"أطلال رأس بيروت" رواية عن هشاشة البشر في مواجهة الأطلال النفسية والمكانية
محمد الحجيري يبحث عن معنى بين الخراب.
الخميس 2024/10/24
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أطلال ذوات متشظية (لوحة للفنان منصور الهبر)
للمكان تأثيره في النفس البشرية، فالمكان ليس مجرد جغرافيا، إنه تاريخ كامل بكل ما يطرأ عليه من تقلبات وأحداث وما يجول فيه من شخصيات تصنع تلك الأحداث. عربيا لعل بيروت من أكثر المدن الملهمة والمتحركة والمتقلبة، ما يجعلها فضاء روائيا بامتياز، لا انسلاخا عن واقعها بل غوصا في خفاياها كما فعل الكاتب محمد الحجيري.
تغوص رواية “أطلال رأس بيروت” لمحمد الحجيري عميقاً في ثنايا الذات البشرية، تلك التي تحيا وتتفاعل مع أمكنةٍ لم تعد تحتفظ سوى بذكريات منخرطة في حالة دائمة من الاندثار، لتتجاوز بذلك حدود السرد التقليدي وتنحو باتجاه فلسفة المكان ووجوده وأبنائه.
يعتمد الحجيري في روايته، الصادرة عن دار رياض الريس بيروت 2024، على علاقة جدلية بين المكان والزمان، بين الأطلال والشخصيات، بين الماضي الذي لم يتلاشَ بالكامل والحاضر الذي يُثقل كاهل الشخصيات، وكأنه يدرس كيفية تفكك الروح البشرية وتجليات الضياع النفسي عبر ملامح المدينة المتهدمة.
أشباح تائهة
بيروت في الرواية فضاء يحاصر الشخصيات ويؤثر في نفسياتها، المدينة تظهر ككائن يبتلع أولاده، كأنها ذاكرة تتجلى في أشكالٍ ملموسة، تفرض نفسها على كل من يعيش فيها. والأطلال بالإضافة إلى أنها بقايا من ماضٍ مضطرب فقط، هي استحضار حي لصراع دائم بين الأمل واليأس، وبين محاولة التعلق بالواقع والرغبة في الانفصال عنه. بيروت هي سجن امتدادي، لا يمكن لشخصيات الحجيري الهروب منه أو التصالح معه، فكلما حاولت الانتقال إلى زمن مختلف، تجد نفسها عالقة في دوامة من الذكريات التي تؤسس لوجودها المأزوم.
تعبر شخصيات الرواية عن مرامي الأطلال وتشظياتها، تأتي شخصية سمير عواد، بطل الرواية، كنموذج حاد للشخص المثقف المتشرد روحيّا. سمير ضائع في بيروت، مدينة الأحلام التي تحولت إلى أطلال حية تمزج بين الماضي والحاضر. يشعر بالغربة حتى في أحضان مدينته، تلك التي كان يُفترض أن تكون له موئلاً وملاذا، لكن ما يواجهه ليس سوى مرآة تعكس له مدى عمق انكساراته الذاتية. سمير لا ينتمي إلى المكان ولا إلى الزمان؛ يتجول في مقاهي بيروت وحاناتها كما يتجول في أطلال ذاكرته الشخصية، يبحث عن مخرج من المتاهة، لكنه يجد نفسه محاصراً أكثر كلما غاص في تفاصيل حياته اليومية التي ليست إلا إعادة إنتاج دائمة للفشل والانهيار.
◙ الرواية تطرح تساؤلات وجودية حول الهوية والانتماء والعزلة، تلك القضايا التي تظل معلقة بيننا كالأطلال ذاتها
وسمير هو "المنفي" الذي لا يبارح مكانه، محاصر بين الأطلال التي تذكره بأشباح ماضيه، وهو غارق في شعور مستمر بالعزلة والضياع. تراه يسلك طرقات رأس بيروت مثل “متسكع بوهيمي”، يعيش في حالة اغتراب حتى عن أقرب الأماكن إليه، فيصبح المكان جزءاً من شعوره الدائم باللاجدوى.
هناك هالة شريكة حياة سمير والرمز المزدوج بين الماضي والحاضر، تمثل بعدا مختلفا في الرواية. إنها شخصية تُظهر التناقض بين ارتباطها بالماضي ورغبتها في الابتعاد عن رموز الذكرى الموجعة. هالة تنتقد سمير لأنه يشتري الفاكهة ولا يتناولها، وهذه الإشارة البسيطة تتعمق إلى مستويات أعمق. فهي تنتقده على تمسكه بماضيه الذي لا يعود عليه إلا بالتعاسة، وعلى عيشه في “أطلال” الذاكرة بدلاً من الاستمتاع باللحظة الحاضرة. سلوك هالة يعبر عن رغبة في الانفصال عن كل ما يربطها بالماضي. بينما يرى سمير في الأطلال معنى وفكرة يستمر في التأمل فيها، تسعى هالة إلى التخلص من تلك البقايا التي تعطل حياتها وتفرض عليها قيوداً نفسية.
في حين تجسد سارة عواد الاغتراب والضياع داخل الذات والمكان، وهي التي كانت حبيبة سمير في الماضي، تحمل ثقل علاقة مضطربة مع المدينة ومع نفسها. حضورها في الرواية يمثل جزءا من أطلال ذاكرة سمير، وهي تأتي كرمز للحب الضائع والأشواق التي لم تكتمل. سلوكها يعكس حالة من الضياع الداخلي، حيث تبدو وكأنها تعيش بين الحاضر والماضي، بين ما تريده وما تحاول الهروب منه.
أما علي بلس فهو شخصية المتمرد والرافض للواقع، المتشرد الذي يعبر المدينة كمن يمشي في عالم خيالي، يمثل ذروة الاغتراب والانفصال عن المجتمع. شخصيته تنفصل عن العالم المادي وعن الأمكنة بشكل رمزي، فهو يعيش بين الظلال، على أطراف المجتمع، يتنقل بين الأمكنة المهجورة وكأنها فضاءات الحرية المطلقة.
سلوك علي بلس يجسد التمرد على أي إطار اجتماعي أو مكاني محدد، فهو يرفض الانتماء إلى أية بنية اجتماعية أو مكانية، ما يعكس حالة من التحرر من قيود الماضي والحاضر على حد سواء. سلوكياته تدل على أنه يعيش في “أطلال” روحية، فهو يمارس نوعا من العزلة الاختيارية، حيث يتجنب التواصل مع المجتمع، ويبتعد عن العلاقات التي قد تربطه بالمدينة أو بالناس. ومع ذلك، فإن هذا التمرد يأتي مع ثمن، حيث يعيش علي بلس في حالة دائمة من الضياع والتفكك، ما يجعله إحدى الشخصيات الأكثر ارتباطا بفكرة الأطلال كرمز للتشظي النفسي والمكاني.
ظلال الحرب
يمثل الزمن في الرواية عنصرا متداخلاً، حيث تتداخل ذكريات الماضي مع لحظات الحاضر، فلا يعود هناك خط فاصل بين ما كان وما هو كائن. تقنية السرد التي يستخدمها الحجيري، حيث تُسترجع أحداث من الماضي وتُدمج مع الحاضر، تعكس تشظي الشخصيات. هذه التقنية السردية لا تعمل فقط على تعزيز الشعور بالارتباك النفسي الذي يعيشه بطله، بل أيضا تسهم في بناء عالمٍ سردي يتجاوز حدود الواقعية المادية ليصبح فضاءً وجوديا مليئا بالتساؤلات.
بيروت، التي كانت رمزاً للتطور الحضاري، تتحول هنا إلى مصيدة نفسية لشخصيات لا تجد خلاصا من وطأة المكان أو من ثقل الماضي، ومرآة ضخمة تعكس الخيبات والأحلام المتلاشية. يقدمها الحجيري ككيان حي، يتحول فيه كل شارع وكل زاوية إلى مساحة للصراع النفسي، حيث يصبح المألوف جزءا من الفوضى واللامعقول. وهي بدورها شخصية بحد ذاتها، تحاصر الشخصيات وتغرقها في دوامة من الحنين المؤلم.
الأطلال في الرواية تحمل في طياتها ثنائية معقدة؛ فهي تجسيد مادي لفقدان الحياة والانهيار الواقعي، لكنها في الوقت ذاته تحمل عبء الذاكرة الجمعية. الشخصيات لا تستطيع التحرر من هذه الأطلال، لأنها تجسد ماضيها وراهنها في آن واحد. الأطلال هنا هي استعارة للنفس البشرية المحطمة التي تعيش في حالة مستمرة من الهروب، ولا تجد مخرجا من دائرة الانكسارات الشخصية.
◙ الحرب اللبنانية هي القوة الدافعة التي تُشكل مصائر الشخصيات في الرواية، والخراب المادي الذي خلفته تراه يظهر جليا في النفوس المنكسرة التي تعيش داخل هذه المدينة
الحرب اللبنانية هي القوة الدافعة التي تُشكل مصائر الشخصيات في الرواية، والخراب المادي الذي خلفته لا يُترجم فقط في شوارع المدينة أو مبانيها المدمرة، بل تراه يظهر جليا في النفوس المنكسرة التي تعيش داخل هذه المدينة. الحرب لم تقتصر على تدمير المباني، بل اخترقت الروح، لتصبح تلك الأطلال شاهدا صامتا على النفس الإنسانية التي تفككت أمام مرآة المدينة المحطمة.
من بين ما يميز “أطلال رأس بيروت” هو النقد الحاد الذي يوجهه الحجيري للمجتمع المثقف الذي يعيش في عزلة عن الواقع. المثقفون في الرواية يظهرون وكأنهم يعيشون في عالم موازٍ، بعيدا عن النبض الحقيقي للمدينة. في ظل هذه العزلة يتحول المثقف إلى شخصية تائهة، تبحث عن معنى في عالم يفتقد إلى اليقين. وشخصيات الرواية تمضي في شوارع المدينة كأشباح، تبحث عن معنى بين الخرائب، لكن من دون أن تجد جوابا.
تطرح الرواية تساؤلات وجودية حول الهوية والانتماء والعزلة، تلك القضايا التي تظل معلقة كالأطلال ذاتها. ونهاية الرواية لا تقدم خلاصا للشخصيات، بل تتركها في حالة من الصراع المستمر، كأن الكاتب يريد أن يضع القارئ أمام حقيقة مفادها أن الحياة في هذا العالم المضطرب لا توفر حلولاً نهائية، بل تقدم مجموعة من التساؤلات التي تظل مفتوحة بلا إجابات.
"أطلال رأس بيروت" رواية تتناول هشاشة البشر في مواجهة الأطلال النفسية والمكانية، وهي استعارة للذات التي تفقد قدرتها على التواصل مع العالم، وتغرق في حالة من الفوضى الداخلية التي تعكس الفوضى الخارجية. ومن اللافت أن الحجيري ينجح في تقديم عالم متشابك، حيث تتداخل الأصوات والأزمنة والأماكن لتقدم لوحةً متعددة الأبعاد عن المدينة وأهلها معًا.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
هيثم حسين
كاتب سوري
محمد الحجيري يبحث عن معنى بين الخراب.
الخميس 2024/10/24
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أطلال ذوات متشظية (لوحة للفنان منصور الهبر)
للمكان تأثيره في النفس البشرية، فالمكان ليس مجرد جغرافيا، إنه تاريخ كامل بكل ما يطرأ عليه من تقلبات وأحداث وما يجول فيه من شخصيات تصنع تلك الأحداث. عربيا لعل بيروت من أكثر المدن الملهمة والمتحركة والمتقلبة، ما يجعلها فضاء روائيا بامتياز، لا انسلاخا عن واقعها بل غوصا في خفاياها كما فعل الكاتب محمد الحجيري.
تغوص رواية “أطلال رأس بيروت” لمحمد الحجيري عميقاً في ثنايا الذات البشرية، تلك التي تحيا وتتفاعل مع أمكنةٍ لم تعد تحتفظ سوى بذكريات منخرطة في حالة دائمة من الاندثار، لتتجاوز بذلك حدود السرد التقليدي وتنحو باتجاه فلسفة المكان ووجوده وأبنائه.
يعتمد الحجيري في روايته، الصادرة عن دار رياض الريس بيروت 2024، على علاقة جدلية بين المكان والزمان، بين الأطلال والشخصيات، بين الماضي الذي لم يتلاشَ بالكامل والحاضر الذي يُثقل كاهل الشخصيات، وكأنه يدرس كيفية تفكك الروح البشرية وتجليات الضياع النفسي عبر ملامح المدينة المتهدمة.
أشباح تائهة
بيروت في الرواية فضاء يحاصر الشخصيات ويؤثر في نفسياتها، المدينة تظهر ككائن يبتلع أولاده، كأنها ذاكرة تتجلى في أشكالٍ ملموسة، تفرض نفسها على كل من يعيش فيها. والأطلال بالإضافة إلى أنها بقايا من ماضٍ مضطرب فقط، هي استحضار حي لصراع دائم بين الأمل واليأس، وبين محاولة التعلق بالواقع والرغبة في الانفصال عنه. بيروت هي سجن امتدادي، لا يمكن لشخصيات الحجيري الهروب منه أو التصالح معه، فكلما حاولت الانتقال إلى زمن مختلف، تجد نفسها عالقة في دوامة من الذكريات التي تؤسس لوجودها المأزوم.
تعبر شخصيات الرواية عن مرامي الأطلال وتشظياتها، تأتي شخصية سمير عواد، بطل الرواية، كنموذج حاد للشخص المثقف المتشرد روحيّا. سمير ضائع في بيروت، مدينة الأحلام التي تحولت إلى أطلال حية تمزج بين الماضي والحاضر. يشعر بالغربة حتى في أحضان مدينته، تلك التي كان يُفترض أن تكون له موئلاً وملاذا، لكن ما يواجهه ليس سوى مرآة تعكس له مدى عمق انكساراته الذاتية. سمير لا ينتمي إلى المكان ولا إلى الزمان؛ يتجول في مقاهي بيروت وحاناتها كما يتجول في أطلال ذاكرته الشخصية، يبحث عن مخرج من المتاهة، لكنه يجد نفسه محاصراً أكثر كلما غاص في تفاصيل حياته اليومية التي ليست إلا إعادة إنتاج دائمة للفشل والانهيار.
◙ الرواية تطرح تساؤلات وجودية حول الهوية والانتماء والعزلة، تلك القضايا التي تظل معلقة بيننا كالأطلال ذاتها
وسمير هو "المنفي" الذي لا يبارح مكانه، محاصر بين الأطلال التي تذكره بأشباح ماضيه، وهو غارق في شعور مستمر بالعزلة والضياع. تراه يسلك طرقات رأس بيروت مثل “متسكع بوهيمي”، يعيش في حالة اغتراب حتى عن أقرب الأماكن إليه، فيصبح المكان جزءاً من شعوره الدائم باللاجدوى.
هناك هالة شريكة حياة سمير والرمز المزدوج بين الماضي والحاضر، تمثل بعدا مختلفا في الرواية. إنها شخصية تُظهر التناقض بين ارتباطها بالماضي ورغبتها في الابتعاد عن رموز الذكرى الموجعة. هالة تنتقد سمير لأنه يشتري الفاكهة ولا يتناولها، وهذه الإشارة البسيطة تتعمق إلى مستويات أعمق. فهي تنتقده على تمسكه بماضيه الذي لا يعود عليه إلا بالتعاسة، وعلى عيشه في “أطلال” الذاكرة بدلاً من الاستمتاع باللحظة الحاضرة. سلوك هالة يعبر عن رغبة في الانفصال عن كل ما يربطها بالماضي. بينما يرى سمير في الأطلال معنى وفكرة يستمر في التأمل فيها، تسعى هالة إلى التخلص من تلك البقايا التي تعطل حياتها وتفرض عليها قيوداً نفسية.
في حين تجسد سارة عواد الاغتراب والضياع داخل الذات والمكان، وهي التي كانت حبيبة سمير في الماضي، تحمل ثقل علاقة مضطربة مع المدينة ومع نفسها. حضورها في الرواية يمثل جزءا من أطلال ذاكرة سمير، وهي تأتي كرمز للحب الضائع والأشواق التي لم تكتمل. سلوكها يعكس حالة من الضياع الداخلي، حيث تبدو وكأنها تعيش بين الحاضر والماضي، بين ما تريده وما تحاول الهروب منه.
أما علي بلس فهو شخصية المتمرد والرافض للواقع، المتشرد الذي يعبر المدينة كمن يمشي في عالم خيالي، يمثل ذروة الاغتراب والانفصال عن المجتمع. شخصيته تنفصل عن العالم المادي وعن الأمكنة بشكل رمزي، فهو يعيش بين الظلال، على أطراف المجتمع، يتنقل بين الأمكنة المهجورة وكأنها فضاءات الحرية المطلقة.
سلوك علي بلس يجسد التمرد على أي إطار اجتماعي أو مكاني محدد، فهو يرفض الانتماء إلى أية بنية اجتماعية أو مكانية، ما يعكس حالة من التحرر من قيود الماضي والحاضر على حد سواء. سلوكياته تدل على أنه يعيش في “أطلال” روحية، فهو يمارس نوعا من العزلة الاختيارية، حيث يتجنب التواصل مع المجتمع، ويبتعد عن العلاقات التي قد تربطه بالمدينة أو بالناس. ومع ذلك، فإن هذا التمرد يأتي مع ثمن، حيث يعيش علي بلس في حالة دائمة من الضياع والتفكك، ما يجعله إحدى الشخصيات الأكثر ارتباطا بفكرة الأطلال كرمز للتشظي النفسي والمكاني.
ظلال الحرب
يمثل الزمن في الرواية عنصرا متداخلاً، حيث تتداخل ذكريات الماضي مع لحظات الحاضر، فلا يعود هناك خط فاصل بين ما كان وما هو كائن. تقنية السرد التي يستخدمها الحجيري، حيث تُسترجع أحداث من الماضي وتُدمج مع الحاضر، تعكس تشظي الشخصيات. هذه التقنية السردية لا تعمل فقط على تعزيز الشعور بالارتباك النفسي الذي يعيشه بطله، بل أيضا تسهم في بناء عالمٍ سردي يتجاوز حدود الواقعية المادية ليصبح فضاءً وجوديا مليئا بالتساؤلات.
بيروت، التي كانت رمزاً للتطور الحضاري، تتحول هنا إلى مصيدة نفسية لشخصيات لا تجد خلاصا من وطأة المكان أو من ثقل الماضي، ومرآة ضخمة تعكس الخيبات والأحلام المتلاشية. يقدمها الحجيري ككيان حي، يتحول فيه كل شارع وكل زاوية إلى مساحة للصراع النفسي، حيث يصبح المألوف جزءا من الفوضى واللامعقول. وهي بدورها شخصية بحد ذاتها، تحاصر الشخصيات وتغرقها في دوامة من الحنين المؤلم.
الأطلال في الرواية تحمل في طياتها ثنائية معقدة؛ فهي تجسيد مادي لفقدان الحياة والانهيار الواقعي، لكنها في الوقت ذاته تحمل عبء الذاكرة الجمعية. الشخصيات لا تستطيع التحرر من هذه الأطلال، لأنها تجسد ماضيها وراهنها في آن واحد. الأطلال هنا هي استعارة للنفس البشرية المحطمة التي تعيش في حالة مستمرة من الهروب، ولا تجد مخرجا من دائرة الانكسارات الشخصية.
◙ الحرب اللبنانية هي القوة الدافعة التي تُشكل مصائر الشخصيات في الرواية، والخراب المادي الذي خلفته تراه يظهر جليا في النفوس المنكسرة التي تعيش داخل هذه المدينة
الحرب اللبنانية هي القوة الدافعة التي تُشكل مصائر الشخصيات في الرواية، والخراب المادي الذي خلفته لا يُترجم فقط في شوارع المدينة أو مبانيها المدمرة، بل تراه يظهر جليا في النفوس المنكسرة التي تعيش داخل هذه المدينة. الحرب لم تقتصر على تدمير المباني، بل اخترقت الروح، لتصبح تلك الأطلال شاهدا صامتا على النفس الإنسانية التي تفككت أمام مرآة المدينة المحطمة.
من بين ما يميز “أطلال رأس بيروت” هو النقد الحاد الذي يوجهه الحجيري للمجتمع المثقف الذي يعيش في عزلة عن الواقع. المثقفون في الرواية يظهرون وكأنهم يعيشون في عالم موازٍ، بعيدا عن النبض الحقيقي للمدينة. في ظل هذه العزلة يتحول المثقف إلى شخصية تائهة، تبحث عن معنى في عالم يفتقد إلى اليقين. وشخصيات الرواية تمضي في شوارع المدينة كأشباح، تبحث عن معنى بين الخرائب، لكن من دون أن تجد جوابا.
تطرح الرواية تساؤلات وجودية حول الهوية والانتماء والعزلة، تلك القضايا التي تظل معلقة كالأطلال ذاتها. ونهاية الرواية لا تقدم خلاصا للشخصيات، بل تتركها في حالة من الصراع المستمر، كأن الكاتب يريد أن يضع القارئ أمام حقيقة مفادها أن الحياة في هذا العالم المضطرب لا توفر حلولاً نهائية، بل تقدم مجموعة من التساؤلات التي تظل مفتوحة بلا إجابات.
"أطلال رأس بيروت" رواية تتناول هشاشة البشر في مواجهة الأطلال النفسية والمكانية، وهي استعارة للذات التي تفقد قدرتها على التواصل مع العالم، وتغرق في حالة من الفوضى الداخلية التي تعكس الفوضى الخارجية. ومن اللافت أن الحجيري ينجح في تقديم عالم متشابك، حيث تتداخل الأصوات والأزمنة والأماكن لتقدم لوحةً متعددة الأبعاد عن المدينة وأهلها معًا.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
هيثم حسين
كاتب سوري