مشاهدات غابو في العالم الأحمر تخلد فترة منسية
ماركيز يدون رحلته المثيرة إلى بلدان أوروبا الاشتراكية.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ماركيز تابع بحسه الصحفي كل ما يقع عليه النظر
الحس الصحفي مطلوب في كل كاتب رواية، فكبار الروائيين العالميين كانوا صحافيين في الأصل، من جورج أورويل إلى غابرييل غارسيا ماركيز وغيرهما الكثير. فالاستفادة من عالم الصحافة كان سمة بارزة في شخصية ماركيز وحتى في أدبه. ولعل كتابه "رحلة إلى البلدان الاشتراكية" الذي يتناول رحلته إلى أوروبا الشرقية أكثر ما يكشف ذلك.
العمل الصحفي كان بمثابة الأرضية التي انطلق منها غابرييل غارسيا ماركيز لاستكشاف مناطق جديدة في العالم، واستبطن من خلال هذه المهنة روحية المدن. وتقاطعت دروبه مع القامات الأدبية وهو يشير في سياق مقال عن همنغواي إلى أنه لمح في شوارع باريس صاحب “الشيخ والبحر” وتبادل معه تحية خاطفة.
كما استوحى غابو فكرة بعض أعماله الروائية من الأحداث التي تابعها من موقعه الصحفي، إذ ينوه في مقدمة روايته “عن الحب وشياطين أخرى” إلى أن مادتها مستلهمة من حيثيات معاينته لدير الراهبات الكلاريات التاريخي، الذي تحولت أطلاله إلى فندق من خمسة نجوم.
كذلك ترى ملمحا خبريا في صياغة عناوين أعماله، ولولا مزاولته العمل في الصحافة لما غامر باختراق الستار الحديدي والقيام برحلة في أرجاء البلدان التابعة للمحور الاشتراكي. فكان ماركيز يعيش في باريس ويعمل مراسلا لصحيفة “مومنتو” الفنزويلية سنة 1957 حين راودته فكرة بالذهاب إلى ما وراء الجدار.
ما يقدمه ماركيز في حلقات الكتاب الموسوم بـ”رحلة إلى البلدان الاشتراكية” ليس إعادة للرواية الرسمية التي أراد الجهاز الحكومي الترويج لها. كما لا يتناغم الكاتب في نظرته للمعطيات مع الخط الهجومي الذي اتخذته آلة الدعاية الغربية ضد الاتحاد السوفياتي.
الحس الصحفي
الملاحظ في مروية غابرييل غارسيا ماركيز الاستقصائية أن ما كان يهمه بالدرجة الأولى هو رصد الواقع على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. إذ يتمكن ماركيز من خلال ارتياده للأماكن العامة نقل ما تتميز به طبائع الشعوب التي عانت من الحروب والقهر، وكانت أراضيها واقعة بين رحى المعارك والإغارات للجيوش المتحاربة.
على الرغم من انضواء جميع البلدان التي تشملها رحلة غارسيا تحت الراية الحمراء. لكن ذلك لم يلغ التنوع الثقافي والتباين في مستوى القبول للتجربة الجديدة. ما يعني أن النظام السياسي لا يكون أحيانا سوى قشرة خارجية قد لا تعكس طبقات سحيقة من التاريخ والأعراف العقائدية.
يفتتح ماركيز سردية رحلته بالحديث عن الستار الحديدي ودور الإعلام الغربي في انتشار هذا المصطلح، مؤكدا بأنه لم يكن ستارا ولا حديدا، بل مجرد حاجز مكون من عارضة خشبية مطلية بالأحمر والأبيض، لكن ماكينة الدعاية التي كان يديرها الغرب نجحتْ في إقناع العقول بالصورة المسوقة. وبالطبع فإن تأثير الإعلام يتفوق في قدرته على كسب الآراء أكثر من أيّ فكرة فلسفية إلى أن يجعل المرء متوهما حسب تعبير ماركيز بأن المجاز حقيقة أو أن الصورة واقع.
بعد هذا الاستهلال يذكر ماركيز من شاركه الرحلة وما حدا بهم للانطلاق نحو العالم الذي خرج للتو من القبضة الستالينية. بدأت قصة الرحلة في أحد مقاهي فرانكفورت حيث ملتقى الأصدقاء الثلاثة ماركيز، فرانكو، جاكلين، والأخيرة كانت فرنسية من أصول هندو – صينية تعمل في إحدى المجلات الباريسية، بينما الثاني كان إيطاليا يستهويه السفر، واظب على مراسلة بعض الصحف في ميلانو وهو على حد تعبير ماركيز لا مقر له إلا حيث يداهمه الليل.
صادف وأن اشترى الصديق الإيطالي سيارة، لا يدري ماذا يعمل بها، وما لبث طويلا حتى يقترح السفر لاستطلاع ما يجري خلف الستار الحديدي، علما بأن العلاقات بين شطري ألمانيا لم تكن قائمة ولا يصل بينهما سوى قطار يطوي المسافة كل ليلة إلى برلين. ومع وجود التشدد في الإجراءات على الطريق البري، غير أن ذلك لا يثني المغامرين من المضي والاستمرار في تحقيق الفكرة.
يتابع ماركيز بحسه الصحفي كل ما يقع عليه النظر إذ يلاحظ شبكة الطريق المذهلة التي أنشأها هتلر لنقل آلياته الحربية وهي تخترق ألمانيا بشقيها الغربي والشرقي، مشيرا إلى أن هذه المأثرة الإنشائية تنقلب ضده، لأنها ستسهل تغلغل الحلفاء خلال الحرب. آثار المعارك كانت بادية بالأراضي التي قطعها الأصدقاء قبل الوصول إلى حدود ألمانيا الشرقية، هناك شاهدوا جنودا يطبخون الطعام ويخبر ماركيز صاحبيه قائلا “الشيوعيون يأكلون أيضا”. ومن الواضح أن غابو كان يريد كسر الحاجز النفسي. وما يرهق المسافرين هو البطء في نسخ البيانات الشخصية وجوازات السفر.
واقع أوروبا الشرقية السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي دونه ماركيز لا يختلف عن واقعنا العربي اليوم
الطريف في الأمر أن ماركيز يتفاجأ بتكرار الوجوه نفسها في نافذتين وما يذكره المؤلف بالتفصيل هو الاستجواب والشبهات التي كان عليهم الإثبات بعدم التلوث بها، وتأتي في المقدمة تهمة التجسس للرأسمالية.
يستغرب المسافر من طمس الهوية المعمارية لبرلين الغربية فلم تعد واجهتها معبرة عن خصوصية الحضارة الأوروبية، ويخيل للناظر أن شوارعها نقلت من نيويورك. واستقرت في مساحتها شركات كبيرة إذ ترى نهما تجاريا. يقول ماركيز بأن وسط هذه المشاريع والمباني الصاعدة ينبثق شيء ما مناقض لأوروبا وهويتها يمثل مدينة براقة معقمة. واصفا عاصمة ألمانيا الغربية بأنها ليست أكثر من وكالة ضخمة للدعاية الرأسمالية.
وما يثير الغرابة أكثر أن السياح الأميركيين يغزون المدينة في الصيف، مستغلين فرصة لاقتناء مواد مستوردة من بلدهم إذ يجدونها في برلين بأسعار أرخص، والغاية من كل ذلك هي إبهار ألمانيا الشرقية التي يتلصص مواطنوها من الكوة بإعجاب على ما يسميه ماركيز بالازدهار المختلق.
بعدما يعبر غابو مع صديقيه بوابة براندنبورغ الفاصلة بين ألمانيتين متوغلا أكثر في قسمها الشرقي، يدرك بأن الاختلاف بين الشطرين أعمق من أن يقصر في التباين بين النظامين، إنما يقوم بين عقليتين متعارضتين. مقابل ما لفت نظره من ثقل وطأة الكيان الرأسمالي على واقع الجانب الغربي من برلين.
لا يتجاهل ماركيز مظاهر الحياة الشاقة في الجهة الشرقية. إذ يتجلى الرد الاشتراكي على نهضة منافسها الرأسمالي في ما يعده ماركيز في المهزلة المتجسدة بجادة ستالين في برلين الشرقية، فإن المشروع خليط متنافر من كل الأساليب لا ناظم له سوى المعايير المعمارية المفضلة في موسكو.
المحطة الأولى
يرى المؤلف بأن ما أنفق على التماثيل والأثاث والمزخرفات الأيديولوجية كان كفيلا بتحسين جودة معيشة المقيمين في المباني البائسة، ومن المواقف التي كانت تؤكد الشرخ بين وجهي ألمانيا. هو ضرورة تقديم الإثباتات في برلين الشرقية على أن القادم قد صرف الدولار في البلد نفسه وإلا لا يمكنه شراء أيّ شيء.
ولا يغيب في رواية ماركيز التلميح إلى أن أجرة الفنادق كانت رخيصة في ألمانيا الشرقية. لا تنتهي جولة الأصدقاء في حدود ألمانيا قبل السفر إلى مدينة لايبزغ، ما وجده ماركيز هناك منذ اللحظة الأولى من جدران الطوب الخالية، ومن النوافذ ومصابيح الإنارة الحزينة، هذه التفاصيل تذكره ببوغوتا.
ومن الواضح أن الموسيقى مكون بارز لروح المدينة. والمعروف عن لايبزغ أنها حاضنة للطلاب الوافدين، مع أن عدد سكانها كان يبلغ آنذاك نصف مليون نسمة، لكن حركة السيارات لم تكن ملحوظة لندرتها في الشوارع المكتظة بالمارة المكتئبين. لا يصدق ماركيز الحزن الذي ينضح من الوجوه في ألمانيا الشرقية، مؤكدا بأن الشعب الألماني من أكثر شعوب حزنا رآها في حياته. حتى أمسيات الآحاد موشومة بالملل.
وما يواسي ماركيز في لايبزغ أنه قد التقى ببعض الطلاب القادمين من أميركا اللاتينية للدراسة في جامعة ماركس – لينين، وما سمعه منهم شهد على صحة انطباعه. لاحقا عندما يتعرف الأصدقاء على الهير فولف يجوسون أكثر دقائق حياة الألمانيين واستنكارهم من النظام الذي فرض عليهم رغما عن إرادتهم، إذ تبوح زوجة فولف بأنه خلال عامين من الاشتراك للصحيفة الرسمية لم يقرآ حتى العناوين الرئيسية.
ومن ثم يطال الكلام لعبة الانتخابات المدعوة للسخرية وحجب المحطات الأجنبية وتشفيرها، وبالتالي فإن الأناشيد الوطنية المبثوثة من الإذاعة الرسمية تلطم باستمرار رأس المواطنين. يعلن أحد الطلاب الماركسيين رأيه قائلا “الثورة لم تحدث في ألمانيا، بل جبلت في صندوق من الاتحاد السوفياتي، وألقى بها هنا من دون الاعتماد على الشعب”.
العزوف السياسي
مدن غارقة في الحزن
لن تكون ألمانيا إلا بداية للرحلة التي تمتد إلى بلدان أخرى منها تشيكوسلوفاكيا بخلاف ما وجده في محطته الأولى فإن الحياة الصناعية والتجارية كانت نشيطة في أنحاء البلد، ويسمع ماركيز من رفيق السفر بأن تشيكوسلوفاكيا تصدر الآلات إلى دول غربية وإلى العالم الاشتراكي بأسره. ولا يفكر أبناؤها بالهجرة إلى الخارج لأنهم يتقاضون رواتب عالية. ولم يلتق ماركيز تشيكيا يتأفف من حظه كما لا يبدي الطلاب تذمرهم إلا في ما ندر من الرقابة على الأدب والصحافة الغربيين لم يصادف الأصدقاء خلال الأيام التي جابوا فيها العاصمة براغ ما يذكر بأنهم فعلا في أوروبا الشرقية. ولا يعير الناس إلا اهتماما قليلا بالسياسة يتعرف ماركيز على مترجم شاب كانت له حظوة وفيرة من الثقافة، فقد نقل من الأدب الكولومبي “الدوامة” لخوسيه أوستاسيو ريفيرا و”أربع سنوات مبحرا في أعماقي” لإدوارد بوردا إلى اللغة التشيكية.
لا شيء يلفت الأنظار في الأجنبي غير بنطلون الجينز، فكان الناس يسألون الزائر من أيّ كوكب هبطت؟ لا يقف ماركيز عند مظاهر الحياة والشكليات الخارجية للمجتمع فحسب، بل يهمه فهم خط التفكير وخصوصية الطبائع، ففي حديثه عن البولونيين يقول “يحتفظ البولونيون تحت ثيابهم القديمة وفي أحذيتهم البالية بعزة نفس تبعث على الاحترام. وأبى الشعب البولوني التنكر لخصوصيته المعمارية وأعرافه الدينية، فكان حرصهم على الأصالة تمثل في ترميم المباني والمدن مطابقا للتصميم القديم”.
وما ينقله ماركيز عن الممرضة البولونية آنا كوزلوفسكي واعتقادها الراسخ بأنه لا توجد ضرورة للفصل بين النضال الشيوعي والحماسة الكاثوليكية، يظهر عبثية المحاولات الرامية لفصل الشعوب عن جذورها الثقافية والفكرية. وحين يسألها ماركيز إذا كانت تعلمت هذه المعادلة من الدروس الماركسية أم في الوصايا الدينية تجيبه بكل ثقة “لا في هذه ولا في تلك نحن نتعلم من تجربتنا الخاصة في بولونيا”. وبذلك وضّحت بأن الموضوع ليس كما فسره ماركيز بأنه يستحيل خدمة الله والشيطان في آن واحد.
وما يشد انتابه في فرصوفيا “وارشو” هو شغف المواطنين بالقراءة ولا يكتفي البولونيون بارتياد المكتبات العامة إنما يملأون جميع فراغات حياتهم اليومية بالقراءة، ويحظى الكاتب البريطاني جاك لندن باحترامهم يهتمون بروايته. قبل أن يحط رحاله في موسكو قلب العالم الاشتراكي. يزور ماركيز عدة مدن وقرى في طريقه نحو المكان الذي يدير منه الإمبراطورية السوفياتية التي تبلغ مساحتها 400 كيلومتر، وتنعدم فيها دعاية واحدة من دعايات الكوكا كولا وتنحصر فيها حرية المستمع بين متابعة راديو موسكو أو إطفاء الجهاز، والصحف الدولية محظورة باستثناء ما هي ناطقة بلسان الأحزاب الشيوعية، والمطبوعات اليومية ليس لها إلا عنوان واحد “برافدا”.
وكان كافكا من الكتّاب غير المرغوب فيهم، ويشاع عنه بأنه مبشر من مبشري الميتافيزيقيا الخبيثة. يشار إلى أن هذه الرقعة الجغرافية مترامية الأطراف كانت تضم قوميات لا تعد ولا تحصى، هذا ناهيك عن التنوع اللغوي في فضاءاتها الاجتماعية.
يكرس ماركيز الفصل الأخير من كتابه لحصيلة زيارته إلى هنغاريا بعد المرحلة المشحونة بالتوتر الناجم من الانتفاضة على السلطة التابعة لموسكو، ولم يمر هذا الحدث عابرا، بل كانت تبعاته ثقيلة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. يعاين ماركيز الموقع الذي تفجرت فيه شرارة الانتفاضة إذ يعبر الطلاب ساحة تفصل الجامعة عن تمثال شاندور بيتوفي، مطالبين بطرد الوحدات العسكرية السوفياتية. ثم يتسلق أحدهم التمثال ملوحا بالعلم الهنغاري.
ما دوّنه ماركيز ضمن وحدات مؤلفه يعيد إلى الأذهان حقيقة وهي أن كل صحافي متمكن قد يكون مشروعا للروائي الناجح. كما أن أي روائي ينقصه حس الصحافي يفوته الكثير من الأدوات التي تمكنه من تعجين لغته بديناميكية الواقع.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
كه يلان محمد
كاتب عراقي
ماركيز يدون رحلته المثيرة إلى بلدان أوروبا الاشتراكية.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ماركيز تابع بحسه الصحفي كل ما يقع عليه النظر
الحس الصحفي مطلوب في كل كاتب رواية، فكبار الروائيين العالميين كانوا صحافيين في الأصل، من جورج أورويل إلى غابرييل غارسيا ماركيز وغيرهما الكثير. فالاستفادة من عالم الصحافة كان سمة بارزة في شخصية ماركيز وحتى في أدبه. ولعل كتابه "رحلة إلى البلدان الاشتراكية" الذي يتناول رحلته إلى أوروبا الشرقية أكثر ما يكشف ذلك.
العمل الصحفي كان بمثابة الأرضية التي انطلق منها غابرييل غارسيا ماركيز لاستكشاف مناطق جديدة في العالم، واستبطن من خلال هذه المهنة روحية المدن. وتقاطعت دروبه مع القامات الأدبية وهو يشير في سياق مقال عن همنغواي إلى أنه لمح في شوارع باريس صاحب “الشيخ والبحر” وتبادل معه تحية خاطفة.
كما استوحى غابو فكرة بعض أعماله الروائية من الأحداث التي تابعها من موقعه الصحفي، إذ ينوه في مقدمة روايته “عن الحب وشياطين أخرى” إلى أن مادتها مستلهمة من حيثيات معاينته لدير الراهبات الكلاريات التاريخي، الذي تحولت أطلاله إلى فندق من خمسة نجوم.
كذلك ترى ملمحا خبريا في صياغة عناوين أعماله، ولولا مزاولته العمل في الصحافة لما غامر باختراق الستار الحديدي والقيام برحلة في أرجاء البلدان التابعة للمحور الاشتراكي. فكان ماركيز يعيش في باريس ويعمل مراسلا لصحيفة “مومنتو” الفنزويلية سنة 1957 حين راودته فكرة بالذهاب إلى ما وراء الجدار.
ما يقدمه ماركيز في حلقات الكتاب الموسوم بـ”رحلة إلى البلدان الاشتراكية” ليس إعادة للرواية الرسمية التي أراد الجهاز الحكومي الترويج لها. كما لا يتناغم الكاتب في نظرته للمعطيات مع الخط الهجومي الذي اتخذته آلة الدعاية الغربية ضد الاتحاد السوفياتي.
الحس الصحفي
الملاحظ في مروية غابرييل غارسيا ماركيز الاستقصائية أن ما كان يهمه بالدرجة الأولى هو رصد الواقع على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. إذ يتمكن ماركيز من خلال ارتياده للأماكن العامة نقل ما تتميز به طبائع الشعوب التي عانت من الحروب والقهر، وكانت أراضيها واقعة بين رحى المعارك والإغارات للجيوش المتحاربة.
على الرغم من انضواء جميع البلدان التي تشملها رحلة غارسيا تحت الراية الحمراء. لكن ذلك لم يلغ التنوع الثقافي والتباين في مستوى القبول للتجربة الجديدة. ما يعني أن النظام السياسي لا يكون أحيانا سوى قشرة خارجية قد لا تعكس طبقات سحيقة من التاريخ والأعراف العقائدية.
يفتتح ماركيز سردية رحلته بالحديث عن الستار الحديدي ودور الإعلام الغربي في انتشار هذا المصطلح، مؤكدا بأنه لم يكن ستارا ولا حديدا، بل مجرد حاجز مكون من عارضة خشبية مطلية بالأحمر والأبيض، لكن ماكينة الدعاية التي كان يديرها الغرب نجحتْ في إقناع العقول بالصورة المسوقة. وبالطبع فإن تأثير الإعلام يتفوق في قدرته على كسب الآراء أكثر من أيّ فكرة فلسفية إلى أن يجعل المرء متوهما حسب تعبير ماركيز بأن المجاز حقيقة أو أن الصورة واقع.
بعد هذا الاستهلال يذكر ماركيز من شاركه الرحلة وما حدا بهم للانطلاق نحو العالم الذي خرج للتو من القبضة الستالينية. بدأت قصة الرحلة في أحد مقاهي فرانكفورت حيث ملتقى الأصدقاء الثلاثة ماركيز، فرانكو، جاكلين، والأخيرة كانت فرنسية من أصول هندو – صينية تعمل في إحدى المجلات الباريسية، بينما الثاني كان إيطاليا يستهويه السفر، واظب على مراسلة بعض الصحف في ميلانو وهو على حد تعبير ماركيز لا مقر له إلا حيث يداهمه الليل.
صادف وأن اشترى الصديق الإيطالي سيارة، لا يدري ماذا يعمل بها، وما لبث طويلا حتى يقترح السفر لاستطلاع ما يجري خلف الستار الحديدي، علما بأن العلاقات بين شطري ألمانيا لم تكن قائمة ولا يصل بينهما سوى قطار يطوي المسافة كل ليلة إلى برلين. ومع وجود التشدد في الإجراءات على الطريق البري، غير أن ذلك لا يثني المغامرين من المضي والاستمرار في تحقيق الفكرة.
يتابع ماركيز بحسه الصحفي كل ما يقع عليه النظر إذ يلاحظ شبكة الطريق المذهلة التي أنشأها هتلر لنقل آلياته الحربية وهي تخترق ألمانيا بشقيها الغربي والشرقي، مشيرا إلى أن هذه المأثرة الإنشائية تنقلب ضده، لأنها ستسهل تغلغل الحلفاء خلال الحرب. آثار المعارك كانت بادية بالأراضي التي قطعها الأصدقاء قبل الوصول إلى حدود ألمانيا الشرقية، هناك شاهدوا جنودا يطبخون الطعام ويخبر ماركيز صاحبيه قائلا “الشيوعيون يأكلون أيضا”. ومن الواضح أن غابو كان يريد كسر الحاجز النفسي. وما يرهق المسافرين هو البطء في نسخ البيانات الشخصية وجوازات السفر.
واقع أوروبا الشرقية السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي دونه ماركيز لا يختلف عن واقعنا العربي اليوم
الطريف في الأمر أن ماركيز يتفاجأ بتكرار الوجوه نفسها في نافذتين وما يذكره المؤلف بالتفصيل هو الاستجواب والشبهات التي كان عليهم الإثبات بعدم التلوث بها، وتأتي في المقدمة تهمة التجسس للرأسمالية.
يستغرب المسافر من طمس الهوية المعمارية لبرلين الغربية فلم تعد واجهتها معبرة عن خصوصية الحضارة الأوروبية، ويخيل للناظر أن شوارعها نقلت من نيويورك. واستقرت في مساحتها شركات كبيرة إذ ترى نهما تجاريا. يقول ماركيز بأن وسط هذه المشاريع والمباني الصاعدة ينبثق شيء ما مناقض لأوروبا وهويتها يمثل مدينة براقة معقمة. واصفا عاصمة ألمانيا الغربية بأنها ليست أكثر من وكالة ضخمة للدعاية الرأسمالية.
وما يثير الغرابة أكثر أن السياح الأميركيين يغزون المدينة في الصيف، مستغلين فرصة لاقتناء مواد مستوردة من بلدهم إذ يجدونها في برلين بأسعار أرخص، والغاية من كل ذلك هي إبهار ألمانيا الشرقية التي يتلصص مواطنوها من الكوة بإعجاب على ما يسميه ماركيز بالازدهار المختلق.
بعدما يعبر غابو مع صديقيه بوابة براندنبورغ الفاصلة بين ألمانيتين متوغلا أكثر في قسمها الشرقي، يدرك بأن الاختلاف بين الشطرين أعمق من أن يقصر في التباين بين النظامين، إنما يقوم بين عقليتين متعارضتين. مقابل ما لفت نظره من ثقل وطأة الكيان الرأسمالي على واقع الجانب الغربي من برلين.
لا يتجاهل ماركيز مظاهر الحياة الشاقة في الجهة الشرقية. إذ يتجلى الرد الاشتراكي على نهضة منافسها الرأسمالي في ما يعده ماركيز في المهزلة المتجسدة بجادة ستالين في برلين الشرقية، فإن المشروع خليط متنافر من كل الأساليب لا ناظم له سوى المعايير المعمارية المفضلة في موسكو.
المحطة الأولى
يرى المؤلف بأن ما أنفق على التماثيل والأثاث والمزخرفات الأيديولوجية كان كفيلا بتحسين جودة معيشة المقيمين في المباني البائسة، ومن المواقف التي كانت تؤكد الشرخ بين وجهي ألمانيا. هو ضرورة تقديم الإثباتات في برلين الشرقية على أن القادم قد صرف الدولار في البلد نفسه وإلا لا يمكنه شراء أيّ شيء.
ولا يغيب في رواية ماركيز التلميح إلى أن أجرة الفنادق كانت رخيصة في ألمانيا الشرقية. لا تنتهي جولة الأصدقاء في حدود ألمانيا قبل السفر إلى مدينة لايبزغ، ما وجده ماركيز هناك منذ اللحظة الأولى من جدران الطوب الخالية، ومن النوافذ ومصابيح الإنارة الحزينة، هذه التفاصيل تذكره ببوغوتا.
ومن الواضح أن الموسيقى مكون بارز لروح المدينة. والمعروف عن لايبزغ أنها حاضنة للطلاب الوافدين، مع أن عدد سكانها كان يبلغ آنذاك نصف مليون نسمة، لكن حركة السيارات لم تكن ملحوظة لندرتها في الشوارع المكتظة بالمارة المكتئبين. لا يصدق ماركيز الحزن الذي ينضح من الوجوه في ألمانيا الشرقية، مؤكدا بأن الشعب الألماني من أكثر شعوب حزنا رآها في حياته. حتى أمسيات الآحاد موشومة بالملل.
وما يواسي ماركيز في لايبزغ أنه قد التقى ببعض الطلاب القادمين من أميركا اللاتينية للدراسة في جامعة ماركس – لينين، وما سمعه منهم شهد على صحة انطباعه. لاحقا عندما يتعرف الأصدقاء على الهير فولف يجوسون أكثر دقائق حياة الألمانيين واستنكارهم من النظام الذي فرض عليهم رغما عن إرادتهم، إذ تبوح زوجة فولف بأنه خلال عامين من الاشتراك للصحيفة الرسمية لم يقرآ حتى العناوين الرئيسية.
ومن ثم يطال الكلام لعبة الانتخابات المدعوة للسخرية وحجب المحطات الأجنبية وتشفيرها، وبالتالي فإن الأناشيد الوطنية المبثوثة من الإذاعة الرسمية تلطم باستمرار رأس المواطنين. يعلن أحد الطلاب الماركسيين رأيه قائلا “الثورة لم تحدث في ألمانيا، بل جبلت في صندوق من الاتحاد السوفياتي، وألقى بها هنا من دون الاعتماد على الشعب”.
العزوف السياسي
مدن غارقة في الحزن
لن تكون ألمانيا إلا بداية للرحلة التي تمتد إلى بلدان أخرى منها تشيكوسلوفاكيا بخلاف ما وجده في محطته الأولى فإن الحياة الصناعية والتجارية كانت نشيطة في أنحاء البلد، ويسمع ماركيز من رفيق السفر بأن تشيكوسلوفاكيا تصدر الآلات إلى دول غربية وإلى العالم الاشتراكي بأسره. ولا يفكر أبناؤها بالهجرة إلى الخارج لأنهم يتقاضون رواتب عالية. ولم يلتق ماركيز تشيكيا يتأفف من حظه كما لا يبدي الطلاب تذمرهم إلا في ما ندر من الرقابة على الأدب والصحافة الغربيين لم يصادف الأصدقاء خلال الأيام التي جابوا فيها العاصمة براغ ما يذكر بأنهم فعلا في أوروبا الشرقية. ولا يعير الناس إلا اهتماما قليلا بالسياسة يتعرف ماركيز على مترجم شاب كانت له حظوة وفيرة من الثقافة، فقد نقل من الأدب الكولومبي “الدوامة” لخوسيه أوستاسيو ريفيرا و”أربع سنوات مبحرا في أعماقي” لإدوارد بوردا إلى اللغة التشيكية.
لا شيء يلفت الأنظار في الأجنبي غير بنطلون الجينز، فكان الناس يسألون الزائر من أيّ كوكب هبطت؟ لا يقف ماركيز عند مظاهر الحياة والشكليات الخارجية للمجتمع فحسب، بل يهمه فهم خط التفكير وخصوصية الطبائع، ففي حديثه عن البولونيين يقول “يحتفظ البولونيون تحت ثيابهم القديمة وفي أحذيتهم البالية بعزة نفس تبعث على الاحترام. وأبى الشعب البولوني التنكر لخصوصيته المعمارية وأعرافه الدينية، فكان حرصهم على الأصالة تمثل في ترميم المباني والمدن مطابقا للتصميم القديم”.
وما ينقله ماركيز عن الممرضة البولونية آنا كوزلوفسكي واعتقادها الراسخ بأنه لا توجد ضرورة للفصل بين النضال الشيوعي والحماسة الكاثوليكية، يظهر عبثية المحاولات الرامية لفصل الشعوب عن جذورها الثقافية والفكرية. وحين يسألها ماركيز إذا كانت تعلمت هذه المعادلة من الدروس الماركسية أم في الوصايا الدينية تجيبه بكل ثقة “لا في هذه ولا في تلك نحن نتعلم من تجربتنا الخاصة في بولونيا”. وبذلك وضّحت بأن الموضوع ليس كما فسره ماركيز بأنه يستحيل خدمة الله والشيطان في آن واحد.
حزن سكان ألمانيا الشرقية ولامبالاة التشيكيين وجمع البولونيين بين الدين والشيوعية مشاهد ينقلها ماركيز بدقة
وما يشد انتابه في فرصوفيا “وارشو” هو شغف المواطنين بالقراءة ولا يكتفي البولونيون بارتياد المكتبات العامة إنما يملأون جميع فراغات حياتهم اليومية بالقراءة، ويحظى الكاتب البريطاني جاك لندن باحترامهم يهتمون بروايته. قبل أن يحط رحاله في موسكو قلب العالم الاشتراكي. يزور ماركيز عدة مدن وقرى في طريقه نحو المكان الذي يدير منه الإمبراطورية السوفياتية التي تبلغ مساحتها 400 كيلومتر، وتنعدم فيها دعاية واحدة من دعايات الكوكا كولا وتنحصر فيها حرية المستمع بين متابعة راديو موسكو أو إطفاء الجهاز، والصحف الدولية محظورة باستثناء ما هي ناطقة بلسان الأحزاب الشيوعية، والمطبوعات اليومية ليس لها إلا عنوان واحد “برافدا”.
وكان كافكا من الكتّاب غير المرغوب فيهم، ويشاع عنه بأنه مبشر من مبشري الميتافيزيقيا الخبيثة. يشار إلى أن هذه الرقعة الجغرافية مترامية الأطراف كانت تضم قوميات لا تعد ولا تحصى، هذا ناهيك عن التنوع اللغوي في فضاءاتها الاجتماعية.
يكرس ماركيز الفصل الأخير من كتابه لحصيلة زيارته إلى هنغاريا بعد المرحلة المشحونة بالتوتر الناجم من الانتفاضة على السلطة التابعة لموسكو، ولم يمر هذا الحدث عابرا، بل كانت تبعاته ثقيلة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. يعاين ماركيز الموقع الذي تفجرت فيه شرارة الانتفاضة إذ يعبر الطلاب ساحة تفصل الجامعة عن تمثال شاندور بيتوفي، مطالبين بطرد الوحدات العسكرية السوفياتية. ثم يتسلق أحدهم التمثال ملوحا بالعلم الهنغاري.
ما دوّنه ماركيز ضمن وحدات مؤلفه يعيد إلى الأذهان حقيقة وهي أن كل صحافي متمكن قد يكون مشروعا للروائي الناجح. كما أن أي روائي ينقصه حس الصحافي يفوته الكثير من الأدوات التي تمكنه من تعجين لغته بديناميكية الواقع.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
كه يلان محمد
كاتب عراقي