|
غريب ملا زلال
الثلاثاء 2024/10/15
بوابات جديدة لقراءة التاريخ
ساعيا إلى استكشاف الجديد في أفكاره وفنه تمكن الفنان السوري إبراهيم يعقوب من أن يجعل نفسه عنوانا لاستلهام الأساطير والقيم الجمالية والتعبيرية التي يحتضنها تراث الدرباسية وسوريا عامة، مضفيا عليها أجواء روحانية بمزيج من الألوان المتنوعة، ومتمسكا بمحاولاته التعبيرية الشاقة للابتكار والتجديد والاختلاف.
يعقوب إبراهيم فنان تشكيلي، ابن مدينة الدرباسية السورية الغافية على الحدود التركية والحالمة بآفاق مفتوحة تزين إحداها شمالا أضواء ماردين المرسومة كعقد فريد يزين جيد عاشقة بأسلوب تقني تشعل نار الشوق في عيني عاشقين لا يتعبان من التأمل والانتظار، وأخرى تتلاشى في لحظات تلقفه نصا يصدر من ذاكرة محملة بالمفارقات والدلالات بوصفها علاقة وصيرورة في تحوّله إلى منجز فني جديد لا كأصداء تشي بمحو المسافة الفاصلة بين الأمس واليوم، بين الزمن النائم والزمن الميقاتي، بل يلتحف مشروعا به يقتحم إبراهيم الدروب المقفلة المسدودة فتفتح على مصاريعها أمام خطواته الطافحة بالشروع الإقدام حتى باتت سالكة تماما له ولتجربته.
في هذه المدينة، الدرباسية، فتح يعقوب إبراهيم عينيه. كان ذلك في عام 1956، في زمن كان يأخذ على شكل لوحة مألوفة بالواقعية والبساطة ومنها كانت الأحاسيس تتدفق على امتداد اللوحة وعرضها.
لم يكن يخطر على بال أحد أن يعقوب إبراهيم سيرسي مرحلة فنية في هذه المدينة النائية والنائمة والمشدودة إلى الإنسان، بل يكاد يكون البذرة الفنية الأولى التي انتشت في هذه المدينة، فهو يؤكد في أحد حواراته أن المدينة التي أنجبته كانت صغيرة وفقيرة فنيا وليس فيها فنانون تشكيليون ولم تعتد على إقامة معارض، ولهذا حين قدّم معرضه الفني التشكيلي الأول فيها كان المعرض الأول الذي يقام في هذه المدينة بل كان معرضاً للمدينة ذاتها. لهذا نستطيع اعتباره الذاكرة الفنية للدرباسية، وسنكون سعداء إذا وجدناه يثقب ذاكرته تلك ليسرد لنا ما فيها من تاريخ وتتابعات وأحداث، يسردها لنا بمهارته العالية التي ستحمل بكل تأكيد لمساته الخفيفة والغارقة في بحيرته اللونية وما تحمله من الضوء وغنائيته، ومن الألم ومعطياته.
إبراهيم يعقوب واحد من الفنانين الذين وضعوا اللبنات الأولى في الإقلاع ببناء عمارة الفن التشكيلي في المنطقة الشمالية الشرقية لسوريا، ومنذ البدء لم يكن يفكر أن يكون فنانا وحسب، بل طمح من حينها أن يكون مغايرا، ولهذا ما إن تخرج في كلية الفنون الجميلة بدمشق ولم يقبل لمتابعة الدراسات العليا فيها حتى أسرع بالرحيل إلى إيطاليا ليكمل دراساته هناك ويتخصص في فن الجداريات وهذا ما أوثق العلاقة بينه وبين الأسطورة، وهو ابن منطقة حافلة بالأساطير وغنية بها، حافلة بالملاحم وبالتاريخ كحركات بلا حدود لكشف الخصوبة عنها وعن ملامحها وبأنها أكثر الأمور غنى.
وليس الأمر اعتباطيا حين اختار إبراهيم الإبحار عميقا في هذا الجانب، فهو يدرك تماما بأنه سيكون أمام حقول ممتدة شاقوليا في التاريخ وأفقيا في الجهات مع علمه أن هذه الجهات غير متوازية بل متقاطعة في أكثر من سماء، كما أنه يدرك أن الطريق بقدر ما يكون جديدا واكتشافه ممتعا بقدر ما يكون سالكا بصعوبة، فالأمر يحتاج إلى مفاتيح خاصة تكون بوصلة الفنان في هذه الرحلة/التجربة.
وإبراهيم يحمل شيفرات هذه التجربة منذ اختار الجداريات لمشاريعه الدراسية في إيطاليا، ولهذا وجد نفسه أمام مشروع عليه إنجازه، أمام مشروع هو جديد على نحو كبير، يستعير من الأسطورة شكلها ومن التاريخ عتاقته فيخرج بلوحات من الوهلة الأولى ستعتقد بأنها اكتشافات تاريخية من إحدى التلال الأثرية الكثيرة المنتشرة في المنطقة، ولكنها اكتشافات معاصرة، بلغة إبراهيم وأسلوبه.
إنه يصر بجد وحذر على أن تكون اكتشافاته اللونية قريبة من القادم من التاريخ وهذا ما جعله يظهرها أحيانا نافرة ليزيد من ذلك القرب وليزيد من حركتها ومن مؤثراتها الحسية، وبالتالي ليزيد من خصوصيتها حتى تأخذ أبعادها التشكيلية والتصويرية توازنها، وحتى تأخذ قيمها الفنية أهميتها المطلوبة ضمن حشد جوقة ملحمية غنائية ترتفع وتهبط وفق المعزوفة السمفونية التي يلهبها إبراهيم في صميم الأشياء وفي بناء اللوحة، حتى يقترب على نحو أكثر لا من السطوح اللونية للأشياء بل من جوهرها، وبالتالي من الجانب الملحمي لها.
هو يخلق تحالفا شديد الوثاق بين جسد اللوحة وروحها وكأنه يخلق كائنا من جسد ودم وروح، لا كضرورات تكوينية لتجربة تشكيلية جديدة فحسب بل كترسيخ بوابات أخرى وجديدة لعمارة الفن التشكيلي بتداعيات ماضوية تاريخية ومعاصرة في الآن ذاته.
يعقوب إبراهيم يبرز القيم الجمالية تلك التي تطفح بها أعماله، يفصح عنها بصرامة، بها يستدرك محددات الفن ومعاييره حينا وبالتلقائية والعفوية حينا آخر، دون أن يضع عمله ضمن منظور وظيفي ودون أن يستشرف الممكن المأخوذ بأسئلة المحتمل، ودون أن يترك أيّ ارتباك فيها، لا في تدرجاتها اللونية المرتبطة إلى حد كبير بموسيقاها الهادئة كروح طفل، ولا في مناخاته العاطفية كضرورة تحرير حالاتها الكثيرة والمختلفة، الداخلية منها والخارجية.
وتبعا لحركة البياض في لوحاته يقوم إبراهيم بتحمل مسؤولياته ولهذا يقوم بالتمهيد لخلق تقاليد جديدة في صياغة تجربة قائمة على عوامل أساسية خاضعة لمقاييس جمالية جديدة، فالمسألة في غاية الدقة عنده، والنمط الذي يشتغل عليه يلهب خياله، والحكاية التي يسردها ليست مقدسة وإن كانت تتبنى مفارق أسطورية، فهو يسمو بتحقيق الفعل ذاته، تخلصا من التشيؤ الذي بات يجري في المدرك وفي اللامدرك، وفي صميم الواقع واللاواقع بل وفي لحظة التقاطع بينهما.
والرغبة التي تتلبس إبراهيم في تجليات مجازاته جارفة وغير مبالغة، رغبة تجعله ينتشل نفسه من الترحال المعتم في العتبات، رغبة تجعله حالما بنص يتلاشى في الآفاق، فثمة تدفق للدلالات وهي ترتاد الرحاب في لاوعيها، وفي ضوء ذلك تتضح رؤيته وكذلك طرائق إنتاجه فهو الموغل في مدارات الخطاب وما يحمل من سجال يشكل هي تلك اللحظات المنفلتة من دوائر الامتثال وهي تمضي في محراب خاص