"النباتية" لهان كانغ.. الهشاشة النفسية سلاح لمواجهة العنف المطلق
صرخة أدبية في وجه العنف الأبوي والذكوري والإنساني.
الجمعة 2024/10/18
لقطة من الفيلم المقتبس من الرواية
كثيرة هي الأعمال المتخصصة في "أدب الطعام"، من بينها رواية "النباتية" لهان كانغ التي تطرقت لموضوع النباتيين الشائك في المجتمع الكوري الجنوبي بأسلوب صادم فككت من خلاله قضايا أعمق وأشد تعقيدا لا تزال تسيطر على الحياة في كوريا الجنوبية من بينها الاضطرابات النفسية والعنف الذكوري.
كثر الحديث منذ أيام عن الأديبة هان كانغ، الفائزة بجائزة نوبل للآداب للعام 2024، عمّا اعتبرته لجنة الأكاديمية السويدية المانحة للجائزة “نثرها الشعري المكثف الذي يواجه الصدمات التاريخية ويكشف هشاشة الحياة الإنسانية”. ومن أكثر ما ركز عليه الأدباء والنقاد الصحافيون، هو روايتها “النباتية” و”أفعال بشرية”، وحتى دور النشر والمكتبات سارعت لتوفير نسخ ورقية وإلكترونية منها.
"النباتية" التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا المقال، تأتينا من ترجمة المصري محمود عبدالغفار، عن دار التنوير للعام 2018. حولت الرواية الصادرة في 2007 إلى فيلم سينمائي وفازت بجائزة مان بوكر الدولية.
وكما يحيل العنوان تأخذنا الكاتبة كانغ بأسلوبها الشاعري إلى عالم النباتيين الذي يؤرق المجتمع الكوري الجنوبي، ذلك المجتمع الذكوري والأبوي المنغلق على قواعده وعاداته وتقاليده، والذي يستنكر منذ سنوات موجة تحول أفراده إلى نباتيين، بعد أن بدأت هذه “الظاهرة الغذائية” تجتاح شبابه منذ العام 2002.
تُروى حكاية البطلة يونغ هي من وجهات نظر ثلاث، في ثلاثة فصول، الأول على لسان زوجها، الموظف الذي يقسم يومه بشكل روتيني بين العمل والسهر مع الأصدقاء، وصهرها الفنان السلبي الذي تخلى عن مهامه كأب وزوج لصالح زوجته مقابل ركضه وراء أي فرصة إبداع خارق للعادة، وشقيقتها الكبرى المثقلة بالأعباء الحياتية والتي تدير متجرا لمستحضرات التجميل وتعيش طلاقا صامتا.
◙ "النباتية" رواية صادرة في 2007 حولت إلى فيلم سينمائي وفازت بجائزة مان بوكر الدولية
"لم أكن أرى شيئا مميزا في زوجتي قبل أن تصبح نباتية.. لم يكن هناك سبب يحول دون زواجنا.. لقد ناسبتني تماما الشخصية السلبية التي تبينتها في هذه المرأة"، منذ هذه البداية تسلط الكاتبة الضوء على الميزات الكبرى للشخصيات، تصور الحياة الروتينية الرتيبة بينهما، حتى تحل الصدمة الكبرى، إذ يبدو أن الزوج يعتقد أن الخطر الأكبر يتمثل في التحول إلى النظام الغذائي النباتي، كما يعتقد ذلك المجتمع الكوري الجنوبي وهو ما ستعبر عنه شخصية الأب والأطباء والممرضين وكل من تعامل مع يونغ هي النباتية.
تتخذ البطلة السلبية موقفا سلوكيا صارما حيث تتحول إلى نباتية متشددة تلقي بكل محتويات ثلاجتها من اللحم الطازج والمقدد والأكلات التقليدية الحيوانية في سلة المهملات، وتجبر زوجها على الرضوخ لرغباتها، ولأنها “طباخة” البيت فهي تجبره على الأكل مما تتقبل أكله، كل ذلك بسبب كابوس رأت فيه نفسها وهي تنهش لحم أحد الحيوانات والدماء تسيل من فمها. حلم صادم للشخصية، كذلك تفاصيله صادمة للقارئ، حيث سرعان ما أوصل الحلم يونغ هي إلى مشفى الأمراض العقلية بعد شجار عائلي أقدمت فيه على الانتحار رفضا لأكل اللحوم.
لكن التحول الكبير في شخصية البطلة وكل شخصيات الرواية هي الجزء الأكثر عنفا وغرابة في هذا العمل الأدبي. لا توجد نهاية للصدمات داخل الرواية التي تؤكد على فكرة الموت، لكنها تؤكد أيضا على الهشاشة النفسية وعلى العنف الذكوري داخل المجتمع، بين أب يمارس عنفه ضد ابنته منذ طفولتها إلى درجة أنه يختار لها ماذا تأكل ويجبرها عليه، وبين زوج سلبي لا حضور له في الحياة، لكنه بمجرد شعوره بتغير زوجته يتحول إلى ذئب بشري، يغتصبها ويرفض الدفاع عنها، ثم حين تزداد حالتها النفسية سواء وتتعرى في بهو المشفى وهي تنهش لحم طائر حي، يسارع للطلاق منها، الطلاق الذي لا تتقبله عائلة يونغ هي كما لا يتقبله المجتمع الكوري الجنوبي، فهو ينظر للزواج على أنه رباط مقدس ليس من السهل التحرر منه. زوج الأخت الكبرى هو أيضا أحد من عصفت بهم التحولات النفسية العنيفة، فجراء حديث زوجته أمامه عن “بقعة منغولية” في مكان حساس من جسد شقيقتها، يتحول تفكيره فيها من أخت إلى أنثى يرغب فيها، فيستغل ضعفها النفسي ورغبتها في تحرير جسدها من كل القيود ليقنعها بتصوير عمل فني معاصر، شريطة أن تتعرى ثم تمارس الجنس مع رجل غريب ثم معه.
أما الأخت، الراوية للجزء الثالث من “النباتية”، فلا تشهد شخصيتها تحولات، إنما هي وجدت لتبرر ماضي شقيقتها، لتساعدها على تجاوز محنتها النفسية الكبيرة، رغم اكتشافها ما قام به زوجها الذي نجح في الهرب دقائق قليلة قبل إيداعه في مصح نفسي، وجدت لتطرح الكثير من الأسئلة التي تستفز ذهن القارئ. بالكثير من الصور والأحداث الشاعرية تحكي لنا هانغ كيف انتقلت البطلة من “أنا لا آكل اللحوم” إلى ” أنا من الآن فصاعدا لن آكل” من “الآن أنا لست حيوانة” إلى “لست في حاجة إلى الطعام أو ما شابه ذلك. يمكنني أن أعيش على أشعة الشمس". تسألها أختها مستنكرة "أنت ستموتين على هذا النحو"، فتجيب "وهل الموت أمر سيء؟"
إنه “الفصام الكتاتوني” كما توضحه لنا الكاتبة على لسان إحدى شخصياتها الثانوية، هذا المرض النفسي الذي استبد بالبطلة وهو مرض عقلي ذهاني يؤدي إلى عدم انتظام الشخصية وإلى تدهورها التدريجي. ومن خصائصه الانفصام عن العالم الواقعي الخارجي، فالمريض يعيش في عالم خاص بعيدا عن الواقع، وكأنه في حلم مستمر. وهو ما حدث مع يونغ هي.
مشاهد سيريالية وأفكار متباينة بين ثنائيات الجسد والروح، الحياة والموت، الانتماء واللاإنتماء، تأتينا كثورة في وجه العنف الممارس ضد البطلة منذ الطفولة، قد يخطر على بال القارئ منذ الصفحات الأولى، ثم تترسخ الفكرة مع سلوك الأب المستهجن لتحول ابنته إلى نباتية وكيف عنفها محاولا إطعامها اللحم غصبا عنها حتى ثارت ضده محاولة الانتحار بقطع معصم يدها، ثم تتأكد الفكرة لدى القارئ بمجرد قراءته الفصل الثالث وكيف تكشف الأخت الكبرى أن شقيقته الصغرى هي الوحيدة التي لم تكن تبدي غضبا أو حزنا أو أي رد فعل عنيف ومستنكر لعنف والدها ضدهم. تراكمات نفسية كثيرة كانت مفجعة حين طفت على السطح ودفعت صاحبتها إلى حافة الجنون. إنه فعلا الجسد الذي يتذكر كل شي وحين يقرر أن يقول لا-كما يؤكده لنا الطبيب النفسي غابور ماتي- فإنه هذه “اللا” تكون عنيفة ومدمرة وشديدة الخطورة.
◙ محمود عبدالغفار ترجم "النباتية" بكثير من الشاعرية والصور الصادمة والحوارات الدقيقة والعنيفة في آن واحد
وفي تقييم بعض النقاد لأسلوب هان كانغ في هذه الرواية شبهت بكافكا، وهي بالفعل تعتمد كثيرا على أسلوب شبيه به فقد انشغلت بمصير شخصية مسلوبة الإرادة مدفوعة بقوة غاصبة غير مرئية، تقذف بها في أتون تحولات نفسية رهيبة، صادمة لبقية شخوص العمل، كما هي صادمة للقارئ، تندفع نحو سلوكيات عنيفة تتباين بين العنف الجسدي ضد نفسها وضد الأشخاص والحيوانات، وبين الاندفاع وراء التحرر من قيود الجسد كالتعري والاستسلام لدعوة مفاجئة لممارسة الجنس. كل خطوة مهما كانت خطيرة تفتح في عقل البطلة أفكارا جديدة عن ضرورة تحررها من “حيوانيتها” وتحكم الجسد وشهواته فيها، وأول هذه الشهوات أن تكون نباتية، ثم بلغت حد رفض الطعام ظنا منها أن تستطيع أن تكون مثل الشجرة، تقف على يديها وتعيش فقط على شرب الماء.
تعيدنا نهاية الفصل الثالث إلى بداية التغيير الصادم للبطلة. “في أحلامي، وكل الأشياء في الأحلام تبدو حقيقية، ولكن عندما نستيقظ نعرف أنها ليست كذلك.. ولهذا السبب علينا أن نستيقظ في لحظة ما، ومن ثم…."، هكذا تؤكد الأخت الكبرى أن الأحلام يجب أن نتعامل معها أنها مجرد أوهام غير حقيقية.
لكن النهاية بقيت مفتوحة، لخيال القارئ أن يكملها كيفما يشاء، قد يتصور وصول يونغ هي إلى المستشفى الجديد، حقنها بالبروتين كي تنجو من الموت، تنجو فعلا، ويستمر علاجها حتى تشفى من هواجسها النفسية وتدرك أن “الأحلام هي مجرد أحلام”، وتستعيد حياتها الطبيعية تدريجيا، وقد يأخذ الطائر الأسود الذي رأته أختها محلقا بعيدا فوق جبل “تشوك سونغ” رمزا غير مباشر لأن روح البطلة المتمسكة بأنها لا تحتاج الأكل لتحيى ولا تخاف الموت، قد رفرفت بعيدا.
وهذا النص المختلف والصادم والغرائبي لم يكن ليصلنا بهذه الجمالية اللغوية والترابط السردي لولا جهود المترجم. وهذه الترجمة تقول لنا إن الأدب من السهل أن يعيش وينتشر ويزدهر بفضل أنامل مترجم متمكن، بفضل لغته الفصيحة وسرده الجذاب والمتماسك ما بالك إن كان هذا المترجم قادم إلى حقل الترجمة من الشعر، تشبع بمدارسه وأثرى زاده اللغوي بمفرداته الشاعرية، مثل ما فعل المترجم المصري محمود عبدالغفار مترجم روايات هان كانغ. عبد الغفار، الحاصل على ماجستير في الشعر العربي الحديث في جامعة القاهرة، ودكتوراه في الأدب المقارن في كلية العلوم الإنسانية بجامعة "ميونغ جي" بكوريا الجنوبية، ترجم أيضا العديد من الأعمال الكورية.
لم نكن لنعرف أدب كانغ عربيا لولا عبدالغفار. ربما لو أتيحت الفرصة لغيره لعرفناه منه، لكننا لم نكن لنقرأ لها كما "ترجمها" عبدالغفار، بالكثير من الشاعرية والصور الصادمة والحوارات الدقيقة والعنيفة في آن واحد، مع التزامه بتوضيح المفردات المتداولة بكثرة في المجتمع الكوري الجنوبي والتي ضمنتها الكاتبة في كامل فصول روايتها.
حنان مبروك
صحافية تونسية
صرخة أدبية في وجه العنف الأبوي والذكوري والإنساني.
الجمعة 2024/10/18
لقطة من الفيلم المقتبس من الرواية
كثيرة هي الأعمال المتخصصة في "أدب الطعام"، من بينها رواية "النباتية" لهان كانغ التي تطرقت لموضوع النباتيين الشائك في المجتمع الكوري الجنوبي بأسلوب صادم فككت من خلاله قضايا أعمق وأشد تعقيدا لا تزال تسيطر على الحياة في كوريا الجنوبية من بينها الاضطرابات النفسية والعنف الذكوري.
كثر الحديث منذ أيام عن الأديبة هان كانغ، الفائزة بجائزة نوبل للآداب للعام 2024، عمّا اعتبرته لجنة الأكاديمية السويدية المانحة للجائزة “نثرها الشعري المكثف الذي يواجه الصدمات التاريخية ويكشف هشاشة الحياة الإنسانية”. ومن أكثر ما ركز عليه الأدباء والنقاد الصحافيون، هو روايتها “النباتية” و”أفعال بشرية”، وحتى دور النشر والمكتبات سارعت لتوفير نسخ ورقية وإلكترونية منها.
"النباتية" التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا المقال، تأتينا من ترجمة المصري محمود عبدالغفار، عن دار التنوير للعام 2018. حولت الرواية الصادرة في 2007 إلى فيلم سينمائي وفازت بجائزة مان بوكر الدولية.
وكما يحيل العنوان تأخذنا الكاتبة كانغ بأسلوبها الشاعري إلى عالم النباتيين الذي يؤرق المجتمع الكوري الجنوبي، ذلك المجتمع الذكوري والأبوي المنغلق على قواعده وعاداته وتقاليده، والذي يستنكر منذ سنوات موجة تحول أفراده إلى نباتيين، بعد أن بدأت هذه “الظاهرة الغذائية” تجتاح شبابه منذ العام 2002.
تُروى حكاية البطلة يونغ هي من وجهات نظر ثلاث، في ثلاثة فصول، الأول على لسان زوجها، الموظف الذي يقسم يومه بشكل روتيني بين العمل والسهر مع الأصدقاء، وصهرها الفنان السلبي الذي تخلى عن مهامه كأب وزوج لصالح زوجته مقابل ركضه وراء أي فرصة إبداع خارق للعادة، وشقيقتها الكبرى المثقلة بالأعباء الحياتية والتي تدير متجرا لمستحضرات التجميل وتعيش طلاقا صامتا.
◙ "النباتية" رواية صادرة في 2007 حولت إلى فيلم سينمائي وفازت بجائزة مان بوكر الدولية
"لم أكن أرى شيئا مميزا في زوجتي قبل أن تصبح نباتية.. لم يكن هناك سبب يحول دون زواجنا.. لقد ناسبتني تماما الشخصية السلبية التي تبينتها في هذه المرأة"، منذ هذه البداية تسلط الكاتبة الضوء على الميزات الكبرى للشخصيات، تصور الحياة الروتينية الرتيبة بينهما، حتى تحل الصدمة الكبرى، إذ يبدو أن الزوج يعتقد أن الخطر الأكبر يتمثل في التحول إلى النظام الغذائي النباتي، كما يعتقد ذلك المجتمع الكوري الجنوبي وهو ما ستعبر عنه شخصية الأب والأطباء والممرضين وكل من تعامل مع يونغ هي النباتية.
تتخذ البطلة السلبية موقفا سلوكيا صارما حيث تتحول إلى نباتية متشددة تلقي بكل محتويات ثلاجتها من اللحم الطازج والمقدد والأكلات التقليدية الحيوانية في سلة المهملات، وتجبر زوجها على الرضوخ لرغباتها، ولأنها “طباخة” البيت فهي تجبره على الأكل مما تتقبل أكله، كل ذلك بسبب كابوس رأت فيه نفسها وهي تنهش لحم أحد الحيوانات والدماء تسيل من فمها. حلم صادم للشخصية، كذلك تفاصيله صادمة للقارئ، حيث سرعان ما أوصل الحلم يونغ هي إلى مشفى الأمراض العقلية بعد شجار عائلي أقدمت فيه على الانتحار رفضا لأكل اللحوم.
لكن التحول الكبير في شخصية البطلة وكل شخصيات الرواية هي الجزء الأكثر عنفا وغرابة في هذا العمل الأدبي. لا توجد نهاية للصدمات داخل الرواية التي تؤكد على فكرة الموت، لكنها تؤكد أيضا على الهشاشة النفسية وعلى العنف الذكوري داخل المجتمع، بين أب يمارس عنفه ضد ابنته منذ طفولتها إلى درجة أنه يختار لها ماذا تأكل ويجبرها عليه، وبين زوج سلبي لا حضور له في الحياة، لكنه بمجرد شعوره بتغير زوجته يتحول إلى ذئب بشري، يغتصبها ويرفض الدفاع عنها، ثم حين تزداد حالتها النفسية سواء وتتعرى في بهو المشفى وهي تنهش لحم طائر حي، يسارع للطلاق منها، الطلاق الذي لا تتقبله عائلة يونغ هي كما لا يتقبله المجتمع الكوري الجنوبي، فهو ينظر للزواج على أنه رباط مقدس ليس من السهل التحرر منه. زوج الأخت الكبرى هو أيضا أحد من عصفت بهم التحولات النفسية العنيفة، فجراء حديث زوجته أمامه عن “بقعة منغولية” في مكان حساس من جسد شقيقتها، يتحول تفكيره فيها من أخت إلى أنثى يرغب فيها، فيستغل ضعفها النفسي ورغبتها في تحرير جسدها من كل القيود ليقنعها بتصوير عمل فني معاصر، شريطة أن تتعرى ثم تمارس الجنس مع رجل غريب ثم معه.
أما الأخت، الراوية للجزء الثالث من “النباتية”، فلا تشهد شخصيتها تحولات، إنما هي وجدت لتبرر ماضي شقيقتها، لتساعدها على تجاوز محنتها النفسية الكبيرة، رغم اكتشافها ما قام به زوجها الذي نجح في الهرب دقائق قليلة قبل إيداعه في مصح نفسي، وجدت لتطرح الكثير من الأسئلة التي تستفز ذهن القارئ. بالكثير من الصور والأحداث الشاعرية تحكي لنا هانغ كيف انتقلت البطلة من “أنا لا آكل اللحوم” إلى ” أنا من الآن فصاعدا لن آكل” من “الآن أنا لست حيوانة” إلى “لست في حاجة إلى الطعام أو ما شابه ذلك. يمكنني أن أعيش على أشعة الشمس". تسألها أختها مستنكرة "أنت ستموتين على هذا النحو"، فتجيب "وهل الموت أمر سيء؟"
إنه “الفصام الكتاتوني” كما توضحه لنا الكاتبة على لسان إحدى شخصياتها الثانوية، هذا المرض النفسي الذي استبد بالبطلة وهو مرض عقلي ذهاني يؤدي إلى عدم انتظام الشخصية وإلى تدهورها التدريجي. ومن خصائصه الانفصام عن العالم الواقعي الخارجي، فالمريض يعيش في عالم خاص بعيدا عن الواقع، وكأنه في حلم مستمر. وهو ما حدث مع يونغ هي.
مشاهد سيريالية وأفكار متباينة بين ثنائيات الجسد والروح، الحياة والموت، الانتماء واللاإنتماء، تأتينا كثورة في وجه العنف الممارس ضد البطلة منذ الطفولة، قد يخطر على بال القارئ منذ الصفحات الأولى، ثم تترسخ الفكرة مع سلوك الأب المستهجن لتحول ابنته إلى نباتية وكيف عنفها محاولا إطعامها اللحم غصبا عنها حتى ثارت ضده محاولة الانتحار بقطع معصم يدها، ثم تتأكد الفكرة لدى القارئ بمجرد قراءته الفصل الثالث وكيف تكشف الأخت الكبرى أن شقيقته الصغرى هي الوحيدة التي لم تكن تبدي غضبا أو حزنا أو أي رد فعل عنيف ومستنكر لعنف والدها ضدهم. تراكمات نفسية كثيرة كانت مفجعة حين طفت على السطح ودفعت صاحبتها إلى حافة الجنون. إنه فعلا الجسد الذي يتذكر كل شي وحين يقرر أن يقول لا-كما يؤكده لنا الطبيب النفسي غابور ماتي- فإنه هذه “اللا” تكون عنيفة ومدمرة وشديدة الخطورة.
◙ محمود عبدالغفار ترجم "النباتية" بكثير من الشاعرية والصور الصادمة والحوارات الدقيقة والعنيفة في آن واحد
وفي تقييم بعض النقاد لأسلوب هان كانغ في هذه الرواية شبهت بكافكا، وهي بالفعل تعتمد كثيرا على أسلوب شبيه به فقد انشغلت بمصير شخصية مسلوبة الإرادة مدفوعة بقوة غاصبة غير مرئية، تقذف بها في أتون تحولات نفسية رهيبة، صادمة لبقية شخوص العمل، كما هي صادمة للقارئ، تندفع نحو سلوكيات عنيفة تتباين بين العنف الجسدي ضد نفسها وضد الأشخاص والحيوانات، وبين الاندفاع وراء التحرر من قيود الجسد كالتعري والاستسلام لدعوة مفاجئة لممارسة الجنس. كل خطوة مهما كانت خطيرة تفتح في عقل البطلة أفكارا جديدة عن ضرورة تحررها من “حيوانيتها” وتحكم الجسد وشهواته فيها، وأول هذه الشهوات أن تكون نباتية، ثم بلغت حد رفض الطعام ظنا منها أن تستطيع أن تكون مثل الشجرة، تقف على يديها وتعيش فقط على شرب الماء.
تعيدنا نهاية الفصل الثالث إلى بداية التغيير الصادم للبطلة. “في أحلامي، وكل الأشياء في الأحلام تبدو حقيقية، ولكن عندما نستيقظ نعرف أنها ليست كذلك.. ولهذا السبب علينا أن نستيقظ في لحظة ما، ومن ثم…."، هكذا تؤكد الأخت الكبرى أن الأحلام يجب أن نتعامل معها أنها مجرد أوهام غير حقيقية.
لكن النهاية بقيت مفتوحة، لخيال القارئ أن يكملها كيفما يشاء، قد يتصور وصول يونغ هي إلى المستشفى الجديد، حقنها بالبروتين كي تنجو من الموت، تنجو فعلا، ويستمر علاجها حتى تشفى من هواجسها النفسية وتدرك أن “الأحلام هي مجرد أحلام”، وتستعيد حياتها الطبيعية تدريجيا، وقد يأخذ الطائر الأسود الذي رأته أختها محلقا بعيدا فوق جبل “تشوك سونغ” رمزا غير مباشر لأن روح البطلة المتمسكة بأنها لا تحتاج الأكل لتحيى ولا تخاف الموت، قد رفرفت بعيدا.
وهذا النص المختلف والصادم والغرائبي لم يكن ليصلنا بهذه الجمالية اللغوية والترابط السردي لولا جهود المترجم. وهذه الترجمة تقول لنا إن الأدب من السهل أن يعيش وينتشر ويزدهر بفضل أنامل مترجم متمكن، بفضل لغته الفصيحة وسرده الجذاب والمتماسك ما بالك إن كان هذا المترجم قادم إلى حقل الترجمة من الشعر، تشبع بمدارسه وأثرى زاده اللغوي بمفرداته الشاعرية، مثل ما فعل المترجم المصري محمود عبدالغفار مترجم روايات هان كانغ. عبد الغفار، الحاصل على ماجستير في الشعر العربي الحديث في جامعة القاهرة، ودكتوراه في الأدب المقارن في كلية العلوم الإنسانية بجامعة "ميونغ جي" بكوريا الجنوبية، ترجم أيضا العديد من الأعمال الكورية.
لم نكن لنعرف أدب كانغ عربيا لولا عبدالغفار. ربما لو أتيحت الفرصة لغيره لعرفناه منه، لكننا لم نكن لنقرأ لها كما "ترجمها" عبدالغفار، بالكثير من الشاعرية والصور الصادمة والحوارات الدقيقة والعنيفة في آن واحد، مع التزامه بتوضيح المفردات المتداولة بكثرة في المجتمع الكوري الجنوبي والتي ضمنتها الكاتبة في كامل فصول روايتها.
حنان مبروك
صحافية تونسية