مروة عبيد تتذاكى عمدا في حوارياتها

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مروة عبيد تتذاكى عمدا في حوارياتها

    مروة عبيد تتذاكى عمدا في حوارياتها


    أشياء وأشخاص يتجادلون ويؤسسون أفكارا فلسفية خاصة.
    الأحد 2024/10/20
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    الحوار يكشف الخفايا (لوحة للفنان أسامة نصار)

    تكشف الحوارات العديد من الأفكار، ولعلها أهم الأساليب الفكرية التي اعتمدها كبار الفلاسفة على مر التاريخ مثل سقراط، ولكن الحوارات لا تكون دائما بين الأفراد بل يمكنها أن تكون بين الأشياء أيضا، وهذا ما أبدع في إنشائه كتّاب ومبدعون كثيرون، ومن بينهم الكاتبة المصرية مروة محمد عبيد.

    يشتمل كتاب “أتذاكى عمدًا” للكاتبة مروة محمد عبيد على ثلاثة أنواع أدبية، فهو ليس كلُّه قصصًا قصيرة كما جاء على غلاف الكتاب، فهناك المحاورات الأدبية، وهناك روايتان قصيرتان، وهناك قصص قصيرة.

    وسوف تتوقف هذه القراءة عند المحاورات أو الحواريَّات فقط، والتي تعلن عن وجود كاتبة تجيد فن المحاورة والجدل وطرح الأسئلة، وتخيُّل الإجابات من خلال الشخصيات أو الأشياء التي تتحاور مع بعضها البعض، وهذا يحتاج إلى ثقافة واسعة وقدرة على الحوار مع الآخر، سواء كان هذا الآخر إنسانًا أو شيئًا من الأشياء، وتخليق الأسئلة وتلقي الإجابات من الذات الكاتبة نفسها، سواء من داخل تلك الذات، أو من خلال ما تتلقاهُ من العالم الخارجي.
    قضايا فلسفية


    فن المحاورة ليس فنًّا جديدًا في الأدب العربي أو العالمي، فقد رأينا من قبل فن المحاورة عند أفلاطون، وهي محاورات فلسفية تختلف الواحدة عن الأخرى، إن من حيث المضمون، أو الأسلوب.

    أما المحاورة عند العرب، فقد عُرفت شعرًا، وشعر المحاورة، يعتمد على الارتجال وسرعة البديهة، حيث يتم تبادلُه مباشرةً بين شاعرين أو أكثر في نفس الزمان والمكان، وعلى نفس الوزن والقافية والمعنى، وهو غير فن “المعارضة” الشعرية.

    وفي العصر الحديث، اختلف فن المحاورة وصار بين الأفكار وبعضها البعض من خلال شخصيات خارجية أقلها اثنان، أو بين الشخص ونفسه، فيكون هناك أيضا اثنان، وهي ما يعرف بالمونولوج، أو الحوار الذاتي، ومنه اشتقت في المسرح “المونودراما”.

    وقد تجلَّى فن المحاورة في النثر العربي الحديث عند أحمد شوقي في كتابه “شيطان بنتاؤر” (1901). كما تجلَّى عند نجيب محفوظ في كتابه “أمام العرش” (1983). وتختلف محاورات شوقي في “شيطان بنتاؤر” في الشكل والأسلوب عن محاورات نجيب محفوظ في “أمام العرش”، ولكنهما تتفقان في المضمون. ويبدو أنهما استقيا العنوان من “محاورات أفلاطون”.



    في “شيطان بنتاؤر” كانت المحاورات عند شوقي بأسلوب المقامات، وقد اتخذ رمز هدهد سليمان حديدي النظر ـ وبنتاؤر شاعر مصر القديمة – في عهد رمسيس – الذي أخذ رمز النَّسر المعمِّر (لُبَد). وتناولا أو تحاورا أو تحدثا عن أهم الأحداث التي تعاقبت على ضفتَي النِّيل منذ عهد رمسيس إلى عصر الخديوي عباس حلمي الثاني. وهو ما فعله محفوظ في محاوراته “أمام العرش – حوار بين الحكام” التي اتخذت شكل المحاكمات منذ العصر الفرعوني أو منذ عصر الملك مينا وحتى عصر الرئيس أنور السادات، من خلال إيزيس وأوزوريس والابن حورس.

    وقد اختارت الكاتبة مروة عبيد شكل الحوارية لأكثر من نصف نصوصها التي طرحتها في كتابها “أتذاكى عمدًا” الصادر عن دار ميثاق للنشر والتوزيع 2023. لقد بلغت مجمل هذه النصوص 30 نصًّا، منها 16 نصًّا أخذت شكل المحاورة، ولم تفقد النصوص الأخرى الحوارات بداخلها، ولكنها وُجدت إلى جانب السرد والوصف والتقنيات الأخرى للقصة القصيرة.

    تتصف بعض حوارات مروة عبيد بالجدل والقصر الشديد، وعلى سبيل المثال أول نص أدبي في الكتاب جاء بعنوان “كف القلم” (ص 7) ووقع في ثلاثة أرباع الصفحة، وهو عبارة عن حوارية فلسفية بين القلم والكف:

    هتف القلم: اكتبْ شيئًا من وحي القدر.

    صاح الكف: لن أمسكك، ولن أُلهمك. أتريد ألا يراني أحد؟ نفذ فقط، سطّر فقط، وهمًا حلمًا يطوي الزمن.

    همس القلم: هذا سراب، تجعل مَن يقابلك ظمآنا لخيالك ولا يرتوي.

    وهكذا تدور الحوارية الفلسفية بين القلم والكف، ويأمر الكفُّ القلمَ ألا يجادل، ويطلب منه أن يحلق معه في الخيال، ويبتعد عن ذكر الحقائق المؤلمة أو البؤس والشقاء ليجعل الكل سعداء.

    البحث عن السعادة أو وهم الآخرين بالسعادة هو المدار الذي تدور فيه هذه الحوارية، التي وقع فيها القلم ذليلا لسيده الكف المتفاخر. فهل يستطيع الذليل منح السعادة للآخرين – وهم هنا القراء – وهو يبكي ويتساقط مداده على الأوراق؟

    إن هذا الموقف يذكرني بالمشهد الذي يختم به الفنان عبدالمنعم إبراهيم فيلم “حكاية العمر كله” حينما طلب من فريد الأطرش أن يبتسم في وجه الجمهور في محطة السكة الحديد وهو يتألم حزنًا ولوعةً على فراق من أحبها (فاتن حمامة).

    ويبدو أن العلاقة بين القلم والكف تشغل بال الذات الكاتبة، فتجعل منهما بطَلَي حوارية “القاضي” (ص 8) حيث يطلب السيد الكف من السيد القاضي الحكم بينه وبين القلم الذي يريده أن يكون شاعرًا، وهو ليس بشاعر ويريد أن يكتب واقعه المعهود بالنثر.

    هل هو البحث عن الأفكار أم الأشكال التي تلبسها تلك الأفكار؟


    مروة عبيد كاتبة تجيد فن المحاورة وطرح الأسئلة وتخيُّل الإجابات من خلال الشخصيات أو الأشياء التي تجعلها تتحاور


    ويدافع القلم عن نفسه أمام القاضي ذي العقل الرشيد، مؤكدًا له أنه موجود قبل أن يكون للكفِّ وجود. لنتساءل مَن أسبق إلى الوجود؛ الفكرُ أم الجسد؟ مَن المخلوقُ أولا؛ الجسد متمثلا في الكفِّ، أم الفكر متمثلا في القلم؟ أم خُلقا معًا؟

    وهو ما يذكرني بالورقة السادسة في قصيدة أمل دنقل “من أوراق أبونواس” التي يقول فيها: لا تسألْني إن كانَ القُرآنْ/ مخلوقاً.. أو أزَليّا./ بل سَلْني إن كان السُّلطانْ/ لِصّاً.. أو نصفَ نبيّ.

    فهل الفكرُ أزلي، وجد قبل خلق الإنسان، أم أنه خُلق مع خلق الإنسان؟

    إنها قضايا فكرية فلسفية مطروحة في كل عصر وكل أوان؟ ولكن كيف تُطرح في الأشكال الأدبية المتعددة؟ لقد طرحها أمل دنقل في سؤاله عن القرآن، هل هو مخلوق أم أزلي؟

    وتطرحها مروة عبيد من خلال حواريتها “القاضي” الذي لن يحل هذه المعضلة، وتنتهي الحوارية نهاية مفتوحة دون أن يحكم القاضي بينهما، لنعرف بذلك أن القضية لن تُحل، وأن الحوار الفكري أو الجدل وصراع الأفكار لا يزال قائمًا بين المخلوق والأزلي.

    البعض يرى أن الفكر وجد بعد خلق آدم بنص الآية القرآنية “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ” (البقرة – 31). أي أن الله خلق آدم أولا ثم علَّمه الأسماء (أي الفكر، أو كيف يفكر من خلال هذه الأسماء) التي لم تعرفها الملائكة لأنهم لا يفكرون. وكان رد الملائكة: “قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ” (البقرة – 32). فطلب الله من آدم أن ينبأهم بأسمائهم، فكانت منزلة الإنسان أعلى لأنه يفكر ويتعلم ويعرف ما لا تعرفه الملائكة.

    وتتضح الغيرة في تلك الحوارية بين القلم والكفّ، لأن القلم يعرف أكثر ويعلم أكثر من الكفّ، ولديه القابلية للتعلم أكثر وأكثر.

    يقول نجيب محفوظ عن علاقة القلم بالكفّ: “كان فكري مشغولا بالأفكار والكلمات وليس بالقلم الذي أمرّره على الورق. ثم صار القلم شيئا يوازي روحي تماما. فحياتي كلها كانت مرتبطة بالقلم صعودًا وهبوطًا. وكان يمثل إصبعًا سادسًا في كفي”.

    ثم يدخل الكومبيوتر فضاء النص الأدبي الفلسفي، حيث يخبر الكفُّ القاضي أنه يستخدم الحاسوب، الذي لن يقول له كان ويكون. أي أن الكومبيوتر لن يعترض على قرارات أو مطالب الكف.

    هل تريد الذات الكاتبة أن تخبرنا أن الكومبيوتر يحل محل القلم؟ وما موقف القلم الإلكتروني في هذه الإشكالية، وما موقف أدوات وبرامج الذكاء الاصطناعي التي سوف تستغني عن الكف نهائيا، لتنفذ قرارات ربما من خلال الفكرة أو النظرة أو التخاطر (التلباثي – Telepathy)، أو حتى من تلقاء نفسه، حيث الذكاءُ الاصطناعيُّ التوليديُّ، الذي يولّد الأفكار تلو الأفكار دون تدخل الإنسان، مع أن الإنسان هو الذي يغذيه بالبيانات والمعلومات والأفكار الأوليّة، أو الأفكار الخام.

    إن حوارية “القاضي” نفسها لو عرضت على أحد برامج الذكاء الاصطناعي لرأينا موقفًا مخالفًا لرأي القاضي الذي لم نر له رأيًا وظل صامتًا بعد أن طلب السيد الكف منه الحكم قائلا: فاحكم بيننا سيدي القاضي، فحكمك لن يجور؟

    إن عدم حكم القاضي يعني حيرتَه بين الفكر (القلم) والجسد (الكف)، وأعتقد أننا من الممكن أن نرى حكمًا مبهرًا من خلال الذكاء الاصطناعي لو عرضنا عليه تلك الحوارية وطلبنا منه رأيًا. وقد يكون الصمت أيضا هو رد ذلك الذكاء الاصطناعي، فالموضوع فلسفي مجرد، وقد لا يرقى إليه فكر الحاسوب أو ذكاؤه الاصطناعي.

    وهكذا استطاعت حوارية “القاضي” أن تثير العديد من الأسئلة الفكرية الفلسفية، من خلال تصوير العلاقة بين الكف والقلم.
    حواريات قصيرة


    مثل هذه الحواريات عند مروة عبيد من الممكن أن تتطور وتصبح مسرحيات ذهنية من ذوات الفصل الواحد

    إن مثل هذه الحواريَّات عند مروة عبيد من الممكن أن تتطور وتصبح مسرحيات ذهنية من ذوات الفصل الواحد، تعتمد على الحوار الفكري الشيق والجدل الفلسفي العميق، مثلما رأيناه عند توفيق الحكيم ونجيب محفوظ في مسرحياته الثماني.

    لقد لجأ محفوظ إلى كتابة مسرحيات من ذوات الفصل الواحد، بعد نكسة 1967 ونُشرت ضمن مجموعاته القصصية: “تحت المظلة” و”المطاردة” و”الشيطان يعظ”، وجُمعت بعد ذلك في كتاب منفرد عام 2006. وقد لاحظ محفوظ أن قصصه بدأ يغلب عليها الحوار، ومن ثم بدأ التحول إلى المسرحية، وربما لأن هذه الفترة هي فترة متناقضات وأنسب شيءٍ لها الحوار. لقد تحول محفوظ في هذه الفترة إلى المسرح مع الاحتفاظ بالكتابة القصصية. وأعمالُه الجديدةُ كلُّها – في ذلك الوقت – جاءت في شكل حوار مسرحي. وحجمها أكبر من القصة القصيرة.

    أما عند عبيد فقد رأينا الحوارات جِدّ قصيرة، فهل نستطيع القول إنها تقدم لنا الحوار القصير جدا، على غرار القصة القصيرة جدا (ق ق ج)، ولعلنا نرمز بهذا الحوار القصير جدا بالحروف (ح ق ج)؟

    ونختار حوارًا آخر قصيرًا بعنوان “سؤال” (ص 19) وهو الذي بزغ من خلاله عنوان الكتاب. الحوار جاء بين اثنين ربما بين ذكر وأنثى، أو فلنقل بين فكرين مختلفين، فالإنسان هنا يرمز للفكر. وتجيء الحوارية القصيرة التي وقعت في تسعة سطور واشتملت على 42 كلمة، على النحو التالي:

    لِمَ لمْ تُجيبي علي؟

    ما سؤالُكَ حتى أُجيبك؟

    سؤالي هو لمَ لمْ تُجيبي عليّ؟

    عفوًا لم أفهم مقصدك.

    بل تفهمين، ولكنك تتغابين عمدًا.

    تقصد أتذاكى

    إذن .. ما إجابتك؟

    أتتغابى؟

    بل أتذاكى عمدًا.

    عادة ما تتميز النصوص القصيرة جدا بمثل هذه المفارقة التي تدهش القارئ، وتفاجئه وتجعله يتفاعل مع النص

    من خلال هذه الحوارية القصيرة، يتضح مدى الاختلاف بين الشخصيتين، أو بين الفكرين، هذا الاختلاف يستدعي معه التضاد على مستوى اللغة. والتضاد هو تَبايُن أو تَعارُض أو تَضارُب، وهو أَثَر نَاتجٌ من أَشْياء أَو عَناصِر مُخْتلفة ومُتَقابِلة.

    وفي هذه الحوارية نجد الثنائيات المتضادة: الإجابة والسؤال، تفهم ولم أفهم، التغابي والتذاكي.

    هذا التضاد يقوِّي المعنى، ويخلق تيارًا شعوريًّا متباينًا.

    وفي حوارية “دليل صدق” (ص 21) نجد الذات الكاتبة تعلي من قيمة العقل أمام القلب، حيث يسأل الحبيب حبيبته التي تعتقد أن كلمة الحب تتبخَّر في الهواء: وكيف أجعلك تصدقينني؟ فتجيب: ببساطة أجعل عقلي يصدقك. لتهدم بذلك قيمة العاطفة، أو تقلل من شأنها، أمام سطوة العقل. إنها تحب بعقلها وليس بقلبها، ويبدو أنه في عصر المعلومات والذكاء الاصطناعي لا يوجد مكان للعواطف والقلوب، وإنما العقول هي التي تتسيَّد وتسيطر وتفرض نفسها على القلوب. ونلاحظ هذا في إهداء الكاتبة وفيه تقول: “إلى كل إنسان يستطيع استخدام عقله بما لا يضره ولا يضر غيره”. وتقول في مقدمتها: “الإنسان يتميز عن غيره من المخلوقات بالعقل”.

    وعندما يسألها الحبيب عن القلب، تُجيب أنها تبدأ بالبحث عنه حيث يختبئ. إن القلب تنازل عن عرشه للعقل، وهرب إلى كهف سحيق مظلم، يختبئ فيه بعيدًا عن عقول البشر الذين أهملوه طويلا وتخلوا عنه، فانزوى في كهفه البعيد.

    ونتساءل: هل أزاح العقلُ المشاعرَ العاطفية إلى الوراء وجعلها تختبئ أمام سطوته الكبرى، أم أنه لا وقت للحب في هذا العالم العقلاني؟

    وفي حوارية “الأخبار” (ص 22) نرى رجلا يقرأ نفس الجريدة يوميًّا لأنه يعتقد أن آخر الأخبار هي أوّلُها باختلاف الأماكن والأسماء. وكأن الذات الكاتبة تردد قول عنترة بن شداد: هل غادر الشعراءُ من متردَّم؟ أي هل ترك الشعراء الأوائل شيئاً من الكلام للشعراء الأواخر لكي يقولوه؟

    وإذا كنا نتحدث عن وجود الرواية العلمية أو رواية الخيال العلمي، والقصة العلمية أو قصة الخيال العلمي، فإننا في حوارية “التجربة الحَرَّمصرية” (ص 23) نجد الخيال العلمي أيضا. وتدور تلك الحوارية حول تجربة توليد الطاقة الشمسية من أجساد المصريين التي امتصت تلك الطاقة خلال الفترة الماضية، فهي المكان المناسب بشمسها الساطعة ودفئها العاطفي الجميل، خاصة بعد أن رفع المصريون شعارهم “نحن قوم ضد الكسر” وهنا نرى توظيفًا بارعًا لأغنية محمود العسيلي: “أنا ابن مصر أنا ضد الكسر.. أنا رافع راسي تملي لفوق طول العمر”.

    وكأن هذه الأغنية أصبحت معبِّرًا عن قدرة وقوة تحمل المصريين، وبالتالي فهم يتحملون ما يجري لهم. ولأنهم كذلك فقد تزيد أحقاد الدول الأخرى عليهم. فهؤلاء الغرباء الذين جاؤوا لاستخلاص الطاقة من أجساد المصريين تبرق عيونهم بمنتهى الحقد وهم يخططون لاستمرار التجربة.
    مفارقات مدهشة


    عادة ما تتميز النصوص القصيرة جدا بمثل هذه المفارقة التي تدهش القارئ، وتفاجئه وتجعله يتفاعل مع النص ويعيد قراءته مرة أخرى، أو مراتٍ أُخر

    ربما تعد حوارية “الآخر وهو” (ص 25) أطول حوارية في حواريات مروة عبيد في هذا الكتاب، ونكتشف من خلالها أن الآخر هو داخل الإنسان نفسه، إنه ليس بالخارج، ربما يكون الضمير اليقظ الذي يكرهه الموظف البليد لأنه لا ينفّذ ما يطلبه منه، أو يكون الضمير الخامل الذي لا يحبه الموظف النشط، فيطلب تأجيل العمل وتسويفه وتعطيله ويقترح أفكارًا أخرى غير التي يريدها هذا الموظف الذي يذهب ليشكوه لمديره، فيطلب المدير إحضاره، فيسقط في يد الموظف لأنه لن يستطيع إحضار ضميره المستتر أو المختبئ، إنه مثل الحب المختبئ في حوارية “دليل صدق”. ويضطر الموظف إلى إخبار مديره أن هذا الآخر الذي يشكو منه مرَّ الشكوى بداخله هو وحده، يتحداه ويُغضبه ويُملي عليه أفكارًا غريبة. ويسأل: كيف يُخرجه من داخله؟

    ويتفهم المدير – الذي أخذ دور الطبيب – شكوى هذا الموظف وينصحه قائلا: لا تحاول إخراجه، وإنما اجعله صديقك. ارض بما يقوله لك، لكي يرضى بك فترتاح.

    وكان من الممكن أن تنتهي الحوارية عند هذا الحد، وفي هذه الحالة ستكون حوارية عادية، استطاع المدير أو الطبيب، أو المدير الذي تحوَّل إلى طبيب، حل مشكلة مرؤوسه.

    ولكن بقية الحوارية تكشف عن شيء مروِّع، تكشف عن مخططات ومؤامرات واجتماعات افتراضية وتعليمات. تكشف أن هذا المدير أو الطبيب هو الذي أقنع هذا المرؤوس أو المريض بضميره، أن يستمع إلى ما تم زرعه في عقله وضميره من أفكار ورؤى لصالح جهة خبيثة تريد أن تسيطر على العالم، عن طريق السيطرة على العقول والأفكار والضمائر، إنها الكف الباطشة التي رأيناها في الحواريتين الأوليين التي تريد أن تسيطر على القلم، رمز الفكر. وهنا سنلاحظ أن هناك خيطًا فكريًّا ما يربط بين بعض الحواريَّات.

    إن هذا الطبيب بعد أن نجح في عملية غسيل مخ وضمير هذا الموظف أو هذا المواطن يتصل بجهة أخرى قائلا: لقد نجحت المرحلة الأولى من التجربة واقتنع “ح 6174” بما نقوله له. وهنا نستطيع أن نفسر وجود الرقم 6174 على غلاف الكتاب الذي لم أكن أعرف دلالتَه قبل قراءة تلك الحوارية.

    بعد نجاح المرحلة الأولى تكون هناك تعليمات ببداية المرحلة الثانية حتى تتم السيطرة على عقل هذا الموظف أو المواطن تماما والتحكم به، ويكون الأمر: افعلوا المثل مع باقي الحالات. ويهنئ الطبيب أو العدو أو المستعمِر الفكري نفسه قائلا: قريبًا سأسيطر على عقول مَنْ أريد لأحكم بهم العالم.
    هل أزاح العقلُ المشاعرَ العاطفية إلى الوراء وجعلها تختبئ أمام سطوته الكبرى، أم أنه لا وقت للحب في هذا العالم العقلاني؟

    إنهم المتلاعبون بالعقول والضمائر من أجل السيطرة على البشر وعلى العالم، نجحت الكاتبة في التحذير منهم ومن خطورتهم ومن قربهم منا، من خلال تلك الحوارية الهادفة الكاشفة.

    في حوارية “الروح الحبيسة” (ص 29) نجد الصراع بين الحياة والموت، بين الروح والجسد، وتنهزم الروح التي تريد أن تحلّق خارج الجسد، بعد أن ظل صاحبها في غيبوبة لمدة ستة أشهر. وعندما عادت إليه الحياة وبدأ يحرك أصابعه ويُفيق، أخذت الروح الحبيسة داخله تبكي.

    وفي حوارية “الزائر الليلي” (ص 37) نجد الاحتفاء بالملل، الذي يقضي أجمل الأوقات مع الذات الكاتبة التي تقول: إنه يزورني كل ليلة ويقضي معي أجمل الأوقات. إنها تسليةٌ بالملل. أو ارتياحٌ للملل. إنها تمدح الملل.

    هنا تجتمع الأضداد، فالسأم أو المَلل شعور ينتاب المرء عندما لا يوجد ما يستأثر باهتمامه ويسلّيه أو يرتاح إليه، فيشعر بأنه محاصرٌ نفسيًّا، وأنه متوترٌ وعصبيٌّ، وأنه قلِقٌ، وتنجح الكاتبة في أنسنة مثل هذه المشاعر السلبية، وتحويلها إلى كائن إيجابي نستطيع التعامل معه، والجلوس إليه والاحتفاء به. وتزيد دهشتنا عندما نعرف أن الملل لا يأتي وحده وإنما يصاحبه الحزن والإرهاق والاكتئاب. وهو ما يسعد الذات الكاتبة، فبدلا من أن تشكو من الوحدة والمعاناة والفقد والحنين، فإنها تؤنسن هذه المعاني المجردة والمشاعر السلبية وتمنحها طاقة إيجابية، وتُفقدها صفاتها وخصائصها المعروفة، لتصبح مشاعر مبهجة تحمل الكثير من المتعة والتسلية والسلوان.

    وتختم الذات الكاتبة حوارية “الزائر الليلي” بسؤالها عن اسم محدثها أو محاورها، فيجيبها بأن اسمه “وحيد”، لتصنع الكاتبة بذلك مفارقة جميلة.

    وعادة ما تتميز النصوص القصيرة جدا بمثل هذه المفارقة التي تدهش القارئ، وتفاجئه وتجعله يتفاعل مع النص ويعيد قراءته مرة أخرى، أو مراتٍ أُخر. وهكذا كانت نصوص مروة عبيد في حواريَّاتها القصيرة، والقصيرة جدا (ح ق ج).

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    أحمد فضل شبلول
    كاتب مصري
يعمل...
X