يوسف إدريس ليس خليفة تشيكوف الأوحد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • يوسف إدريس ليس خليفة تشيكوف الأوحد

    يوسف إدريس ليس خليفة تشيكوف الأوحد


    سامح الجباس: لم أطلق لقب "تشيكوف المصري" على أحد.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    النقد تجرد من الأهواء الشخصية

    تلعب شخصية الكاتب وموقعه دورا هاما في انتشاره قد يفوق أحيانا نصه، وإن كان هناك من الكتاب المميزين فإن ذلك لا يخفي بعض المغالطات والمبالغات التي رافقت تجاربهم، ودور النقد هنا هو أن يكشف الحقائق بموضوعية كما فعل الكاتب المصري سامح الجباس مع الكاتب يوسف إدريس. “العرب” كان لها معه هذا الحوار حول تلك القضية المثيرة للجدل.

    في الحياة الثقافية هناك دوما من يقذف حجرا ثم يهرب، فيكون ذلك في الأغلب دالا على هراء ما فعل، لكن هناك آخرين عندما يلقون أحجارهم يحركون المياه الراكدة، ثم يقفون بعدها ليواجهوا من يختلف معهم، بالعلم والحجة والمنطق.

    الأديب المصري سامح الجباس واحدٌ من هؤلاء الأخيرين، ألقى حجرا ثقيلا في بحيرة الثقافة والأدب بكتابه “الكشف عن تشيكوف المصري” الصادر حديثا عن دار المحرر للنشر في مصر، وحمل غلاف الكتاب صورتين، إحداهما للكاتب يوسف إدريس والثانية لكاتب آخر ربما لا يعرف كثيرون صورته هو الكاتب محمود البدوي.
    لماذا هذه الدراسة



    الكتاب جزء من مشروع عمل عليه الجباس منذ سنوات، هدفه إعادة قراءة الإبداع المصري بشكل جديد ومحايد


    يبدأ الكتاب في أول صفحة منه بطلقة رصاص، إذ يكتب الجباس تحت عنوان “لماذا هذه الدراسة” أن الأديب نجيب محفوظ كان أول من أطلق على محمود البدوي لقب “تشيكوف مصر” في حوار بصحيفة “القدس العربي” عدد 3 يناير 2004، وهو اللقب الذي نسبه يوسف إدريس إلى نفسه وساعده انطواء شخصية البدوي على تكريس ذلك، كما يقول مؤلف الكتاب سامح الجباس.

    ولا ينفي إدريس نفسه السعي إلى وراثة عرش أنطون تشيكوف، الأديب الروسي الكبير المتربع على مملكة القصة القصيرة، إنما يؤكده إذ يقول في حوار مع الناقد المصري غالي شكري ضمن كتابه “يوسف إدريس.. فرفور خارج السور” إنه يطمح في أن يكون الخليفة الأول وربما الأوحد لتشيكوف.

    أعادت “العرب” طرح السؤال على سامح الجباس مؤلف الكتاب، للتعرف على بدايات بذرة التفكير في ذلك بداخله، فيبدأ إجابته مستشهدا بمقولة يوسف إدريس قائلا “لعل أحسن من يتعرض لنقد القصص هو من يكتبها”.

    ويوضح أن الكتاب جزء من مشروع طموح يعمل عليه منذ سنوات، هدفه إعادة قراءة الإبداع المصري بشكل جديد ومحايد ومختلف خلال سبعين سنة، وسوف يضم المشروع كتبا أخرى قادمة تستكمله.

    ويحدد الجباس ما يقصده بأنه مشروع جديد، وهناك المئات من الدراسات الأدبية والنقدية التي سبقت دراسته قدمها الكثير من النقاد والكُتاب من أجيال مختلفة، لكنها كانت تقدم بـ”معايير نقدية في زمنها”، ورؤى تختلف باختلاف مناهج النقد، وهو مشروع محايد لأن معظم الكتابات النقدية التي أرخت للأدب المصري، خاصة منذ خمسينات القرن الماضي، كانت تنبني على أهواء سياسية أكثر منها نقدية، فكان نقاد اليسار الماركسي هم الأشهر، وبيدهم يمكن رفع أي كاتب إلى السماء أو إخفاء ذكره وتسخيف أعماله، أو على الأقل كان يتم تجاهله نقديا عن عمد.

    ويوضح الكاتب المصري أن الأمثلة على ذلك كثيرة، فقد اتفق نقاد اليسار مثلا على تجاهل إنتاج عبدالحميد جودة السحار بسبب كتاباته الدينية، وتجاهلوا محمود البدوي بسبب خجله وانطوائه وعدم انتمائه إلى أي منظمة يسارية، كما فعل يوسف إدريس.

    ويحسم الجباس بأن كتابه ببساطة يمثل فيه قول الشاعر والناقد الشهير ت إس إليوت “مجرد وضع حقائق أمام عين القارئ كان يمكن أن تفوته”.

    تغطي الدراسة النقدية في الكتاب فترة 48 عاما من إبداع الأديبين، يوسف إدريس (1927 – 1991) ومحمود البدوي (1908- 1986)، منذ أن بدأ البدوي نشر أولى إصداراته عام 1935، لافتة إلى أن إدريس كتب القصص القصيرة والروايات والمسرحيات والمقالات، أما البدوي فلم يكتب سوى القصص القصيرة، وظل مخلصا لهذا الفن حتى وفاته.

    ويلفت كتاب “الكشف عن تشيكوف المصري” إلى أن الطبعة الأولى من المجموعة القصصية “أرخص ليالي” ليوسف إدريس صدرت عن سلسلة “الكتاب الذهبي” التي كانت تصدرها مؤسسة روز اليوسف الصحافية، وكتب محرر السلسلة والمشرف عليها تعريفًا لافتًا وغريبًا عن إدريس جاء فيه أنه “تميزت قصصه بشيئين أساسيين، الأول: ابتعادها عن الرومانسية المعلقة والمشاكل المجردة وتأسيسها واقعية جديدة بسيطة. والثاني: ارتفاع أسلوبها عن مستوى لغة القواميس والمعاجم الميتة إلى مستوى لغة الشعب الحية المتطورة”.

    يعلق المؤلف سامح الجباس على ذلك في حواره مع “العرب” قائلا “في رأيي الشخصي أن في هذا التعريف تكريسًا لخلق مكانة خاصة ليوسف إدريس في القصة، على الرغم من أن هذه هي مجموعته القصصية الأولى، فهل كان هذا نوعًا من المجاملة؟ خاصة أن يوسف إدريس كان هو المشرف على تحرير باب القصة في مجلة روز اليوسف”.
    شخصية إدريس المسيطرة


    إعادة قراءة الإبداع المصري بشكل جديد ومحايد ومختلف خلال سبعين سنة، وسوف يضم المشروع كتبا أخرى قادمة تستكمله

    يبدو للقارئ لأول وهلة أن سامح الجباس وقف حاملا سلاح الكراهية في كتابه ضد يوسف إدريس، أو تحامل عليه، أو لعله يرى أنه نال فوق ما يستحق.

    وحول هذا المعنى تسأله “العرب” ليجيبنا بقوله “لا يمكن لأي كاتب ألا يحب يوسف إدريس، إنه أحد أساتذتي المفضلين من جيل الرواد، مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، لكن وضع دراسة أدبية أو نقدية يجب أن يتجرد من الأهواء الشخصية، وهذا للأسف أندر من العنقاء في الدراسات الأدبية العربية، لكنني أفكر بمنظور علمي، لذلك استخدمت في دراستي أهم أسس التفكير العلمي، واعتمدت على مفاهيم نقدية منها التحليل الاجتماعي للأدب والاستقراء والبنيوية والتجريد”.

    ويشرح الجباس مسالك الدرب الذي اتبعه في بحثه، وتمثلت أولا في التراكمية، بمعنى أن العلم معرفة تراكمية، والتراكم هو إضافة الجديد إلى القديم، وثانيا: التنظيم، ويعني أنه لا يجب أن نترك أفكارنا تسير حرة طليقة، إنما نرتبها بطريقة محددة وننظمها عن وعي، “يجب أن نتعود إخضاع تفكيرنا لإرادتنا الواعية، وتركيز عقولنا في الموضوع الذي نبحثه”.

    ويقول مؤلف الكتاب لـ”العرب”: “أعتقد أن يوسف إدريس نال ما يستحقه من مكانة، مع ملاحظة أن ثمة جزءًا من هذه المكانة كان يرجع إلى شخصيته الفارضة المسيطرة الهجومية، وتعمده أحيانا تهميش كتاب القصة الآخرين”.

    ولا يخشى سامح الجباس هجوم محبي يوسف إدريس عليه بعد كتابه إنما يقف مواجها بشجاعة، مستندا إلى أن الكتاب عمل موضوعي به دراسات متأنية وعميقة وجداول مقارنات علمية واضحة لا تحتاج إلى تأويل، فهو ليس موجها ضد أو مع شخص بعينه.

    ويضم الكتاب دراسة شاملة حول إبداع القصة القصيرة المصرية لأكثر من أربعين سنة، وتحليلا لقصص كتاب كبار آخرين منهم نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي ومحمد عبدالحليم عبدالله.

    ويؤكد الأديب المصري في دراسته أن قصص محمود البدوي كانت متفردة وسابقة لزمنها بشجاعة، إذ كان أول من كتب عن حياة عمال التراحيل في روايته القصيرة الأولى عام 1935 بعنوان “الرحيل” ليسبق بذلك يوسف إدريس الذي كتب في نفس الموضوع في روايته “الحرام”.

    الجباس يرى أن يوسف إدريس نال ما يستحقه من مكانة ملاحظا أن ثمة جزءا من هذه المكانة يرجع إلى شخصيته

    وتحت عنوان “إدريس يكتشف عمال التراحيل بعد فوات الأوان” يقول سامح الجباس “لقد سبق محمود البدوي بالكتابة عن عمال التراحيل والمآسي التي يتعرضون لها قبل أن ينشر يوسف إدريس روايته هذه بأربعة وعشرين عاما كاملة، وللأسف وقع الكثير من النقاد في خطأ فادح عندما أرخوا رواية ‘الحرام’ على أنها الرواية المصرية الأولى التي تناولت عالم عمال التراحيل في القرى المصرية”.

    ويلفت الكتاب في إطار الدراسة النقدية إلى أن بعض قصص يوسف إدريس ومحمود البدوي اتسمت بسذاجة الفكرة أو الضعف الفني، واختار الكاتب أن يقدم أدلة وتحليلا وقراءات واستنتاجات وملاحظات، دون الوصول إلى نتيجة أو نظرية أحادية واضحة حول الأحق بلقب “تشيكوف المصري”.

    ويقول الجباس لـ”العرب”: “قصدت ذلك عن عمد حتى لا أفرض وجهة نظري على القارئ، فذكرتُ إيجابيات وسلبيات بعض إبداعات كل من ناقشت أعمالهم من الكُتاب، وهذا أمر طبيعي ومحايد تماما، فالإبداع في تعريف الروائي الفرنسي أنطوان دو سانت أوكسبرى هو ربما خطوة ناقصة في رقصة ما أو خطأ في تحريك الأداة أثناء تشكيل الحجر”.

    وكتب محمود البدوي كمًّا من القصص يماثل تقريبا ثلاثة أضعاف ما كتبه يوسف إدريس، ولم يكتب سوى القصص القصيرة على عكس إدريس، لكن الكم في رأي المؤلف ليس المقياس بل الكيف، إذ أن تفاصيل وتكنيكات القصص وعوالمها وطزاجة أفكارها وشخصياتها هي الفيصل.

    وسامح الجباس طبيب وأديب، بدأ نشر كتاباته عام 2006 عندما أصدر مجموعته القصصية “المواطن المثالي”، ونالت روايته “حبل قديم وعقدة مشدودة” جائزة كتارا للرواية العربية، وله عدة أعمال لفتت الأنظار منها روايتا “رابطة كارهي سليم العشي” و”بوستة عزيز ضومط”.

    ويختتم حديثه لـ”العرب” قائلا: “لم أرجح في كتابي إطلاق لقب تشيكوف المصري على محمود البدوي، بل إن نجيب محفوظ هو من فعل ذلك، ومن يفهم أن الكتاب ينتقص من قدر هذا أو ذاك فعليه أن يعيد قراءته بتأن، لأنه مكتوب بحب واعتراف تلميذ بفضل أساتذته”.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    محمد شعير
    كاتب مصري
يعمل...
X