عمارة الخيال التي تتحدى الواقع

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عمارة الخيال التي تتحدى الواقع

    عمارة الخيال التي تتحدى الواقع


    مينورو نوماتا يسائل المكان عن جمالياته المفقودة.
    الخميس 2024/10/31
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    نبوءة لمكان وزمان في انتظارنا

    مشاهد خلابة يرسمها الياباني مينورو نوماتا في معرضه "استمرارية" المنعقد بلندن، يستعيدها من الشكل المتخيل لبرج بابل التاريخي ومن روايات الخيال العلمي وكأنه يخلق زمنا مغايرا، وزمنا يلتزم الصمت، خاليا من البشر، ليلقي بتغيراته على المكان الذي يبدو مختلفا عما يمكن أن نراه، رغم أن كل ملامحه واقعية.

    أحل السرياليون الحلم محل الواقع حين تعاملوا معه باعتباره مصدرا للحقيقة. صحيح أن السريالية كانت في الأساس مدرسة أدبية غير أن الرسامين الذين التحقوا بها وهبوها الكثير من الرؤى التصويرية التي أغنتها بالكثير من الأفكار التي لم تكن متاحة في المجال الأدبي. وكان الإسباني سلفادور دالي هو الأشهر شعبيا غير أن تجربة البلجيكي رينيه ماغريت هي الأكثر عمقا إذا ما أخلص السرياليون لمبادئهم مع واقع خيالي وليس مع خيال الواقع.

    ما كنت لأبدأ بهذه المقدمة لولا أن لوحات الياباني مينورو نوماتا التي ضمها معرضه الشخصي في متحف “وايت كيوب” الصغير بلندن أعادتني إلى أجواء ماغريت، على الأقل في لوحاته التي تخلو من البشر. لقد حاول ماغريت أن يرسم الصمت، غير أن نوماتا استفاد أكثر من رسوم الإيطالي جورجيو دي شيركو (1888 ـ 1978) الذي انصب همه على استخلاص معنى الضياع البشري في مدن غير مأهولة.

    ما أن يرى المرء لوحات شيركو حتى يشعر بالضياع. سيكون في إمكان الطاقة الحلمية التي تنطوي عليها تلك اللوحات أن تعيد المرء إلى فكرة ألاّ يكون لحياته معنى. وهي فكرة مثيرة بقدر ما هي مزعجة. رسم شيركو شوارع مدينة هي ليست مدينة واقعية غير أنها ممكنة واقعيا بسبب احتفائها بالمفردات التي يسعى كل إنسان إلى أن يبقيها في المنطقة الصامتة من اضطرابه النفسي. الضياع والغربة والخوف من المجهول والقلق كلها صفات تلك المنطقة العازلة، ولكن أين تكمن الحقيقة؟

    ◄ في أكثر من عشر لوحات يستحضر الرسام في معرضه الجزء الغاطس من جبل الثلج بطرق مختلفة

    مينورو نوماتا (1955) هو رسام مدن خيالية تنفصل بخيالها في درجات مختلفة عن الواقع غير أنها في كل الأحوال لا تؤدي إليه إلا عن طريق الفكاهة السوداء. وهو واحد من مبادئ السريالية. ولأن رسومه جادة فإن توقع أن يضحك المرء وهو يراها غير محتمل. كما أن خيالها الذي ينطوي على استلهام للأساطير يفرض سطوته ليقف بين المرء ونفسه التي تعزف عن أيّ نوع من المحاكمة العقلية.

    على المستوى التقني تبدو رسوم نوماتا واقعية. رسم الرجل ما رآه ليمكّننا من رؤيته كما لو أننا رأيناه في وقت سابق. ولكن ذلك ليس حقيقيا. ما رسمه كان محض خيال لم يعشه إلا من أجل أن يرسمه. تلك صور أراد لها أن تعيش بعيدا عن حقيقتها. كل المفردات البصرية التي رسمها يمكن أن تُسمى من غير أن تشير صورها إلى وجودها في الواقع. فهو يرسم

    قصرا أو جسرا أو حقولا أو معملا لم يره أحد من قبل. لا لشيء إلا لأنه لم يكن موجودا قبل أن يُرسم. خيال يمكن أن تعطله تجارب المعمارية العراقية زها حديد التفكيكية.

    تُسر رسوم نوماتا لأنها توحي بخزين من الحكايات. في إمكان كل متلق أن يبتكر حكايته الخاصة المستلهمة مما سمعه. تعيدنا تلك الرسوم بالرغم من مظهرها الجاد إلى زمن الطفولة. إنها تنشي جسرا خياليا بين الواقع وحقيقته. يتساءل المرء “ماذا لو كان كل ما أراه حقيقا؟”.
    اختبار الطبيعة عبر الانفعال



    لهو بالأمكنة المتخيلة


    “جبل الجليد” هو واقعة وفكرة في الوقت نفسه. ينسج نوماتا حكايات بصرية كثيرة أفلت من خلالها من الطابع الوصفي لذلك الكيان الذي يغلب عليه الخيال غير أن الواقع لا ينكره.

    في أكثر من عشر لوحات يستحضر الرسام في معرضه الجزء الغاطس من جبل الثلج بطرق مختلفة. لقد وجد فيه عمارة غاطسة تحت الماء. وهي عمارة لا تفارق قوانين الطبيعة غير أنها قد لا تكون على ذلك الانضباط الذي نتوقعه من الواقع. يحرجنا الرسام بحرية أن يتخيل الشكل الذي يكون عليه ذلك الجزء الغاطس وهو يرسمه كما لو أنه رآه.

    اليابانيون يختبرون الطبيعة بطريقتهم الانفعالية البطيئة. يأسرهم شكل بعينه غير أنهم حين يرسمونه يهبونه طابعا شعريا. وما فعله نوماتا يشبه إلى حد كبير ما يفعله الشاعر بالكلمات. ما تقوله الطبيعة يلتزم بما نراه أما ما لم تقله فإنه سيكون حكرا بالشعر. تلك محاولة لاكتشاف جماليات عمارة مقلوبة. ولن يكون مهما إذا كانت العمارة قد التزمت بالقوانين الرياضية التي تحفظ لها توازنها أو أنها لم تقم بذلك. فحتى في المباني التي تخيل الرسام وجودها وصوّرها لم تكن تلك المعادلة قائمة أو ذات تأثير، لا لشيء إلا لأن وظيفة العمارة لدى نوماتا لم تكن مكرسة للإيواء.

    ما اقترحه نوماتا من أشكال غرائبية لا يصلح أن يكون مصدرا معماريا. ذلك لا ينفي طبعا أن تلك الأشكال ملهمة لقلة من المعماريين. هي قلة تميل إلى ممارسة ألعاب شكلية، لكن ليس على حساب الوظيفة.
    مساءلة المكان عبر الزمن



    رسوم نوماتا تبدو واقعية. رسم الرجل ما رآه ليمكّننا من رؤيته كما لو أننا رأيناه في وقت سابق


    يجمع الياباني مينورو نوماتا ما بين استعادة الشكل المتخيل لبرج بابل كما تخيله رسامون سبق لهم أن شُغفوا بالأساطير التي يمتزج من خلالها الديني بالتاريخي وبين الرغبة في إنشاء صور مستلهمة من روايات الخيال العلمي التي كانت بمثابة حافز للتفكير في تطوير بحوث الفضاء وعلاقة كوكبنا بالكون الذي هو جزء منه. في الحالين يبرز الزمن عنصرا حاسما في إضفاء طابع رمزي على المحاولة الفنية.

    ما أراد الفنان الوصول إليه يتحقق من النظرة الأولى التي يلقيها المتلقي على أعماله. ذلك عالم خيالي، لا زمن له غير أن الانجذاب إليه بسبب جماليات فكرته يدفع بالمتلقي في اتجاه التفكير في زمنه الخاص. وهو زمن مجاور. زمن لم يمرّ بنا غير أنه ممكن. كما لو كان برج بابل حقيقة إذا أردنا تصديق الحكاية الدينية وكما لو كان الكون الذي نعيش في ذرة منه سيخضع لأدواتنا العلمية القاصرة ويهبنا كل أسراره.

    المثير في لعبة الرسام الياباني أنها تجري على أساس مساءلة المكان عن جمالياته المفقودة غير أن ذلك ليس سوى غلاف يخفي مضمون الهوس بالزمن. ذلك رسام يعبّئ زمنه بالكثير من الأفكار المتمردة عن مكان لا وجود له وفي الوقت نفسه فإنه يلهو بالمكان المتخيل ليعدّه لزمن لم يعشه، غير أنه كما يتوقع نوماتا سيمر به. ربما يعتبر نوماتا رسومه نبوءة لمكان وزمان سيكونان في انتظارنا.





    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    فاروق يوسف
    كاتب عراقي
يعمل...
X