"روح الموسيقى" مناورة روائية بين الزمن والفقدان
أكيرا ميزوباياشي يلعب على أمواجه الأثيرة ويباغت المتلقي.
السبت 2024/10/26
ShareWhatsAppTwitterFacebook
الموسيقى تقود السرد (لوحة للفنان تحسين الزيدي)
الاهتمام بمفهوم الزمن لم يقف عند حدود العلم والنقاشات الفلسفية حول طبيعته الفيزيائية فحسب، بل أراد علم النفس الكشف عن الزمن الشخصي المنفصل عن التيار العام، وذلك ما يتجلى أكثر في الحالات التي ينقطع فيها المرء عن إدراك البعد الزمني بوصفه نظاما موضوعيا، إذ يشعر السجين بثقل الزمن وسيره البطيء بينما الشعور به خفيف في حالة الفرح، لذلك كان جاك بريفر محقا في قوله بأن السعادة تدرك بالجلبة التي تخلفها أثناء رحيلها.
ما يضفي شكلا على الزمن هو الإبداع الفني، لذلك تراه ثيمة لكثير من الأعمال الأدبية، وقد يكون للرواية رصيد أوفر على هذا الصعيد. بدوره تناول الكاتب الياباني أكيرا ميزوباياشي هذا الموضوع الأثير في روايته “روح الموسيقى”، وغني عن القول بأن كلا من الموسيقى والرواية تصنفان ضمن الفنون الزمنية، كما أن الاستماع إلى المعزوفات الموسيقية يستغرق وقتا، بالمثل تتطلب قراءة النص الروائي زمنا محددا، كما يلعب التصميم والبناء دورا كبيرا في التشكيلة البنوية بالنسبة إلى كلا الفنين.
وما يلفت الانتباه في رواية ميزوباياشي أن الأخير يحاكي الموجات الموسيقية في صياغة وحدات عمله الروائي بالسلاسة والانسيابية وما يمرره خلال المسافات البيضاء من الإيحاء بالانتقال الزمني يضاهي الوقفات المتخللة بين النغمات الموسيقية، وبذلك يكون العنوان بطاقته حاضرا في تركيبة النص وحركته المنتظمة على خط تتناوب عليه الأزمنة والشخصيات، هذا إضافة إلى أن الحدث المؤسس للانطلاقة السردية يشد أطراف الرواية بأكملها، ما يعني أن آلية العمل لا تخطئ في إضاءة الشخصيات كلما استدعى الموقف ذلك.
جينات النص
ما قدمه أكيرا ميزوباياشي يصلح لأن يدرس في ورشات كتابة الرواية لأنه أبعد ما يكون عن الافتعال والتعثر
بدايات الأعمال الروائية هي بمنزلة مفاتيح لمعرفة واستجلاء أجوائها؛ تكمن شيفرات رواية “روح الموسيقى” في المدخل الذي يتسع للأصوات التي تنهض عليها حبكة القصة، إذ يحدد الراوي المراوغ الزمن الذي ينتظم في تياره السرد مضيفا المكان إلى خلفية المشهد المكون من عدة شخصيات منكبة على متابعة العزف الموسيقي والتدرب على مقطوعات عالمية. واللافت أن الراوي يرمي إلى بث التوتر في جسد النص وذلك من خلال ما يبدأ به شريط السرد من الإشارة إلى المداهمة للمبنى الذي يكون مسرحا للأحداث. والملاحظ أن استنفار حاسة السمع هو ما ينفتح عليه النص منذ الحركة الأولى، “ضجيج حذاء، حاد وقاطع، يرتفع، ينخفض. أحدهم يمشي. توقف. استأنف مشيه”.
ومع مضي السرد يتم الكشف عن زاوية النظر للمعطيات السردية والاسم الذي يسمعه الصبي المختبئ في الخزانة هو “كوركامي”؛ فالأخير على الرغم من غيابه عن سلسلة الأحداث التي تتوالى في بيئة النص، يكون مؤثرا في انتظام خيوط الحبكة السردية، كما أن صوته يستعاد من خلال حفيدته ميدوري يامازاكي، فيما يتابع الصبي من موقعه ما يدور بين الجنود ويو الذي يجيب عن أسئلة العريف تاناكا الموغل في روحيته العدوانية بتحطيم آلة الكمان والتنكيل بصاحبها.
يلمح دخول عسكري برتبة رفيعة فوجود الشخص الجديد يخفف حدة التشنج المغلف للأجواء بعدما يفصل العريف في الحديث عن واقع ما يراه الملازم، مبديا شكوكه في صحة ما يعلنه المجتمعون بأنهم يعزفون الموسيقى، إذ يرجح بأن هذا ليس أكثر من مظهر لاجتماع سري. يتساءل الجندي صاحب الرتبة الرفيعة عن سر الكمان المهشم؟ يرد تاناكا بأنه قد كسر آلة الموسيقى لأن يو قد نطق بكلمات مخلة بالأدب الواجب لجنود جلالة الإمبراطور.
ما يقوله الملازم تعقيبا على كلام العريف يكشف الاختلاف بين الاثنين، فالأول لا يفتقد إلى الحس الفني وما تعنيه الموسيقى بالنسبة إلى الإنسان، فيما الثاني يفكر بعقلية أداتية مهووسة بفرضية المؤامرة، ولا يرى أبعد مما تحدده الوظيفة الأمنية. ويراقب الراوي انصراف الملازم نحو يو ومن ثم تتخذ الصيغة منحى حواريا بين الاثنين، حيث يسأل العسكري عن اسم العمل الذي كانوا يعزفونه، ويأتي الرد من يو بأنه روزاموند. يستمر الحوار مشحونا بالنبرة الودية وتتوارد في إطاره أسماء لا تخرج عن المعجم الموسيقي، إلى أنْ يلبي يو “ميزوساوا” طلب الملازم بعزف مقطع لباخ بصحبة أصدقائه، ويتدخل صوت الراوي من جديد ناقلا ما يسود خلال العزف من الهدوء والتناغم.
يذكر بأنه لا يكتفي في الوحدة اللاحقة بمراقبة الأفعال على المستوى الخارجي بل يستطبن أعماق العازف وتماهيه مع الصور التي يتخيلها، منطلقا نحو فضاء أوسع ولا يغيب الملازم عن مرمى عين الراوي متابعا تفاعله مع العزف وإنصاته العميق للنغمات. وما إن ينتهي ميزوساوا من عزف المقطوعة حتى يذكر الملازم اسمها وتفتح مرة أخرى بيئة النص على الصيغة الحوارية بين يو والملازم. ويعبر الأخير عن شكره للعازف مخاطبا العريف بأنه بات واضحا الهدف من اجتماع ميزوساوا وأصدقائه في المكان، فغايتهم ليست أكثر من العزف وهو يقول ذلك متوقعا بأن تاناكا يوافقه الرأي، غير أن العريف لا ينبس ببنت شفة.
حبكة متقنة
الكاتب يعيد إلى الذهن ما عاشته اليابان من صراعات مع الصين والكارثة التي انتهت بها الحرب العالمية الثانية
تحديد الروائي للخط الذي يتحرك عليه النص ويضفي على بنيته المزيد من الطاقة التشويقية يعد تحديا يضع المادة الإبداعية على المحك. فقد نجح أكيرا ميزوباياشي في ترتيب أوراق روايته على مدى المساحة السردية، وتفوق بامتياز في إدارة الشخصيات في الحلقات المتوترة والهادئة، مع نهاية العزف الموسيقي ومحاولة الملازم إقناع العريف بعدم صحة فرضياته الأمنية حول المجتمعين في مبنى المركز الثقافي، يخيل للمتلقي أن الوضعية تنتهي عند هذا الحد، لكن كما هو معروف عن مناورات نصوص مكتوبة بجودة عالية فإن ميزوباياشي يخالف توقع القارئ بعودة الأجواء إلى منطقة التوتر تماما كما آثر أن تكون كذلك في المستهل.
ويشوب المكان التوتر عندما يبلغ الملازم عن طريق جندي يدخل إلى الصالة بأن الأوامر الصادرة من الجهة العليا تطالب باقتياد جميع المشبوهين الذين تم التحقيق معهم إلى القيادة العامة. هنا يتدخل الراوي راصدا العريف وما تنم عنه ملامحه من الشعور بالارتياح. والملمح الوجداني في هذا المفصل لا يتمثل في قيام العريف بواجباته العسكرية بل ما يتبع ذلك من معاينة الملازم كوروكامي للكمان المعطوب ولقائه بالطفل المختبئ الذي كان يقرأ كتابا بعنوان “قل لي كيف ستعيش؟” يعتبر اللحظة الانفجارية لشحنات درامية في النص.
ما يثير غرابة الطفل هو معنى اسم الملازم الذي يعرفه حين يناديه أحد الجنود “كوروكامي”، وما يهم الكاتب هو تفعيل الطاقة البصرية والسمعية من خلال السرد الحيوي، الأمر الذي يضيق المسافة بين النص والمتلقي إلى درجة الصفر. وقد برع الكاتب في استكشاف زوايا المكان وما تكسبه أفعال الشخصيات من الأشكال الموحية، وذلك يكون بعدسة الراوي ما يبعد شبح دكتاتورية المؤلف عن النص.
وبعدما يخلو الموقع من الجنود المقتادين للعازف وأصدقائه تتحول الأضواء إلى الطفل كاشفة مشاعره الباطنية من الترقب والجوع والخوف، وأخيرا يغادر ري المكان وينتهي هذا الجزء من الرواية بصورة مشهدية محبوكة
بفنية عالية، ليست أقل تأثيرا من لغة الكاميرا إن لم تفقها بلاغة وتعبيرا؛ “سلك الشارع المفضي إلى المنزل، حث خطاه حاملا الكمان المخرب كأنه حيوان محتضر يريد أن ينقذه من المفترس ومن شر صياد لا يرحم”.
يحاكي الموجات الموسيقية في صياغة وحدات عمله الروائي بالسلاسة والانسيابية
لا يثقل الكاتب الرواية بالتفاصيل المملة ويعول بالدرجة الأولى على السرد الممزوج بالوصف للإبانة عن حالة الشخصية الرئيسية ري بعد غياب الوالد القسري، مستعيدا شخصية فليب، وهو فرنسي مقيم برفقة زوجته في اليابان تربطه علاقة الصداقة مع العازف، ويكون دوره في التشكيلة السردية فاعلا على الرغم من مساحته المحدودة، لأنه يتبنى ري ويأخذه معه إلى فرنسا عندما يتأكد من أن أجواء الحرب زادت كراهية اليابان للأجانب.
وما انفك الكاتب يلعب على أمواجه الأثيرة ويباغت المتلقي بتقنية الحذف المضمر والانتقال بالشخصية إلى مرحلة زمنية جديدة، إذ يعود ري إلى المشهد باسم آخر هو جاك مايار، ويعكف على صناعة الكمنجات، ويتنقل بين المدن إلى أن يزداد دراية بحرفته. ويتسلسل السرد منفتحا على قصص فرعية منها ما يكون خاصا بالشخصيات الورقية، كقصة الحب بين جاك وهيلين، أو ما يكون تلميحات لشخصيات لها بصمة في صناعة الكمان مثل فرانسوا كزافييه تورت، الذي أدخل الخشب البرازيلي في تكوين الكمان.
والجدير بالتأمل في صياغة التفصيل الروائي هو الإيحاء باختلاف الأزمنة من خلال الإشارة إلى الإحداثيات التقنية. كما يعيد الكاتب إلى الذهن ما عاشته اليابان من الصراعات العميقة مع جارتها الصين والكارثة التي انتهت بها المشاركة في الحرب العالمية الثانية، تقع على كل ذلك في تضاعيف الرواية دون أن يبدو النص متورما بالحشو، أو يخسر خفته. لذلك لا مبالغة في القول إن ما قدمه أكيرا ميزوباياشي يصلح لأن يدرس في ورشات كتابة الرواية لأنه أبعد ما يكون عن الافتعال والتعثر في تصميم وحدات عمله. وما يتسع له نطاق النص يخدم الفكرة الأساسية وهي أن الفن يعبر التباين العرقي والاستقطاب السياسي وينتصر على الجغرافيا.
يشار إلى أن بموازاة حضور أعلام الموسيقى العالمية يتفاعل النص مع ما يكون من صميم الثقافة اليابانية، ولا يتمثل ذلك فقط في ذكر كتاب “قل لي كيف ستعيش؟” لغنزابورو يوشينو وكتاب “الباخرة والمصنع” بل يورد الكاتب أسماء لوصفات من الأطعمة اليابانية في متنه الروائي.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
كه يلان محمد
كاتب عراقي
أكيرا ميزوباياشي يلعب على أمواجه الأثيرة ويباغت المتلقي.
السبت 2024/10/26
ShareWhatsAppTwitterFacebook
الموسيقى تقود السرد (لوحة للفنان تحسين الزيدي)
الاهتمام بمفهوم الزمن لم يقف عند حدود العلم والنقاشات الفلسفية حول طبيعته الفيزيائية فحسب، بل أراد علم النفس الكشف عن الزمن الشخصي المنفصل عن التيار العام، وذلك ما يتجلى أكثر في الحالات التي ينقطع فيها المرء عن إدراك البعد الزمني بوصفه نظاما موضوعيا، إذ يشعر السجين بثقل الزمن وسيره البطيء بينما الشعور به خفيف في حالة الفرح، لذلك كان جاك بريفر محقا في قوله بأن السعادة تدرك بالجلبة التي تخلفها أثناء رحيلها.
ما يضفي شكلا على الزمن هو الإبداع الفني، لذلك تراه ثيمة لكثير من الأعمال الأدبية، وقد يكون للرواية رصيد أوفر على هذا الصعيد. بدوره تناول الكاتب الياباني أكيرا ميزوباياشي هذا الموضوع الأثير في روايته “روح الموسيقى”، وغني عن القول بأن كلا من الموسيقى والرواية تصنفان ضمن الفنون الزمنية، كما أن الاستماع إلى المعزوفات الموسيقية يستغرق وقتا، بالمثل تتطلب قراءة النص الروائي زمنا محددا، كما يلعب التصميم والبناء دورا كبيرا في التشكيلة البنوية بالنسبة إلى كلا الفنين.
وما يلفت الانتباه في رواية ميزوباياشي أن الأخير يحاكي الموجات الموسيقية في صياغة وحدات عمله الروائي بالسلاسة والانسيابية وما يمرره خلال المسافات البيضاء من الإيحاء بالانتقال الزمني يضاهي الوقفات المتخللة بين النغمات الموسيقية، وبذلك يكون العنوان بطاقته حاضرا في تركيبة النص وحركته المنتظمة على خط تتناوب عليه الأزمنة والشخصيات، هذا إضافة إلى أن الحدث المؤسس للانطلاقة السردية يشد أطراف الرواية بأكملها، ما يعني أن آلية العمل لا تخطئ في إضاءة الشخصيات كلما استدعى الموقف ذلك.
جينات النص
ما قدمه أكيرا ميزوباياشي يصلح لأن يدرس في ورشات كتابة الرواية لأنه أبعد ما يكون عن الافتعال والتعثر
بدايات الأعمال الروائية هي بمنزلة مفاتيح لمعرفة واستجلاء أجوائها؛ تكمن شيفرات رواية “روح الموسيقى” في المدخل الذي يتسع للأصوات التي تنهض عليها حبكة القصة، إذ يحدد الراوي المراوغ الزمن الذي ينتظم في تياره السرد مضيفا المكان إلى خلفية المشهد المكون من عدة شخصيات منكبة على متابعة العزف الموسيقي والتدرب على مقطوعات عالمية. واللافت أن الراوي يرمي إلى بث التوتر في جسد النص وذلك من خلال ما يبدأ به شريط السرد من الإشارة إلى المداهمة للمبنى الذي يكون مسرحا للأحداث. والملاحظ أن استنفار حاسة السمع هو ما ينفتح عليه النص منذ الحركة الأولى، “ضجيج حذاء، حاد وقاطع، يرتفع، ينخفض. أحدهم يمشي. توقف. استأنف مشيه”.
ومع مضي السرد يتم الكشف عن زاوية النظر للمعطيات السردية والاسم الذي يسمعه الصبي المختبئ في الخزانة هو “كوركامي”؛ فالأخير على الرغم من غيابه عن سلسلة الأحداث التي تتوالى في بيئة النص، يكون مؤثرا في انتظام خيوط الحبكة السردية، كما أن صوته يستعاد من خلال حفيدته ميدوري يامازاكي، فيما يتابع الصبي من موقعه ما يدور بين الجنود ويو الذي يجيب عن أسئلة العريف تاناكا الموغل في روحيته العدوانية بتحطيم آلة الكمان والتنكيل بصاحبها.
يلمح دخول عسكري برتبة رفيعة فوجود الشخص الجديد يخفف حدة التشنج المغلف للأجواء بعدما يفصل العريف في الحديث عن واقع ما يراه الملازم، مبديا شكوكه في صحة ما يعلنه المجتمعون بأنهم يعزفون الموسيقى، إذ يرجح بأن هذا ليس أكثر من مظهر لاجتماع سري. يتساءل الجندي صاحب الرتبة الرفيعة عن سر الكمان المهشم؟ يرد تاناكا بأنه قد كسر آلة الموسيقى لأن يو قد نطق بكلمات مخلة بالأدب الواجب لجنود جلالة الإمبراطور.
ما يقوله الملازم تعقيبا على كلام العريف يكشف الاختلاف بين الاثنين، فالأول لا يفتقد إلى الحس الفني وما تعنيه الموسيقى بالنسبة إلى الإنسان، فيما الثاني يفكر بعقلية أداتية مهووسة بفرضية المؤامرة، ولا يرى أبعد مما تحدده الوظيفة الأمنية. ويراقب الراوي انصراف الملازم نحو يو ومن ثم تتخذ الصيغة منحى حواريا بين الاثنين، حيث يسأل العسكري عن اسم العمل الذي كانوا يعزفونه، ويأتي الرد من يو بأنه روزاموند. يستمر الحوار مشحونا بالنبرة الودية وتتوارد في إطاره أسماء لا تخرج عن المعجم الموسيقي، إلى أنْ يلبي يو “ميزوساوا” طلب الملازم بعزف مقطع لباخ بصحبة أصدقائه، ويتدخل صوت الراوي من جديد ناقلا ما يسود خلال العزف من الهدوء والتناغم.
يذكر بأنه لا يكتفي في الوحدة اللاحقة بمراقبة الأفعال على المستوى الخارجي بل يستطبن أعماق العازف وتماهيه مع الصور التي يتخيلها، منطلقا نحو فضاء أوسع ولا يغيب الملازم عن مرمى عين الراوي متابعا تفاعله مع العزف وإنصاته العميق للنغمات. وما إن ينتهي ميزوساوا من عزف المقطوعة حتى يذكر الملازم اسمها وتفتح مرة أخرى بيئة النص على الصيغة الحوارية بين يو والملازم. ويعبر الأخير عن شكره للعازف مخاطبا العريف بأنه بات واضحا الهدف من اجتماع ميزوساوا وأصدقائه في المكان، فغايتهم ليست أكثر من العزف وهو يقول ذلك متوقعا بأن تاناكا يوافقه الرأي، غير أن العريف لا ينبس ببنت شفة.
حبكة متقنة
الكاتب يعيد إلى الذهن ما عاشته اليابان من صراعات مع الصين والكارثة التي انتهت بها الحرب العالمية الثانية
تحديد الروائي للخط الذي يتحرك عليه النص ويضفي على بنيته المزيد من الطاقة التشويقية يعد تحديا يضع المادة الإبداعية على المحك. فقد نجح أكيرا ميزوباياشي في ترتيب أوراق روايته على مدى المساحة السردية، وتفوق بامتياز في إدارة الشخصيات في الحلقات المتوترة والهادئة، مع نهاية العزف الموسيقي ومحاولة الملازم إقناع العريف بعدم صحة فرضياته الأمنية حول المجتمعين في مبنى المركز الثقافي، يخيل للمتلقي أن الوضعية تنتهي عند هذا الحد، لكن كما هو معروف عن مناورات نصوص مكتوبة بجودة عالية فإن ميزوباياشي يخالف توقع القارئ بعودة الأجواء إلى منطقة التوتر تماما كما آثر أن تكون كذلك في المستهل.
ويشوب المكان التوتر عندما يبلغ الملازم عن طريق جندي يدخل إلى الصالة بأن الأوامر الصادرة من الجهة العليا تطالب باقتياد جميع المشبوهين الذين تم التحقيق معهم إلى القيادة العامة. هنا يتدخل الراوي راصدا العريف وما تنم عنه ملامحه من الشعور بالارتياح. والملمح الوجداني في هذا المفصل لا يتمثل في قيام العريف بواجباته العسكرية بل ما يتبع ذلك من معاينة الملازم كوروكامي للكمان المعطوب ولقائه بالطفل المختبئ الذي كان يقرأ كتابا بعنوان “قل لي كيف ستعيش؟” يعتبر اللحظة الانفجارية لشحنات درامية في النص.
ما يثير غرابة الطفل هو معنى اسم الملازم الذي يعرفه حين يناديه أحد الجنود “كوروكامي”، وما يهم الكاتب هو تفعيل الطاقة البصرية والسمعية من خلال السرد الحيوي، الأمر الذي يضيق المسافة بين النص والمتلقي إلى درجة الصفر. وقد برع الكاتب في استكشاف زوايا المكان وما تكسبه أفعال الشخصيات من الأشكال الموحية، وذلك يكون بعدسة الراوي ما يبعد شبح دكتاتورية المؤلف عن النص.
وبعدما يخلو الموقع من الجنود المقتادين للعازف وأصدقائه تتحول الأضواء إلى الطفل كاشفة مشاعره الباطنية من الترقب والجوع والخوف، وأخيرا يغادر ري المكان وينتهي هذا الجزء من الرواية بصورة مشهدية محبوكة
بفنية عالية، ليست أقل تأثيرا من لغة الكاميرا إن لم تفقها بلاغة وتعبيرا؛ “سلك الشارع المفضي إلى المنزل، حث خطاه حاملا الكمان المخرب كأنه حيوان محتضر يريد أن ينقذه من المفترس ومن شر صياد لا يرحم”.
يحاكي الموجات الموسيقية في صياغة وحدات عمله الروائي بالسلاسة والانسيابية
لا يثقل الكاتب الرواية بالتفاصيل المملة ويعول بالدرجة الأولى على السرد الممزوج بالوصف للإبانة عن حالة الشخصية الرئيسية ري بعد غياب الوالد القسري، مستعيدا شخصية فليب، وهو فرنسي مقيم برفقة زوجته في اليابان تربطه علاقة الصداقة مع العازف، ويكون دوره في التشكيلة السردية فاعلا على الرغم من مساحته المحدودة، لأنه يتبنى ري ويأخذه معه إلى فرنسا عندما يتأكد من أن أجواء الحرب زادت كراهية اليابان للأجانب.
وما انفك الكاتب يلعب على أمواجه الأثيرة ويباغت المتلقي بتقنية الحذف المضمر والانتقال بالشخصية إلى مرحلة زمنية جديدة، إذ يعود ري إلى المشهد باسم آخر هو جاك مايار، ويعكف على صناعة الكمنجات، ويتنقل بين المدن إلى أن يزداد دراية بحرفته. ويتسلسل السرد منفتحا على قصص فرعية منها ما يكون خاصا بالشخصيات الورقية، كقصة الحب بين جاك وهيلين، أو ما يكون تلميحات لشخصيات لها بصمة في صناعة الكمان مثل فرانسوا كزافييه تورت، الذي أدخل الخشب البرازيلي في تكوين الكمان.
والجدير بالتأمل في صياغة التفصيل الروائي هو الإيحاء باختلاف الأزمنة من خلال الإشارة إلى الإحداثيات التقنية. كما يعيد الكاتب إلى الذهن ما عاشته اليابان من الصراعات العميقة مع جارتها الصين والكارثة التي انتهت بها المشاركة في الحرب العالمية الثانية، تقع على كل ذلك في تضاعيف الرواية دون أن يبدو النص متورما بالحشو، أو يخسر خفته. لذلك لا مبالغة في القول إن ما قدمه أكيرا ميزوباياشي يصلح لأن يدرس في ورشات كتابة الرواية لأنه أبعد ما يكون عن الافتعال والتعثر في تصميم وحدات عمله. وما يتسع له نطاق النص يخدم الفكرة الأساسية وهي أن الفن يعبر التباين العرقي والاستقطاب السياسي وينتصر على الجغرافيا.
يشار إلى أن بموازاة حضور أعلام الموسيقى العالمية يتفاعل النص مع ما يكون من صميم الثقافة اليابانية، ولا يتمثل ذلك فقط في ذكر كتاب “قل لي كيف ستعيش؟” لغنزابورو يوشينو وكتاب “الباخرة والمصنع” بل يورد الكاتب أسماء لوصفات من الأطعمة اليابانية في متنه الروائي.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
كه يلان محمد
كاتب عراقي