الشاعر كريم عبدالسلام لـ"العرب": ديواني الثامن صرخةُ حرية في مواجهة أشكال الطغيان
"أكتب فلسطين متجاهلا ما بعد الحداثة" تحدٍّ جمالي لقصيدة النثر.
الجمعة 2024/10/11
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أكتب عن أبطال التراجيديا التي أعيش بها
يأتي أحدث دواوين الشاعر كريم عبدالسلام أشبه بإلياذة معاصرة أبطالها هذه المرة من العامة والفقراء والمهمّشين، فهي تنحاز إلى التراجيديا الفلسطينية باعتبارها الحدث الذي كشف عار العالم راهنا، كما يؤكد الشاعر المصري في حوار جمعه مع "العرب" حول الديوان وقصائده وتجربته الشعرية المتخصصة في قصيدة النثر.
الشاعر المصري كريم عبدالسلام أحد أهم الأصوات الشعرية في قصيدة النثر المصرية والعربية في موجتها الحديثة، ومنذ بداياته الأولى يشق لنفسه طريقا خاصة، بعيدا عن الصراعات الرائجة حول قصيدة الاعتراف وقصائد التفاصيل اليومية، بل إنه كثيرا ما يسخر في مقالاته النقدية من هذا التعميم المخل لقصيدة النثر في موجاتها الجديدة وتصويرها على أنها قصيدة اليومي والعابر والتافه، فهو كان ولا يزال يرفع شعار “الشعر فن فردي مثل الموت والحب”، لا يصح التعامل معه بالجملة ولا يليق أن نعمم أحكاما حوله دون النظر إلى نتاج الشعراء المتفردين.
عبدالسلام الذي يصنف نفسه على عكس توجه شعراء قصيدة النثر، بأنه شاعر الفقراء المهمشين، شاعر التراجيديا الإنسانية بكل صورها، ينفتح على الواقع إلى حد الفجاجة، وينزع إلى الإغراق في التصوير السردي إلى حافة الإسكريبت السينمائي ويرسم أو يخلط عادة التشكيل والخط بالكلمات ولا يعترف بالفصل بين القضايا الكبرى والقضايا الصغرى، بل يسخر من الكليشيهات النقدية التي تنطلق من هذا الفصل.
أصدر الشاعر منذ أيام ديوانه الثامن عشر “أكتب فلسطين متجاهلا ما بعد الحداثة”، وهو عمل شعري فاجأ الوسط الثقافي، بدءا من عنوانه الاشتباكي وتصنيفه الجمالي، فهو يجمع بين قصيدة النثر والفن التشكيلي والمسرح والسرد وتوظيف المادة الوثائقية والمعجمية في سياق الديوان، وقبل هذا الديوان المركب توالت أعماله الشعرية، منها “بين رجفة وأخرى”، “باتجاه ليلنا الأصلي”، “فتاة وصبي في المدافن”، “مريم المرحة”، “مراثي الملاكة من حلب”، “وكان رأسي طافيا على النيل”، “الوفاة السابعة لصانع الأحلام”، “شاي مع الموت”، “محاولة لإنقاذ جيفارا”، “أنا جائع يا رب”. ومن الديوان الأحدث “أكتب فلسطين متجاهلا ما بعد الحداثة”، نبدأ حوارنا مع الشاعر.
بداية يؤكد عبدالسلام لـ”العرب” أن “الشعر في ذاته كفن جمالي هو فعل مقاومة في مواجهة كل أشكال الموت ومنها الثبات والتكلس والتشابه والكتابة المشاع، وفي مواجهة كل أشكال الطغيان أيضا، انطلاقا من أن الشاعر حارس الأحلام والخيال والمدافع عن الإنسانية، وفي سياق المقاومة الجمالية يأتي ديوان ‘أكتب فلسطين متجاهلا ما بعد الحداثة’، فالديوان على المستوى الأول ينحاز إلى التراجيديا الفلسطينية باعتبارها الحدث الذي كشف عار العالم راهنا، مثلما كشفت الحرب العالمية الثانية وقبلها الحرب الأهلية الإسبانية عار الأجيال السابقة”.
◙ الديوان معني برفض ومقاومة كل التعميمات الرائجة حول قصيدة النثر وتصورات ما بعد الحداثة كما اختزلها بعض النقاد
ويقول “الديوان من وجهة نظري معني برفض ومقاومة كل التعميمات الرائجة حول قصيدة النثر وتصورات ما بعد الحداثة كما ابتسرها واختزلها بعض النقاد، كأن يتجاهل الشاعر محيطه الاجتماعي وقضاياه ويصب تركيزه وخياله على ذاته، دون تعريف واضح لماهية الذات وهل تتقاطع قسرا مع محيطها الاجتماعي والسياسي أم لا؟ كما أن الديوان معني بمواجهة النزعات التي تجهّل الإنسان وتحوله إلى شيء أو ترس في ماكينة أو تقهره وتمحوه وتطمس أحلامه بقيم العدل والحرية أو تحاول تزييف مفهوم الحق بإرهاب الصورة والصوت والدراما والخطب السياسية الرنانة، بينما الشاعر المسكين الذي غسلوا دماغه وزرعوا فيه أن القصيدة الما بعد حداثية أو القصيدة الجديدة ليست لها علاقة بالسياسة، تائه مقهور كالأبكم يريد التعبير ولا يقدر، لينتهي الشاعر إلى أن يشنق نفسه في غرفته بحبال تفاصيله الصغيرة”.
ويشير الشاعر إلى أن ديوانه الأخير “عمل شعري بصري، أو هو عمل شعري تشكيلي مدمج، لا يمكن أن تفصل القصيدة التي مادتها الكلمات والخيال عن القصائد البصرية التي مادتها الصورة أو الغرافيك أو الرسم بالحبر الصيني أو استخدام الوثائق أو الكولاج لإيصال الرسالة الإبداعية، والديوان يتضمن ثلاث افتتاحيات وأربعة هوامش، وبين الافتتاحيات والهوامش خمس قصائد طويلة تبدأ كل قصيدة منها بحرف من كلمة فلسطين، وسعيت لأن أسجل القصائد بصوتي وأن أطرحها مع الكتاب، مع تصوير فيديو أثناء عمل اللوحات، لكن الجانب المرئي والمسموع لم يكتمل لأسباب لا داعي إلى ذكرها هنا”.
ويرى أن التحدي الجمالي في هذا الديوان هو “أن التراجيديا الفلسطينية قد أصبحت من فرط إلحاح الميديا بالخبر والصورة والفيديو أكبر من أي تعبير عنها، كما أن تلقي الإبداع المنفعل بالقضية الفلسطينية قد ناله التنميط وأصبح القارئ العام منحازا لترديد غنائيات محمود درويش وسميح القاسم وغيرهما من الشعراء الفلسطينيين الكبار، وغير قادر على تصور وجود مساحة إبداعية تتعلق بالمأساة الفلسطينية خارج إلحاح الميديا أو النمط الغنائي الكلاسيكي حول القضية، فضلا عن التصورات النقدية السائدة حول إخصاء الذات وفصلها عن محيطها المجتمعي وكليشيهات انهمام الذات بالجسد ومحيطه بشكل أصم وأعمى ودون خيال، لكني اعتبرت هذا الديوان عملا من أعمال التحدي الشعري وممارسة الحرية ضد كل أشكال التنميط والقولبة وفرض الكليشيهات وحصر الشاعر في مساحات محددة من القول والخيال”. ويضيف عبدالسلام “أتعجب من مجموعة النقاد الذين يتحدثون عن موت الإنسان وسيادة البنية أو السياق، بمنطق المبشرين بفتوح جمالية جديدة، وهم إنما يفعلون ذلك ليسيروا على خطى سابقة في الغرب ترفض مكون الذات الحداثية (الإرادة والوعي والشعور)، لكن نقادنا
الأفاضل الذين لا يفعلون سوى استيراد المناهج والنظريات، فور أن ينزلوا من على المنصة يعودون إلى المناطق العشوائية التي يسكنون فيها ويعاني أكثر من نصفها من الفقر والبطالة، وتحيطهم من كل ناحية ميكروفونات زوايا التطرف، ولا يجرؤون على مناقشة صبي يرتدي جلبابا قصيرا فيما يعتقد من صفحات صفراء، خشية العقاب الفوري، ولا يجرؤون كذلك على أن يسألوا أنفسهم: لماذا فقد العالم عقله؟ وكيف نعيد المعنى إلى الأشياء؟ ولماذا لا نسأل الأسئلة التي تخصنا بدل الأسئلة البالية؟”.
ويؤكد أن “الشاعر ليس فردا في فراغ، ولكنه نقطة توتر وسط شبكة من العلاقات بين الماضي والحاضر، وله نظرٌ ثاقب لجوهر هذه العلاقات وتناميها وتطرفها، وما يطرأ عليها من تغير، فهو يرى ما يحرك الإنسان تجاه مصيره، وهو في كل الأحيان منحاز إلى الإنسان في طموحه وأحلامه، وفي معاناته وأشواقه ولحظات عجزه أو تحققه أو عثوره على الحب، في لحظاته القصوى، اللحظات التي يتبدى فيها لدى الفرد حس بامتلاك العالم أو بفقدانه. وفي قلب شبكة العلاقات هذه يأتي اهتمامي بالفئات المهمشة والناس العاديين، كجزء من اختياري الشعري، مقصود لذاته وليس لتحقيق هدف خارجه، كما أن عالم المهمشين معروف جيدا بالنسبة إلي، وأجده زاخرا باللحظات الإنسانية القصوى التي أعتبرها البدايات الخام للشعر، كما أجد في هذا العالم التراجيديا التي هي المحرك الأول للشاعر وحجر الأساس للقصيدة كما أعرفها وأختبرها وأتخيلها وأكتبها”.
◙ الشاعر نقطة توتر وسط شبكة من العلاقات بين الماضي والحاضر، وله نظر ثاقب لجوهر هذه العلاقات وتناميها وتطرفها
ويوضح “دائما ما أؤكد لنفسي بصوت عال أنني أسعى لكتابة إلياذة معاصرة يكون أبطالها من العامة والفقراء والمهمشين والجوعى، على العكس من إلياذة هوميروس الذي كان يسعى وراء سير الأبطال والقادة والأمراء والمشاهير، دون أن يسجل كلمة واحدة عن حياة ومعاناة البسطاء الذين تطوعوا في حرب طروادة مثلا، بالنسبة إلي أضع دواويني جوار بعضها كأنها تشكل لوحة فسيفسائية أو ملحمة متعددة الفصول، ولكن غايتها جميعا الإنسان المعاصر المطحون في حروب يومية ليست أقل هولا وفداحة من حرب طروادة، مثلا: باتجاه ليلنا الأصلي / بين رجفة وأخرى / فتاة وصبي في المدافن/ كتاب الخبز / مريم المرحة / نائم في الجوراسيك بارك/ مراثي الملاكة من حلب/قنابل مسيلة للدموع/ وكان رأسي طافيا على النيل / أكان لازما يا سوزي أن تعتلي صهوة أبي الهول/ ألف ليل وليل/ أنا جائع يا رب/ أكتب فلسطين متجاهلا ما بعد الحداثة. أظن أن كلا منها فصل من فصول المحاربين الذين أؤمن بهم وأسعى لتسجيل بطولاتهم”.
ويكشف الشاعر لـ”العرب” عن ولعه بالقصيدة الدرامية، ويقول “القصيدة ولدت من رحم الدراما أصلا وستظل وثيقة الصلة بها، وبالنسبة إلي الدراما مرتبطة بالسماح للآخرين بالدخول إلى قصيدتي، والوجود في لحظاتهم القصوى، لأني لا أعتقد أن القصيدة هي مجرد صيغة للحديث عن معاناة ذاتية، ولكنها لحظة كشف عبر الكلمات، ولحظة الكشف هذه متغيرة في تجلياتها، وعندما تكون مؤمنا كشاعر بأنك ابن جماعة إنسانية، سرعان ما تلتقط التجليات الإبداعية لهذه الجماعة”.
ويؤكد أن “الخيال والانفعال الشجاع، هما ما يمكنان المبدع، سواء كان فرحا أو حزينا، من المقاومة وتحقيق الانتصار الرمزي مهما كان قبح الواقع وبؤسه ولا إنسانيته، لأن الشاعر يواصل طرح الأسئلة. ولذلك أعود إلى مصطفى ناصف وعبدالفتاح كيليطو وعزالدين إسماعيل بحثا عن المعنى دائما، وأتشاجر يوميا مع أنسي الحاج وسركون بولص وصلاح عبدالصبور، وناظم حكمت وإدواردو جاليانو وإدجار آلان بو وعفيفي مطر وتشيكوف وبول أوستر وأودن وريلكة ودستويفسكي وشولوخوف وجوجول وهنري ميشو وغيرهم من المبدعين الكبار المدرجين في جدول قراءاتي اليومي”.
ويشدد عبدالسلام في الختام على ضرورة وأهمية “أن نتخلص من التبعية الثقافية للغرب، وأن ننظر في الأفق الثقافي الشرقي الذي يكتمل بثقافتنا ونكتمل بثقافته، فالاختلاف جوهري بين الثقافات الشرقية في الصين واليابان والهند وبين حضارة الغرب المنحطة التي تقوم على فرضية الصراع والعدوان كأساس لاستمرار المجتمعات والأمم، ومن ثم تنتج الحضارة الغربية موجات من الصراعات الرمزية في الإبداع والفنون وأشكالا من العدوان تظهر كأوضح ما يكون في الإنتاج السينمائي والدرامي الذي يعتمد على التوجيه وقصف العقول وتوحيد الأنماط الثقافية في العالم من خلال استعمار الذوق والثقافة بدلا من إعلاء قيم التنوع والتعدد والاختلاف”.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري
"أكتب فلسطين متجاهلا ما بعد الحداثة" تحدٍّ جمالي لقصيدة النثر.
الجمعة 2024/10/11
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أكتب عن أبطال التراجيديا التي أعيش بها
يأتي أحدث دواوين الشاعر كريم عبدالسلام أشبه بإلياذة معاصرة أبطالها هذه المرة من العامة والفقراء والمهمّشين، فهي تنحاز إلى التراجيديا الفلسطينية باعتبارها الحدث الذي كشف عار العالم راهنا، كما يؤكد الشاعر المصري في حوار جمعه مع "العرب" حول الديوان وقصائده وتجربته الشعرية المتخصصة في قصيدة النثر.
الشاعر المصري كريم عبدالسلام أحد أهم الأصوات الشعرية في قصيدة النثر المصرية والعربية في موجتها الحديثة، ومنذ بداياته الأولى يشق لنفسه طريقا خاصة، بعيدا عن الصراعات الرائجة حول قصيدة الاعتراف وقصائد التفاصيل اليومية، بل إنه كثيرا ما يسخر في مقالاته النقدية من هذا التعميم المخل لقصيدة النثر في موجاتها الجديدة وتصويرها على أنها قصيدة اليومي والعابر والتافه، فهو كان ولا يزال يرفع شعار “الشعر فن فردي مثل الموت والحب”، لا يصح التعامل معه بالجملة ولا يليق أن نعمم أحكاما حوله دون النظر إلى نتاج الشعراء المتفردين.
عبدالسلام الذي يصنف نفسه على عكس توجه شعراء قصيدة النثر، بأنه شاعر الفقراء المهمشين، شاعر التراجيديا الإنسانية بكل صورها، ينفتح على الواقع إلى حد الفجاجة، وينزع إلى الإغراق في التصوير السردي إلى حافة الإسكريبت السينمائي ويرسم أو يخلط عادة التشكيل والخط بالكلمات ولا يعترف بالفصل بين القضايا الكبرى والقضايا الصغرى، بل يسخر من الكليشيهات النقدية التي تنطلق من هذا الفصل.
أصدر الشاعر منذ أيام ديوانه الثامن عشر “أكتب فلسطين متجاهلا ما بعد الحداثة”، وهو عمل شعري فاجأ الوسط الثقافي، بدءا من عنوانه الاشتباكي وتصنيفه الجمالي، فهو يجمع بين قصيدة النثر والفن التشكيلي والمسرح والسرد وتوظيف المادة الوثائقية والمعجمية في سياق الديوان، وقبل هذا الديوان المركب توالت أعماله الشعرية، منها “بين رجفة وأخرى”، “باتجاه ليلنا الأصلي”، “فتاة وصبي في المدافن”، “مريم المرحة”، “مراثي الملاكة من حلب”، “وكان رأسي طافيا على النيل”، “الوفاة السابعة لصانع الأحلام”، “شاي مع الموت”، “محاولة لإنقاذ جيفارا”، “أنا جائع يا رب”. ومن الديوان الأحدث “أكتب فلسطين متجاهلا ما بعد الحداثة”، نبدأ حوارنا مع الشاعر.
بداية يؤكد عبدالسلام لـ”العرب” أن “الشعر في ذاته كفن جمالي هو فعل مقاومة في مواجهة كل أشكال الموت ومنها الثبات والتكلس والتشابه والكتابة المشاع، وفي مواجهة كل أشكال الطغيان أيضا، انطلاقا من أن الشاعر حارس الأحلام والخيال والمدافع عن الإنسانية، وفي سياق المقاومة الجمالية يأتي ديوان ‘أكتب فلسطين متجاهلا ما بعد الحداثة’، فالديوان على المستوى الأول ينحاز إلى التراجيديا الفلسطينية باعتبارها الحدث الذي كشف عار العالم راهنا، مثلما كشفت الحرب العالمية الثانية وقبلها الحرب الأهلية الإسبانية عار الأجيال السابقة”.
◙ الديوان معني برفض ومقاومة كل التعميمات الرائجة حول قصيدة النثر وتصورات ما بعد الحداثة كما اختزلها بعض النقاد
ويقول “الديوان من وجهة نظري معني برفض ومقاومة كل التعميمات الرائجة حول قصيدة النثر وتصورات ما بعد الحداثة كما ابتسرها واختزلها بعض النقاد، كأن يتجاهل الشاعر محيطه الاجتماعي وقضاياه ويصب تركيزه وخياله على ذاته، دون تعريف واضح لماهية الذات وهل تتقاطع قسرا مع محيطها الاجتماعي والسياسي أم لا؟ كما أن الديوان معني بمواجهة النزعات التي تجهّل الإنسان وتحوله إلى شيء أو ترس في ماكينة أو تقهره وتمحوه وتطمس أحلامه بقيم العدل والحرية أو تحاول تزييف مفهوم الحق بإرهاب الصورة والصوت والدراما والخطب السياسية الرنانة، بينما الشاعر المسكين الذي غسلوا دماغه وزرعوا فيه أن القصيدة الما بعد حداثية أو القصيدة الجديدة ليست لها علاقة بالسياسة، تائه مقهور كالأبكم يريد التعبير ولا يقدر، لينتهي الشاعر إلى أن يشنق نفسه في غرفته بحبال تفاصيله الصغيرة”.
ويشير الشاعر إلى أن ديوانه الأخير “عمل شعري بصري، أو هو عمل شعري تشكيلي مدمج، لا يمكن أن تفصل القصيدة التي مادتها الكلمات والخيال عن القصائد البصرية التي مادتها الصورة أو الغرافيك أو الرسم بالحبر الصيني أو استخدام الوثائق أو الكولاج لإيصال الرسالة الإبداعية، والديوان يتضمن ثلاث افتتاحيات وأربعة هوامش، وبين الافتتاحيات والهوامش خمس قصائد طويلة تبدأ كل قصيدة منها بحرف من كلمة فلسطين، وسعيت لأن أسجل القصائد بصوتي وأن أطرحها مع الكتاب، مع تصوير فيديو أثناء عمل اللوحات، لكن الجانب المرئي والمسموع لم يكتمل لأسباب لا داعي إلى ذكرها هنا”.
ويرى أن التحدي الجمالي في هذا الديوان هو “أن التراجيديا الفلسطينية قد أصبحت من فرط إلحاح الميديا بالخبر والصورة والفيديو أكبر من أي تعبير عنها، كما أن تلقي الإبداع المنفعل بالقضية الفلسطينية قد ناله التنميط وأصبح القارئ العام منحازا لترديد غنائيات محمود درويش وسميح القاسم وغيرهما من الشعراء الفلسطينيين الكبار، وغير قادر على تصور وجود مساحة إبداعية تتعلق بالمأساة الفلسطينية خارج إلحاح الميديا أو النمط الغنائي الكلاسيكي حول القضية، فضلا عن التصورات النقدية السائدة حول إخصاء الذات وفصلها عن محيطها المجتمعي وكليشيهات انهمام الذات بالجسد ومحيطه بشكل أصم وأعمى ودون خيال، لكني اعتبرت هذا الديوان عملا من أعمال التحدي الشعري وممارسة الحرية ضد كل أشكال التنميط والقولبة وفرض الكليشيهات وحصر الشاعر في مساحات محددة من القول والخيال”. ويضيف عبدالسلام “أتعجب من مجموعة النقاد الذين يتحدثون عن موت الإنسان وسيادة البنية أو السياق، بمنطق المبشرين بفتوح جمالية جديدة، وهم إنما يفعلون ذلك ليسيروا على خطى سابقة في الغرب ترفض مكون الذات الحداثية (الإرادة والوعي والشعور)، لكن نقادنا
الأفاضل الذين لا يفعلون سوى استيراد المناهج والنظريات، فور أن ينزلوا من على المنصة يعودون إلى المناطق العشوائية التي يسكنون فيها ويعاني أكثر من نصفها من الفقر والبطالة، وتحيطهم من كل ناحية ميكروفونات زوايا التطرف، ولا يجرؤون على مناقشة صبي يرتدي جلبابا قصيرا فيما يعتقد من صفحات صفراء، خشية العقاب الفوري، ولا يجرؤون كذلك على أن يسألوا أنفسهم: لماذا فقد العالم عقله؟ وكيف نعيد المعنى إلى الأشياء؟ ولماذا لا نسأل الأسئلة التي تخصنا بدل الأسئلة البالية؟”.
ويؤكد أن “الشاعر ليس فردا في فراغ، ولكنه نقطة توتر وسط شبكة من العلاقات بين الماضي والحاضر، وله نظرٌ ثاقب لجوهر هذه العلاقات وتناميها وتطرفها، وما يطرأ عليها من تغير، فهو يرى ما يحرك الإنسان تجاه مصيره، وهو في كل الأحيان منحاز إلى الإنسان في طموحه وأحلامه، وفي معاناته وأشواقه ولحظات عجزه أو تحققه أو عثوره على الحب، في لحظاته القصوى، اللحظات التي يتبدى فيها لدى الفرد حس بامتلاك العالم أو بفقدانه. وفي قلب شبكة العلاقات هذه يأتي اهتمامي بالفئات المهمشة والناس العاديين، كجزء من اختياري الشعري، مقصود لذاته وليس لتحقيق هدف خارجه، كما أن عالم المهمشين معروف جيدا بالنسبة إلي، وأجده زاخرا باللحظات الإنسانية القصوى التي أعتبرها البدايات الخام للشعر، كما أجد في هذا العالم التراجيديا التي هي المحرك الأول للشاعر وحجر الأساس للقصيدة كما أعرفها وأختبرها وأتخيلها وأكتبها”.
◙ الشاعر نقطة توتر وسط شبكة من العلاقات بين الماضي والحاضر، وله نظر ثاقب لجوهر هذه العلاقات وتناميها وتطرفها
ويوضح “دائما ما أؤكد لنفسي بصوت عال أنني أسعى لكتابة إلياذة معاصرة يكون أبطالها من العامة والفقراء والمهمشين والجوعى، على العكس من إلياذة هوميروس الذي كان يسعى وراء سير الأبطال والقادة والأمراء والمشاهير، دون أن يسجل كلمة واحدة عن حياة ومعاناة البسطاء الذين تطوعوا في حرب طروادة مثلا، بالنسبة إلي أضع دواويني جوار بعضها كأنها تشكل لوحة فسيفسائية أو ملحمة متعددة الفصول، ولكن غايتها جميعا الإنسان المعاصر المطحون في حروب يومية ليست أقل هولا وفداحة من حرب طروادة، مثلا: باتجاه ليلنا الأصلي / بين رجفة وأخرى / فتاة وصبي في المدافن/ كتاب الخبز / مريم المرحة / نائم في الجوراسيك بارك/ مراثي الملاكة من حلب/قنابل مسيلة للدموع/ وكان رأسي طافيا على النيل / أكان لازما يا سوزي أن تعتلي صهوة أبي الهول/ ألف ليل وليل/ أنا جائع يا رب/ أكتب فلسطين متجاهلا ما بعد الحداثة. أظن أن كلا منها فصل من فصول المحاربين الذين أؤمن بهم وأسعى لتسجيل بطولاتهم”.
ويكشف الشاعر لـ”العرب” عن ولعه بالقصيدة الدرامية، ويقول “القصيدة ولدت من رحم الدراما أصلا وستظل وثيقة الصلة بها، وبالنسبة إلي الدراما مرتبطة بالسماح للآخرين بالدخول إلى قصيدتي، والوجود في لحظاتهم القصوى، لأني لا أعتقد أن القصيدة هي مجرد صيغة للحديث عن معاناة ذاتية، ولكنها لحظة كشف عبر الكلمات، ولحظة الكشف هذه متغيرة في تجلياتها، وعندما تكون مؤمنا كشاعر بأنك ابن جماعة إنسانية، سرعان ما تلتقط التجليات الإبداعية لهذه الجماعة”.
ويؤكد أن “الخيال والانفعال الشجاع، هما ما يمكنان المبدع، سواء كان فرحا أو حزينا، من المقاومة وتحقيق الانتصار الرمزي مهما كان قبح الواقع وبؤسه ولا إنسانيته، لأن الشاعر يواصل طرح الأسئلة. ولذلك أعود إلى مصطفى ناصف وعبدالفتاح كيليطو وعزالدين إسماعيل بحثا عن المعنى دائما، وأتشاجر يوميا مع أنسي الحاج وسركون بولص وصلاح عبدالصبور، وناظم حكمت وإدواردو جاليانو وإدجار آلان بو وعفيفي مطر وتشيكوف وبول أوستر وأودن وريلكة ودستويفسكي وشولوخوف وجوجول وهنري ميشو وغيرهم من المبدعين الكبار المدرجين في جدول قراءاتي اليومي”.
ويشدد عبدالسلام في الختام على ضرورة وأهمية “أن نتخلص من التبعية الثقافية للغرب، وأن ننظر في الأفق الثقافي الشرقي الذي يكتمل بثقافتنا ونكتمل بثقافته، فالاختلاف جوهري بين الثقافات الشرقية في الصين واليابان والهند وبين حضارة الغرب المنحطة التي تقوم على فرضية الصراع والعدوان كأساس لاستمرار المجتمعات والأمم، ومن ثم تنتج الحضارة الغربية موجات من الصراعات الرمزية في الإبداع والفنون وأشكالا من العدوان تظهر كأوضح ما يكون في الإنتاج السينمائي والدرامي الذي يعتمد على التوجيه وقصف العقول وتوحيد الأنماط الثقافية في العالم من خلال استعمار الذوق والثقافة بدلا من إعلاء قيم التنوع والتعدد والاختلاف”.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري