نعيمة عبد الجواد
ثربانتس: قليل من الجنون … كثير من السعادة
8 - أكتوبر - 2024م
من الأقوال المأثورة للكاتب الإسباني العالمي ورائد حقبة الحداثة في إسبانيا ميغيل دي ثربانتس (1547-1616): «الإفراط في التعقل قد يكون جنوناً، لكن الأكثر جنونا على الإطلاق، هو رؤية الحياة كما هي، وليس كما ينبغي أن تكون». تلك المقولة تلخِّص أغلب النصائح الدارجة في كتب الصحَّة النفسية والتنمية البشرية في العصر الحديث، التي تدفع القرَّاء للخروج ولو وهلة من المألوف لبلوغ السعادة.
لطالما كانت السعادة حلما بعيد المنال في كل العصور والأزمنة؛ فالإنسان دائما وأبدا مكبَّل بأصفادِ من التزامات تزيد من صعوبة ظروفه، وتحرمه من المرونة عند مجابهة العقبات المتلاحقة، لكن السعادة لا تستحدث من فراغ، وكذلك لا تتطلَّب ماديات أو أعمالا كبيرة، فأبسط المواقف وأتفه المقتنيات قد تصنع السعادة، التي هي، قبل أي شيء، تفاعل الإنسان مع العالم الخارجي. بيد أنَّ الانشغال في وتيرة العالم المادي لا يمنح للأذهان وقتا للرَّاحة، ويحرمها من التكيُّف مع الأحداث، ما يزيد من صعوبة وتعقيد علاقة الفرد بنفسه وبمن يحيطون به، ويزيد من تكبيل العقل وحرمانه من بلوغ راحة تتلوها السعادة.
وللخروج من دائرة الملل، يستطرد ثربانتس ناصحا: «في كل الأحوال، العلاج هو اتخاذ الإجراءات اللازمة. كن واضحا بشأن ما تحتاج إلى تعلُّمه بالضبط، وما عليك القيام به بالضبط لتتعلَّمه؛ ولأنك واضح يقتل الخوف. ولهذا، اجعل همَّك فهم نفسك، وذاك هو أصعب درس في العالم». وكما يرى ثربانتس فإن فهم الذَّات هو أقصر طريق لبلوغ الأهداف والشعور بالرِّضا، وهو ذاك الشعور الذي يغدق السعادة على صاحبه. ويعد ميغيل دي ثربانتس» واحدا من القلائل الذين استطاعوا تطبيق ما ينصحون به على أنفسهم؛ فهو ذاك الشخص تعس الحظ قليل الحيلة الذي تلاعبت به الدنيا، لكنه استطاع تحقيق ألوان من النجاح والسعادة بأتفه الأشياء. والمفارقة الكبرى تكمن في سيرته الذَّاتية؛ فسيرته الأولى أو حتى اسمه غير مؤَكَّدة، ومسيرة حياته ما هي إلَّا سلسلة من سخرية القدر وعبثه، فقد نشأ ميغيل دي ثربانتس في أسرة لها علاقة أو تنحدر من النبلاء. وكان والده يعمل حلَّاقا جرَّاحا؛ ففي ذلك الوقت كانت هناك طائفة تدعى «حلَّاق الصحَّة» وهم طائفة تمنحهم السُّلطات إجازة لممارسة مهنة الطب وإجراء عمليات جراحية طفيفة.
وعلى الرغم من أن هذه المهنة كانت تدر دخلاليس بالزهيد، لكن كان والده دوما في ضائقة مادية. أمَّا والدته، فكانت سيدة حصيفة ومتعلِّمة، ولهذا عندما غرق والده في الديون وسافر بعيدا لعدَّة سنوات، عملت واستطاعت أن تدبِّر أمور الأسرة باقتدار. وأمَّا ثربانتس، فقد عمد والداه على أن يتلقَّى تعليما جيِّدا، وطمح إلى أن ينال مناصب عليا، خاصة أن موهبته في الكتابة كانت بارزة، لكنه لم يستطع ذلك؛ فقد كان القدر يترصَّد له، لدرجة أنه عندما التحق بالعمل في قصر أحد النبلاء، زجّ به إلى العسكرية، وذهب للحرب لمحاربة جيش السلطان التركي سليم الثاني، سلطان الإمبراطورية العثمانية حينها. وكانت المفارقة هو أنه وقع في براثن القراصنة الذين اختطفوه مع آخرين، وطالبوا أهله بفدية كبيرة حتى يعيدوه لهم. لم يجد ثربانتس في ذاك الوقت بدّاً من كتابة عدَّة رسائل لأهله وذويه كي يدبروا أمر الفدية حتى لا يتم بيعه كعبد وتنتهي حرِّيته للأبد. ويرى المؤرِّخون أنه لربما بسبب تلك الرسائل، التي كانت مكتوبة بأسلوب راقٍ منمَّق، كان يحسن خاطفيه معاملته، بل تغاضوا عن محاولاته العديدة للهرب، ولم يتعرَّض يوماً للتعذيب أو القتل مثل أقرانه. وقد يعزى السبب إلى أن خاطفيه لمسوا أنه سيكون صيدا ثمينا، ولهذا السبب رفعوا مقدار الفدية لمبلغ باهظ. وحتى عندما تم إيداعه عبدا «لم يتم بيعه بعد» في منزل أحد الشخصيات المرموقة، حسن باشا، كان سيده يحسن معاملته، واصطحبه معه في رحلة بحرية طويلة، أصبحت في ما بعد مصدرا فريدا للإلهام الذي استغله في أعماله اللاحقة.
وتعدّ رواية «دون كيخوته» Don Quixote أشهر أعماله الأدبية على الإطلاق وحقَّفت نجاحا فوريا في إسبانيا ودول أوروبية محيطة فور صدورها عام 1605، بل كانت السبب في أن العديد من الكتَّاب قاموا بتأليف روايات استغلُّوا فيها شخصية البطل «دون كيخوته» التي أصبحت شهيرة ومحببة لجمهور القرَّاء، كذلك ادَّعوا أن تلك الروايات هي أجزاء تالية للرواية الأصلية، ما دفعه لكتابة جزء ثان وأخير من الرواية عام 1615، ليكون خاتمة لمغامرات البطل «دون كيخوته» والجميل أن ذاك الجزء حقق أيضا نجاحا فوريا ساحقا.
وتحكي رواية «دون كيخوته» عن محارب متقاعد بلغ الخمسين من عمره وأصابه الملل بسبب وتيرة حياته المملة الخالية من اللحظات المميزة، فكانت تسليته الوحيدة قراءة روايات المغامرات والبطولات. ولهذا، قرر في أحد الأيام أن ينفِّذ ما يقرأه على أرض الواقع، وأن يصبح بطلا واقعيا لرواية حقيقية ينسج أحداثها بنفسه. ومن ثمَّ، قرر أن يصبح فارسا جوَّالا، وأخذ معه خادمه المخلص «سانشو بانزا» ليشاطره حلمه، وأقنعه أنه بذلك سوف يتقلَّد منصب «تابع فارس». ولتحقيق ذاك الحلم بكل تفاصيله، انتقى حصانا رائعا، وارتدى بزَّة فارس من الطراز القديم، واتَّخذ لنفسه درعا. وآخر التفاصيل التي كانت تنقصه وجود حبيبة له، فاعتبر إحدى الفتيات القرويات حبيبته التي تشتاق له، وتنتظر عودته مظفَّرا بعد مغامراته الجليلة التي ينقذ فيها البشرية. والرواية التي تدور في إطار كوميدي، تنساب فيها الأحداث في إطار مغامرات وهمية يحاول فيه «دون كيخوته» إثبات نفسه كفارس يحمي الضعفاء، لكنه في كل مرَّة تكون نتيجة أعماله سلبية، وينتهي به الحال أنه يتلقى ضربا مبرحا يؤذيه جسديا. فعلى سبيل المثال، فإنه يخطئ ويحرر مجموعة من اللصوص لاقتناعه بأنهم أشخاص في حاجة للمساعدة، وكذلك يتسبب في أن يتم حلق رؤوس مجموعة من الرهبان. أمَّا المغامرة الكبرى التي أصبحت مقولة عالمية هي محاربته لطواحين الهواء لاعتقاده أنهم مجموعة من العمالقة.
كان «دون كيخوته» ينهي كل مغامرة وهو يشعر بالسعادة والانتشاء على الرغم من آلامه الجسدية العارمة، وكأنه ينفِّذ نصائح علماء النفس الحديث، التي تؤكِّد أن الانخراط في أعمال مفاجأة وغير مألوفة، والتي قد يصفها البعض بأعمال متهوِّرة أو مجنونة، تخلق ما يشبه الفجوة في وتيرة الحياة. ومن ثمَّ، يصبح من السهل ملء تلك الفجوة بأوقات من السعادة التي قد يبتسم الفرد كلَّما تذكَّرها. وقد يعزى ذلك إلى أن الفرد قد تواصل مع الطفل الداخلي الذي تخنقه صعوبات الحياة، وأعطي لنفسه الفرصة للاستمتاع بأوقات تصنع ذكريات.
أضف إلى ذلك، لحظات الجنون هي أوقات من الحرية الكاملة التي لا يهتم فيها الفرد بقيود المجتمع ويدرك فيها روعة الحياة بعد أن تخلَّص من شعور مقيت بالملل والتكرار العبثي لأحداث متشابهة، تجعل الأيام متكررة لخلوُّها من وجود لحظات متميِّزة. وعلى هذا، فإن لحظات الجنون هي تلك الأوقات الخالية من الأحقاد والهموم والتي تدفع الإنسان للانسجام مع المحيط الخارجي، فتكون النتيجة لحظات من الفرح والسعادة، حتى لو كانت قليلة، ولذلك السبب كان يؤكِّد ثربانتس: «السبيل لتحقيق المستحيل يبدأ بمحاولة تحقيق العبث». وهذا بالفعل ما استطاع أن يفعله «دون كيخوته» الذي ظهر في الجزء الأول من القصة يقوم بأعمال عبثية متهورة، لكن في الجزء الثاني كان يقلِّده آخرون كي يحظوا بأوقات مماثلة من السعادة. فيما يبدو أن الشهرة العالمية التي حققتها رواية «دون كيخوته» منذ أن تم نشرها في القرن السابع عشر، ولا تزال تحقق النجاح نفسه في الوقت الحالي، والذي من المنتظر أن يستمر لأجيال قادمة، أن الرواية تتخطى المنظور الفلسفي وتجنح كثيرا إلى محاولة النهوض بالجانب النفسي للإنسان. ولا عجب، فالرواية هي عصارة تجارب مريرة وعبثية خاضها ثربانتس ذاته، جعلته يردد أن أكبر عدو للإنسان يكمن في داخله، وينصح بوجوب السعي الدؤوب، أو كما يقول: «اعمل على تحسين ذاتك، فهذا أفضل أنواع الانتصارات».
كاتبة مصرية