من الولد الشقي إلى إمام الدعاة.. فمن لا يحب حسن يوسف
رحيل الفنان المصري بعد مشوار فني كبير محاط بالمطبات الدينية.
الأربعاء 2024/10/30
ShareWhatsAppTwitterFacebook
صورة للفنان مع عائلته
ودّعت مصر والساحة الفنية العربية الثلاثاء الفنان حسن يوسف الذي يعد أحد أهم ممثلي الزمن الجميل، حيث انطلقت شهرته منذ ستينات القرن الماضي وسبعيناته، وكانت تجربته السينمائية والدرامية المميزة تسير بالتوازي مع نشأة الدراما العربية ونضوجها، ورغم أنه خاض مشوارا فنيا طويلا إلا أن الجمهور يتذكره بصورة الولد الشقي في الفن السابع.
القاهرة - في رحلة الحياة، لا يمضي الإنسان في مسار واحد، يتغير، يتقلب، تتعدد منعطفات الطريق وتتنوع، كأنه يسأل: أين وكيف؟ ما الوجهة والهدف؟ والفن بالتحديد مسرح التقلبات. هكذا جاءت رحلة الفنان المصري الكبير، الإنسان، حسن يوسف، التي وصلت صباح الثلاثاء إلى محطتها الأخيرة، عندما وضعت الرحلة نهايتها، بإعلان رحيله عن الدنيا بعد حياة طويلة عامرة وحافلة بالجدل، امتدت إلى نحو تسعين عاما.
وعلى الرغم من الانعطافات والتقلبات، والصعود والهبوط، والمد والجزر، بدا الجمهور المصري حزينا متسائلا في لحظة شجن: ومن الذي لا يحب حسن يوسف؟
يوم الرابع عشر من أبريل عام 1934، في حي السيدة زينب بوسط القاهرة، جاء إلى الدنيا طفل جديد، تفتحت عيناه على الحركة الدائبة للبشر، من الناس البسطاء العاديين، والتقطت أذناه أصوات نداءات الباعة الجائلين، في بيئة مصرية حتى النخاع، فلم يسكن القصور أو يلامس سماء حياة المرفهين.
أيهما الأقرب إلى الشخصية الفنية لحسن يوسف، الولد الشقي في الأفلام المصرية خلال فترة الستينات أم إمام الدعاة؟
كان من الطبيعي أن يختزن الصبي الذكي، الشقي، الوسيم، كل هذا في مخيلته، نماذج الشخصيات ونبرات الأصوات وأشكال الانفعالات، ليعبر بعدها بخفة وجرأة عن حياة الناس، عبر وسيط تعلق به وأحبه، هو الفن، لكن ازدواج المسار بدأ في رحلته مبكرا، فتخرج في المعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة، كما درس في كلية التجارة أيضا.
عمل حسن يوسف مشرفا فنيا في المسرح المدرسي لمنطقة بنها (شمال القاهرة) التعليمية، ثم اكتشفه الفنان الكبير حسين رياض في المسرح القومي وقدمه وجها جديدا في فيلم “أنا حرة” بطولة لبنى عبدالعزيز عام 1959، لتنطلق بعدها رحلة التألق والوهج الفني على مدى عقد الستينيات من القرن الماضي، لكن للفن قواعد وأحكاما، فرضت نفسها على مسار ابن حي السيدة زينب الشهير، فكان الموعد مع ازدواج جديد في الطريق.
اختار مخرجو السينما أن يحصروا حسن يوسف في أدوار “الولد الشقي” وفقا لما اشتهر به، بفعل وسامة ملامحه وخفة ظله في آن، وأحبه الجمهور بشدة في هذه الأدوار، دون أن يلتفت كثيرون من صناع الفن إلى الإمكانات الفنية الكبيرة التي تؤهله لأداء شخصيات وتقديم أعمال كان يمكن أن تترك بصمة أكبر وأهم من أفلام الصيف التجارية الهادفة إلى جني الأرباح.
وحتى في الزواج كان الازدواج، إذ تزوج حسن يوسف في بداية حياته من الفنانة لبلبة عام 1964 لمدة 8 سنوات، قبل أن ينفصلا ليتزوج بعدها الفنانة المعتزلة شمس البارودي وتستمر قصة حبهما لما يزيد عن خمسين عاما، حتى وفاته في كنفها وتحت ظل رعايتها له التي لم تنقطع يوما.
وقبل اعتزال زوجته، شاركها التمثيل في عدد من الأفلام وأخرج لها عددًا آخرا، منها فيلم “2 على الطريق” مع الفنان الكبير عادل إمام، وهو آخر أعمالها عام 1984، عندما قررت اعتزال التمثيل نهائيا، ولم تكد تمضي ست سنوات حتى أعلن يوسف هو الآخر اعتزال طريق الفن عام 1990.
الكل حر في اختياراته، والإنسان هو من يحدد وحده مساره، لكن الجمهور فوجئ بعد اثني عشر عاما بعودة حسن يوسف عام 2002 بعمل جديد، ربما يتسق مع طريقه الذي اختاره، هو مسلسل “إمام الدعاة” الذي أدى فيه دور الداعية المصري الشيخ محمد متولي الشعراوي.
تزوج مرتين واعتزل مرتين وظل محبوبا من الجماهير
حاز المسلسل نجاحا كبيرا بفعل الجماهيرية الطاغية للشيخ والعودة المحببة لحسن يوسف، برغم أن مثل هذه الأعمال التي تتناول السير الذاتية للمشاهير غالبا ما تفتقر إلى المعايير الدرامية الكافية إذ تقدم أبطالها غالبا أقرب إلى الملائكة وليس أشخاصا طبيعيين.
وهنا يثار السؤال، أيهما الأقرب إلى الشخصية الفنية لحسن يوسف، الولد الشقي الذي تم حصره في إطاره في عديد من الأفلام المصرية خلال فترة الستينات، أم إمام الدعاة الذي اختار هو العودة إلى الفن في ثوبه؟
الحق إن محاولة الإجابة عن السؤال تقودنا إلى العودة إلى فترة السنوات الست الفاصلة بين اعتزال زوجته (شمس البارودي) واعتزاله هو، لنجد أن أقرب الأدوار إلى الشخصية الفنية الحقيقية ليوسف قد لعبه خلال هذه الفترة، عندما أدى دور توفيق البدري في مسلسل “ليالي الحلمية” الذي أذيع الجزء الأول منه عام 1987.
يتذكر الجمهور المصري والعربي بمرح أدوار الولد الشقي في أفلام الستينات، ويستعيد بشجن شخصية الشيخ في مسلسل “إمام الدعاة”، لكن الأبقى فنيا والأقرب إلى حياة البشر كان توفيق البدري، عندما عاد حسن يوسف بفنه إلى حي الحلمية القريب من مسقط رأسه، السيدة زينب، ليقدم شخصية حقيقية من لحم ودم، تنتمي إلى الطبقة المتوسطة في مصر، كانت شاهدة على التحولات التاريخية والاجتماعية والسياسية، الانكسارات والانتصارات في مسيرة الوطن، حتى بدت شخصية توفيق البدري في أحيان كثيرة صوت المؤلف الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة.
لكن المفاجئ أن الفنان حسن يوسف قرر بعد “ليالي الحلمية” اعتزال الفن كلية، بدلا من أن يستغل مرحلة التألق بعمق وتوهج التجربة ليفرض اختياراته فيما يلعبه من أدوار بعد سنوات طوال اضطر فيها سابقا للرضوخ لاختيارات المخرجين، حتى جاءت العودة من جديد في ثوب “إمام الدعاة” وما تلاه من أعمال درامية دينية واجتماعية.
قبل عام بالتحديد، في 30 يوليو 2023، فُجع الفنان حسن يوسف في وفاة ابنه عبدالله غرقا في أثناء سباحته بأحد الشواطئ في قرية سياحية تطل على البحر المتوسط، ليأتي بعدها قراره الثاني باعتزال الفن نهائيا.
صار يجلس في بيته ويقضي وقته في قراءة القرآن الكريم، صابرا محتسبا لكن مختفيا عن الأنظار، حتى ظهر في تصريحات تلفزيونية أوضح فيها أن الألم بداخله نتيجة فقدان ابنه جعله غير قادر على تجسيد أدوار كما اعتاد أن يشاهده الجمهور، قائلا “بعد وفاة ابني عبدالله شُفت أن التمثيل مالوش لزمة” (لا لزوم له).
وبينما تقدم بالشكر لدعم وتشجيع كل محبيه، إلا أنه أعلن عدم قبوله أي أعمال فنية إلا لو كان الدور والأجر الذي سيتقاضاه مناسبين، قائلا إنه عندئذ سوف يفكر في الموضوع، ما فتح الباب من جديد إلى إمكانية تراجعه عن قرار الاعتزال الثاني.
لكن، بعد رحلة مليئة بالمنعطفات والتقلبات، الأخذ والرد، الاعتزال والعودة، لم يقو القلب الطيب على الاستمرار، أذنت الرحلة بالرحيل حتى جاء الموعد المحتوم، فرحل حسن يوسف دون أن يخلف في قلوب جماهيره سوى المحبة والبسمة والشجن، فقد عاش صادقا مع نفسه، لم يتلون، وكان إنسانا طبيعيا، يصيب ويخطئ.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد شعير
كاتب مصري
رحيل الفنان المصري بعد مشوار فني كبير محاط بالمطبات الدينية.
الأربعاء 2024/10/30
ShareWhatsAppTwitterFacebook
صورة للفنان مع عائلته
ودّعت مصر والساحة الفنية العربية الثلاثاء الفنان حسن يوسف الذي يعد أحد أهم ممثلي الزمن الجميل، حيث انطلقت شهرته منذ ستينات القرن الماضي وسبعيناته، وكانت تجربته السينمائية والدرامية المميزة تسير بالتوازي مع نشأة الدراما العربية ونضوجها، ورغم أنه خاض مشوارا فنيا طويلا إلا أن الجمهور يتذكره بصورة الولد الشقي في الفن السابع.
القاهرة - في رحلة الحياة، لا يمضي الإنسان في مسار واحد، يتغير، يتقلب، تتعدد منعطفات الطريق وتتنوع، كأنه يسأل: أين وكيف؟ ما الوجهة والهدف؟ والفن بالتحديد مسرح التقلبات. هكذا جاءت رحلة الفنان المصري الكبير، الإنسان، حسن يوسف، التي وصلت صباح الثلاثاء إلى محطتها الأخيرة، عندما وضعت الرحلة نهايتها، بإعلان رحيله عن الدنيا بعد حياة طويلة عامرة وحافلة بالجدل، امتدت إلى نحو تسعين عاما.
وعلى الرغم من الانعطافات والتقلبات، والصعود والهبوط، والمد والجزر، بدا الجمهور المصري حزينا متسائلا في لحظة شجن: ومن الذي لا يحب حسن يوسف؟
يوم الرابع عشر من أبريل عام 1934، في حي السيدة زينب بوسط القاهرة، جاء إلى الدنيا طفل جديد، تفتحت عيناه على الحركة الدائبة للبشر، من الناس البسطاء العاديين، والتقطت أذناه أصوات نداءات الباعة الجائلين، في بيئة مصرية حتى النخاع، فلم يسكن القصور أو يلامس سماء حياة المرفهين.
أيهما الأقرب إلى الشخصية الفنية لحسن يوسف، الولد الشقي في الأفلام المصرية خلال فترة الستينات أم إمام الدعاة؟
كان من الطبيعي أن يختزن الصبي الذكي، الشقي، الوسيم، كل هذا في مخيلته، نماذج الشخصيات ونبرات الأصوات وأشكال الانفعالات، ليعبر بعدها بخفة وجرأة عن حياة الناس، عبر وسيط تعلق به وأحبه، هو الفن، لكن ازدواج المسار بدأ في رحلته مبكرا، فتخرج في المعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة، كما درس في كلية التجارة أيضا.
عمل حسن يوسف مشرفا فنيا في المسرح المدرسي لمنطقة بنها (شمال القاهرة) التعليمية، ثم اكتشفه الفنان الكبير حسين رياض في المسرح القومي وقدمه وجها جديدا في فيلم “أنا حرة” بطولة لبنى عبدالعزيز عام 1959، لتنطلق بعدها رحلة التألق والوهج الفني على مدى عقد الستينيات من القرن الماضي، لكن للفن قواعد وأحكاما، فرضت نفسها على مسار ابن حي السيدة زينب الشهير، فكان الموعد مع ازدواج جديد في الطريق.
اختار مخرجو السينما أن يحصروا حسن يوسف في أدوار “الولد الشقي” وفقا لما اشتهر به، بفعل وسامة ملامحه وخفة ظله في آن، وأحبه الجمهور بشدة في هذه الأدوار، دون أن يلتفت كثيرون من صناع الفن إلى الإمكانات الفنية الكبيرة التي تؤهله لأداء شخصيات وتقديم أعمال كان يمكن أن تترك بصمة أكبر وأهم من أفلام الصيف التجارية الهادفة إلى جني الأرباح.
وحتى في الزواج كان الازدواج، إذ تزوج حسن يوسف في بداية حياته من الفنانة لبلبة عام 1964 لمدة 8 سنوات، قبل أن ينفصلا ليتزوج بعدها الفنانة المعتزلة شمس البارودي وتستمر قصة حبهما لما يزيد عن خمسين عاما، حتى وفاته في كنفها وتحت ظل رعايتها له التي لم تنقطع يوما.
وقبل اعتزال زوجته، شاركها التمثيل في عدد من الأفلام وأخرج لها عددًا آخرا، منها فيلم “2 على الطريق” مع الفنان الكبير عادل إمام، وهو آخر أعمالها عام 1984، عندما قررت اعتزال التمثيل نهائيا، ولم تكد تمضي ست سنوات حتى أعلن يوسف هو الآخر اعتزال طريق الفن عام 1990.
الكل حر في اختياراته، والإنسان هو من يحدد وحده مساره، لكن الجمهور فوجئ بعد اثني عشر عاما بعودة حسن يوسف عام 2002 بعمل جديد، ربما يتسق مع طريقه الذي اختاره، هو مسلسل “إمام الدعاة” الذي أدى فيه دور الداعية المصري الشيخ محمد متولي الشعراوي.
تزوج مرتين واعتزل مرتين وظل محبوبا من الجماهير
حاز المسلسل نجاحا كبيرا بفعل الجماهيرية الطاغية للشيخ والعودة المحببة لحسن يوسف، برغم أن مثل هذه الأعمال التي تتناول السير الذاتية للمشاهير غالبا ما تفتقر إلى المعايير الدرامية الكافية إذ تقدم أبطالها غالبا أقرب إلى الملائكة وليس أشخاصا طبيعيين.
وهنا يثار السؤال، أيهما الأقرب إلى الشخصية الفنية لحسن يوسف، الولد الشقي الذي تم حصره في إطاره في عديد من الأفلام المصرية خلال فترة الستينات، أم إمام الدعاة الذي اختار هو العودة إلى الفن في ثوبه؟
الحق إن محاولة الإجابة عن السؤال تقودنا إلى العودة إلى فترة السنوات الست الفاصلة بين اعتزال زوجته (شمس البارودي) واعتزاله هو، لنجد أن أقرب الأدوار إلى الشخصية الفنية الحقيقية ليوسف قد لعبه خلال هذه الفترة، عندما أدى دور توفيق البدري في مسلسل “ليالي الحلمية” الذي أذيع الجزء الأول منه عام 1987.
يتذكر الجمهور المصري والعربي بمرح أدوار الولد الشقي في أفلام الستينات، ويستعيد بشجن شخصية الشيخ في مسلسل “إمام الدعاة”، لكن الأبقى فنيا والأقرب إلى حياة البشر كان توفيق البدري، عندما عاد حسن يوسف بفنه إلى حي الحلمية القريب من مسقط رأسه، السيدة زينب، ليقدم شخصية حقيقية من لحم ودم، تنتمي إلى الطبقة المتوسطة في مصر، كانت شاهدة على التحولات التاريخية والاجتماعية والسياسية، الانكسارات والانتصارات في مسيرة الوطن، حتى بدت شخصية توفيق البدري في أحيان كثيرة صوت المؤلف الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة.
لكن المفاجئ أن الفنان حسن يوسف قرر بعد “ليالي الحلمية” اعتزال الفن كلية، بدلا من أن يستغل مرحلة التألق بعمق وتوهج التجربة ليفرض اختياراته فيما يلعبه من أدوار بعد سنوات طوال اضطر فيها سابقا للرضوخ لاختيارات المخرجين، حتى جاءت العودة من جديد في ثوب “إمام الدعاة” وما تلاه من أعمال درامية دينية واجتماعية.
قبل عام بالتحديد، في 30 يوليو 2023، فُجع الفنان حسن يوسف في وفاة ابنه عبدالله غرقا في أثناء سباحته بأحد الشواطئ في قرية سياحية تطل على البحر المتوسط، ليأتي بعدها قراره الثاني باعتزال الفن نهائيا.
صار يجلس في بيته ويقضي وقته في قراءة القرآن الكريم، صابرا محتسبا لكن مختفيا عن الأنظار، حتى ظهر في تصريحات تلفزيونية أوضح فيها أن الألم بداخله نتيجة فقدان ابنه جعله غير قادر على تجسيد أدوار كما اعتاد أن يشاهده الجمهور، قائلا “بعد وفاة ابني عبدالله شُفت أن التمثيل مالوش لزمة” (لا لزوم له).
وبينما تقدم بالشكر لدعم وتشجيع كل محبيه، إلا أنه أعلن عدم قبوله أي أعمال فنية إلا لو كان الدور والأجر الذي سيتقاضاه مناسبين، قائلا إنه عندئذ سوف يفكر في الموضوع، ما فتح الباب من جديد إلى إمكانية تراجعه عن قرار الاعتزال الثاني.
لكن، بعد رحلة مليئة بالمنعطفات والتقلبات، الأخذ والرد، الاعتزال والعودة، لم يقو القلب الطيب على الاستمرار، أذنت الرحلة بالرحيل حتى جاء الموعد المحتوم، فرحل حسن يوسف دون أن يخلف في قلوب جماهيره سوى المحبة والبسمة والشجن، فقد عاش صادقا مع نفسه، لم يتلون، وكان إنسانا طبيعيا، يصيب ويخطئ.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد شعير
كاتب مصري