وليام كارلوس وليامز شاعر لا يخضع لأي قاعدة ولا حتى قواعده هو

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • وليام كارلوس وليامز شاعر لا يخضع لأي قاعدة ولا حتى قواعده هو

    وليام كارلوس وليامز شاعر لا يخضع لأي قاعدة ولا حتى قواعده هو


    شاعر طبيب يسمع القصيدة وهي تمشي في الشارع.
    السبت 2024/10/19

    شاعر أصيل جاء بشيء جديد كليا

    خلد العديد من الشعراء أسماءهم بصفتهم رموزا لتيارات أدبية مختلفة، فكانت تجاربهم وتطوراتها مثالا حيا على ولادة التوجهات الأدبية الكبرى في العالم، وتأكيدا على القدرة الخلاقة على توسيع الوعي ومساحة الرؤية وطرق الاشتغال. من بين هؤلاء الشاعر الأميركي وليام كارلوس وليامز الذي مثل مدرسة مختلفة تماما.

    يقول الشاعر وليام كارلوس وليامز الذي يعد في نظر كل النقاد أعظمَ شاعرٍ أصيل أنتجته أميركا في القرن العشرين “القصيدة تنشأ من نصف الكلمات التي ينطقها المريض.. حين يسألونني كيف استطعت أن أهتم كل هذه السنوات اهتماما متساويا، بالطب والقصيدة.. جوابي هو: كلاهما بالنسبة إليّ شيء واحد تقريبا”، ويرى أنه “ليس هناك موضوع أو مواد ضد شعرية مثلما لا توجد أشياء أو أماكن خصصت للفن أن يعالجها”.

    في هذه الأنطولوجيا التي حملت عنوان “ما ليس شعريا في نظرهم”. يقدم الشاعر السيريالي والمترجم الفرنسي من أصل عراقي عبدالقادر الجنابي ما يقارب 160 قصيدة لوليامز لافتا إلى أنها “لم تُعَدّ لقارئ عاطفي منكود يبحث عن مجازات شعرية تستقطر مآقيه أو صورٍ فانتازية تبهره نحو عوالم غير موجودة”. وإنما أُعدت لكي يدرك القارئ أن الحداثة التي لا مناص منها لتشكيل رؤية شاملة، تكمنُ حواليه؛ وأن “الشاعر الحقيقي، مثل وليامز، يعرفُ كيفَ أنْ يكونَ مرآةَ هذه الحداثة”.
    الشاعر الطبيب


    الشعر قبل وليامز افترض وجود مسافة بين الإنسان والأشياء لكنه مع وليامز لا يبحث عن آثار ألوهية تلاشت

    يقدم الجنابي لأنطولوجيته التي صدرت عن دار التنوير بدراسة تحليلية لتجربة وليامز وما أحاط بها من حيوات وتأثيرات ألقت بظلالها على حياته ورؤيته ومفهومه للشعر. ولد وليامز عام 1883 في حي رذرفورد بمدينة نيو جيرسي من أب انجليزي الأصل وأم من أصل أسباني وفرنسي. أقام في أوروبا سنتين مع عائلته ما بين 1897 و1899. واعتبارا من 1902 أمضى أربع سنوات في جامعة بنسلفانيا لدراسة الطب. وفي هذه الجامعة تعرف على عزرا باوند وهيلدا دوليتل والرسام تشارلس ديموث. ثم أمضى أربع سنوات أخرى في المستشفى الفرنسي في نيويورك ليتخصص في طب الأطفال وعلميات التوليد.

    يقول الجنابي “أصدر عام 1909 أول ديوان شعر له على حسابه الخاص تحت عنوان ‘قصائد’ وكلها تحمل تأثيرات جون كيتس. بعد تخرجه من الجامعة بدأ يمارس مهنة الطب. وبسبب الفقر، فتح عام 1912 عيادة في منزل عائلته في رذرفورد محولا الرواق إلى صالة انتظار، وغرفة الخدم إلى مكتب. كان زبائنه على قلتهم ينظرون إليه بحذر، ولم تكن لديهم بعد ثقة كاملة فيه، لكونه شابا ويكتب الشعر، ويسكن بعيدا عن المدينة، وليس عنده سيارة وإنما فرس صغيرة منفرجة الساقين كان قد استأجرها لستة أشهر. تزوج في عام 1913 من فلورنس هيرمان (فلوسي) وأنجبت له طفلين: بيتر وبول”.

    ويضيف “في العام نفسه، اشترى سيارة فورد قديمة، كان يحتاج أحيانا في الشتاء إلى عشرين دقيقة لتسييرها. ولحسن حظه، كان ثمة دكتور قد حان تقاعده فقرر بيع بيته بالتقسيط: استدان وليامز المبلغ المطلوب من أبيه، واشترى البيت الذي لم يكن بعيدا عن بيت عائلته. وسيعيش فيه مدى حياته، وهو اليوم مزار وأحد معالم أميركا. راح وليامز يعمق معرفته الطبية ليصبح طبيبا مختصا، وبالفعل أصبح، في ما بعد مشهورا كطبيب ‘غينيا هيل’؛ منطقة المهاجرين الفقراء، وكان يجري عمليات توليد في أحلك الظروف المرعبة لا ماء ولا كهرباء، وفي عز الشتاء بلا نار، وكان أحيانا يسقط على الكرسي من التعب. ولطالما أيقظه من نومه رنين التليفون ليعالج رجلا أصيب بطلقة في رجله أو فقيرا يعاني من أزمة قلبية.. ومع هذا فإن همته لم تفتر سواء في معالجة فورية لأفواج من المرضي، أو في جمع ما يتراءى له شعرا يتساقط من سدرة الأشياء، وهكذا قام باوند عام 1913، بنشر ديوان وليامز الثاني ‘طباع’ في لندن، مع مقدمة بقلمه”.

    فكرة القارئ الفرداني في مشروع وليامز الشعري تنطوي على أن الاكتشاف والتعليم والمعرفة أنشطة مستمرة

    يرى الجنابي “إن الأطفال الذين أشرف وليامز على توليدهم كانوا قصائد بشرية لم تجمع في ديوان؛ من هنا نجد حرارة إنسانية في كل قصائده، بل حتى في أقصى أبياته التجريدية، نشعر بجيشان عاطفة عميقة، عاطفة متحررة من كل شوائب العواطفية المبتذلة. إنها العاطفة التي تولد في حضن إدراك متسام بالوجود وقيمته: الشعور بأن العالم جديد.

    وفي الواقع إن مهنة وليامز كطبيب ستلعب دورا كبيرا في صقل مقاربته الشعرية الجديدة المتميزة، بما أن التشخيص الطبي يقوم على عنصرين أساسيين: الفحص الدقيق للناس، والتبصر وحسن التقدير. وقد استفاد منهما وليامز في كتابته الشعرية بحيث صرح ‘ككاتب كنت طبيبا وكطبيب كنت كاتبا.. واحد يغذي الآخر، كلاهما ضروري بالنسبة إليّ كما يظهر‘. وبحكم وظيفته كطبيب جاءت معظم قصائد قصيرة. وسبب قصرها هي أن معظمها كتبت في عيادته أثناء زيارات المرضى”.

    ويتابع “في وسط تأدية واجباته الطبية، غالبا ما كانت تنتابه رغبة كتابة قصيدة لكنه كان يعرف كما يقول: إن هناك دوما عشر دقائق حتى في عيادة طبيب مشغول، لرفع آلة الكتابة ووضعها على طاولة المكتب والبدء بتدوين مسودة أولى، وإذا لم يكف الوقت لإتمامها، فإنه يخفي الآلة وثم يعود إليها من جديد، في الفترة بين خروج مريض وانتظار دخول آخر”.

    وأحيانا تحضر في ذهنه جملة أو فكرة وهو يقود سيارته متوجها إلى مريض أو غابة ما، فيوقف السيارة إلى جانب طريق، ويبحث في حقيبته عن قلم وورقة ليدونها.. فهو يعرف أن الأشياء، في حالات كهذه، تأتي بسرعة وتختفي بسرعة. هكذا تختلط لحظات المهنة الرتيبة بلحظات الخلق المتغيرة. فقياس نبضات قلب مريض هو عين القياس الوزني الذي تفرضه أبيات تريد أن تكون حرة، كذلك قيادة سيارة، بالنسبة إلى الشاعر، إدراك شعري في عالم متحرك يتسارع فيه المعاين من الأشياء. ومعنى هذا أن الكتابة حركة غير محددة في حقل لغوي تظهر فيه الكلمات وتختفي بشكل مستمر في ما الكاتب يمضي في عمله في جولاته.

    ويضيف الجنابي أن وليامز انضم إلى حركة “الصوريين” الإنجليزية تحت تأثير عزرا باوند. وهذه كانت تصر على ضرورة تناول الشيء تناولا مباشرا ذاتيا كان أو موضوعيا، وعدم استخدام أيّ كلمة زائدة، أو غير دقيقة. لكنه سرعان ما يبتعد عنها، لأنها تفتقد إلى بنية، كما يقول، موضحا أن الصورية التي كانت تركز على أهمية استخدام صور ملموسة في القصيدة، قد فقدت مكانها لأنها كشكل تفتقر كليا إلى ضرورة بنيانية”.

    ليس لوليامز كما لدى شعرائنا، عقل وعواطف الطفل، وإنما لديه براءة عين الطفل في عينيه. فهو يسمع القصيدة وهي تمشي في الشارع أو تحلق بين أوراق الشجر أو تسطع من تحت النفايات

    ثم أصبح عضوا فاعلا في مجموعة “الآخرون” الأميركية التي كان من بين أعضائها مارسيل دوشامب، مان راي وماريان مور. عام 1918 يفقد والده. وفي عام 1920 يصدر “كورا في الجحيم” أول تجربة تجديدية شعرية تمهد القطيعة مع ديوانيه الأولين. وتقترب من الكتابة الآلية. يشرف على مجلة “كونتاكت” ما بين 1920 و1923 العام الذي نشر فيه “الرواية الأميركية الكبرى”، ثم أصدر “الربيع وإلى غير ذلك”. وفي سنة 1926، نالت قصيدته القصيرة “باتيرسون” جائزة “دايل”. وفي صيف 1927 سافر إلى أوروبا وبقي هناك سنتين، حيث التقى بالسورياليين وبجيروترود شتاين. ترجم عام 1929، كتاب فيليب سوبو السوريالي “ليالي باريس الأخيرة”.

    ويوضح أنه في عام 1931 أطلق وليامز مع لويس زوكوفسكي “الشيئوية” التيار الشعري الذي هو قريب جدا من أفكاره الأصلية ونزعاته في كتابة القصيدة، بل يسعني القول إن تيار الشيئوية تفرّع بشكل ما من نظريات وليامز عينها ونهجه الشعري، وهذا يظهر من خلال النقاشات والمراسلات بين وليامز وبقية أفراد التيار لويس زوكوفسكي، جورج أوبين، تشارلس ريزنيكوف وكارل راكوزي.

    والمبدأ الذي ينطلق منه هذا التيار هو: على الشاعر أن يكون صادقا وذا فطنة وقدرة موضوعية على رؤية العالم بوضوح، كي تمتلك القصيدة قالبا ملموسا يمكن تحسسه، وعليها أن تؤكد وجودها المستقل لا أن تنسخ الواقع. بعبارة أخرى الابتعاد عن أيّ تناول ذهني للأشياء، فإن هذه الأشياء يجب أن تفهم على أن لها وجودا خارج الذهن، ويجب موضعتها كأشياء وبموضوعية ونزاهة. على الشاعر أن يرى الأشياء بمعزل. إن شاعرا كهذا يحتاج إلى دربة في النظر، ليتعلم كيف يرى الأشياء التي هي ليست فوقه ولا تحته وإنما هي أمامه من دون أن يسقط عليها ظلالا من ذهنه، وإلا فلن تعود هي هي، وإنما أشياء أخرى لا وجود لها. باختصار: لا تتذهّن الموضوع: إنه أمامك.. فقط انقله مثلما تنقل دفترا من رف إلى رف. وها أن قصيدة حديثة تضاف إلى أعمالك الشعرية.
    شاعر صوري



    ويليامز كان يعيد متابة قصائده إما بإضافة أو حذف كلمة


    يرى الجنابي أنه إذا كان الشعر قبل وليامز قد افترض وجود مسافة بين الإنسان والأشياء، أو بين رجل ورجل آخر، فإن شعر وليامز ليس فيه بحث عن آثار ألوهية تلاشت، ولا هو محاولة مهتاجة للعثور على وسيط جديد بين السماء والأرض. لقد كان ملتصقا بالدنيوي: لا يوجد غير هذا الـ”هنا”، وليس من عالم آخر يمكن الذهاب إليه. “الجنة، بكل صراحة أمر مستحيل”، هكذا وليامز.

    الشعر الرومنطيقي، كما يوضح ميلر، يقوم على التعارض بين عالم الذات الداخلي وعالم الأشياء الخارجي. ففي شعر وليامز يزول كلا البعدين: غور الذاتية سحيق الهوة، ومسافات العالم الخارجي اللانهائية. في نظر وليامز: إن كان ثمة شيء موجود، فإنه يقيم في الواقع الوحيد الموجودة هنا؛ مكان ذاتي وموضوعي في آن؛ منطقة الحضور المشترك حيث أيّ مكان هو بذاته كل الأمكنة، وكل الأزمنة هي زمن واحد. وبما أنه ليست هناك مسافات، فإنه ليس هناك اتجاه. لا معنى أن تأخذ اتجاها مغايرا وكأنه الاتجاه الآخر ليس هو هذا الاتجاه الذي تأخذه. أن تكون في مكان ما هو أنك أصلا في كل الأماكن. ووليامز لا يتبع قضية محددة ويترك قضايا أخرى. القضية إذا كانت فعلا قضية فإنها كل القضايا.

    ويشير إلى أن وليامز كان يعيد كتابة بعض القصائد إما بإضافة أو حذف كلمة أو بيت أو أبيات. وقد اختار قصيدة “فتاة شابة في النافذة” أنموذجا ليأخذ القارئ فكرة عن طبيعة التنقيح الذي يقوم به وليامز. وهذه القصيدة تعتبر من مجموعة القصائد المنتمية إلى الحركة الصورية التي كان وليامز أحد شعرائها. لا نعرف أيّ صيغة كانت هي الأولى لكننا نعرف أن الصيغة الثانية هي المنشورة، أما الصيغة الأولى فكانت موجودة في أوراق وليامز. كما أن الثانية تبدو كأنها أساس للأولى.

    ويؤكد الجنابي أن وليامز كان شاعرا أصيلا، جاء بشيء جديد كليا. منذ بدايته الشعرية انطلق من قاعدة ألاّ يخضع لأيّ قاعدة مرسومة، ولا حتى لقواعده هو. لقد وقف بوجه الماضي وسبل حراسه الرامية إلى تحديدنا رغم ما نقوم به وما نرغب فيه. يقول أحد شعراء نهضة سان فرانسيسكو، روي لويفنسوهن، “كان وليامز يطالب بقارئ فرداني محرر من الأحكام المسبقة”.

    وفكرة القارئ الفرداني في مشروع وليامز تنطوي على أن الاكتشاف هو سيرورة، وأن التعليم والمعرفة هما نشاطان مستمران نخلق فيهما أنفسنا يوميا. فنحن نتعلم في كل لحظة شيئا لم نعرفه من قبل، وبالتالي نرى الفكر تنمو براعمه باتصالنا ووعينا الفوريين. عمل وليامز ملموس فوري بشكل حسي. ثراء شعره يتكشف في كيفية إصرار لغته على نفسها كلغة حتى تمثل تجارب بحيوية نشطة. فنحن نعايش كلماته حسيا لأنها تركز وعينا عليها ككلمات حتى حين تنسجم بدقة مع الوقائع”، أو حين تبحث عن الدقة في مفاوز المعني.

    وينقل من المقدمة التي وضعتها إحدى الناقدات بمناسبة صدور أول مختارات له عام 1934 “إن أشعار وليامز لا تتملق القارئ، ولا تداهنه ولا حتى تسحره، بل قد ترهبه بعرائها غير المتوقع. إن القارئ المتعود على صورية ييتس وموسيقى إليوت الإيحائية، أو صوفية هارت كرين المدرعة وتلميحية باوند الثرية، سيجد نفسه في حيرة أمام بساطة إفصاح عديمة الخجل وخالية من الزخارف. إذ بالنسبة إلى هذا الشاعر يكفيه الخط الواضح، اللون الصافي، وأن الشيء قد رؤي أو الخط الملطخ، اللون الوسخ، هذا إذا كان ينظر إلى أبشع وقائع الشوارع والأزقة. على القارئ أن يأتي إلى قصائده باستجابته السريعة إلى العالم الحسي في فوريته الملموسة”.

    فليس لوليامز: كما لدى شعرائنا، عقل وعواطف الطفل، وإنما لديه براءة عين الطفل في عينيه. فهو يسمع القصيدة وهي تمشي في الشارع أو تحلق بين أوراق الشجر أو تسطع من تحت النفايات. وإذا تعجل في كتابتها فذلك لأنه لم يخلقها وإنما نقلها إلى الدفتر. الشاعر الأيديولوجي يصاب بالحيرة حين يكون بين الفقرة المدونة والصرخة ليمددها مكان الفقرة، وكأن الصفحة سرير في ردهة.


    محمد الحمامصي
    كاتب مصري
يعمل...
X