ليام باين.. بصمة لا تمحى في قلوب الملايين ومسامعهم
أعمال ليام باين الموسيقية ضمن فرقة "ون دايركشن" أثرت في طفولة ومراهقة وشباب الملايين حول العالم.
الأحد 2024/10/27
فنان أحدث رحيله صدمة
في مشهد قد أعهده للمرة الأولى في حياتي، أو على الأقل في سياق رحيل “المشاهير” عن العالم، يخيم الحزن بشكل هائل على الملايين حول العالم، من مختلف الأجناس والأعراق والدول، بعد الفاجعة التي هزت قلوبنا جميعا الأربعاء الماضي، وفاة ليام باين، الإنسان بالطبع، قبل أن يكون الفنان، ونجم الفرقة العالمية “ون دايركشن”، التي تألقت في عصر أبناء جيلي “Gen Z” وولع بها الكثير من أبناء ما قبل هذا الجيل وما بعده.
تلك الفرقة التي حظيت بشهرة عالمية كاسحة وتميّز غير مسبوق خلال السنوات الأولى من ثاني عقود الألفية الثالثة، وأسرت قلوب الملايين من المعجبين بفنها وإبداعها وأغانيها التي تفوح منها المعاني والإلهام والحب والحياة، وتستقر في الأذهان بصورة استثنائية كصدى بهيّ يروي القصص التي لا تقال كثيرا، والسطور التي تأخذك إلى عالم لا يشبه عالمنا، والموسيقى التي لا نسمعها كثيرا.
رحل ليام باين، رمز من رموز “ون دايركشن”، وفنان لا يتكرر كثيرا بصوته الساحر وحضوره المتألق، وتتجلى تلك الحقيقة في بدء مسيرته الفنية منذ سن صغيرة لا تتجاوز السادسة عشرة، وقد صعقتنا أخبار وفاته بطريقة لا نشعر بها غالبا تجاه المشاهير، خاصة وأن سبب الوفاة ليس بالأمر الهيّن إذ جاء إثر سقوطه من شرفة غرفة في الطابق الثالث في فندق في الأرجنتين، وهو ما أضاف إلى الحزن الذي بداخلنا أضعافا من الأسى والفجيعة، بل ووفاته في سن صغيرة، 31 عاما، أضاف المزيد والمزيد إلى ما نشعر به، وكل ذلك جعلنا في حالة من عدم اليقين حول ما جرى، وأمسينا بذلك في كابوس ننتظر انتهائه.
◄ جميع الأحكام التي يطلقها الناس باطلة، فما معنى أصلا أن يكون الشخص سيئًا عندما تنعته بذلك؟ أم أنه سيء بالنسبة إلى تركيبتك وطبيعتك؟ ما معنى أن يكون الشخص جيدا؟ هل هو جيد بالفعل؟
أذكر أنه في أيام المدرسة الإعدادية كان اسم “ون دايركشن” لا ينفك يُلقى على مسامعنا على مدار اليوم الدراسي، وحتى في جميع المناقشات والتجمعات والمناسبات التي نرتادها في هذا العمر، وفي الواقع لم أكن من معجبي الفرقة آنذاك، إلا أنني كنت أعرفها جيدا، فقد كانت حديث الساعة وقتها بين زملائي في الصف الدراسي وشغلهم الشاغل، وكنّا دائما ما نسمع أغاني الفرقة في حافلة المدرسة والرحلات المدرسية وغيرها، لذا فقد ارتبط اسم الفرقة وكل ركن من أركانها، أي أعضاؤها الخمسة، بطفولة ومراهقة وشباب الملايين حول العالم، فلا غلو إذا في هول ردود الأفعال والصدمة التي شهدها العالم خلال الأسبوع الأخير، ومازال يشهدها، في أعقاب خبر وفاة ليام باين، بل وإقامة الآلاف حول العالم لوقفات تأبينية ومسيرات نعي في عدة مواقع بارزة وعند السفارات البريطانية في عدة دول.
وعلّني أستغرب من نفسي وأنا أكتب هذه الكلمات، فلطالما كنت من أشد معارضي المغالاة في التأثر بموت المشاهير، لأننا لا نعرفهم شخصيا، وأنتقد هؤلاء المصابين بـ”متلازمة عبادة المشاهير” (Celebrity Worship Syndrome) أو (Celebrity Obsession Disorder)، الذين يهتمون بالمشاهير بشكل مفرط إلى درجة أن متابعة أخبارهم وتفاصيل حياتهم الشخصية تتحول إلى إدمان أو نوع من الوسواس القهري، ولطالما كرهت أولئك الذين يهدرون طاقتهم ووقتهم في ملاحقة أوهام وأشخاص لا يعرفون بوجوده أصلا.
وفي الواقع لا أزال كذلك، لكن الوضع يختلف عندما يكون الشيء الذي تحزن لأجله هو “الأثر” الذي تركه ذاك الشخص وليس لمعرفتك التامة به، حينها تكون الغصة العالقة في حلقك والحزن الذي يغلف شرايينك ما هو إلا لحبك لما تركه داخلك هذا المشهور من أثر إيجابي وذكريات سعيدة وعالم صغير تلجأ إليه وقتما تستدعي الحاجة، بغض النظر عن كونه شخصا جيدا أم لا، فدورنا في الحياة ليس محاكمة الناس على أفعالهم ككل وتصنيفهم لرفع شأنهم أو وصمهم، وإنما استحسان أو بغض كل فعل يقوم به المرء على حدة، وبحسب مدى الضرر ونطاق تأثيره على الآخرين.
◄ رحل ليام باين، رمز من رموز “ون دايركشن”، وفنان لا يتكرر كثيرا بصوته الساحر وحضوره المتألق، وتتجلى تلك الحقيقة في بدء مسيرته الفنية منذ سن صغيرة لا تتجاوز السادسة عشرة
إلا أن الحكم على الآخرين، سواء المقربين منّا أم الغرباء، أصبح عند الكثيرين مرتبطا بعناصر محددة، هم من يحددونها فقط، فإن توفَّرت فهذا الشخص من الناجين، وإن لم تتوفر أصبح مع الهالكين، فعلى سبيل المثال تقدير واحترام الناس أصبح محصورا لدى البعض في مجموعة من المظاهر أو العبادات أو العادات، وتناسوا بأن الكرم والأخلاق والتبسّم في وجه الناس والصدقة والإتقان في العمل وبر الوالدين ورفض الرشوة ومنع الأذى والصدق كلها من المحاسن التي تستحق الاحترام والتقدير والتي قد لا نراها.
لا أدّعي النباهة في علم الاجتماع أو السفسطة في غيره من العلوم، لكن ليس من المنطق في شيء أن تحكم على إنسان ما بأنه كسول وخامل في عمله، على سبيل المثال، وأنت لا تدري ما الذي دفع به إلى التكاسل أو الخمول وعدم الإنتاجية، وهناك الكثير من النماذج في الحياة التي يتسرع الكثير من الناس في الحكم عليها قبل أن يتفهموا الأمر من كافة جوانبه.
وباعتبار أن الحكم يجب أن يصدر بعد “تفهّم كافة الجوانب”، فهذا من المستحيل أن ينطبق وفقا لطبيعة ومحدودية استشراف الغموض بيننا كبشر، فكيف بإمكانك أن تتفهم ظروف وحالة إنسان بالكامل مهما كان مقربًا منك؟ وبأخذ ذلك في عين الاعتبار، فإن جميع الأحكام التي يطلقها الناس باطلة، فما معنى أصلا أن يكون الشخص سيئًا عندما تنعته بذلك؟ أم أنه سيء بالنسبة إلى تركيبتك وطبيعتك؟ ما معنى أن يكون الشخص جيدا؟ هل هو جيد بالفعل؟ أم أنه يناسبك ويحقق مصالحك وراحتك الذاتية وقبولك النفسي؟
أخذني السياق واندفعت بالحديث أكثر من اللازم، لكن كل ما أردت قوله في هذا المقال هو، إلى اللقاء ليام، والأصح هنا هو قول “وداعا” بما أن رحيله عن الدنيا أبديّ، لكني قلت “إلى اللقاء” ليس لأني أكره الوداع وما شابه، لكن لأننا نلقاك بالفعل كل يومي ليام، وكل لحظة، نراك ونسمعك في كل جزء تركته ضمن إرثك الثري الغني بالأعمال الفنية المميزة، والذي سيبقى خالدا في قلوبنا، وسيستمر أثره في بث الحياة والبهجة فينا.
رحمة العطار
كاتبة وناشطة في حقوق الإنسان
أعمال ليام باين الموسيقية ضمن فرقة "ون دايركشن" أثرت في طفولة ومراهقة وشباب الملايين حول العالم.
الأحد 2024/10/27
فنان أحدث رحيله صدمة
في مشهد قد أعهده للمرة الأولى في حياتي، أو على الأقل في سياق رحيل “المشاهير” عن العالم، يخيم الحزن بشكل هائل على الملايين حول العالم، من مختلف الأجناس والأعراق والدول، بعد الفاجعة التي هزت قلوبنا جميعا الأربعاء الماضي، وفاة ليام باين، الإنسان بالطبع، قبل أن يكون الفنان، ونجم الفرقة العالمية “ون دايركشن”، التي تألقت في عصر أبناء جيلي “Gen Z” وولع بها الكثير من أبناء ما قبل هذا الجيل وما بعده.
تلك الفرقة التي حظيت بشهرة عالمية كاسحة وتميّز غير مسبوق خلال السنوات الأولى من ثاني عقود الألفية الثالثة، وأسرت قلوب الملايين من المعجبين بفنها وإبداعها وأغانيها التي تفوح منها المعاني والإلهام والحب والحياة، وتستقر في الأذهان بصورة استثنائية كصدى بهيّ يروي القصص التي لا تقال كثيرا، والسطور التي تأخذك إلى عالم لا يشبه عالمنا، والموسيقى التي لا نسمعها كثيرا.
رحل ليام باين، رمز من رموز “ون دايركشن”، وفنان لا يتكرر كثيرا بصوته الساحر وحضوره المتألق، وتتجلى تلك الحقيقة في بدء مسيرته الفنية منذ سن صغيرة لا تتجاوز السادسة عشرة، وقد صعقتنا أخبار وفاته بطريقة لا نشعر بها غالبا تجاه المشاهير، خاصة وأن سبب الوفاة ليس بالأمر الهيّن إذ جاء إثر سقوطه من شرفة غرفة في الطابق الثالث في فندق في الأرجنتين، وهو ما أضاف إلى الحزن الذي بداخلنا أضعافا من الأسى والفجيعة، بل ووفاته في سن صغيرة، 31 عاما، أضاف المزيد والمزيد إلى ما نشعر به، وكل ذلك جعلنا في حالة من عدم اليقين حول ما جرى، وأمسينا بذلك في كابوس ننتظر انتهائه.
◄ جميع الأحكام التي يطلقها الناس باطلة، فما معنى أصلا أن يكون الشخص سيئًا عندما تنعته بذلك؟ أم أنه سيء بالنسبة إلى تركيبتك وطبيعتك؟ ما معنى أن يكون الشخص جيدا؟ هل هو جيد بالفعل؟
أذكر أنه في أيام المدرسة الإعدادية كان اسم “ون دايركشن” لا ينفك يُلقى على مسامعنا على مدار اليوم الدراسي، وحتى في جميع المناقشات والتجمعات والمناسبات التي نرتادها في هذا العمر، وفي الواقع لم أكن من معجبي الفرقة آنذاك، إلا أنني كنت أعرفها جيدا، فقد كانت حديث الساعة وقتها بين زملائي في الصف الدراسي وشغلهم الشاغل، وكنّا دائما ما نسمع أغاني الفرقة في حافلة المدرسة والرحلات المدرسية وغيرها، لذا فقد ارتبط اسم الفرقة وكل ركن من أركانها، أي أعضاؤها الخمسة، بطفولة ومراهقة وشباب الملايين حول العالم، فلا غلو إذا في هول ردود الأفعال والصدمة التي شهدها العالم خلال الأسبوع الأخير، ومازال يشهدها، في أعقاب خبر وفاة ليام باين، بل وإقامة الآلاف حول العالم لوقفات تأبينية ومسيرات نعي في عدة مواقع بارزة وعند السفارات البريطانية في عدة دول.
وعلّني أستغرب من نفسي وأنا أكتب هذه الكلمات، فلطالما كنت من أشد معارضي المغالاة في التأثر بموت المشاهير، لأننا لا نعرفهم شخصيا، وأنتقد هؤلاء المصابين بـ”متلازمة عبادة المشاهير” (Celebrity Worship Syndrome) أو (Celebrity Obsession Disorder)، الذين يهتمون بالمشاهير بشكل مفرط إلى درجة أن متابعة أخبارهم وتفاصيل حياتهم الشخصية تتحول إلى إدمان أو نوع من الوسواس القهري، ولطالما كرهت أولئك الذين يهدرون طاقتهم ووقتهم في ملاحقة أوهام وأشخاص لا يعرفون بوجوده أصلا.
وفي الواقع لا أزال كذلك، لكن الوضع يختلف عندما يكون الشيء الذي تحزن لأجله هو “الأثر” الذي تركه ذاك الشخص وليس لمعرفتك التامة به، حينها تكون الغصة العالقة في حلقك والحزن الذي يغلف شرايينك ما هو إلا لحبك لما تركه داخلك هذا المشهور من أثر إيجابي وذكريات سعيدة وعالم صغير تلجأ إليه وقتما تستدعي الحاجة، بغض النظر عن كونه شخصا جيدا أم لا، فدورنا في الحياة ليس محاكمة الناس على أفعالهم ككل وتصنيفهم لرفع شأنهم أو وصمهم، وإنما استحسان أو بغض كل فعل يقوم به المرء على حدة، وبحسب مدى الضرر ونطاق تأثيره على الآخرين.
◄ رحل ليام باين، رمز من رموز “ون دايركشن”، وفنان لا يتكرر كثيرا بصوته الساحر وحضوره المتألق، وتتجلى تلك الحقيقة في بدء مسيرته الفنية منذ سن صغيرة لا تتجاوز السادسة عشرة
إلا أن الحكم على الآخرين، سواء المقربين منّا أم الغرباء، أصبح عند الكثيرين مرتبطا بعناصر محددة، هم من يحددونها فقط، فإن توفَّرت فهذا الشخص من الناجين، وإن لم تتوفر أصبح مع الهالكين، فعلى سبيل المثال تقدير واحترام الناس أصبح محصورا لدى البعض في مجموعة من المظاهر أو العبادات أو العادات، وتناسوا بأن الكرم والأخلاق والتبسّم في وجه الناس والصدقة والإتقان في العمل وبر الوالدين ورفض الرشوة ومنع الأذى والصدق كلها من المحاسن التي تستحق الاحترام والتقدير والتي قد لا نراها.
لا أدّعي النباهة في علم الاجتماع أو السفسطة في غيره من العلوم، لكن ليس من المنطق في شيء أن تحكم على إنسان ما بأنه كسول وخامل في عمله، على سبيل المثال، وأنت لا تدري ما الذي دفع به إلى التكاسل أو الخمول وعدم الإنتاجية، وهناك الكثير من النماذج في الحياة التي يتسرع الكثير من الناس في الحكم عليها قبل أن يتفهموا الأمر من كافة جوانبه.
وباعتبار أن الحكم يجب أن يصدر بعد “تفهّم كافة الجوانب”، فهذا من المستحيل أن ينطبق وفقا لطبيعة ومحدودية استشراف الغموض بيننا كبشر، فكيف بإمكانك أن تتفهم ظروف وحالة إنسان بالكامل مهما كان مقربًا منك؟ وبأخذ ذلك في عين الاعتبار، فإن جميع الأحكام التي يطلقها الناس باطلة، فما معنى أصلا أن يكون الشخص سيئًا عندما تنعته بذلك؟ أم أنه سيء بالنسبة إلى تركيبتك وطبيعتك؟ ما معنى أن يكون الشخص جيدا؟ هل هو جيد بالفعل؟ أم أنه يناسبك ويحقق مصالحك وراحتك الذاتية وقبولك النفسي؟
أخذني السياق واندفعت بالحديث أكثر من اللازم، لكن كل ما أردت قوله في هذا المقال هو، إلى اللقاء ليام، والأصح هنا هو قول “وداعا” بما أن رحيله عن الدنيا أبديّ، لكني قلت “إلى اللقاء” ليس لأني أكره الوداع وما شابه، لكن لأننا نلقاك بالفعل كل يومي ليام، وكل لحظة، نراك ونسمعك في كل جزء تركته ضمن إرثك الثري الغني بالأعمال الفنية المميزة، والذي سيبقى خالدا في قلوبنا، وسيستمر أثره في بث الحياة والبهجة فينا.
رحمة العطار
كاتبة وناشطة في حقوق الإنسان