روائيتان إيطالية وإنجليزية تخلدان حبهما لمصر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • روائيتان إيطالية وإنجليزية تخلدان حبهما لمصر

    روائيتان إيطالية وإنجليزية تخلدان حبهما لمصر


    "حياة على النيل" و"أرض كليوباتره" روايتان توثقان تاريخا كاملا.
    الأحد 2024/11/03

    التاريخ المصري المعاصر من زوايا أخرى

    هناك الكثير من الرسامين والكتاب الغربيين الذين تركوا أعمالا مهمة عن الشرق، بعيدة عن التوجه الاستشراقي، مفعمة بنوع من المحبة والحيادية التي تؤرخ لفترات هامة من تاريخ الشرق وتكشف خفايا من جماله وطبيعة الحياة فيه، من بين تلك الأعمال ما كتب في حب مصر من قبَل كتاب وكاتبات دونوا تاريخ البلاد وأهلها.

    ليست مصر ولعا فرنسيا فحسب، ولكنها ولع أوروبي أيضا، فقد اتجه عشرات المبدعين الأوروبيين إلى الكتابة عن مصر، سواء عن تاريخها الفرعوني القديم، أو تاريخها المعاصر، مثل الفنلندي ميكا والتاري الذي كتب في عام 1945 رواية “سنوحي المصري”، وتُرجمت إلى معظم لغات العالم، والإنجليزي هنري رايد هاجارد في روايته “نجمة الصباح”، ترجمة الراحل مختار السويفي، وج. ك. رولينج في سلسلة رواياتها هاري بوتر التي لامست فيها التاريخ الفرعوني من خلال الحديث عن السحر والسحرة، وخاصة في الجزأين الثالث والرابع.

    أيضا هناك رواية “العناكب” لديارسي إدريان فلنس، وقبلها “رباعية الإسكندرية” للورانس داريل، ومذكرات فتاة سويسرية عاشت في الإسكندرية لصاحبتها استر تسيمر لي ـ هارتمان، ترجمة محمد أبورحمة وتقديم شوقي فهيم، وغيرها من الأعمال.

    غير أننا نتوقف عند روايتين تناولتا الحقبة التاريخية نفسها من تاريخ مصر المعاصر، وهي حقبة سعد زغلول، والروايتان هما “حياة على النيل” للكاتبة الإنجليزية جانيس إليوت، و”أرض كليوباتره” للكاتبة الإيطالية آني فيفانتي.
    حياة على النيل



    رواية شبه وثائقية إنسانية واجتماعية تختفي فيها صفة الرواية البوليسية على الرغم من وجود جريمة قتل


    صدرت رواية “حياة على النيل” شبه الوثائقية عن سلسلة روايات الهلال -العدد 549- للمؤلفة الإنجليزية جانيس إليوت وترجمة سيد جاد، وهي تعد سيمفونية أدبية في حب مصر والمصريين، خاصة بعد تبرئة مصر من تهمة اغتيال أو قتل إحدى الإنجليزيات العاشقات لمصر.

    لقد كتبت إليوت رائعتها بعين المحبة والسائحة المثقفة التي تعرف عن مصر الشيء الكثير، وكأنها عاشت سنوات وسنوات على ضفاف نهر النيل، درست خلالها عادات الشعب المصري وتقاليده وسلوكياته ومعتقداته وانفعالاته وظروفه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومواقفه من بعض الأحداث المحلية والعربية والدولية، وخاصة في القاهرة والصعيد وأسوان، بل إنها درست بدقة التاريخ المصري في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، وخاصة الفترة التي تولى فيها حزب الوفد وزعيمه سعد زغلول رئاسة الحكومة المصرية، وعرفت المشكلات السياسية التي أثيرت بخصوص وجود الإنجليز في مصر والسودان في تلك الفترة.

    ثم تنتقل الكاتبة لدراسة مصر الحالية ومشكلاتها في العقود الأخيرة، وخاصة مشكلة الإرهاب، وانعكاس ذلك على الفوج السياحي الذي انضمت إليه أثناء زيارتها لأرض الكنانة.

    وقد استطاعت الكاتبة أن تربط بنجاح -عن طريق عنصر التوازي- بين فترة الاضطرابات السياسية التي شهدتها مصر إبان ثورة 1919 والاضطرابات التي حدثت أثناء زمن كتابة الرواية، مثل أحداث الأمن المركزي وحوادث التفجير والاغتيالات والعنف والإرهاب، وما إلى ذلك، واعتمدت في ذلك على بعض الجوانب الوثائقية من خلال الخطابات والمذكرات التي كتبتها الجدة (فيبي) التي عاشت في أسوان في نهاية العقد الثاني وبداية العقد الثالث من القرن العشرين، ثم كان القتل أو الاغتيال السياسي من نصيبها، وهي في أوج شبابها وأمومتها المبكرة، الأمر الذي دفع الحفيدة (شارلوت) -بطلة الرواية- إلى البحث العميق في محاولة الكشف عن القاتل ومعرفة الأسباب والدوافع التي أدت إلى عملية القتل.

    لقد جاءت شارلوت مع زوجها ليو هامب إلى مصر سعيا وراء معرفة الدافع الذي دفع جدتها (فيبي) -منذ أول أيام عرسها- إلى بقائها وإصرارها وتمسكها بالعيش في مصر، على الرغم من المخاطر التي كانت تحيط بالجالية الإنجليزية في تلك الفترة وانتفاضة الشعب المصري بجميع فئاته وطوائفه للتخلص من الاستعمار الإنجليزي، وخصوصا عقب نفي سعد زغلول إلى جزيرة سيشيل، ثم محاولة معرفة كيف قُتلت الجدة ولماذا، ومن هم الذين كانوا وراء قتلها؟

    ومن هنا تأتي الرواية على مستويين: مستوى الزمن الحاضر، والذي تتحدث فيه شارلوت عن نظرتها كسائحة مثقفة تزور مصر ضمن الفوج السياحي الذي يبحر من القاهرة إلى أسوان على أحد الفنادق العائمة، مرورا بعدة مدن ومراكز وقرى مصرية، منها سوهاج وأسيوط والأقصر، وذلك على الرغم من حوادث الإرهاب التي انتشرت في مصر في سنوات الرحلة أو الزيارة، ومن خلال هذا المستوى تظهر عدة شخصيات ضمن الفوج السياحي تعطي نوعا من الزخم والثراء في الأحداث والانطباعات عن البلد الذي يزورونه أو يسيحون فيه، ويتضح من خلال الحوار وبعض الحوادث أن هؤلاء السياح لم تكن السياحة هدفهم الأول، وإنما هناك عوامل أخرى تجذبهم إلى مصر، فضلا عن أن هناك بعض الانطباعات السلبية يحملها بعض هذه الشخصيات عن مصر.



    أما عن شارلوت نفسها فقد جاءت لكشف غموض مقتل جدتها، لكنها لم تكن حانقة على البلد، ولا على أهله، فقد كان يخامرها شعور بأنه ربما لم يكن للمصريين دور في تلك الجريمة، لذلك نستطيع القول إن شعورها كان أقرب إلى الحيادية، وخاصة أمام بعض العبارات مثل: “ذلك النيل العجوز الذي يبعث على الملل” أو “أقول لك يا عزيزتي إن هؤلاء القدامى وهذا الهوس بهم، لم يكونوا إلا مجرد برابرة، تلك الضحية والإيمان بالخرافات والغازات المضغوطة والفساد، وإلا فما السبب في الغزوات المتتالية التي اجتاحتهم، أظن أنك سوف تركبين هذا النهر المريع ويلتوي عنقك من طول النظر إلى معابدهم المضحكة”.

    أما المستوى الثاني فهو مستوى الزمن الماضي الذي تستحضر فيه البطلة مذكرات وخطابات جدتها، وهو المستوى الوثائقي في الرواية حيث كتبت فيبي مجموعة من الخطابات لأمها وأختها في إنجلترا أثناء وجودها في عدة أماكن من مصر، مثل القاهرة وبور سعيد وأسوان وجزر الفنتين، وغيرها.

    تنجح الكاتبة في تضفير هذه المذكرات والخطابات التي أحضرتها شارلوت معها، مع أحداث الرواية في زمنها الحاضر أو مستواها الأول، حيث كانت تركن إلى هذه المذكرات والخطابات وقت الراحة والهدوء، بل إنها كانت تنسحب من بعض الحفلات والسهرات الصاخبة التي تعد للفوج السياحي سواء في الفنادق أو على ظهر الباخرة التي تشق عباب النيل، لتقرأ أو تعاود قراءة ودراسة بعض الخطابات والمذكرات التي تنكشف من خلالها مجموعة من الأسرار عن علاقة فيبي بمجموعة من المصريين الذين أحبتهم وارتاحت إليهم، بل شجعتهم على المطالبة بالاستقلال.


    “أرض كليوباتره” تنويعة أخرى على حب مصر تعقد الكاتبة خلالها الكثير من المقارنات بين رحلتها تلك ورحلاتها السابقة


    تقول فيبي في مذكرات ربيع 1919 هليوبوليس “إنني أكره وأحتقر معظم جماعة المفوضية -البولو والبريدج والحفلات- وعدني إليكس (زوجها) بأن أقابل بعض المصريين الحقيقيين. هذه البلاد متألقة، جميلة، تختلف عن أي شيء رأيته من قبل. من هنا أريد أن أعرفها. إنها واحة في الصحراء. كل شيء رائع. يقول .. إنني أفضل فارسة تزوجها في حياته .. ينبغي تعلم اللغة العربية، وأن أحصل على وصفة بابا غنوج، الباذنجان، كل شيء هنا يزدهر، أشجار البرتقال والنخيل، أولياندر” (ص 41).

    وتقول في خطاب إلى دوروثي في ديسمير 1921 “مصر التي أصبحت بالنسبة إلي وطنا آمل أن أعيش وأن أموت فيه” (ص 144). وتقول في مذكرات 6 مارس 1922 “إذا لم أهتم من أجل آل حازم، ومن أجل مصر، فلن أكون أنا نفسي، وربما لم نكن ليحب أحدنا الآخر كما نفعل” (ص 150). وتقول في مذكرات جزيرة الفنتين – سبتمبر 1923 “هذا هو الوطن حقا”، وتضيف في مكان آخر من هذه المذكرات “ليس معقولا أن أتصور أحدا في أسوان يُلحق بنا الأذى” (ص 152).

    وأحيانا يختلط الأمر على شارلوت فتنظر إلى مصر بعيني جدتها (فيبي) وذلك عندما تتشبع بجو المذكرات والخطابات فتتساءل (ص 74) “هل هاتان عيناي أم عيناها؟”. كما أنها تعقد مقارنة بين جريمة قتل جدتها ورواية أجاثا كريستي المعروفة “جريمة على النيل” التي تدور أحداثها فوق باخرة على النيل.

    ولئن كانت روايات أجاثا كريستي عرفت بأنها روايات بوليسية، فإننا في رواية جانيس إليوت أمام رواية شبه وثائقية إنسانية اجتماعية تختفي فيها صفة الرواية البوليسية على الرغم من وجود جريمة قتل يعود تاريخها إلى عام 1924 أي إلى أكثر من ثمانين عاما.

    ومع مضي الأيام من تجوال شارلوت في أسوان من أجل البحث عن الحقيقة، تعثر على بانسيه وهي عجوز إنجليزية عاشت في أسوان، وكانت على علاقة طيبة بجدتها فيبي وورد اسمها كثيرا في المذكرات أو الخطابات.

    تقول بانسيه عن فيبي “لقد أحبت مصر حبا جارفا أليس كذلك.. أما الطريقة التي ماتت بها فقد كانت رهيبة” (ص 155). وتسأل شارلوت بانسيه عن سبب عدم سفرها إلى إنجلترا ولو من أجل رؤية أهل فيبي، الأسرة؟ وتفاجئنا بانسيه بقولها “إن إنجلترا هي التي قتلتها”، وهنا تصل شارلوت إلى عمق الحقيقة، وأن الإنجليز هم الذين قتلوا جدتها، لأنها أحبت مصر، وساعدت المصريين على المطالبة بالاستقلال دون أن تعرف الحجم الحقيقي للدور الذي يمكن أن تؤديه في سبيل ذلك.

    لقد كان زوج فيبي مخبرا سريا، أو جاسوسا بريطانيا في مصر والسودان، وكان مُراقبا في الوقت نفسه. وقد رُصدتْ تحركات زوجته، وعلمت المفوضية البريطانية باتصال فيبي بالمصريين، وحاولوا إحداث الوقيعة بينها وبين زوجها، فأقنعوه بأنها على علاقة آثمة بأحمد آل حازم الذي اتهم بمقتل أحد المسؤولين الإنجليز الكبار في مصر، ثم تخلصوا بعد ذلك من فيبي باغتيالها.

    يقول جيوفري جيلكريست في خطاب إلى دانكان (ص 174) “مسكينة فيبي تلك المقابلات الأخيرة المختلسة مع آل حازم، جميعها مسجل في تقارير البوليس السري بالقاهرة. كانوا أصدقاء أُسيء اختيارهم، وكانت جريمة فيبي الوحيدة هي براءتها وجهلها بخطر مثل هذه الارتباطات”.

    لقد حصلت شارلوت من بانسيه على عدة خطابات ومذكرات في غاية الأهمية، اتضحت من خلالها صحة الاتهام الذي وجهته بانسيه إلى الإنجليز. تقول شارلوت (ص 177) “كان هناك خطاب أخير في مجموعة بانسيه كان موجها إلى إليكس، شيء رهيب.. لم يكن خطابا على وجه التحديد، كان أشبه بقصاصة لصق غفل من التوقيع، تتضمن إبلاغه أن يراقب زوجته مع أحمد حازم”.



    وتقتنع شارلوت في نهاية الأمر بأن الذين قتلوا جدتها هم أبناء جلدتها، وأن أحمد حازم كان يحبها، ولكن لم تكن هناك علاقة آثمة بينهما.

    وتؤكد شارلوت على حيادها تجاه مصر -على عكس جدتها- عندما تسألها إحدى صديقاتها في الرحلة السياحية بقولها “وهل أنتِ وقعتِ في حب هذه البلاد؟ تضحك وتجيب: أنا مجرد سائحة عابرة”.

    وتنتهي الرواية بتبرئة مصر والمصريين من تهمة قتل فيبي الإنجليزية التي أحبت مصر، وتمنت أن تموت فيها، ولكن بالتأكيد لم تكن تتمنى أن تموت بهذه الطريقة، وبيد أبناء جلدتها.

    إنها رحلة البحث عن الحقيقة التي اعتمدت فيها المؤلفة على الوصف والإثارة والاكتشاف من خلال السرد الشاعري والسرد التقريري والإخباري، ومن العبارات الشاعرية الجميلة قولها (ص 164) على لسان (فيبي) “أخذني إليكس (زوجها) في رقة كما لو كنت مصنوعة من قشر بيض، عبر النهر إلى البر الغربي”، ولعل لهذا السبب وصفت جريدة “التايمز” المؤلفة بأنها واحدة من أحسن الأديبات المعاصرات أسلوبا، وأخصبهن خيالا.

    أرض كليوباتره أتذهبين إلى مصر؟ ما أسعدك! هل يمكننا أن نحضر نحن أيضا؟

    هذه العبارة الذهبية هي مفتاح الرواية التاريخية السياحية، أو إن شئنا الدقة هذه الرواية التي تنتمي إلى أدب الرحلات “أرض كليوباتره” للكاتبة الإيطالية آني فيفانتي التي كتبتها عن مصر أثناء زيارتها لها في العشرينات من القرن العشرين، وترجمها طه فوزي، ونشرت لأول مرة في القاهرة عام 1927، ثم أعيد اكتشافها ونشرها مرة أخرى في سلسلة “ذاكرة الكتابة” التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، أثناء تولي الدكتور عبدالقادر القط رئاسة تحريرها.

    ما أحوجنا إلى ترجمة وإعادة نشر كل ما يكتب عن العرب والإسلام بطريقة حيادية إن لم تكن محبة

    الرواية تحمل كما كبيرا من الحب لمصر وأهلها وزعيمها الوطني في ذلك الوقت سعد زغلول، الذي تقول عنه الكاتبة في الفصل الخامس “صباح في القاهرة”: “فلأذهب إلى مينا هاوس لأستقصي أخبار الزعيم الوطني العظيم الذي كان حتى الأمس معبود الشعب المصري، ومثال العزة المصرية وعنوان فخار مصر، والذي يقع اليوم ضحية اتهام شنيع، فإن الإنجليز يرمونه بتهمة التحريض على قتل السردار البريطاني السير لي ستاك باشا، ولكن لا أحد يصدق هذه التهمة مطلقا، ولاسيما الذين يعرفون متانة أخلاق الزعيم النبيل زغلول الحديدية وعبقريته وبعد نظره”.

    إن “أرض كليوباتره” تنويعة أخرى على حب مصر، من خلال اثنين وعشرين فصلا، تعقد الكاتبة خلالها الكثير من المقارنات بين رحلتها تلك ورحلاتها السابقة، ففي الفصل الخامس عشر على سبيل المثال، وهو بعنوان “رحلة في جزيرة ميتة”، تقول “كان يخيل إلي أنني كنت سائحة سعيدة في العالم عندما كنت في باريس ومونت كارلو واستوكهولم ونيويورك على ثلوج ‘جانجفرو’ وتحت شلالات ‘نياجرا’، ولكن سرعان ما ثبتت لي حقارة ما رأيت من بواخر وقطارات وقوارب وزلاقات، وضآلتها أمام رحلة اليوم البديعة عندما دخلت ونفسي تملؤها الدهشة بقاربي في معبد فيلي منزلقة في المياه الهادئة العميقة بين الأعمدة ومتغلغلة في هيكل ‘عرس أوزيريس’ إله الأموات و’إيزيس’ كبيرة الساحرات”.

    وفي فصل بعنوان “مأتم الملكات” تقول الكاتبة الإيطالية “بأية معجزة أمكن للعبقرية الإنسانية أن تنجز هذه الأعمال الفنية العظيمة في هذا الظلام الدامس”.

    وفي فصل بعنوان “عبير شرقي” ترد على صديقتها فلورا التي أعلنت عن سأمها وضجرها من الرحلة قائلة “ولكن كيف يمكن أن يتضايق الإنسان في مصر يا فلورا؟”. وفي مكان آخر من الفصل نفسه تقول لها “كيف لم تغير مصر منك شيئا.. هل لم يترك فنها ولا عظمتها أي أثر في نفسك، وهل لم يؤثر فيك سحرها وجمالها؟”.

    وفي نهاية الرحلة، ونهاية الكتاب، توجه الكاتبة الإيطالية رسالة حب ختامية لمصر فتقول “بهذا الخيال، وفي هذه الأحلام أتركك يا مصر.. يا أرض السحر والبهجة والجمال. فكم تستطيعين أن تريني من الأعاجيب قبل أن تحملني مياه البحر الأبيض الزرقاء بعيدة عن جمالك الفتان؛ لا شيء في الوجود يمكن أن يعدل جمالك في هذه اللحظة هنا في ساعتك العظيمة الظافرة، وفي مكانك الأقدس. ويهب هواء صحراء فيمر فوق الرمال كأنه دمدمة أو كأنه صفيق أجنحة هائلة، ألا يمكن أن يكون روح الصحراء هو الذي يحييني؟ إيه يا مصر يا أرض الشعر يا أرض الانشراح. أستودعك الله يا مصر”.

    بهذه الكلمات التي تشبه الحلم والشعر، تودع آني فيفانتي أرض مصر التي عاشت فيها أسعد لحظات حياتها، وقابلت خلالها الزعيم سعد زغلول الذي عرفتْ قدره العظيم عند عامة الشعب المصري خلال تنقلاتها بين القاهرة والأقصر وكوم امبو وأسوان والشلال. وهي خلال تنقلاتها تلك تدون العديد من الملاحظات الذكية في ما يتعلق بعادات المصريين وتقاليدهم وطرائق حياتهم في الكثير من مدن الصعيد، وهم يتصفون في كل الأحوال بالأمانة والكرم والذكاء والأصالة، نعم هم يبحثون عن لقمة العيش، ومعظمهم يحصل على أجره مقابل الخدمات التي يؤديها أو يبيعها للسياح، ولكنهم في جميع الأحوال لا يتخلون عن الأمانة والشرف.

    جاء نشر وإعادة نشر الروايتين "حياة على النيل" و"أرض كليوباتره" في وقتهما تماما، حيث تتعرض البلاد العربية والإسلامية الآن لهجمة شرسة، تحاول أن تلصق تهمة الإرهاب بوجه العروبة والإسلام
    طريقة حيادية


    كنتُ أظن في البداية أن الكتاب يتحدث عن رحلة إلى الإسكندرية، باعتبارها أرض كليوباتره، أو باعتبارها المدينة التي عاشت فيها الملكة كليوباتره السابعة (69 – 30 ق.م) سنوات توليها عرش مصر، وحتى انتحارها عقب موقعة أكتيوم البحرية مع أوكتافيو أغسطس. ولكن تجاوزت الكاتبة الإيطالية هذا وتحدثت عن أرض مصر ككل، بل إنها لم تتحدث عن الإسكندرية إلا باعتبارها ميناء مصر الذي سترسو عليه الباخرة التي تنقلها من بلادها.

    تقول “الإسكندرية. يا للضوضاء والجلبة. ها هم جماعة من الشياطين والمردة السود بعمائمهم وقمصانهم الفضفاضة ينقضون على الباخرة” (تقصد عمال الميناء). ومن ميناء الإسكندرية تتجه مباشرة إلى القطار الذي سينقلها إلى القاهرة، وهي تتنفس الصعداء عندما تجد كل أمتعتها معها بالقطار، فتشيد بأمانة المصريين. تقول “كيف نجحتُ أخيرا في العثور على حاجياتي كلها. كنت أعتقد بأمانة العرب، أمانة في نظري ليس فيها أي شك، فأيقنت إذ ذاك أن ثقتي هذه كانت في محلها”.

    وتفسير عدم حديث الكاتبة عن الإسكندرية -من وجهة نظري- يرجع إلى أن الإسكندرية لا تهم الكاتبة في شيء، فالإسكندرية من وجهة نظرها أقرب إلى المدن الإيطالية المزدحمة التي تقع على حوض البحر المتوسط. ولكن ما يهمها في مصر أثناء هذه الرحلة التعرف إلى صحرائها ورمالها وتاريخها وآثارها ومعابدها، أو التعرف على مصر من داخلها، من قلب صحرائها ومجرى نيلها والحياة على هذا الوادي العريق. لذلك جاء الحديث عن الإسكندرية حديثا عابرا في هذه الرواية. ويبدو أن شهرة اسم كليوباتره -عالميا وتاريخيا- جعل الكاتبة تتخذ منه عنوان روايتها “أرض كليوباتره”.

    وفي الواقع فقد جاء نشر وإعادة نشر الروايتين “حياة على النيل” و”أرض كليوباتره” في وقتهما تماما، حيث تتعرض البلاد العربية والإسلامية الآن لهجمة شرسة، تحاول أن تلصق تهمة الإرهاب بوجه العروبة والإسلام. لذلك ما أحوجنا إلى ترجمة وإعادة نشر كل ما يكتب عن العرب والإسلام، بطريقة حيادية، إن لم تكن محبة، كما رأينا عند كل من الكاتبة الإيطالية آني فيفانتي، والكاتبة الإنجليزية جانيس إليوت، وغيرهما.


    أحمد فضل شبلول
    كاتب مصري
يعمل...
X