"موت في منتصف الصيف" قصص نفسية تكاشفنا بخفايا الإنسان
الكاتب الياباني يوكيو ميشيما يكتب قصصه بكثافة ودقة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
بحث في العوالم النفسية للشخصيات (لوحة للفنان عصام معروف)
يعتبر يوكيو ميشيما (1925 ـ 1970) أكثر كاتب ياباني نال شهرة عالمية رغم أنه لم يتوج بجائزة نوبل، إذ امتاز بأسلوبه الفريد الذي رسخ اسمه واحدا من أعلام الأدب الياباني وخاصة منه السرد. في سرد ميشيما بصمة فريدة لكاتب أتقن خلق السحر دون تعقيد أو مبالغات أو غيره. وهذا ما نقرأه في قصصه مثلا.
تتقاطع القصة الطويلة مع الرواية والشعر في آن واحد، فهي توهم باللانهاية من جهة، كما تتصف بسردها الوامض من جهة أخرى. لا يتحمل هذا النوع الأدبي الإطناب ولا تناسبه المساحة المكتظة بالشخصيات. أكثر من ذلك فإن الانسيابية في توالي المادة المروية تتطلب الكثافة والإتقان في بناء الحدث وتحديد أدوار الشخصيات على الرقعة المؤطرة للحركة السردية. ولا يستدعي تصميم المعمار القصصي التوسل بالمناورات وفتح الخط على الروافد والاستطرادات التي لا تخدم ما تقوم عليه القصة من جزالة اللغة ومتانة السبك وزخم التتابع.
غني عن القول بأن بؤرة المعنى يتم إدراكها في الأعمال السردية مع التوغل في عالمها، ما يعني أن المفهوم يكون قيد التشكيل إلى أن تختم الحلقة. لكن ما يميز القصة الطويلة أن أوراقها ليست متشابكة على غرار ما هو ملحوظ في الرواية. وقد يعلن الكاتب من عتبة العنوان عن النواة التي تسحب نحوها الموضوعة الرئيسة في أجواء القصة. وهذا ينطبق على برنامج الكاتب الياباني يوكيو ميشيما في مجموعته القصصية “موت في منتصف الصيف” التي ألفها في تواريخ متفرقة، ويهدف من خلال كل قصة رصد ظاهرة اجتماعية أو الإضاءة عن موقف إنساني أو إزالة النقاب عن هواجس نفسية. وبذلك تدور زوايا القصص باتجاهات متعددة.
المكون النفسي
النص القصصي لا يستمد عناصر الإثارة والتشويق من الغموض والتعقيد بل قوامه الإبداعي هو البساطة والاقتصاد اللغوي
يتمكن صاحب “عطش الحب” من تقديم شخصياته في مستويات متباينة، هذا إضافة إلى عنصر المفاجأة التي تصعد من شحنة التشويق الدرامي في السلسلة المتوالية من القصص. واللافت هو ما يستشفه القارئ من الطاقة الإقناعية التي يكتسبها أسلوب الكاتب مع كل مرحلة إبداعية. تبدأ هذه المجموعة بالحزمة الأولى التي تدور حول العلاقة الكائنة بين تسوتومو، وهو طالب في ريعان شبابه، والسيدة كورومازاكي، فالأخيرة كما يخبر عنها الراوي العليم يهمها الظهور بوجه شبابي، وتتكفل بالإنفاق على عشيقها اليافع ساعية إلى أن يبدو معها بصورة شخص مرح، غير أن تسوتومو لا يرى نفسه في هذا الدور أكثر من كونه دمية حب ينقاد بالولاء لسيدة لولاها لربما كان مرغما على أن يبيع الفول السوداني.
تتابع العدسة السردية شخصيتين على خط متواز، إذ يدير الراوي الضوء بنسبة متكافئة بين المرأة المتزوجة وعشيقها، فيفهم مما يتوارد عن تسوتومو أنه غير مقتنع بالبيئات التي يرتادها مع السيدة كورومازاكي. وهذا ما يعبر عنه بوضوح رأيه المتهكم، بما يعني له الشباب واقتران هذا الاسم بشغف أخرق أو الحمقى على حد قوله.
يفرد الراوي فرصة سردية للعشيق مستبطنا ما يعتمل في سرائره من الشعور بالانزعاج بأنه بلغ منتهى الحكمة نتيجة تحمله للكثير من المكابدات النفسية، الأمر الذي يتيح معرفة خلفيته الأسرية وعلاقته بأهله المقيمين في كوبي. لم يعط تسوتومو، وهو الأصغر بين خمسة أولاد، عنوانه لوالديه ولا تفوت الراوي الإشارة إلى عمل الوالد خبيرا في شركة التأمين، ويعقب هذا المقطع التعريفي بشخصية تسوتومو الإبانة عن وجه آخر من كورومازاكي التي كانت تفتعل شجارا مع زوجها قبل أن تسافر ملاحقة نزواتها. وتعلق قبل المغادرة قائلة “سآخذك في رحلة يا تسوتومو، وسنرتكب انتحارا مزدوجا لكن قبل ذلك، سأبعث برسالة إلى إحدى الصحف أخبر فيها بكل شيء عنك”.
يتخلل مشهد حواري مشوب بنبرة ساخرة تيار السرد قبل أن تتجه الأضواء من جديد إلى السيدة كورومازاكي راصدة توترها وحركتها المنفعلة في أرجاء المنزل لتجميع أغراضها وتطالب العشيق بأن يعدها بالموت معا. يخبر الراوي أكثر عن المشاعر الداخلية لكورومازاكي وانجرافها إلى عاطفة رومانسية تنتهي بالشهوانية.
ومع الانتقال إلى كيوتو تأخذ شخصية المعلم الأفضلية ضمن حسابات السيدة كورومازاكي. وتتضح بأن ريوتا قد كسب إعجاب المرأة التي تريد إقناع تسوتومو بالتواري تاركا المكان للعشيق الجديد مؤقتا، مقابل مبلغ مالي خمسة آلاف ين، وهذا ما يذكره بما قرأه في رواية فرنسية عن شاب يحصل على 1500 فرنك، وتعليق المؤلف على موقف بطله بأن “باريس ملكه الآن بالكامل”.
يظهر ميشيما براعته في القفلة عندما تنتهي القصة بخيبة السيدة من عشيقها المؤقت وعودة تسوتومو إلى النزل وما شاهده من وضعية غير متوقعة بعد اختفاء ريوتا، لكن ذلك ليس كل شيء، بل العرض الذي يقدمه تسوتومو على كورومازاكي بأن يشتريها بالمبلغ الذي أعطته إياه، وترحيب المرأة بهذا الاقتراح، حركة تفجر الدهشة وفي الأخير يعلن الراوي أن كل ما سرده قد سمعه من تسوتومو الذي كان يؤكد أنه لا يفهم شيئا عن النساء.
لا تنقطع القصة الثانية التي عنوانها هو نفس العنوان الرئيسي عن الخط النفسي أيضا، إذ تقوم على ثيمة الفقد وما يتبعه من التغيير على الحياة والفراغ الذي يتركه الغياب. تخسر أسرة ماسارو ثلاثة أشخاص في حادث الغرق على شاطئ واقع بالقرب من جزيرة إيزو. مع تصاعد حرارة الشمس يحاول كل من كييو وشقيقته الصغيرة التغلب على السأم بملاعبة الماء على مرمى مراقبة العمة ياسويه، التي فضلت أن تمضي أيامها في مجالسة أبناء أخيها بعيدا عن القرية، ما يلبث طويلا حتى يشهد مسرح القصة حدثا عندما تأخذ الأمواج الطفلين وتلحق بهما ياسويه أملا بانتزاعهما من قبضة الموت، لكنها لا تنجح في المحاولة، وتنتهي حياتها مع الاثنين.
إذن تحل الكارثة والأم غائبة في الصورة، وما إن تخبر حتى تنفض عن كاهلها ثقل القيلولة قافزة لمرافقة المدير، وما تراه هو جثة هامدة لأخت زوجها مستلقية، ويسعى رجل عبثا لإعادة الأنفاس إليها. لا يشغلها للحظات سوى ياسويه وتركع بمحاذاتها منادية باسمها مستعيدة طيف ماسارو وما الذي يمكن أن تقوله لزوجها؟
ويشتد على توموكو وطأة الخطب حين تعرف بفقدان طفليها. لا تتقيد عدسة الراوي بمكان الحدث إنما تتحرك نحو موقع الأب حيث يعمل مديرا لشركة سيارات أميركية، كاشفة ارتداد الحدث على نفسيته وهو يتلقى برقية تبلغه بموت ياسويه وأن البحث مستمر للعثور على الطفلين المفقودين. وما يكون رد فعل ماسارو إلا الغضب، شعر كأنه تم الإعلان عن إقالته بدون سبب، يواصل الراوي متابعة شخصية الأب على امتداد المسافة الزمنية التي يستغرقها الوصول إلى الشاطئ. وبالطبع يستدعي السياق في مثل هذا الموقف الاهتمام بالمشاعر الداخلية للشخصية واختلاجاتها النفسية.
إن تلميح الراوي إلى ما هو عليه العالم الخارجي من شكله المعروف يوحي باغتراب الشخصية نفسيا عن محيطها. لذلك يهم مسارو بأن ينادي الركاب ويخبرهم بما وقع لعائلته المنكوبة. وما تقوله توموكو بأن غياب ثلاثة دفعة واحدة كثير لعائلة وقليل جدا للمجتمع يذكر برأي نجيب محفوظ بأن الموت على الصعيد الفردي عبث أما على المستوى المجتمعي ليس له تأثير. وما يخفف ثقل الذاكرة المفجوعة عن الأم هو استعداد الأسرة لاستقبال طفل جديد. بعد مرور عامين على الحدث الثقيل تطالب توموكو زوجها بزيارة الشاطئ الذي كان مسرحا للكارثة. ويصح أن يفهم ذلك بأنه نوع مما يسميه فيكتور فرانكل بالقصد العكسي أي أن يذهب المرء إلى الأماكن التي يخاف منها.
سحر البساطة
من خلال كل قصة يرصد الكاتب ظاهرة اجتماعية أو يضيء على موقف إنساني أو يزيل النقاب عن هواجس نفسية
لا يستمد النص القصصي عناصر الإثارة والتشويق من الغموض والتعقيد بل قوامه الإبداعي يتمثل في البساطة والاقتصاد اللغوي، ومن البداهات التي لا تتطلب التذكير بأن الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف هو من يعد رائدا للسرد الشفيف في كتابة القصة وبساطته في التعبير بمثابة توقيع في خطه الإبداعي، فالثيمات التي تنطلق منها قصصه تبدو للوهلة الأولى بسيطة، لكن في الحقيقة تضمر أبعادا متعددة، ويكسبها المنحى الإبداعي لونا جديدا.
على غرار مؤلف “الرهان” يحيك ميشيما قماشة قصة “اللؤلؤة” وهي تبدأ بصيغة تقريرية محددة للشخصيات والمناسبة التي تجمعها، إذ تستضيف السيدة ساساكي صديقاتها في عيد ميلادها، وكن جميعهن في الثالثة والأربعين، وتنتمي هؤلاء النسوة إلى جمعية “لا تعترف بعمرك”، حسب المعلومة التي يفيد بها الراوي. ومن الواضح أن ما يتوارد في بداية المادة القصصية يكون لها دور في تنظيم حركة الحدث إذ تنقل آلة السرد ما يشغل المضيفة من التفاصيل التي تدخل في تصميم البيئة الاحتفالية كما تقف العدسة السردية عند اللحظة التي تضع فيها السيدة ساساكي خاتما مزينا باللؤلؤ، قد يتوقع الملتقي بأن الغرض من وضع الحلية، ليس أبعد من الاستعراض، وهذا الرأي في محله غير أن لتلك الحركة مغزى آخر في بناء القصة.
تعم الأجواء الاحتفالية من إشعال وإطفاء شموع الكيك، ولا يتوانى الراوي عن القيام بوظيفته الإخبارية معلنا عن معاناة السيدة المضيفة من ضعف الرئتين، لذلك فإن عجزها المطلق في نفخ كل هذه الشموع يثير سلسلة من الضحك، والأهم أن السيدة ساساكي خلال تفحص الكعكة تسقط منها اللؤلؤة، وهي تتركها على حافة الطبق الكبير حتى لا ترتبك الضيفات. وبعد قطع الكعكة وتوزيعها على الصديقات تتفاجأ ساساكي بأن اللؤلؤة لم تعد في مكانها، هنا تتسع دوامة الشك للجميع، ويصبح ضياع اللؤلؤة هاجسا للمدعوات في الحفلة. تتدخل أزوما للتخفيف من حدة التوتر قائلة إنها ابتلعت اللؤلؤة مع الكيك. وفي الطريق تطالب أزوما صديقتها كاسوغا بالاعتراف بأنها ابتعلت اللؤلؤة وبذلك تتاشبك الحبكة وتعتبر كاسوغا كلام صديقتها اتهاما ظالما.
بموازاة ذلك تكتشف السيدة ماتسومورا اللؤلؤة في حقيبتها وهي في طريق العودة مع ياماموتو، كل ما أرادت أن تعمله هو التكتم على موقفها المحرج، لذلك تنزل من سيارة الأجرة تاركة الصديقة بمفردها. هنا تفتح زاوية الافتراض عن دور ياماموتو في نصب الفخ لماتسومورا، وبذلك يقفل حزام الشك على المشاركات في الحفلة.
يشار إلى أن الملمح النفسي له أولوية في تشكيلة القصة وتحيلك ثيمتها إلى ما كتبه تشيخوف بعنوان “وصمة” تتداخل في قصة “صبيحة الحب الطاهر” إشكاليات الزمن والحب والعنف. تستهل أجواؤها بنفس رومانسي مستعيدة ذلك الصباح الذي تبادل فيه ريوسوكي وزوجته قبلة رائعة. في الواقع يحاول المتن الحكائي البحث عن سر هذه اللحظة بعد عشرين عاما من الزواج. هل يمكن أن تستمر العاطفة بهذا العنفوان؟ وتقع في تلافيف القصة على العلاقة الكائنة بين الزمن وحاسة الشم إذ تتوقع ريكو بشكل حدسي تلك الأوقات التي ترغب فيها أن تشم عطرها المقدس الذي يطوي بالزمن عائدا به نحو عهد الصبا.
هذه الموجة الرومانسية هي جانب من القصة أما الجانب الآخر فيكون بصيغة الاستجواب للبطل المتورط في جريمة القتل. تستجلي القصة الأخيرة “من أعماق الوحدة” عن فضول القارئ ومسعاه الدوؤب لكشف وصفات المطبخ الإبداعي وتوسع مساحة عزلة القارئ والمبدع إذ يقول الراوي بضمير المتكلم “القراءة والكتابة نشاطان منفردان، لكن النص المطبوع يسمح لوحدة الكاتب بالانزلاق إلى قلب الآخر وهو مكان غامض لم أوجه نظرتي إليه بعد” والملاحظ في هذا النص أن يوكيو ميشيما يتخذ موضوعة الكتابة والهم الإبداعي مادة لقصته ولا يلخو ما يقدمه من بنية ميتا سردية. ما يجدر بالذكر في هذا الإطار أن مترجم إسكندر حبش قدم لهذه المجموعة بمفاتيح للأدب الياباني عموما ولعالم يوكيو ميشيما على وجه الخصوص.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
كه يلان محمد
كاتب عراقي
الكاتب الياباني يوكيو ميشيما يكتب قصصه بكثافة ودقة.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
بحث في العوالم النفسية للشخصيات (لوحة للفنان عصام معروف)
يعتبر يوكيو ميشيما (1925 ـ 1970) أكثر كاتب ياباني نال شهرة عالمية رغم أنه لم يتوج بجائزة نوبل، إذ امتاز بأسلوبه الفريد الذي رسخ اسمه واحدا من أعلام الأدب الياباني وخاصة منه السرد. في سرد ميشيما بصمة فريدة لكاتب أتقن خلق السحر دون تعقيد أو مبالغات أو غيره. وهذا ما نقرأه في قصصه مثلا.
تتقاطع القصة الطويلة مع الرواية والشعر في آن واحد، فهي توهم باللانهاية من جهة، كما تتصف بسردها الوامض من جهة أخرى. لا يتحمل هذا النوع الأدبي الإطناب ولا تناسبه المساحة المكتظة بالشخصيات. أكثر من ذلك فإن الانسيابية في توالي المادة المروية تتطلب الكثافة والإتقان في بناء الحدث وتحديد أدوار الشخصيات على الرقعة المؤطرة للحركة السردية. ولا يستدعي تصميم المعمار القصصي التوسل بالمناورات وفتح الخط على الروافد والاستطرادات التي لا تخدم ما تقوم عليه القصة من جزالة اللغة ومتانة السبك وزخم التتابع.
غني عن القول بأن بؤرة المعنى يتم إدراكها في الأعمال السردية مع التوغل في عالمها، ما يعني أن المفهوم يكون قيد التشكيل إلى أن تختم الحلقة. لكن ما يميز القصة الطويلة أن أوراقها ليست متشابكة على غرار ما هو ملحوظ في الرواية. وقد يعلن الكاتب من عتبة العنوان عن النواة التي تسحب نحوها الموضوعة الرئيسة في أجواء القصة. وهذا ينطبق على برنامج الكاتب الياباني يوكيو ميشيما في مجموعته القصصية “موت في منتصف الصيف” التي ألفها في تواريخ متفرقة، ويهدف من خلال كل قصة رصد ظاهرة اجتماعية أو الإضاءة عن موقف إنساني أو إزالة النقاب عن هواجس نفسية. وبذلك تدور زوايا القصص باتجاهات متعددة.
المكون النفسي
النص القصصي لا يستمد عناصر الإثارة والتشويق من الغموض والتعقيد بل قوامه الإبداعي هو البساطة والاقتصاد اللغوي
يتمكن صاحب “عطش الحب” من تقديم شخصياته في مستويات متباينة، هذا إضافة إلى عنصر المفاجأة التي تصعد من شحنة التشويق الدرامي في السلسلة المتوالية من القصص. واللافت هو ما يستشفه القارئ من الطاقة الإقناعية التي يكتسبها أسلوب الكاتب مع كل مرحلة إبداعية. تبدأ هذه المجموعة بالحزمة الأولى التي تدور حول العلاقة الكائنة بين تسوتومو، وهو طالب في ريعان شبابه، والسيدة كورومازاكي، فالأخيرة كما يخبر عنها الراوي العليم يهمها الظهور بوجه شبابي، وتتكفل بالإنفاق على عشيقها اليافع ساعية إلى أن يبدو معها بصورة شخص مرح، غير أن تسوتومو لا يرى نفسه في هذا الدور أكثر من كونه دمية حب ينقاد بالولاء لسيدة لولاها لربما كان مرغما على أن يبيع الفول السوداني.
تتابع العدسة السردية شخصيتين على خط متواز، إذ يدير الراوي الضوء بنسبة متكافئة بين المرأة المتزوجة وعشيقها، فيفهم مما يتوارد عن تسوتومو أنه غير مقتنع بالبيئات التي يرتادها مع السيدة كورومازاكي. وهذا ما يعبر عنه بوضوح رأيه المتهكم، بما يعني له الشباب واقتران هذا الاسم بشغف أخرق أو الحمقى على حد قوله.
يفرد الراوي فرصة سردية للعشيق مستبطنا ما يعتمل في سرائره من الشعور بالانزعاج بأنه بلغ منتهى الحكمة نتيجة تحمله للكثير من المكابدات النفسية، الأمر الذي يتيح معرفة خلفيته الأسرية وعلاقته بأهله المقيمين في كوبي. لم يعط تسوتومو، وهو الأصغر بين خمسة أولاد، عنوانه لوالديه ولا تفوت الراوي الإشارة إلى عمل الوالد خبيرا في شركة التأمين، ويعقب هذا المقطع التعريفي بشخصية تسوتومو الإبانة عن وجه آخر من كورومازاكي التي كانت تفتعل شجارا مع زوجها قبل أن تسافر ملاحقة نزواتها. وتعلق قبل المغادرة قائلة “سآخذك في رحلة يا تسوتومو، وسنرتكب انتحارا مزدوجا لكن قبل ذلك، سأبعث برسالة إلى إحدى الصحف أخبر فيها بكل شيء عنك”.
يتخلل مشهد حواري مشوب بنبرة ساخرة تيار السرد قبل أن تتجه الأضواء من جديد إلى السيدة كورومازاكي راصدة توترها وحركتها المنفعلة في أرجاء المنزل لتجميع أغراضها وتطالب العشيق بأن يعدها بالموت معا. يخبر الراوي أكثر عن المشاعر الداخلية لكورومازاكي وانجرافها إلى عاطفة رومانسية تنتهي بالشهوانية.
ومع الانتقال إلى كيوتو تأخذ شخصية المعلم الأفضلية ضمن حسابات السيدة كورومازاكي. وتتضح بأن ريوتا قد كسب إعجاب المرأة التي تريد إقناع تسوتومو بالتواري تاركا المكان للعشيق الجديد مؤقتا، مقابل مبلغ مالي خمسة آلاف ين، وهذا ما يذكره بما قرأه في رواية فرنسية عن شاب يحصل على 1500 فرنك، وتعليق المؤلف على موقف بطله بأن “باريس ملكه الآن بالكامل”.
يظهر ميشيما براعته في القفلة عندما تنتهي القصة بخيبة السيدة من عشيقها المؤقت وعودة تسوتومو إلى النزل وما شاهده من وضعية غير متوقعة بعد اختفاء ريوتا، لكن ذلك ليس كل شيء، بل العرض الذي يقدمه تسوتومو على كورومازاكي بأن يشتريها بالمبلغ الذي أعطته إياه، وترحيب المرأة بهذا الاقتراح، حركة تفجر الدهشة وفي الأخير يعلن الراوي أن كل ما سرده قد سمعه من تسوتومو الذي كان يؤكد أنه لا يفهم شيئا عن النساء.
لا تنقطع القصة الثانية التي عنوانها هو نفس العنوان الرئيسي عن الخط النفسي أيضا، إذ تقوم على ثيمة الفقد وما يتبعه من التغيير على الحياة والفراغ الذي يتركه الغياب. تخسر أسرة ماسارو ثلاثة أشخاص في حادث الغرق على شاطئ واقع بالقرب من جزيرة إيزو. مع تصاعد حرارة الشمس يحاول كل من كييو وشقيقته الصغيرة التغلب على السأم بملاعبة الماء على مرمى مراقبة العمة ياسويه، التي فضلت أن تمضي أيامها في مجالسة أبناء أخيها بعيدا عن القرية، ما يلبث طويلا حتى يشهد مسرح القصة حدثا عندما تأخذ الأمواج الطفلين وتلحق بهما ياسويه أملا بانتزاعهما من قبضة الموت، لكنها لا تنجح في المحاولة، وتنتهي حياتها مع الاثنين.
إذن تحل الكارثة والأم غائبة في الصورة، وما إن تخبر حتى تنفض عن كاهلها ثقل القيلولة قافزة لمرافقة المدير، وما تراه هو جثة هامدة لأخت زوجها مستلقية، ويسعى رجل عبثا لإعادة الأنفاس إليها. لا يشغلها للحظات سوى ياسويه وتركع بمحاذاتها منادية باسمها مستعيدة طيف ماسارو وما الذي يمكن أن تقوله لزوجها؟
ويشتد على توموكو وطأة الخطب حين تعرف بفقدان طفليها. لا تتقيد عدسة الراوي بمكان الحدث إنما تتحرك نحو موقع الأب حيث يعمل مديرا لشركة سيارات أميركية، كاشفة ارتداد الحدث على نفسيته وهو يتلقى برقية تبلغه بموت ياسويه وأن البحث مستمر للعثور على الطفلين المفقودين. وما يكون رد فعل ماسارو إلا الغضب، شعر كأنه تم الإعلان عن إقالته بدون سبب، يواصل الراوي متابعة شخصية الأب على امتداد المسافة الزمنية التي يستغرقها الوصول إلى الشاطئ. وبالطبع يستدعي السياق في مثل هذا الموقف الاهتمام بالمشاعر الداخلية للشخصية واختلاجاتها النفسية.
إن تلميح الراوي إلى ما هو عليه العالم الخارجي من شكله المعروف يوحي باغتراب الشخصية نفسيا عن محيطها. لذلك يهم مسارو بأن ينادي الركاب ويخبرهم بما وقع لعائلته المنكوبة. وما تقوله توموكو بأن غياب ثلاثة دفعة واحدة كثير لعائلة وقليل جدا للمجتمع يذكر برأي نجيب محفوظ بأن الموت على الصعيد الفردي عبث أما على المستوى المجتمعي ليس له تأثير. وما يخفف ثقل الذاكرة المفجوعة عن الأم هو استعداد الأسرة لاستقبال طفل جديد. بعد مرور عامين على الحدث الثقيل تطالب توموكو زوجها بزيارة الشاطئ الذي كان مسرحا للكارثة. ويصح أن يفهم ذلك بأنه نوع مما يسميه فيكتور فرانكل بالقصد العكسي أي أن يذهب المرء إلى الأماكن التي يخاف منها.
سحر البساطة
من خلال كل قصة يرصد الكاتب ظاهرة اجتماعية أو يضيء على موقف إنساني أو يزيل النقاب عن هواجس نفسية
لا يستمد النص القصصي عناصر الإثارة والتشويق من الغموض والتعقيد بل قوامه الإبداعي يتمثل في البساطة والاقتصاد اللغوي، ومن البداهات التي لا تتطلب التذكير بأن الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف هو من يعد رائدا للسرد الشفيف في كتابة القصة وبساطته في التعبير بمثابة توقيع في خطه الإبداعي، فالثيمات التي تنطلق منها قصصه تبدو للوهلة الأولى بسيطة، لكن في الحقيقة تضمر أبعادا متعددة، ويكسبها المنحى الإبداعي لونا جديدا.
على غرار مؤلف “الرهان” يحيك ميشيما قماشة قصة “اللؤلؤة” وهي تبدأ بصيغة تقريرية محددة للشخصيات والمناسبة التي تجمعها، إذ تستضيف السيدة ساساكي صديقاتها في عيد ميلادها، وكن جميعهن في الثالثة والأربعين، وتنتمي هؤلاء النسوة إلى جمعية “لا تعترف بعمرك”، حسب المعلومة التي يفيد بها الراوي. ومن الواضح أن ما يتوارد في بداية المادة القصصية يكون لها دور في تنظيم حركة الحدث إذ تنقل آلة السرد ما يشغل المضيفة من التفاصيل التي تدخل في تصميم البيئة الاحتفالية كما تقف العدسة السردية عند اللحظة التي تضع فيها السيدة ساساكي خاتما مزينا باللؤلؤ، قد يتوقع الملتقي بأن الغرض من وضع الحلية، ليس أبعد من الاستعراض، وهذا الرأي في محله غير أن لتلك الحركة مغزى آخر في بناء القصة.
تعم الأجواء الاحتفالية من إشعال وإطفاء شموع الكيك، ولا يتوانى الراوي عن القيام بوظيفته الإخبارية معلنا عن معاناة السيدة المضيفة من ضعف الرئتين، لذلك فإن عجزها المطلق في نفخ كل هذه الشموع يثير سلسلة من الضحك، والأهم أن السيدة ساساكي خلال تفحص الكعكة تسقط منها اللؤلؤة، وهي تتركها على حافة الطبق الكبير حتى لا ترتبك الضيفات. وبعد قطع الكعكة وتوزيعها على الصديقات تتفاجأ ساساكي بأن اللؤلؤة لم تعد في مكانها، هنا تتسع دوامة الشك للجميع، ويصبح ضياع اللؤلؤة هاجسا للمدعوات في الحفلة. تتدخل أزوما للتخفيف من حدة التوتر قائلة إنها ابتلعت اللؤلؤة مع الكيك. وفي الطريق تطالب أزوما صديقتها كاسوغا بالاعتراف بأنها ابتعلت اللؤلؤة وبذلك تتاشبك الحبكة وتعتبر كاسوغا كلام صديقتها اتهاما ظالما.
بموازاة ذلك تكتشف السيدة ماتسومورا اللؤلؤة في حقيبتها وهي في طريق العودة مع ياماموتو، كل ما أرادت أن تعمله هو التكتم على موقفها المحرج، لذلك تنزل من سيارة الأجرة تاركة الصديقة بمفردها. هنا تفتح زاوية الافتراض عن دور ياماموتو في نصب الفخ لماتسومورا، وبذلك يقفل حزام الشك على المشاركات في الحفلة.
يشار إلى أن الملمح النفسي له أولوية في تشكيلة القصة وتحيلك ثيمتها إلى ما كتبه تشيخوف بعنوان “وصمة” تتداخل في قصة “صبيحة الحب الطاهر” إشكاليات الزمن والحب والعنف. تستهل أجواؤها بنفس رومانسي مستعيدة ذلك الصباح الذي تبادل فيه ريوسوكي وزوجته قبلة رائعة. في الواقع يحاول المتن الحكائي البحث عن سر هذه اللحظة بعد عشرين عاما من الزواج. هل يمكن أن تستمر العاطفة بهذا العنفوان؟ وتقع في تلافيف القصة على العلاقة الكائنة بين الزمن وحاسة الشم إذ تتوقع ريكو بشكل حدسي تلك الأوقات التي ترغب فيها أن تشم عطرها المقدس الذي يطوي بالزمن عائدا به نحو عهد الصبا.
هذه الموجة الرومانسية هي جانب من القصة أما الجانب الآخر فيكون بصيغة الاستجواب للبطل المتورط في جريمة القتل. تستجلي القصة الأخيرة “من أعماق الوحدة” عن فضول القارئ ومسعاه الدوؤب لكشف وصفات المطبخ الإبداعي وتوسع مساحة عزلة القارئ والمبدع إذ يقول الراوي بضمير المتكلم “القراءة والكتابة نشاطان منفردان، لكن النص المطبوع يسمح لوحدة الكاتب بالانزلاق إلى قلب الآخر وهو مكان غامض لم أوجه نظرتي إليه بعد” والملاحظ في هذا النص أن يوكيو ميشيما يتخذ موضوعة الكتابة والهم الإبداعي مادة لقصته ولا يلخو ما يقدمه من بنية ميتا سردية. ما يجدر بالذكر في هذا الإطار أن مترجم إسكندر حبش قدم لهذه المجموعة بمفاتيح للأدب الياباني عموما ولعالم يوكيو ميشيما على وجه الخصوص.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
كه يلان محمد
كاتب عراقي