عمران يونس وتوق إلى خلق لوحة سورية حديثة
حكاية تشكيلية تبوح بذاكرة الفنان المليئة بالأشياء والحالات.
الجمعة 2024/11/01
شخوص متخيلة تسير بطرق متشوهة
بشخوص وحشية وبألوان حادة ومكثفة، تجسد لوحات عمران يونس المأساة السورية كما يراها وكما ترتبط بذاكرته التي يحررها على أسطح أعماله وكأنه يعيش ويعيّشنا لحظة مواجهة مع الألم والخوف والتفكير في الوجود الإنساني.
عمران يونس حكاية تشكيلية لا تنتهي، حكاية نسمعها بصريا دون أن يراوغنا بمنطق اعتيادي، حكاية نتابعها بشغف شهريار لشهرزاد وهي تسرد حكايتها كل ليلة، لكن هنا عند يونس هي المدى للعمق الإنساني الموجع حتى نقي الروح. ولهذا مفردات: الموت، الوحش، القتل، اللاإنسان، الخراب، القسوة، جماجم، قبور، هي التي تفرض ذاتها في مشاهده دون الاقتراب من التقليد أو من إعادة حالة أو تجربة أحدهم.
هو يمسك كمخرج مسرحي بخيوط شخصياته ويغلفها بطاقات يدعهم يحررونها بالإمساك بمفاهيمه دون أي انغلاق بوصفها تمثل عالمه لا كحقيقة فلسفية من شأنها أن تكشف عن أثره الذي يتقاطع بعناد مع وحشية الإنسان، ولا لاغتنام فرصة لاستعراض مسائل كارثية تستحق الملاحقة في إطار تاريخي ما، بل لإظهار القوة الافتراضية في قراءة مهاراتهم ومقاربة تشوهاتهم في معظم تحركاتهم، ولاستشراف كل المعطيات التي تدب في وجوههم وفي نمط الجسد بوصفه المنتشي بالوجع والتكبيل والتجريد، وكشفا لخصوصية يونس كحكاية تشكيلية سورية يمكن أن يختزل ذاكرته المليئة بالأشياء والحالات وما تؤول إليها.
♣ عمران يونس هو بحق حكاية تشكيلية سورية لا تنتهي؛ حكاية تسرد ذاتها كلوحات تتتابع داخل الأمكنة
عوالم عمران يونس محشوة بالسواد غير المألوف في إطار ضرورة التحول إلى أشيائه الغامضة نحو التمركز في وضع غير مريح، مع إمكانية استبعاد كل درجات الكبت خارج اللوحة، وخدمة لتقنية الكشف والتمثيل لا بد من ثغرة، منها يلج يونس ليقترح لنا الحقيقة الحاضرة الغائبة وبأبجدية مضطهدة يعزف شواهده الكثيرة دون أن يلتفت إلى خواتيمها المحاورة، فالقمع مستبد على امتداد التجربة والتهمة لا تسقط بالمحاورات المثيرة والكثيرة والأقنعة لا تؤطر لوجوه معينة فهي تعري الذاكرة كسجل دلالي وكشف التمثيلات البصرية.
يونس ينتمي إلى وجع التناقضات والمغالطات وينبض به؛ فالحياة والموت، الوحشية والكابوس، الحب والحرب، القتل واللاأمان، التعذيب والدم، الجماجم والمقابر، الحلم وغيره هي كلماته ومشاهده ونافذته التي منها وعبرها يطلق حركاته المتبلورة بتلك القضايا الساخنة والمدمرة إلى حد كبير، فهو يعتني عناية فائقة لا باكتشافاته ولا بتفسير تلك الاكتشافات، بل بسلسلة الإيماءات التي قد تكون مفاتيحه لقلب التراتبية لديه، ورمي النقاب وإزاحته، وبلغة ما يعتني يونس بالألم وبسببه أيضا، موحدا الحالة للتوصل إلى الكلي والجزئي معا.
“من أنت أيها الموت”، العبارة التي قالها عمران يونس وأرفقها بأعماله المتوجهة من دمشق إلى باريس عام 2014 ليقيم معرضا هناك، ولتنوب عنه في الحضور وتقول كلمته التي كان سيقولها لو سمحت له حينها الجهات المسؤولة بالمغادرة والسفر، وما لم توصله العبارة تلك أوصلته أعماله التي كانت تنزف وجعا ودما؛ فكل ما فيها ودون أن تخضع لقوانين الحدود والدول بل لأنساق تستجيب لحاجيات التجربة وتحولاتها، أودع فيه فكره وتذمره ومجمل مفردات حكايته وآهاتها، دون أي إقصاء للآخر.
والذات والآخر هنا يكشفان عن عمق تجربته كإنسان أولا وكفنان لاحقا، فقواعد الوجود تجعله يتكلم بلغة يصعب تحديد بدايتها؛ ذلك أن الأفكار عنده لا تنجلي بل تكون كمجمل أشيائه مرهونة بتصنيف خاص مع وصف الوقائع بسبل حقول معرفية لا تفقد هويته الخاصة.
عمران يونس فنان متمرد، يعي عمق هذا التمرد كما يعي الوظيفة الدلالية له، المجردة منها والمحسوسة، ولهذا فهو لم يقلد تجربة ما أو حالة قابلة للتكرار، وإنما يبدأ من حيث وصل الآخر، لا يجتر أسلوب أحد بل يصوغ فرضياته الخاصة ويخوض التجربة بشكل مغاير وبمغامرة عاشق، يخوض الاختلاف على نحو ما ينطوي عليه استحقاق مقارباته لحالة تورطه العذب. وهنا يبرز عفويته مع التجنب التام للسقوط في مخاطرة ما، أي على نحو ما بعدم تحييد الزمان والمكان في حكايته بل يستدعي بشكل دائم تلك الأصالة الداخلية المفقودة منذ سنوات بعيدة والتي تركت حزنا عميقا على امتداد عالمه وعالم أعماله التي تمهد الروح بالتطلع إلى إنسانية جديدة.
◙ عوالم عمران يونس محشوة بالسواد في إطار ضرورة التحول إلى أشيائه الغامضة نحو التمركز في وضع غير مريح
إنه يتوق إلى خلق لوحة سورية حديثة مهما كانت اللحظة والظروف، ويرمي جانبا كل التحولات والوقائع ويقبض على خاصية البنية الجديدة، وهو يملك شيفرتي اللهب واللعب بالتعامل مع المعطيات الموجودة والحاضرة بالتزامن مع سعيه لفرض مفهوم الظاهرة دون أن يكبح جماحه في انبثاق تقاليده الخاصة ذات المنحى الجديد والمغاير.
الخلاصة إذا صح التعبير أن عمران يونس هو بحق حكاية تشكيلية سورية لا تنتهي؛ حكاية تسرد ذاتها، لا كبوابة للذكريات المرة تنفتح على نفسها فحسب، بل كلوحات تتتابع داخل الأمكنة التي تحمل كل معاني الألم، وتعكس كل التمزق في مداها الذي يقتضي دلاليا التواجد في كل الجهات.
هي حكاية حملها أكثر من فنان سوري بكامل عناصرها ومفرداتها وخطوطها، لكن ضيق الأفق لديهم جعل عمران يونس يرافقهم، بل ويقيم في أعمالهم، يحكي عنهم، وحده القادر على سردها، فهي سيرته الخاصة، ولهذا يصعب على الآخرين إخفاء ما فيها من خاصيته تلك، وأسلوبه الذي يرافق تلك الحكاية أينما حطت، ومهما كانت هوية الفنان الذي اختلسها، تبقى قامته قصيرة، قد لا يمكننا رؤيته حتى بالمجهر. نعم هناك مؤثرات، الكل يتأثر بالكل، لكن أن تلبس التجربة بكامل ثيابها وتخرج بها مستعرضا في صالات أوروبية، تتباهى بها وبملكيتها، فهذا قمة السخف، لا تدل إلا على اعوجاج وزيف نسقه ومنظومته الفكرية والفنية والإنسانية.
غريب ملا زلال
كاتب سوري
حكاية تشكيلية تبوح بذاكرة الفنان المليئة بالأشياء والحالات.
الجمعة 2024/11/01
شخوص متخيلة تسير بطرق متشوهة
بشخوص وحشية وبألوان حادة ومكثفة، تجسد لوحات عمران يونس المأساة السورية كما يراها وكما ترتبط بذاكرته التي يحررها على أسطح أعماله وكأنه يعيش ويعيّشنا لحظة مواجهة مع الألم والخوف والتفكير في الوجود الإنساني.
عمران يونس حكاية تشكيلية لا تنتهي، حكاية نسمعها بصريا دون أن يراوغنا بمنطق اعتيادي، حكاية نتابعها بشغف شهريار لشهرزاد وهي تسرد حكايتها كل ليلة، لكن هنا عند يونس هي المدى للعمق الإنساني الموجع حتى نقي الروح. ولهذا مفردات: الموت، الوحش، القتل، اللاإنسان، الخراب، القسوة، جماجم، قبور، هي التي تفرض ذاتها في مشاهده دون الاقتراب من التقليد أو من إعادة حالة أو تجربة أحدهم.
هو يمسك كمخرج مسرحي بخيوط شخصياته ويغلفها بطاقات يدعهم يحررونها بالإمساك بمفاهيمه دون أي انغلاق بوصفها تمثل عالمه لا كحقيقة فلسفية من شأنها أن تكشف عن أثره الذي يتقاطع بعناد مع وحشية الإنسان، ولا لاغتنام فرصة لاستعراض مسائل كارثية تستحق الملاحقة في إطار تاريخي ما، بل لإظهار القوة الافتراضية في قراءة مهاراتهم ومقاربة تشوهاتهم في معظم تحركاتهم، ولاستشراف كل المعطيات التي تدب في وجوههم وفي نمط الجسد بوصفه المنتشي بالوجع والتكبيل والتجريد، وكشفا لخصوصية يونس كحكاية تشكيلية سورية يمكن أن يختزل ذاكرته المليئة بالأشياء والحالات وما تؤول إليها.
♣ عمران يونس هو بحق حكاية تشكيلية سورية لا تنتهي؛ حكاية تسرد ذاتها كلوحات تتتابع داخل الأمكنة
عوالم عمران يونس محشوة بالسواد غير المألوف في إطار ضرورة التحول إلى أشيائه الغامضة نحو التمركز في وضع غير مريح، مع إمكانية استبعاد كل درجات الكبت خارج اللوحة، وخدمة لتقنية الكشف والتمثيل لا بد من ثغرة، منها يلج يونس ليقترح لنا الحقيقة الحاضرة الغائبة وبأبجدية مضطهدة يعزف شواهده الكثيرة دون أن يلتفت إلى خواتيمها المحاورة، فالقمع مستبد على امتداد التجربة والتهمة لا تسقط بالمحاورات المثيرة والكثيرة والأقنعة لا تؤطر لوجوه معينة فهي تعري الذاكرة كسجل دلالي وكشف التمثيلات البصرية.
يونس ينتمي إلى وجع التناقضات والمغالطات وينبض به؛ فالحياة والموت، الوحشية والكابوس، الحب والحرب، القتل واللاأمان، التعذيب والدم، الجماجم والمقابر، الحلم وغيره هي كلماته ومشاهده ونافذته التي منها وعبرها يطلق حركاته المتبلورة بتلك القضايا الساخنة والمدمرة إلى حد كبير، فهو يعتني عناية فائقة لا باكتشافاته ولا بتفسير تلك الاكتشافات، بل بسلسلة الإيماءات التي قد تكون مفاتيحه لقلب التراتبية لديه، ورمي النقاب وإزاحته، وبلغة ما يعتني يونس بالألم وبسببه أيضا، موحدا الحالة للتوصل إلى الكلي والجزئي معا.
“من أنت أيها الموت”، العبارة التي قالها عمران يونس وأرفقها بأعماله المتوجهة من دمشق إلى باريس عام 2014 ليقيم معرضا هناك، ولتنوب عنه في الحضور وتقول كلمته التي كان سيقولها لو سمحت له حينها الجهات المسؤولة بالمغادرة والسفر، وما لم توصله العبارة تلك أوصلته أعماله التي كانت تنزف وجعا ودما؛ فكل ما فيها ودون أن تخضع لقوانين الحدود والدول بل لأنساق تستجيب لحاجيات التجربة وتحولاتها، أودع فيه فكره وتذمره ومجمل مفردات حكايته وآهاتها، دون أي إقصاء للآخر.
والذات والآخر هنا يكشفان عن عمق تجربته كإنسان أولا وكفنان لاحقا، فقواعد الوجود تجعله يتكلم بلغة يصعب تحديد بدايتها؛ ذلك أن الأفكار عنده لا تنجلي بل تكون كمجمل أشيائه مرهونة بتصنيف خاص مع وصف الوقائع بسبل حقول معرفية لا تفقد هويته الخاصة.
عمران يونس فنان متمرد، يعي عمق هذا التمرد كما يعي الوظيفة الدلالية له، المجردة منها والمحسوسة، ولهذا فهو لم يقلد تجربة ما أو حالة قابلة للتكرار، وإنما يبدأ من حيث وصل الآخر، لا يجتر أسلوب أحد بل يصوغ فرضياته الخاصة ويخوض التجربة بشكل مغاير وبمغامرة عاشق، يخوض الاختلاف على نحو ما ينطوي عليه استحقاق مقارباته لحالة تورطه العذب. وهنا يبرز عفويته مع التجنب التام للسقوط في مخاطرة ما، أي على نحو ما بعدم تحييد الزمان والمكان في حكايته بل يستدعي بشكل دائم تلك الأصالة الداخلية المفقودة منذ سنوات بعيدة والتي تركت حزنا عميقا على امتداد عالمه وعالم أعماله التي تمهد الروح بالتطلع إلى إنسانية جديدة.
◙ عوالم عمران يونس محشوة بالسواد في إطار ضرورة التحول إلى أشيائه الغامضة نحو التمركز في وضع غير مريح
إنه يتوق إلى خلق لوحة سورية حديثة مهما كانت اللحظة والظروف، ويرمي جانبا كل التحولات والوقائع ويقبض على خاصية البنية الجديدة، وهو يملك شيفرتي اللهب واللعب بالتعامل مع المعطيات الموجودة والحاضرة بالتزامن مع سعيه لفرض مفهوم الظاهرة دون أن يكبح جماحه في انبثاق تقاليده الخاصة ذات المنحى الجديد والمغاير.
الخلاصة إذا صح التعبير أن عمران يونس هو بحق حكاية تشكيلية سورية لا تنتهي؛ حكاية تسرد ذاتها، لا كبوابة للذكريات المرة تنفتح على نفسها فحسب، بل كلوحات تتتابع داخل الأمكنة التي تحمل كل معاني الألم، وتعكس كل التمزق في مداها الذي يقتضي دلاليا التواجد في كل الجهات.
هي حكاية حملها أكثر من فنان سوري بكامل عناصرها ومفرداتها وخطوطها، لكن ضيق الأفق لديهم جعل عمران يونس يرافقهم، بل ويقيم في أعمالهم، يحكي عنهم، وحده القادر على سردها، فهي سيرته الخاصة، ولهذا يصعب على الآخرين إخفاء ما فيها من خاصيته تلك، وأسلوبه الذي يرافق تلك الحكاية أينما حطت، ومهما كانت هوية الفنان الذي اختلسها، تبقى قامته قصيرة، قد لا يمكننا رؤيته حتى بالمجهر. نعم هناك مؤثرات، الكل يتأثر بالكل، لكن أن تلبس التجربة بكامل ثيابها وتخرج بها مستعرضا في صالات أوروبية، تتباهى بها وبملكيتها، فهذا قمة السخف، لا تدل إلا على اعوجاج وزيف نسقه ومنظومته الفكرية والفنية والإنسانية.
غريب ملا زلال
كاتب سوري