب أن تكون “المرايا” هي “ظمأُ الصورة لذاتها”، و”البلكونة” ليست سوى “ما فاض عن المسكن وانشغل بما لا يعنيه”، ولا غرابة في أن يكون لـ”المبطخ” مثلا “سلالة مِن أشباح تضيق بالحيّز وتنضيدِ المكان فيكون سقفُها من سماء أو هواءٍ منهَكٍ، فتستعرُ خصومةُ التمييز واتساق التوصيف والمُسمّى”.
نصوص مبتكرة
إن سؤال الماهية والمسمّى، هو دعوة للسؤال حول ماهية هذه النصوص ومسمّياتها، أو كما تدعونا كلمة الغلاف لاكتشافه: “هي نصوص حول ما أهملناه لفرط عاديته! يؤكد الكاتب السوداني صلاح الزين في مستهل كتابه، محولا هذا العادي المهمل، المنسي، المحروم من كل نظر، إلى نصوص مبتكرة وتجريبية تأبى التصنيف، كل نص هو عالم بحد ذاته، فنحن أمام قائمة طويلة من مهملات حياتنا، كُتبت بإحالات فلسفية تستدعي التفكير في الواقع العبثي ومفارقاته العجيبة، كما لو أنها ميثولوجيا شعرية تؤسطر وتفهرس، تحتفي وتؤنسن ما استعاد هنا بريقه وألقه الخاص، فالباب فضيحة الوجود، والمطبخ ديمقراطي بفوضى، أما الصورة فالتباس يغفر فيه الغابر للحاضر”.
في ظاهره يضمّ “كتاب المهملات” عشرين شيئا مهملا، تحوّلت بين يدي صلاح الزين إلى ملاحم أدبية صغيرة، كُتبت بلغة أنيقة ورفيعة لها معجمها الخاص وامتدادها في التراث، بحس شعري يعكسه تفاني الكاتب في نحت تعريفات تخصّه، تمزج الخاصّ بالعام، والتأمّلي بالسياسي، والواقعي بالأسطوري، لتخلق قائمة نعتقد بإمكانية عدِّها: من “الباب” إلى “البرندة”، ومن “الصورة” إلى “المنديل”، وصولا إلى “المخزن”، لكننا حتما سنخطئ العدّ، لأنها نصوص مترامية، عبثية، تستدعي القراءة وإعادة القراءة، فلا تصبح الأشياء مجرّد أشياء، ولا القراءة خطا مستقيما نقلّب على إثره صفحات الكتاب الـ104، إنما متاهة جميلة مليئة بالمنعطفات والمفاجآت.
نتساءل مع صلاح الزين في نص “الشنطة” (شنطة الصفيح) “وما الشنطة؟ قطعة من حديد فوق ظهر غزال بري يطارد غنم إبليس. وأيضا صندوق متروس بوصايا المكان لمكان آخر، قريب أو بعيد، بإيصال أو بدونه، والأول محبّذ.
هي، الشنطة، ما يقوله الخطوُ للوصول موسوم بعتبة الخروج ولمعان البداية. وما البداية؟ لا أحد يدري، فقط تعرفها الدروب آنَ تصيرُ طريقا بمعالم ومرشد.
اقتناؤها، الشنطة، عكس كلِّ ما يُقتَنى، سليلُ الانتقالات من حيز بعادات معرَّفة إلى آخر مجهول الهوية، فتكون لها هُوية ووسم مثل ما للماء هوية بين المنبع والمصب”.
“تُجلَب ويُحتفَى بها وتودَعُ أسرارا: سلامةُ العودة وتميمةُ الصون. فلِلمكان فِلذاتُ أكباده”. وكما يقول في نصٍّ آخر، عن شيءٍ مهملٍ آخر “مُزَنَّرٌ بأسئلةٍ وهو في مهدِه”، يمضي الكاتب صلاح الزين في التساؤل والكتابة عن أشيائه المهمَلة، أشيائنا أيضا، والتي لن تعود كذلك بعد قراءة هذا الكتاب الماثل أمامنا “كأسطورة تسْبَح في مياه كلِّ الأزمنة”.
وصلاح الزين كاتب وناقد من السودان، مقيم في فرجينيا بالولايات المتحدة، صدر له في القصة “عنهما والإكليل والانتظار” (1993)، و”وضعية ترفو حكايا لتروى” (2011). وفي الشعر صدر له “عورة الماء”، كتاب صوتي (2023). كما له عدة ترجمات وبحوث ودراسات اجتماعية بالعربية والإنجليزية، ويكتب مقاربات ومقالات نقدية في الشأن السياسي والفكري السوداني.
"كتاب المهملات" يضم عشرين شيئا مهملا، تحولت بين يدي صلاح الزين إلى ملاحم أدبية صغيرة، كتبت بلغة أنيقة ورفيعة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
إعادة تنظيم المهمل (لوحة: موفق قات)
أونتاريو (كندا) - صدر عن “محترف أوكسجين للنشر” في أونتاريو كتاب جديد للكاتب السوداني المقيم في الولايات المتحدة صلاح الزين، حمل عنوان “كتاب المهمَلات”. عشرون نصّا اجتمعت في هذا الكتاب، يقدِّمها صاحبها بوصفها كتابة عن العادي، تَهِب شهادةً للأساسِ اليتيم!
في كتاب صلاح الزين الجديد، وفي نصوصه المبتكرة هذه، نحن حيال شهادة أدبية يهبها الكاتب لكلِّ ما أهمَلناه وصار في عدادِ الأشياء العادية، تلكَ التي غرقت في ظلالِ معانيها، دون بقعةِ ضوءٍ أو التفاتةٍ منَّا، وهذا ما تشي به نصوص الزين وهي تزيحُ الغبار المتراكم عن موجوداتِ الحياة المادية، وعن عيوننا في الوقت نفسه، لنرى بكلماتِه ما عجزنا عن رؤيته في ازدحام الأزمنة وانفلاتِها من بين أيدينا.
إنّها لحظة تأمّل عميقة، فلسفية، غاضبة أحيانا وساخرة أحيانا أخرى، فلا عجب أن تكون “المرايا” هي “ظمأُ الصورة لذاتها”، و”البلكونة” ليست سوى “ما فاض عن المسكن وانشغل بما لا يعنيه”، ولا غرابة في أن يكون لـ”المبطخ” مثلا “سلالة مِن أشباح تضيق بالحيّز وتنضيدِ المكان فيكون سقفُها من سماء أو هواءٍ منهَكٍ، فتستعرُ خصومةُ التمييز واتساق التوصيف والمُسمّى”.
نصوص مبتكرة
إن سؤال الماهية والمسمّى، هو دعوة للسؤال حول ماهية هذه النصوص ومسمّياتها، أو كما تدعونا كلمة الغلاف لاكتشافه: “هي نصوص حول ما أهملناه لفرط عاديته! يؤكد الكاتب السوداني صلاح الزين في مستهل كتابه، محولا هذا العادي المهمل، المنسي، المحروم من كل نظر، إلى نصوص مبتكرة وتجريبية تأبى التصنيف، كل نص هو عالم بحد ذاته، فنحن أمام قائمة طويلة من مهملات حياتنا، كُتبت بإحالات فلسفية تستدعي التفكير في الواقع العبثي ومفارقاته العجيبة، كما لو أنها ميثولوجيا شعرية تؤسطر وتفهرس، تحتفي وتؤنسن ما استعاد هنا بريقه وألقه الخاص، فالباب فضيحة الوجود، والمطبخ ديمقراطي بفوضى، أما الصورة فالتباس يغفر فيه الغابر للحاضر”.
في ظاهره يضمّ “كتاب المهملات” عشرين شيئا مهملا، تحوّلت بين يدي صلاح الزين إلى ملاحم أدبية صغيرة، كُتبت بلغة أنيقة ورفيعة لها معجمها الخاص وامتدادها في التراث، بحس شعري يعكسه تفاني الكاتب في نحت تعريفات تخصّه، تمزج الخاصّ بالعام، والتأمّلي بالسياسي، والواقعي بالأسطوري، لتخلق قائمة نعتقد بإمكانية عدِّها: من “الباب” إلى “البرندة”، ومن “الصورة” إلى “المنديل”، وصولا إلى “المخزن”، لكننا حتما سنخطئ العدّ، لأنها نصوص مترامية، عبثية، تستدعي القراءة وإعادة القراءة، فلا تصبح الأشياء مجرّد أشياء، ولا القراءة خطا مستقيما نقلّب على إثره صفحات الكتاب الـ104، إنما متاهة جميلة مليئة بالمنعطفات والمفاجآت.
نتساءل مع صلاح الزين في نص “الشنطة” (شنطة الصفيح) “وما الشنطة؟ قطعة من حديد فوق ظهر غزال بري يطارد غنم إبليس. وأيضا صندوق متروس بوصايا المكان لمكان آخر، قريب أو بعيد، بإيصال أو بدونه، والأول محبّذ.
هي، الشنطة، ما يقوله الخطوُ للوصول موسوم بعتبة الخروج ولمعان البداية. وما البداية؟ لا أحد يدري، فقط تعرفها الدروب آنَ تصيرُ طريقا بمعالم ومرشد.
اقتناؤها، الشنطة، عكس كلِّ ما يُقتَنى، سليلُ الانتقالات من حيز بعادات معرَّفة إلى آخر مجهول الهوية، فتكون لها هُوية ووسم مثل ما للماء هوية بين المنبع والمصب”.
“تُجلَب ويُحتفَى بها وتودَعُ أسرارا: سلامةُ العودة وتميمةُ الصون. فلِلمكان فِلذاتُ أكباده”. وكما يقول في نصٍّ آخر، عن شيءٍ مهملٍ آخر “مُزَنَّرٌ بأسئلةٍ وهو في مهدِه”، يمضي الكاتب صلاح الزين في التساؤل والكتابة عن أشيائه المهمَلة، أشيائنا أيضا، والتي لن تعود كذلك بعد قراءة هذا الكتاب الماثل أمامنا “كأسطورة تسْبَح في مياه كلِّ الأزمنة”.
وصلاح الزين كاتب وناقد من السودان، مقيم في فرجينيا بالولايات المتحدة، صدر له في القصة “عنهما والإكليل والانتظار” (1993)، و”وضعية ترفو حكايا لتروى” (2011). وفي الشعر صدر له “عورة الماء”، كتاب صوتي (2023). كما له عدة ترجمات وبحوث ودراسات اجتماعية بالعربية والإنجليزية، ويكتب مقاربات ومقالات نقدية في الشأن السياسي والفكري السوداني.