بقايا الوجود وكل الفناء

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بقايا الوجود وكل الفناء

    بقايا الوجود وكل الفناء

    في قريتي المتواضعة، تحت سماء ملبدة بغيوم الحرب وظلال الموت، رحل جدي الحبيب عن دنيانا. روحه الطاهرة، كشمعة تذوب ببطء، صمدت في وجه رياح الزمن العاتية، في عالم افتقر إلى الرحمة والعناية بالمرضى والمحتاجين، فلم يكن لهم إلا الله.
    بدت القرية لوحة حزينة، ألوانها باهتة، وخطوطها متعرجة بفعل الألم. لم يبق فيها سوى أوراق الخريف البشرية - شيوخ وعجائز تخلت عنهم الحياة في سباقها المحموم. بدا وكأن القدر انتقاهم ليشهدوا على نهاية حقبة وميلاد أخرى. ودعوه بدموع لم تسيل من مآقي جففتها كثرة البكاء على الراحلين والنازحين والمهاجرين، إتكأ بعضهم على عصى تتراقص عجباً من أجساد هزيلة واهنة. جلس آخرون على الأرض لا يستطيعون حراكاً فكان وداع عاجز لفقد أليم.
    حمل نعشه ثلاثة شيوخ ، كأنما يحملون على أكتافهم صندوق الذكريات والحنين. بدأ المشهد مؤثراً ومعقداً: ثلاثة أركان للنعش مكتملة واتخذوا من عصا شجرة الماسكيت ضلعاً رابعاً. بدا الأمر وكأن الطبيعة نفسها أرادت المشاركة في وداع روح عظيمة.
    واصلوا سيرهم إلى المقابر بخطى متثاقلة وواهنة، يبدون كمن يخوض في بحر من الرمال المتحركة. هناك، في مملكة الصمت الأبدي، وقفوا حيارى يبكون لا يدرون ماذا يصنعون. ليست لهم القدرة على الحفر ودفن جثمان العزيز، هم متعبون ومرهقون وعاجزون عن أي فعل يتطلب مجهود شاق. فجأة سمعوا أصوات تشقق القبور وظهور أشباه أناس نهضوا بسرعة من مراقدهم، فأصابهم رعب وذهول. نهض الأهل الموتى من قبورهم، مثل أزهار تتفتح في حديقة الآخرة. نفضوا عن أجسادهم غبار الموت، عانقوهم ببقايا عظام فأمتزجت مع حطام أجسادهم البالية. أقاموا صلاة الجنازة على الراحل، وبحركات تحاكي رقصة الحياة والموت، حفروا له قبراً في بقعة خالية، مهيئين له مضجعاً أبدياً.
    بعد مواراة الجثمان الثرى، تفرسوا في وجوه الأحياء الذين جاؤوا لتشييع جدي، فسارعوا بحفر قبور لهم. بدأ المشهد أشبه بمسرحية خيالية، تتشابك فيها خيوط الحياة والموت في نسيج واحد.
    بادر اثنان من الأحياء بحجز مكانيهما بسعادة تامة في مملكة الموتى، وكأنهما يحجزان مقعداً في قطار الأبدية. أشارا لثالثهما مودعين أمروه بحمل النعش الفارغ وثوب الكفن، فحملهما وكأنه يحمل أمانة الحياة الأخيرة.
    عاد مسرعاً فوق طاقته إلى القرية، وضع ما بين يديه بتعب، ثم انطلق عائداً إلى المقبرة، يسابق الزمن ليلحق بركب الراحلين فكان للقدر رأي آخر. قابله مَلَك الحياة فجأة ليعطل سعادته، واهباً له عمراً إضافياً، منحه فرصة أخرى ليشهد على مأساة الحياة، متذوقاً نعمة البقاء ونقمة الشهادة على عالم يتلاشى بفعل ظلم الإنسان، فسقط عائشاً كالأموات.
    د.معاوية مصطفى الرباطابي
يعمل...
X