الناقدة فاطمة الصعيدي لـ"العرب": يصعب التكهن بشكل الأدب مستقبلا
الحروب المتلفزة أماتت الخيال والمدرسة الواقعية فرضت نفسها.
الاثنين 2024/10/28
ShareWhatsAppTwitterFacebook
الدراما المثقفة قادرة على تغيير لغة الحياة والارتقاء بها
لا تستبعد الناقدة المصرية فاطمة الصعيدي في حوارها مع "العرب" ظهور جنس أدبي جديد، فالأدب لا يعيش بمعزل عن تغيرات السياسة والاقتصاد والجغرافيا، فضلا عن حضور ضيف جديد سيؤثر تأثيرًا جذريًا هو الذكاء الاصطناعي. وتعتبر أن مصطلح الأدب النسوي جاء في إطار التفكيك وضرب الاستقرار، والجدل حول أيهما جاء من باب حرائق الكلام الشعر أم الرواية.
القاهرة - بين آن وآخر، يشهد الواقع الثقافي معارك ضارية، بين المنتمين إلى تيارات الأدب ومدارسه، وبين صنوف الكتابة الأدبية؛ شعرا ونثرا، قصة قصيرة ورواية، وبين الأدباء والنقاد أيضا، في وقت تضطرم فيه حروب مستعرة، تشعل العالم وتحرقه، فتتباين الآراء حول طبيعة الأدب الأجدر بالتعبير عن الأزمة، مع أن الأصل في الكتابة هو الحرية. وسعيا إلى فك الاشتباك الجاري، ورفع الالتباس المهيمن على الكثير من معارك الأدب، لا نملك سوى الإنصات إلى الأصوات العاقلة.
الناقدة الأدبية المصرية، الأكاديمية فاطمة الصعيدي، أستاذ اللغويات ورئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة حلوان بجنوب مصر، شخصية هادئة وصوت رصين، تشتبك مع واقع الأدب ومشكلاته من قرب، بعقل وحكمة، دون الاشتراك في معارك الفراغ التي كثيرا ما تفرض نفسها، لكنها في هذا الحوار لـ”العرب” لا تخفي مخاوفها وقلقها بشأن تأثير التطورات الجارية في العالم على واقع الأدب ومستقبله.
بالإضافة إلى دراساتها النقدية المتعددة، نشرت فاطمة الصعيدي عملين إبداعيين هما رواية “الحفيدة الأولى” والمجموعة القصصية “تاء التأنيث الساكنة”، وبرغم ذلك فهي لا تعترف بـ”الأدب النِسْوي” ولا تؤمن بالتصنيف على أساس جنس الكاتب (الجندر)، وتحتار كثيرًا عندما تسمع هذا المصطلح؛ هل المقصود به ما تكتبه النساء أم أنه الأدب الذي يعالج مشاكل المرأة وما تتعرض له، فالكاتب إنسان سواء أكان رجلًا أو امرأة.
التفكيك وزرع الفتن
◙ مصطلح "الأدب النِسْوي" جاء في سياق التفكيك
تؤكد فاطمة الصعيدي عندما نتصدى لمعالجة موقف ننظر إليه كوننا بشرًا، وأن مصطلح “الأدب النِسْوي” جاء في سياق التفكيك، وأننا نشهد منذ فترة ظاهرة التفكيك، ما تجلى في تفتيت الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، والدعوة إلى التشرذم ومغازلة الأقليات والسعي إلى زرع الفتن. وتشير لـ”العرب” إلى أن هذه التصنيفات تضرب الاستقرار المتمثل في علاقة الرجل والمرأة، خصوصًا في مجتمعاتنا الشرقية، وأن التيارات الأدبية مثل دوامات الماء، فعندما نلقي حجرًا يتحرك الماء في دوائر صغيرة تتسع فتأخذ دوائر أكثر رحابة، ثم ما تلبث أن تفتر وتَسْكُن.
بنفس المنطق، تنظر الناقدة فاطمة الصعيدي إلى جدل الشعر أم الرواية، وأيهما الأحق بأن يكون “ديوان العرب” والتراشق بين الشعراء والروائيين بعد مقولة “زمن الرواية” للناقد الراحل الأكاديمي جابر عصفور، فتعتبر أن الجدل الذي يثار من وقت لآخر في هذا الصدد هو من باب حرائق الكلام التي لا تسفر إلا عن مزيد من التفتيت بين أنصار هذا أو تلك.
وتفكك الخيوط المتداخلة في المسألة من خلال العودة بهدوء وحكمة إلى مسار التاريخ فيها دون تحيز أو انفعال، فترى أن لكل عصر نوعه الأدبي الذي يفرض نفسه، فالأدب العربي في العصر الجاهلي تجلت بلاغته في الشعر المتمثل في المعلقات وغيرها من عيون الشعر العربي.
وتقول “لعلنا نجد الأصفهاني في موسوعته ‘الأغاني‘ قد أرخ للحضارة العربية عبر أصواتها الشعرية، ففي وقت الأصفهاني وما سبقه كان الشعر ديوان العرب. وفي صدر الإسلام تصدرت الخطبة لكونها مرتبطة بالشعائر الدينية، ثم وجدنا تجليًا لحضور فن المقال بعد ظهور الصحافة. والآن وما قبل الآن ظهر مصطلح عصر الرواية، ثم الرواية الرقمية التفاعلية ثم القصة القصيرة جدًا إضافة للأوعية الجديدة التي فرضتها التطبيقات الحديثة مثل البوست (المنشور) والمدونة والتغريدة وغيرها من المصطلحات”.
وفي رأي الصعيدي، الظروف الراهنة قد تسفر إلى الرجوع إلى الشعر مرة أخرى؛ لأن الإنسان يحتاج أن يعود إلى نفسه متخلصًا من هذه الضوضاء التي تحيطه من كل جانب.
◙ الصعيدي لا ترفض أو تعترض بوضوح على الاتجاهات الحداثية في الكتابة التي قد تغيب فيها الحكاية أو تتفتت أو تميل إلى الغرائبية
ولا تستبعد أن يكون هناك جنس أدبي يجمع بين الشعر والنثر في تكوين جديد، فالأدب لا يعيش بمعزل عما يحدث من تغيرات في السياسة والاقتصاد والجغرافيا والتاريخ، فضلا عن حضور ضيف جديد سيؤثر تأثيرًا جذريًا هو الذكاء الاصطناعي، ولا يمكن التكهن بما سيحدث في ظل هذه التطورات التي جعلت العالم يقف على حافة الهاوية.
في عمليها الإبداعيين، لعبتْ الحكاية دور البطولة عند فاطمة الصعيدي، إذ تدور رواية “الحفيدة الأولى” في فضاء السيرة الذاتية، وترصد بأسلوب شيق ولغة سردية جاذبة العلاقة الحميمة بين الجدة والحفيدة الأولى، لتتعرض للقضايا الإنسانية التي يفرزها إيقاع الحياة الريفية، بينما حمل غلاف مجموعتها القصصية “تاء التأنيث الساكنة” عنوانا قصيرا إضافيا يكشف بوضوح عن توجهها، هو “حكايات صغيرة”، وأهدتها “إلى هؤلاء الذين عاشوا في حياتي، فأشعلوها حكايات لا تنتهي.. باقية.. حاضرة.. مهما مرت السنون.. ستبقى أطيافهم أحلامًا خضراء وواحات ظليلة”.
ومع ذلك فهي لا ترفض أو تعترض بوضوح على الاتجاهات الحداثية في الكتابة التي قد تغيب فيها الحكاية أو تتفتت أو تميل إلى الغرائبية، مثل كتابات تيار الوعي والواقعية السحرية، إنما تحلل المسألة بهدوء كعهدها.
تقول في حديثها لـ”العرب” إن فعل الكتابة أمر يختاره الكاتب، يسعى إليه لتقديم وجهة نظره، فالكاتب يختار الطريقة المناسبة لإدراك ما يرجو، يختار القالب السردي: رواية، قصة قصيرة، مسرحية. ثم يختار طريقة السرد بضمير المتكلم أو الغائب. أو عن طريق المذكرات. ويختار الطريقة التي يقدم بها شخصياته وعالمه الإبداعي.
التأثير والتأثر
◙ الصعيدي ترى أن في العالم تيارات متعددة، ولابد من التأثير والتأثر، والتأثر ليس معناه النقل والتقليد
ترى الصعيدي أن في العالم تيارات متعددة، ولابد من التأثير والتأثر، والتأثر ليس معناه النقل والتقليد، لكن معناه ثراء العوالم الروائية بأجواء مختلفة، بحيث يتم تقديمها دون أن نشعر أن هذه العوالم لا تمثلنا، مثل دبلجة المسلسلات، فالشخصيات والأحداث لا يمكن أن ننتمي إليها حتى ولو قدمت بلسان عربي أو حتى بلهجة محلية. وتقول “إن ما يحدث الآن يفوق خيال أي كاتب، الحروب المتلفزة أماتت الخيال، لا يمكن نلجأ إلى الرمز أو الغرائبية، الواقعية فرضت نفسها”.
وتحسم الأكاديمية رأيها، معتبرة أن ثقافة الصورة ربما تكون قد طغت تمامًا على السرد. ورغم ذلك يظل النص المكتوب باقيًا يتحدى الفناء بشرط أن يكون مستحقًا لذلك البقاء من حيث العرض والأسلوب الفردي المعبر عن الروح الإنسانية، فالمبدع دومًا مطالب أن يكون لسان أمته الذي يحمل أفكارها وتاريخها ووعيها. حين ذاك سيحقق الكاتب طموحه أن يكون موجودًا ومؤثرًا.
الوجود في الكتابة ومن خلالها، ذلك هو المتعة والهدف، أو كما تشير الصعيدي إلى أنها عندما كتبت “تاء التأنيث الساكنة” و”الحفيدة الأولى” رغبت أن تكتب نصًا يلتقي مع كل من يطالعه في سطر أو جملة أو حتى في كلمة أو موقف من مواقف الحياة، فشعرت حينها بمصافحة العيون والأرواح لكلماتها، قائلة “الوجود في الكتابة يحقق للكاتب متعة لا تدانيها متعة أخرى”.
◙ الوجود في الكتابة ومن خلالها، ذلك هو المتعة والهدف
من الإبداع إلى النقد، لا تنفصل الأكاديمية فاطمة الصعيدي عن واقع الكتابة والأدب، فتشارك بالتحليل والنقد لكثير من الأعمال الأدبية وتحرص على حضور “ورشة الزيتون الإبداعية” أسبوعيا، وتكتب المقالات النقدية في المجلات والصحف، لذا كان طبيعيا أن أسألها عما يثار كثيرا حول ما يعرف بـ”أزمة النقد” فهل النقد الأدبي في أزمة بالفعل؟
لا ترى الناقدة المصرية ذلك، فالنقد كما تعرفه وتمارسه وظيفته مواكبة الإبداع تنظيرًا وتحليلًا للخطابات المختلفة شعرًا ونثرًا، لكن الأزمة الآن في نظرها هي تصدي معظم المتلقين للأعمال الأدبية، فنجد منصات التواصل الاجتماعي تزخر بالآراء، بعضها لعرض الأعمال، وبعضها تصدر الأحكام برداءة العمل أو جودته في أحكام انفعالية لا تحكمها الإجراءات المنهجية أو التخصص.
لا تنفي فاطمة الصعيدي في حوارها مع “العرب” أن هناك من النقاد من يؤثرون استخدام المصطلحات النقدية بشكل مفرط بلا داع أحيانًا، وتدعو إلى مراعاة مقتضى الحال، فما يقال في الكتب المتخصصة لا يصلح أن يقال في ندوة أو مُلْتَقَى يقصده كثير ممن لا تتوفر عندهم المعرفة الكافية بهذه المصطلحات، فهم هنا يرون النقد منفصلًا عن مسايرة العمل؛ لأنهم ينتظرون من الناقد تقديم العمل وإيضاح ما فيه بشكل يسير. وتعتبر أن من سمات الناقد الجيد الوصول إلى مغزى العمل وقراءة ما وراء النص وتقديمه للمتلقي العام بأسلوب بسيط لا يخلو من العمق.
وبينما يوجد هناك من دور النشر من يسعى إلى مواكبة النقد وتخصيص سلسلة من الإصدارات تعالج هذا الجانب، لكن معظم دور النشر تبحث عن الأكثر مبيعًا بفعل الحملات الترويجية التي أصبحت ظاهرة وخصوصًا بعد تأثير المنصات الرقمية ووسائل التواصل، كما تقول الناقدة المصرية.
وبإجمال بعد تفصيل، تعتبر فاطمة الصعيدي أن ما يحدث الآن هو نتيجة لتعدد أوعية الاتصال، فلم يعد للصفحات الأدبية في الصحف أو الملاحق الأدبية أو المجلات الأدبية الدور الفعال كما كان في الماضي. وتقول “لقد أصبح لكل شخص حائطه الأزرق (على فيسبوك) الذي يكتب عليه ما يريد، فَعَمَّ الضخب الذي شتت الانتباه، فلم يعد أحد يستمع، كلهم يُنظِرون ويتكلمون وينقدون”.
◙ ما يحدث من فوضى هو نتيجة لتعدد أوعية الاتصال، فلم يعد للصفحات الأدبية في الصحف أو المجلات دور
في تصريح سابق للأكاديمية فاطمة الصعيدي اعتبرت أن “الدراما لها قدرة على تغيير لغة الحياة والارتقاء بالرسالة الموجهة إلى الجماهير”، لكن السؤال الذي طرح نفسه على حوار “العرب” معها كان حول واقع الدراما المصرية حاليا.. فهل مازالت هذه قادرة على التأثير من خلال ما يُقدم حاليا من أعمال؟
تكرر الناقدة المصرية رأيها، لكنها تفصل أكثر فتقول “للدراما دور مهم وقدرة على تغيير لغة الحياة والارتقاء بها، أحدثك عن الدراما المُثَقِفَة التي تتضمن الأفكار والمعلوماتية دون توجيه أو إنشائية مفرطة، فقط تلمسها في الحوار الراقي، الأزياء الجميلة متناسقة الألوان، التكوينات الجمالية للمكان سواء كان هذا المكان يشير إلى طبقة فقيرة أو طبقة غنية، الأغنيات موظفة بعيدة عن الابتذال، كانت الدراما تناقش وتنقد وتقدم معالجات جيدة وجديدة لما يواجه المجتمع من مشكلات”.
لكنها تعبر عن الأسف الشديد لأن كثيرا مما يقدم الآن لا يعبر عن “المجتمع المصري الذي أعرفه مثل خطوط يدي”، كما تقول، فما يقدم يعبر عن شرائح لا تعرفها، لأنها لا تمثل غالبية الشعب، فالدراما لم تعد معبرة عن الطبقة المتوسطة، وهذه الطبقة هي المسئولة عن استقرار المجتمع وتطوره.
وتختتم فاطمة الصعيدي حوارها مع “العرب” بقولها إن الدراما المصرية تمر الآن بمنعطف خطير، يجب أن تتجاوزه، وهو البعد عن الظواهر التي أصبحت تكرس لها، مثل ظاهرة العنف غير المبرر، فلابد من العودة لترسيخ القيم الجمالية والفكرية والوجدانية التي تسهم في بناء الإنسان، وترى أن هذا توجه تدعمه الدولة وتسعى إلى تحقيقه.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد شعير
كاتب مصري
الحروب المتلفزة أماتت الخيال والمدرسة الواقعية فرضت نفسها.
الاثنين 2024/10/28
ShareWhatsAppTwitterFacebook
الدراما المثقفة قادرة على تغيير لغة الحياة والارتقاء بها
لا تستبعد الناقدة المصرية فاطمة الصعيدي في حوارها مع "العرب" ظهور جنس أدبي جديد، فالأدب لا يعيش بمعزل عن تغيرات السياسة والاقتصاد والجغرافيا، فضلا عن حضور ضيف جديد سيؤثر تأثيرًا جذريًا هو الذكاء الاصطناعي. وتعتبر أن مصطلح الأدب النسوي جاء في إطار التفكيك وضرب الاستقرار، والجدل حول أيهما جاء من باب حرائق الكلام الشعر أم الرواية.
القاهرة - بين آن وآخر، يشهد الواقع الثقافي معارك ضارية، بين المنتمين إلى تيارات الأدب ومدارسه، وبين صنوف الكتابة الأدبية؛ شعرا ونثرا، قصة قصيرة ورواية، وبين الأدباء والنقاد أيضا، في وقت تضطرم فيه حروب مستعرة، تشعل العالم وتحرقه، فتتباين الآراء حول طبيعة الأدب الأجدر بالتعبير عن الأزمة، مع أن الأصل في الكتابة هو الحرية. وسعيا إلى فك الاشتباك الجاري، ورفع الالتباس المهيمن على الكثير من معارك الأدب، لا نملك سوى الإنصات إلى الأصوات العاقلة.
الناقدة الأدبية المصرية، الأكاديمية فاطمة الصعيدي، أستاذ اللغويات ورئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة حلوان بجنوب مصر، شخصية هادئة وصوت رصين، تشتبك مع واقع الأدب ومشكلاته من قرب، بعقل وحكمة، دون الاشتراك في معارك الفراغ التي كثيرا ما تفرض نفسها، لكنها في هذا الحوار لـ”العرب” لا تخفي مخاوفها وقلقها بشأن تأثير التطورات الجارية في العالم على واقع الأدب ومستقبله.
بالإضافة إلى دراساتها النقدية المتعددة، نشرت فاطمة الصعيدي عملين إبداعيين هما رواية “الحفيدة الأولى” والمجموعة القصصية “تاء التأنيث الساكنة”، وبرغم ذلك فهي لا تعترف بـ”الأدب النِسْوي” ولا تؤمن بالتصنيف على أساس جنس الكاتب (الجندر)، وتحتار كثيرًا عندما تسمع هذا المصطلح؛ هل المقصود به ما تكتبه النساء أم أنه الأدب الذي يعالج مشاكل المرأة وما تتعرض له، فالكاتب إنسان سواء أكان رجلًا أو امرأة.
التفكيك وزرع الفتن
◙ مصطلح "الأدب النِسْوي" جاء في سياق التفكيك
تؤكد فاطمة الصعيدي عندما نتصدى لمعالجة موقف ننظر إليه كوننا بشرًا، وأن مصطلح “الأدب النِسْوي” جاء في سياق التفكيك، وأننا نشهد منذ فترة ظاهرة التفكيك، ما تجلى في تفتيت الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، والدعوة إلى التشرذم ومغازلة الأقليات والسعي إلى زرع الفتن. وتشير لـ”العرب” إلى أن هذه التصنيفات تضرب الاستقرار المتمثل في علاقة الرجل والمرأة، خصوصًا في مجتمعاتنا الشرقية، وأن التيارات الأدبية مثل دوامات الماء، فعندما نلقي حجرًا يتحرك الماء في دوائر صغيرة تتسع فتأخذ دوائر أكثر رحابة، ثم ما تلبث أن تفتر وتَسْكُن.
بنفس المنطق، تنظر الناقدة فاطمة الصعيدي إلى جدل الشعر أم الرواية، وأيهما الأحق بأن يكون “ديوان العرب” والتراشق بين الشعراء والروائيين بعد مقولة “زمن الرواية” للناقد الراحل الأكاديمي جابر عصفور، فتعتبر أن الجدل الذي يثار من وقت لآخر في هذا الصدد هو من باب حرائق الكلام التي لا تسفر إلا عن مزيد من التفتيت بين أنصار هذا أو تلك.
وتفكك الخيوط المتداخلة في المسألة من خلال العودة بهدوء وحكمة إلى مسار التاريخ فيها دون تحيز أو انفعال، فترى أن لكل عصر نوعه الأدبي الذي يفرض نفسه، فالأدب العربي في العصر الجاهلي تجلت بلاغته في الشعر المتمثل في المعلقات وغيرها من عيون الشعر العربي.
وتقول “لعلنا نجد الأصفهاني في موسوعته ‘الأغاني‘ قد أرخ للحضارة العربية عبر أصواتها الشعرية، ففي وقت الأصفهاني وما سبقه كان الشعر ديوان العرب. وفي صدر الإسلام تصدرت الخطبة لكونها مرتبطة بالشعائر الدينية، ثم وجدنا تجليًا لحضور فن المقال بعد ظهور الصحافة. والآن وما قبل الآن ظهر مصطلح عصر الرواية، ثم الرواية الرقمية التفاعلية ثم القصة القصيرة جدًا إضافة للأوعية الجديدة التي فرضتها التطبيقات الحديثة مثل البوست (المنشور) والمدونة والتغريدة وغيرها من المصطلحات”.
وفي رأي الصعيدي، الظروف الراهنة قد تسفر إلى الرجوع إلى الشعر مرة أخرى؛ لأن الإنسان يحتاج أن يعود إلى نفسه متخلصًا من هذه الضوضاء التي تحيطه من كل جانب.
◙ الصعيدي لا ترفض أو تعترض بوضوح على الاتجاهات الحداثية في الكتابة التي قد تغيب فيها الحكاية أو تتفتت أو تميل إلى الغرائبية
ولا تستبعد أن يكون هناك جنس أدبي يجمع بين الشعر والنثر في تكوين جديد، فالأدب لا يعيش بمعزل عما يحدث من تغيرات في السياسة والاقتصاد والجغرافيا والتاريخ، فضلا عن حضور ضيف جديد سيؤثر تأثيرًا جذريًا هو الذكاء الاصطناعي، ولا يمكن التكهن بما سيحدث في ظل هذه التطورات التي جعلت العالم يقف على حافة الهاوية.
في عمليها الإبداعيين، لعبتْ الحكاية دور البطولة عند فاطمة الصعيدي، إذ تدور رواية “الحفيدة الأولى” في فضاء السيرة الذاتية، وترصد بأسلوب شيق ولغة سردية جاذبة العلاقة الحميمة بين الجدة والحفيدة الأولى، لتتعرض للقضايا الإنسانية التي يفرزها إيقاع الحياة الريفية، بينما حمل غلاف مجموعتها القصصية “تاء التأنيث الساكنة” عنوانا قصيرا إضافيا يكشف بوضوح عن توجهها، هو “حكايات صغيرة”، وأهدتها “إلى هؤلاء الذين عاشوا في حياتي، فأشعلوها حكايات لا تنتهي.. باقية.. حاضرة.. مهما مرت السنون.. ستبقى أطيافهم أحلامًا خضراء وواحات ظليلة”.
ومع ذلك فهي لا ترفض أو تعترض بوضوح على الاتجاهات الحداثية في الكتابة التي قد تغيب فيها الحكاية أو تتفتت أو تميل إلى الغرائبية، مثل كتابات تيار الوعي والواقعية السحرية، إنما تحلل المسألة بهدوء كعهدها.
تقول في حديثها لـ”العرب” إن فعل الكتابة أمر يختاره الكاتب، يسعى إليه لتقديم وجهة نظره، فالكاتب يختار الطريقة المناسبة لإدراك ما يرجو، يختار القالب السردي: رواية، قصة قصيرة، مسرحية. ثم يختار طريقة السرد بضمير المتكلم أو الغائب. أو عن طريق المذكرات. ويختار الطريقة التي يقدم بها شخصياته وعالمه الإبداعي.
التأثير والتأثر
◙ الصعيدي ترى أن في العالم تيارات متعددة، ولابد من التأثير والتأثر، والتأثر ليس معناه النقل والتقليد
ترى الصعيدي أن في العالم تيارات متعددة، ولابد من التأثير والتأثر، والتأثر ليس معناه النقل والتقليد، لكن معناه ثراء العوالم الروائية بأجواء مختلفة، بحيث يتم تقديمها دون أن نشعر أن هذه العوالم لا تمثلنا، مثل دبلجة المسلسلات، فالشخصيات والأحداث لا يمكن أن ننتمي إليها حتى ولو قدمت بلسان عربي أو حتى بلهجة محلية. وتقول “إن ما يحدث الآن يفوق خيال أي كاتب، الحروب المتلفزة أماتت الخيال، لا يمكن نلجأ إلى الرمز أو الغرائبية، الواقعية فرضت نفسها”.
وتحسم الأكاديمية رأيها، معتبرة أن ثقافة الصورة ربما تكون قد طغت تمامًا على السرد. ورغم ذلك يظل النص المكتوب باقيًا يتحدى الفناء بشرط أن يكون مستحقًا لذلك البقاء من حيث العرض والأسلوب الفردي المعبر عن الروح الإنسانية، فالمبدع دومًا مطالب أن يكون لسان أمته الذي يحمل أفكارها وتاريخها ووعيها. حين ذاك سيحقق الكاتب طموحه أن يكون موجودًا ومؤثرًا.
الوجود في الكتابة ومن خلالها، ذلك هو المتعة والهدف، أو كما تشير الصعيدي إلى أنها عندما كتبت “تاء التأنيث الساكنة” و”الحفيدة الأولى” رغبت أن تكتب نصًا يلتقي مع كل من يطالعه في سطر أو جملة أو حتى في كلمة أو موقف من مواقف الحياة، فشعرت حينها بمصافحة العيون والأرواح لكلماتها، قائلة “الوجود في الكتابة يحقق للكاتب متعة لا تدانيها متعة أخرى”.
◙ الوجود في الكتابة ومن خلالها، ذلك هو المتعة والهدف
من الإبداع إلى النقد، لا تنفصل الأكاديمية فاطمة الصعيدي عن واقع الكتابة والأدب، فتشارك بالتحليل والنقد لكثير من الأعمال الأدبية وتحرص على حضور “ورشة الزيتون الإبداعية” أسبوعيا، وتكتب المقالات النقدية في المجلات والصحف، لذا كان طبيعيا أن أسألها عما يثار كثيرا حول ما يعرف بـ”أزمة النقد” فهل النقد الأدبي في أزمة بالفعل؟
لا ترى الناقدة المصرية ذلك، فالنقد كما تعرفه وتمارسه وظيفته مواكبة الإبداع تنظيرًا وتحليلًا للخطابات المختلفة شعرًا ونثرًا، لكن الأزمة الآن في نظرها هي تصدي معظم المتلقين للأعمال الأدبية، فنجد منصات التواصل الاجتماعي تزخر بالآراء، بعضها لعرض الأعمال، وبعضها تصدر الأحكام برداءة العمل أو جودته في أحكام انفعالية لا تحكمها الإجراءات المنهجية أو التخصص.
لا تنفي فاطمة الصعيدي في حوارها مع “العرب” أن هناك من النقاد من يؤثرون استخدام المصطلحات النقدية بشكل مفرط بلا داع أحيانًا، وتدعو إلى مراعاة مقتضى الحال، فما يقال في الكتب المتخصصة لا يصلح أن يقال في ندوة أو مُلْتَقَى يقصده كثير ممن لا تتوفر عندهم المعرفة الكافية بهذه المصطلحات، فهم هنا يرون النقد منفصلًا عن مسايرة العمل؛ لأنهم ينتظرون من الناقد تقديم العمل وإيضاح ما فيه بشكل يسير. وتعتبر أن من سمات الناقد الجيد الوصول إلى مغزى العمل وقراءة ما وراء النص وتقديمه للمتلقي العام بأسلوب بسيط لا يخلو من العمق.
وبينما يوجد هناك من دور النشر من يسعى إلى مواكبة النقد وتخصيص سلسلة من الإصدارات تعالج هذا الجانب، لكن معظم دور النشر تبحث عن الأكثر مبيعًا بفعل الحملات الترويجية التي أصبحت ظاهرة وخصوصًا بعد تأثير المنصات الرقمية ووسائل التواصل، كما تقول الناقدة المصرية.
وبإجمال بعد تفصيل، تعتبر فاطمة الصعيدي أن ما يحدث الآن هو نتيجة لتعدد أوعية الاتصال، فلم يعد للصفحات الأدبية في الصحف أو الملاحق الأدبية أو المجلات الأدبية الدور الفعال كما كان في الماضي. وتقول “لقد أصبح لكل شخص حائطه الأزرق (على فيسبوك) الذي يكتب عليه ما يريد، فَعَمَّ الضخب الذي شتت الانتباه، فلم يعد أحد يستمع، كلهم يُنظِرون ويتكلمون وينقدون”.
◙ ما يحدث من فوضى هو نتيجة لتعدد أوعية الاتصال، فلم يعد للصفحات الأدبية في الصحف أو المجلات دور
في تصريح سابق للأكاديمية فاطمة الصعيدي اعتبرت أن “الدراما لها قدرة على تغيير لغة الحياة والارتقاء بالرسالة الموجهة إلى الجماهير”، لكن السؤال الذي طرح نفسه على حوار “العرب” معها كان حول واقع الدراما المصرية حاليا.. فهل مازالت هذه قادرة على التأثير من خلال ما يُقدم حاليا من أعمال؟
تكرر الناقدة المصرية رأيها، لكنها تفصل أكثر فتقول “للدراما دور مهم وقدرة على تغيير لغة الحياة والارتقاء بها، أحدثك عن الدراما المُثَقِفَة التي تتضمن الأفكار والمعلوماتية دون توجيه أو إنشائية مفرطة، فقط تلمسها في الحوار الراقي، الأزياء الجميلة متناسقة الألوان، التكوينات الجمالية للمكان سواء كان هذا المكان يشير إلى طبقة فقيرة أو طبقة غنية، الأغنيات موظفة بعيدة عن الابتذال، كانت الدراما تناقش وتنقد وتقدم معالجات جيدة وجديدة لما يواجه المجتمع من مشكلات”.
لكنها تعبر عن الأسف الشديد لأن كثيرا مما يقدم الآن لا يعبر عن “المجتمع المصري الذي أعرفه مثل خطوط يدي”، كما تقول، فما يقدم يعبر عن شرائح لا تعرفها، لأنها لا تمثل غالبية الشعب، فالدراما لم تعد معبرة عن الطبقة المتوسطة، وهذه الطبقة هي المسئولة عن استقرار المجتمع وتطوره.
وتختتم فاطمة الصعيدي حوارها مع “العرب” بقولها إن الدراما المصرية تمر الآن بمنعطف خطير، يجب أن تتجاوزه، وهو البعد عن الظواهر التي أصبحت تكرس لها، مثل ظاهرة العنف غير المبرر، فلابد من العودة لترسيخ القيم الجمالية والفكرية والوجدانية التي تسهم في بناء الإنسان، وترى أن هذا توجه تدعمه الدولة وتسعى إلى تحقيقه.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد شعير
كاتب مصري