الشخصية الفنية في الرسم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ
فصلٌ من كتابي ( سيرة الجَمال ) ــ 2011 / دمشق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
شغلت طروحاتــُنا الفنية ُ ، على مستوى التعبير الثقافي ( كلاماً أو كتابة ً ) قضية َ ( الشَكل و المضمون ) على مساحةٍ كبيرةٍ من الزمن ، ثم تبعتها قضية ُ ( الأسلوب ) ، و قد أخذت هي الأخرى حصّتها أيضاً . و الآن نحن أمام البحث عن ( الشخصية الفنية ).. التي إذا ما دققنا فيها قليلا ً فسنجد أنها تحويرٌ للقضيتين الأوليـَـين ، و إنْ كانت هي ، في اعتقادي ، أقدمَ منهما ، خصوصاً اذا ما تتبعنا جذورَ التفكير في المسائل الفنية عبر التاريخ .
نسأل أولاً : هل ثمة أسلوبٌ ثابتٌ في الرسم لدى الرسّام الحديث على وجه الخصوص ؟ ظاهرياً نحن نقسّمُ الفن الى : كلاسيكي و حديث ، و ننسى أحياناً ــ ازاء هذا التحديد ــ المنطقة الرخوة بينهما ، و أعني بها المرحلة ( الإنطباعية ) التي كانت المرحلةَ الفاصلة بين التاريخ الكلاسيكي لفن الرسم و بين ما تمخض عن ( الإنطباعية ) من حركات ، لاحقاً ، شكّلت بمجملها اُسسَ الفنِ الحديث . و في كل الأحوال فنحن نـَصِفُ الأعمالَ الكلاسيكية بأنها أعمال واقعيةٌ / أكاديمية ، كونها كانت تحاكي الواقع و تقوم على تعاليم و ثوابت مدرسية راسخة في فن الرسم ، نشأت لدى الإغريق و ترسّخت في عصر النهضة ، مع التفاتنا الى كمِّ الخيال و نوعه . بالمقابل نصف الفنَ الحديث بأنه لا يلتفت الى ( الواقع ) بل الى ( الأفكار ) التي ينظر الفنانُ من خلالها اليه ، حيث يُلغي هذا الفنُ الشرطَ الأكاديميَ في الرسم .
ولكنْ ، في كل الحالات ، و في كل مراحل الفن ، فأن هناك عدداً كبيراً من الرسامين وفّر لنا أن نتعرف على أعماله دون أن نقرأ توقيعَهُ على لوحته ، لا لشهرة تلك الأعمال بل للبصمة التي تركها الفنان في سلسة أعماله . و ينطبق ذلك ــ بشكل خاص ــ على الأعمال الكلاسيكية ذات الخصائص الأسلوبية المشتركة في مجمل أعمال الفنان . و عليه فنحن نميّز أعمال ( روبنز ) مثلاً من خلال ألوانه الوردية ، غالبا ً، و أجسادِ نسائِه المكتنزة . مثلما نميز أعمال ( آل جريكو ) الميّالِ الى الألوان الرمادية المزرقــّـة و أجسادِ شخوصهِ النحيلةِ الطويلة و مواضيعه ذاتِ الصبغة الدينية ، و كما نميز أعمال (رامبرانت ) ذات الألوان المعتمة و مساقط الضوء الحادة .
و بشكلٍ عام ، فنحن نضع كلَّ هذه الأعمال في درج الكلاسيكية .. و ضمن هذه ( الكلاسيكية ) برمتها، عبر كل مراحل الفن السابقة ، يضعُنا كلُّ فنانٍ أمام قضية ( الشخصية الفنية ) التي ترك ملامحَها على مساحة أعماله التي تـُركت كتراث . و اذا ما تتبّعنا خيطَ التاريخ فأننا سنجد أن الشخصية الفنية ( كادت ) أن تـُمحى في بداية المرحلة ( الإنطباعية ) لدى فنانيها ، حين طغت حمّى الخروجِ الى الطبيعة و اعادة النظر الجَماعي في اللون و التعامل مع ضوء الشمس ، حتى بات المُتابِعُ لا يميّز أعمالَ فنانٍ عن سواه في تلك الفترة من المرحلة ، لو لا أننا حفظنا هذه الأعمال من بعدهم و ميزناها في الذاكرة . ولكن الفنانين تجاوزا ذلك لاحقاً ، بعد رسوخ أقدامهم ، فصار الفرق واضحاً بين لمسة ( رينوار ) و لمسة ( مونيه ) و بين لوحة ( ديغا ) و لوحة ( بيسارو ) . و لعل هذا التميزَ لم يتوقف عند سطح اللوحة حَسبْ بل امتدَّ الى أغوار فن الرسم و تفسير كل فنان له ، و هو ما قاد ــ بصورة حتمية ــ الى الإنشطارات التي حدثت في ( الإنطباعية ) لاحقاً .
و بعد أن عَبَر العالمُ العتبة َ الى القرن العشرين و تشكلت الملامحُ الأولى للفن الحديث ، فقد وجد المرءُ نفسَه أمام غزارةٍ هائلة من الإنتاج الفني ، سواء على مستوى الكم أو النوع ، ولكنْ على الرغم من ذلك فثمة سهولة في معرفة و تمييز أعمال الفنانين على مختلف مشاربهم، مثل : ( بيكاسو ) ، ( فرناند ليجيه ) ، ( مودلياني ) ، ( تانغي ) ، ( ماكس ارنست ) ، ( رينيه ماغريت ) ، ( كوكوشكا ) ، ( أدوارد مونش ) ، ( فرنسيس بيكون ) ، ( روشنبرغ ) ... و غيرهم من الفنانين الذين تدفقوا بفيضان كبير على مساحة الفن المعاصر ، و إذا ما حاولنا حصرَ هذه الأعمال - كدراسةٍ تاريخية - في زوايا مُحدَّدة للحركات الفنية التي ظهرت في القرن العشرين ، كـ ( التكعيبية ) أو ( التعبيرية ) أو ( السوريالية ) أو ( التجريدية ) أو ( المستقبلية ) .. فإننا سنكتشف أن هذه الأعمالَ باتت أكبرَ من أن تُحصر في زاوية ، لأنها كبرت على التسميات لتستقر في ( الشخصية الفنية ) ، و لم تعد التسمياتُ للمدارس إلاّ جزءاً من تاريخ الفن .
كيف نحدّد ( الشخصية الفنية ) ؟ هل نتتبعُ في ذلك أفكارَ الفنان و طروحاتِه النظرية ؟ أم مضامينـَه و أشكالَه و أساليبَه ؟. علينا أن لا نعتمد كثيراً في هذا الأمر على الطروحاتِ النظريةِ للفنان ، بخصوص الشخصية الفنية ، فنحن نبحثُ في أعمالهِ في الدرجة الأولى ، فهناك فنانون لا يكتبون و لا يصرّحون، و هم يفضّلون أن تتحدث أعمالُهم بنفسِها . و علينا أن ننتبه ــ منذ البدء ــ الى أن المسألة تتعلّق بالشُغل الفردي ، لأن الأمرَ في نهايةِ المَطاف يتعلّق بانجازاتِ الفنانِ الفـَرديةِ التي تشكّل الملامحَ الخاصة َ بفنّهِ هو . و يُمكننا القولُ ــ و الحالة هذه ــ إن الشخصية َ الفنيةَ ( التي هي كل شئ في النهاية ) لا يُحدّدُها أسلوب ، أو تقف عند حركةٍ أو اتجاهٍ مُحدّد . ( بيكاسو ) ، مثلاً ، في أي باب يمكن أن نضعَه ؟ هناك أعمالٌ (إنطباعية) قليلةُ الشُهرة لـ ( بيكاسو ) ، لولا توقيعه عليها لكان من الصعوبة نسبُها اليه ، و الفنان نفسه كان قد اشترك عام 1911 في معرضٍ ( تعبيري ) . و ساهم ( بيكاسو) أيضاً في أعمالٍ ذات مسحة ( سوريالية ) ، و معروفٌ ــ أيضاً ــ أنه هو الذي أسس ( التكعيبية ) مع ( جورج براك ) ، و فوق كل هذا فهو قد بدأ مشوارَه الفني بأعمال ( أكاديمية ) معروفة بتقنياتها العالية . فأين نضع ( بيكاسو ) ــ في هذه الحالة ــ ازاء كل هذه الأساليب و الإتجاهات مختلفة المناحي في فن الرسم ؟
هنا يبرز معنى ( الشخصية الفنية ) التي تتمثل قوّتها في مدى احتوائها لكل الإتجاهات و الأساليب ، و ينعكس ذلك في قُدْرتِها على استيعابِ التجارب ِالسابقة و فــَهمِها و هَضمِها ، و بالتالي خلق ( أو التمهيد لخلق ) اتجاهٍ و أسلوبٍ شخصيٍّ جديد .
إن عظمةَ ( بيكاسو ) تكمنُ في عدم خضوعه إلاّ لنفسِهِ . لقد جرّب كلَّ شئٍ دونَ تردد ، ثم راح يتقدم بمشاريعِهِ دون تردد . إن العَصَبَ الأساسَ في كل هذا هو فَهمُ ( معنى الفن ) ، و الإخلاصُ لهذا المعنى هو الذي يخلق الجرأة التي تنظر في كل فهمٍ سائد لتؤسّس فَهماً جديداً يفرز انتاجاً جديداً ، و هذا هو المسارُ العميقُ الذي سلكته كلُّ ( الشخصيات الفنية ) عَبرَ كل تاريخ الفن .
إن تاريخَ الفنِ كلَّهُ صراعٌ بين السائد و المستجِد ، و طروحاتٌ تؤسَّس على طروحات ، و تجاربٌ تــُكمِل بعضَها ، و رغبةٌ قلِقةٌ توّاقة ٌ الى ما هو غير مكتشَف . و إذا ما حفظ لنا تاريخُ الفن أسماءً و أعمالاً كبيرة ، فلأنها كانت قد سلكت هذه الطريقَ الوعِرة .
بعد هذا ، أحسب أنه من الخطأ أن نبحثَ عن ( شخصية فنية ) لفنانٍ ما يزال في حُمّى التجريب في فنهِ ، لأن هذا التجريبَ ذاتــَـه إنما يدخل ضمنَ الملامحِ العامة لها ، ذلك أن ( الشخصية الفنية ) لا تحدّدُها لوحة ٌ أو عشراتُ اللوحات أو بضعُ سنواتٍ من الإشتغالِ في الفن ، بل هي خلاصةُ التاريخِ الفني للفنان .
لقد كان ( جاك فيون 1875 ـ 1963 ) يقول : ( كنت تكعيبياً انطباعياً ، و أعتقد أنني بقيت هكذا . قد أكون الآن أقل تكعيبية ً و أقل انطباعية ً، عدا هذا لا أعرف ، فأنا لازلت أبحث ) .. و هذا البحث كان قد أوصله ــ فيما بعد ــ الى أعمالٍ ذات طابعٍ هندسيٍ تجريدي . ولكنَّ شخصيتــَه الفنية لم تتحدّد في ما استقرت عليه أعمالُه الأخيرة ، بل تتوزع في كل بحثهِ و تجاربِهِ المتنوّعة في أساليب و اتجاهاتٍ متباينة .. و هذا شأنُ جميعِ الفنانين الحقيقيين الذين خلقوا شخصياتِهم الفنية .
فصلٌ من كتابي ( سيرة الجَمال ) ــ 2011 / دمشق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــ
شغلت طروحاتــُنا الفنية ُ ، على مستوى التعبير الثقافي ( كلاماً أو كتابة ً ) قضية َ ( الشَكل و المضمون ) على مساحةٍ كبيرةٍ من الزمن ، ثم تبعتها قضية ُ ( الأسلوب ) ، و قد أخذت هي الأخرى حصّتها أيضاً . و الآن نحن أمام البحث عن ( الشخصية الفنية ).. التي إذا ما دققنا فيها قليلا ً فسنجد أنها تحويرٌ للقضيتين الأوليـَـين ، و إنْ كانت هي ، في اعتقادي ، أقدمَ منهما ، خصوصاً اذا ما تتبعنا جذورَ التفكير في المسائل الفنية عبر التاريخ .
نسأل أولاً : هل ثمة أسلوبٌ ثابتٌ في الرسم لدى الرسّام الحديث على وجه الخصوص ؟ ظاهرياً نحن نقسّمُ الفن الى : كلاسيكي و حديث ، و ننسى أحياناً ــ ازاء هذا التحديد ــ المنطقة الرخوة بينهما ، و أعني بها المرحلة ( الإنطباعية ) التي كانت المرحلةَ الفاصلة بين التاريخ الكلاسيكي لفن الرسم و بين ما تمخض عن ( الإنطباعية ) من حركات ، لاحقاً ، شكّلت بمجملها اُسسَ الفنِ الحديث . و في كل الأحوال فنحن نـَصِفُ الأعمالَ الكلاسيكية بأنها أعمال واقعيةٌ / أكاديمية ، كونها كانت تحاكي الواقع و تقوم على تعاليم و ثوابت مدرسية راسخة في فن الرسم ، نشأت لدى الإغريق و ترسّخت في عصر النهضة ، مع التفاتنا الى كمِّ الخيال و نوعه . بالمقابل نصف الفنَ الحديث بأنه لا يلتفت الى ( الواقع ) بل الى ( الأفكار ) التي ينظر الفنانُ من خلالها اليه ، حيث يُلغي هذا الفنُ الشرطَ الأكاديميَ في الرسم .
ولكنْ ، في كل الحالات ، و في كل مراحل الفن ، فأن هناك عدداً كبيراً من الرسامين وفّر لنا أن نتعرف على أعماله دون أن نقرأ توقيعَهُ على لوحته ، لا لشهرة تلك الأعمال بل للبصمة التي تركها الفنان في سلسة أعماله . و ينطبق ذلك ــ بشكل خاص ــ على الأعمال الكلاسيكية ذات الخصائص الأسلوبية المشتركة في مجمل أعمال الفنان . و عليه فنحن نميّز أعمال ( روبنز ) مثلاً من خلال ألوانه الوردية ، غالبا ً، و أجسادِ نسائِه المكتنزة . مثلما نميز أعمال ( آل جريكو ) الميّالِ الى الألوان الرمادية المزرقــّـة و أجسادِ شخوصهِ النحيلةِ الطويلة و مواضيعه ذاتِ الصبغة الدينية ، و كما نميز أعمال (رامبرانت ) ذات الألوان المعتمة و مساقط الضوء الحادة .
و بشكلٍ عام ، فنحن نضع كلَّ هذه الأعمال في درج الكلاسيكية .. و ضمن هذه ( الكلاسيكية ) برمتها، عبر كل مراحل الفن السابقة ، يضعُنا كلُّ فنانٍ أمام قضية ( الشخصية الفنية ) التي ترك ملامحَها على مساحة أعماله التي تـُركت كتراث . و اذا ما تتبّعنا خيطَ التاريخ فأننا سنجد أن الشخصية الفنية ( كادت ) أن تـُمحى في بداية المرحلة ( الإنطباعية ) لدى فنانيها ، حين طغت حمّى الخروجِ الى الطبيعة و اعادة النظر الجَماعي في اللون و التعامل مع ضوء الشمس ، حتى بات المُتابِعُ لا يميّز أعمالَ فنانٍ عن سواه في تلك الفترة من المرحلة ، لو لا أننا حفظنا هذه الأعمال من بعدهم و ميزناها في الذاكرة . ولكن الفنانين تجاوزا ذلك لاحقاً ، بعد رسوخ أقدامهم ، فصار الفرق واضحاً بين لمسة ( رينوار ) و لمسة ( مونيه ) و بين لوحة ( ديغا ) و لوحة ( بيسارو ) . و لعل هذا التميزَ لم يتوقف عند سطح اللوحة حَسبْ بل امتدَّ الى أغوار فن الرسم و تفسير كل فنان له ، و هو ما قاد ــ بصورة حتمية ــ الى الإنشطارات التي حدثت في ( الإنطباعية ) لاحقاً .
و بعد أن عَبَر العالمُ العتبة َ الى القرن العشرين و تشكلت الملامحُ الأولى للفن الحديث ، فقد وجد المرءُ نفسَه أمام غزارةٍ هائلة من الإنتاج الفني ، سواء على مستوى الكم أو النوع ، ولكنْ على الرغم من ذلك فثمة سهولة في معرفة و تمييز أعمال الفنانين على مختلف مشاربهم، مثل : ( بيكاسو ) ، ( فرناند ليجيه ) ، ( مودلياني ) ، ( تانغي ) ، ( ماكس ارنست ) ، ( رينيه ماغريت ) ، ( كوكوشكا ) ، ( أدوارد مونش ) ، ( فرنسيس بيكون ) ، ( روشنبرغ ) ... و غيرهم من الفنانين الذين تدفقوا بفيضان كبير على مساحة الفن المعاصر ، و إذا ما حاولنا حصرَ هذه الأعمال - كدراسةٍ تاريخية - في زوايا مُحدَّدة للحركات الفنية التي ظهرت في القرن العشرين ، كـ ( التكعيبية ) أو ( التعبيرية ) أو ( السوريالية ) أو ( التجريدية ) أو ( المستقبلية ) .. فإننا سنكتشف أن هذه الأعمالَ باتت أكبرَ من أن تُحصر في زاوية ، لأنها كبرت على التسميات لتستقر في ( الشخصية الفنية ) ، و لم تعد التسمياتُ للمدارس إلاّ جزءاً من تاريخ الفن .
كيف نحدّد ( الشخصية الفنية ) ؟ هل نتتبعُ في ذلك أفكارَ الفنان و طروحاتِه النظرية ؟ أم مضامينـَه و أشكالَه و أساليبَه ؟. علينا أن لا نعتمد كثيراً في هذا الأمر على الطروحاتِ النظريةِ للفنان ، بخصوص الشخصية الفنية ، فنحن نبحثُ في أعمالهِ في الدرجة الأولى ، فهناك فنانون لا يكتبون و لا يصرّحون، و هم يفضّلون أن تتحدث أعمالُهم بنفسِها . و علينا أن ننتبه ــ منذ البدء ــ الى أن المسألة تتعلّق بالشُغل الفردي ، لأن الأمرَ في نهايةِ المَطاف يتعلّق بانجازاتِ الفنانِ الفـَرديةِ التي تشكّل الملامحَ الخاصة َ بفنّهِ هو . و يُمكننا القولُ ــ و الحالة هذه ــ إن الشخصية َ الفنيةَ ( التي هي كل شئ في النهاية ) لا يُحدّدُها أسلوب ، أو تقف عند حركةٍ أو اتجاهٍ مُحدّد . ( بيكاسو ) ، مثلاً ، في أي باب يمكن أن نضعَه ؟ هناك أعمالٌ (إنطباعية) قليلةُ الشُهرة لـ ( بيكاسو ) ، لولا توقيعه عليها لكان من الصعوبة نسبُها اليه ، و الفنان نفسه كان قد اشترك عام 1911 في معرضٍ ( تعبيري ) . و ساهم ( بيكاسو) أيضاً في أعمالٍ ذات مسحة ( سوريالية ) ، و معروفٌ ــ أيضاً ــ أنه هو الذي أسس ( التكعيبية ) مع ( جورج براك ) ، و فوق كل هذا فهو قد بدأ مشوارَه الفني بأعمال ( أكاديمية ) معروفة بتقنياتها العالية . فأين نضع ( بيكاسو ) ــ في هذه الحالة ــ ازاء كل هذه الأساليب و الإتجاهات مختلفة المناحي في فن الرسم ؟
هنا يبرز معنى ( الشخصية الفنية ) التي تتمثل قوّتها في مدى احتوائها لكل الإتجاهات و الأساليب ، و ينعكس ذلك في قُدْرتِها على استيعابِ التجارب ِالسابقة و فــَهمِها و هَضمِها ، و بالتالي خلق ( أو التمهيد لخلق ) اتجاهٍ و أسلوبٍ شخصيٍّ جديد .
إن عظمةَ ( بيكاسو ) تكمنُ في عدم خضوعه إلاّ لنفسِهِ . لقد جرّب كلَّ شئٍ دونَ تردد ، ثم راح يتقدم بمشاريعِهِ دون تردد . إن العَصَبَ الأساسَ في كل هذا هو فَهمُ ( معنى الفن ) ، و الإخلاصُ لهذا المعنى هو الذي يخلق الجرأة التي تنظر في كل فهمٍ سائد لتؤسّس فَهماً جديداً يفرز انتاجاً جديداً ، و هذا هو المسارُ العميقُ الذي سلكته كلُّ ( الشخصيات الفنية ) عَبرَ كل تاريخ الفن .
إن تاريخَ الفنِ كلَّهُ صراعٌ بين السائد و المستجِد ، و طروحاتٌ تؤسَّس على طروحات ، و تجاربٌ تــُكمِل بعضَها ، و رغبةٌ قلِقةٌ توّاقة ٌ الى ما هو غير مكتشَف . و إذا ما حفظ لنا تاريخُ الفن أسماءً و أعمالاً كبيرة ، فلأنها كانت قد سلكت هذه الطريقَ الوعِرة .
بعد هذا ، أحسب أنه من الخطأ أن نبحثَ عن ( شخصية فنية ) لفنانٍ ما يزال في حُمّى التجريب في فنهِ ، لأن هذا التجريبَ ذاتــَـه إنما يدخل ضمنَ الملامحِ العامة لها ، ذلك أن ( الشخصية الفنية ) لا تحدّدُها لوحة ٌ أو عشراتُ اللوحات أو بضعُ سنواتٍ من الإشتغالِ في الفن ، بل هي خلاصةُ التاريخِ الفني للفنان .
لقد كان ( جاك فيون 1875 ـ 1963 ) يقول : ( كنت تكعيبياً انطباعياً ، و أعتقد أنني بقيت هكذا . قد أكون الآن أقل تكعيبية ً و أقل انطباعية ً، عدا هذا لا أعرف ، فأنا لازلت أبحث ) .. و هذا البحث كان قد أوصله ــ فيما بعد ــ الى أعمالٍ ذات طابعٍ هندسيٍ تجريدي . ولكنَّ شخصيتــَه الفنية لم تتحدّد في ما استقرت عليه أعمالُه الأخيرة ، بل تتوزع في كل بحثهِ و تجاربِهِ المتنوّعة في أساليب و اتجاهاتٍ متباينة .. و هذا شأنُ جميعِ الفنانين الحقيقيين الذين خلقوا شخصياتِهم الفنية .