هادي التريكي حفيد شوبان التونسي
عازف يخوض رحلة بين الأزمنة والجغرافيات على مفاتيح البيانو.
الأحد 2024/10/06
ShareWhatsAppTwitterFacebook
ليست للبيانو أسرار بالنسبة إلى هادي التريكي
لا اختلاف على قدرة الموسيقى على تجاوز حدود الجغرافيا والزمن، إنها مفتاح سحري قادر على فتح أكثر الأماكن انغلاقا وصعبة عن الاختراق، ومن هنا أخذت رسالاتها الإنسانية كفنٍّ عابر يسترشد به الإنسان حفاظا على إنسانيته، وخاصة اليوم في ظل واقع صعب مشحون بالصراعات المميتة. لكن سحر الموسيقى هو طوق النجاة كما نرى مع الفنان الموهوب هادي التريكي.
لقد بلغ للتو الخامسة عشرة ربيعا. هو رشيق بقدر ما هو يافع. يرتدي نظارات ويبدو خجولا للغاية. يتحرك بسرعة نحو المنصة، ويحيي الجمهور بحرارة؛ يجلس على الفور أمام البيانو الخاص به، ويبدأ كما لو كان يمتلك المفاتيح الثمانية والثمانين لآلته المهيبة.
الانطباع الأول الذي يمكن أن يعطيه هو أن لديه كل مقومات العبقرية الحقيقية. ليس علينا إلا أن نرى هادي التريكي يعيش فنه حتى نتبين ذلك.
الموسيقى الإنسانية
عازف البيانو التونسي الشاب يجسد النور بشكل باهر وهو يرتدي ملابس سوداء أمام البيانو الأسود الكبير
لا تقاسيم أمامه. نتخيل أنه تأثر في المهد بمُلْهِمَةِ الموسيقى عند الإغريق، يُوتِيرْبْ. من “سوناتا البيانو رقم 8″، المعروفة باسم “المثيرة للشفقة”، لبيتهوفن (1799)، إلى “مالاغوينيا” لإرنستو ليكونا (1928)، مرورًا بـ”الفالس الكبيرة المشرقة” (1833)، بالإضافة إلى “النشيد رقم 1″(1835) والليلية رقم 21” (1848-1849)، لشوبان، دون أن ننسى الفالس الفنزويلي “إيلوويز” لفيدريكورويز (1989) والمقطوعة الكلاسيكية التي يعشقها الجميع، “أستورياس” لإسحاق ألبينيز (1892)، يعزف هادي التريكي عن ظهر قلب هذه المقطوعات الصعبة والآسرة في نفس الوقت.
يبدو أنه ليست للبيانو أسرار بالنسبة إلى هادي التريكي. ليس فقط لأنه يدرس في الكلية الملكية للموسيقى بلندن، وهي مؤسسة مشهورة بعراقتها وبصعوبة الانتماء إليها، ولكن أيضا لأنه فاز بالجائزة الأولى في مسابقة إيلينغ الموسيقية المرموقة، وسيعزف قريبا مع مجموعتها الأوركسترالية الكاملة خلال حفل سيمفوني كبير.
كذلك، فاز العازف التونسي الشاب بالجائزة الثانية في مسابقة شمال لندن للعزف وبالميدالية الذهبية في مسابقة كونيرو الدولية للبيانو. كما تحصل على الجائزة الثالثة في مسابقة شوبان الدولية الشهيرة في لندن، بالإضافة إلى جائزة أداء الموسيقى “الليلية” لشوبان.
وكما يتجلى ذلك، يحتل فريديريك شوبان (1810-1849) مكانة خاصة عند هادي التريكي، فهو بمثابة القدوة والرمز له. ويمكن اعتبار هذا الارتباط بأنه شرعي فالعازف اليافع هو نفسه تلميذ لعازفة البيانو الفنزويلية الشهيرة كلارا رودريغيز، وهي نفسها طالبة فيليس سيليك، الذي تتلمذ هو ذاته على يد إيسيدور فيليب، وهو نفسه طالب جورج ماتياس الذي كان أحد تلاميذ شوبان.
هكذا إذن، على مر خمسة أجيال يمر المشعل من بين أنامل العاشق البولوني الذي يرقد خالدا في العاصمة الفرنسية باريس، إلى الشاب التونسي هادي التريكي عبر عازفين وأساتذة ينتمون إلى أفق وقارات وعوالم مختلفة. تكمن هنا كونية الموسيقى التي لا تعترف بالهويات المريضة ولا بالحدود الواهمة، بل فقط بإنسانية الإنسان وبأسبقية الفن على كافة الاعتبارات الزائفة.
نعم، من عصر إلى عصر، بل وأكثر، من بلدان وقارات، ومن الجغرافيا إلى التاريخ، تنفتح خريطة الفنون العالمية لإضفاء طابع إنساني على الإنسانية المعرضة للحروب والهمجية.
على هذا النحو، فإن لحظة عزف هادي التريكي على البيانو تستحق أن نعيشها على أنها لحظة إنسانية عظيمة وفارقة حيث تتغلب العواطف على الأعمال وردود الفعل العنيفة، كما أن أحاسيس السعادة، وحتى الحزن، تتغلب جميعا على التداعيات الضارة للحياة اليومية. هكذا يتغلب الحب والجمال على كل شيء بإمكانه تشويه القلوب والأرواح على حد السواء.
حفيد فيلسوفين
لحظة عزف هادي التريكي على البيانو تستحق أن نعيشها كلحظة إنسانية فارقة تتغلب فيها العواطف على العنف
من دون أي مبالغة، عزف التريكي على البيانو مؤثر بقدر ما هو إنساني. في الواقع، يقول مثل فرنسي إن “الموسيقى تشحذ الأخلاق”. ينسب هذا المثل إلى فيلسوف الأنوار جان جاك روسو، لكن، يبدو أن أصوله تعود إلى فكر الإغريقي أفلاطون الخالد، وهذا يؤثر فينا أكثر لأن الشاب المعجزة هادي التريكي هو حفيد الفيلسوفين رشيدة وفتحي التريكي.
إن هذه الجنيالوجيا مذهلة بالمعنى الحرفي للكلمة، لأن الأستاذة البارزة المتخصصة في علم الجمال وتاريخ الفن، وفيلسوف التعايش أنجبا ابنا رائعا فحفيدا أروع.
في الواقع، هذا يذكرنا بمقطع من رواية “أرض البشر” لأنطوان دو سانت إكزوبيري المتحصلة على جائزة الرواية للأكاديمية الفرنسية سنة 1939. يصف الكاتب الطيار بطريقته الخاصة مصير عائلة من اللاجئين: “جلستُ قبالة زوجين. بين الرجل والمرأة، كان الطفل نائمًا. لكنه انقلب في النوم، وظهر لي وجهه في ضوء الليل. آه! يا له من وجه رائع! قلتُ لنفسي: هنا وجه موسيقي، هنا موزارت طفل، هنا وعد جميل بالحياة.”
كم تبدو هذه الكلمات معاصرة لنا. الأخبار الحارقة، والحروب، والإبادة الجماعية، وطرد اللاجئين، والحصار، والجوع، هذا هو نصيبنا اليومي من الأخبار والآلام. ولكن صحبة عازف البيانو الشاب المعجزة، هادي التريكي، من الأفضل أن نُضيء شمعة بدلاً من أن نلعن الظلام.
بالفعل، عازف البيانو يجسدُ النور بشكل باهر، وهو يرتدي ملابس سوداء أمام البيانو الأسود الكبير. النور، تَجَسَدَ فيه، جاذبا العيون وكل الحواس، يُنَمِيهَا، يُشْعِلُهَا، يُحْيِيهَا: نُورٌ على نُورٌ! فليكن معك النور والضياء جميعا، أيها الفنان النابغة هادي التريكي!
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أيمن حسن
شاعر تونسي
عازف يخوض رحلة بين الأزمنة والجغرافيات على مفاتيح البيانو.
الأحد 2024/10/06
ShareWhatsAppTwitterFacebook
ليست للبيانو أسرار بالنسبة إلى هادي التريكي
لا اختلاف على قدرة الموسيقى على تجاوز حدود الجغرافيا والزمن، إنها مفتاح سحري قادر على فتح أكثر الأماكن انغلاقا وصعبة عن الاختراق، ومن هنا أخذت رسالاتها الإنسانية كفنٍّ عابر يسترشد به الإنسان حفاظا على إنسانيته، وخاصة اليوم في ظل واقع صعب مشحون بالصراعات المميتة. لكن سحر الموسيقى هو طوق النجاة كما نرى مع الفنان الموهوب هادي التريكي.
لقد بلغ للتو الخامسة عشرة ربيعا. هو رشيق بقدر ما هو يافع. يرتدي نظارات ويبدو خجولا للغاية. يتحرك بسرعة نحو المنصة، ويحيي الجمهور بحرارة؛ يجلس على الفور أمام البيانو الخاص به، ويبدأ كما لو كان يمتلك المفاتيح الثمانية والثمانين لآلته المهيبة.
الانطباع الأول الذي يمكن أن يعطيه هو أن لديه كل مقومات العبقرية الحقيقية. ليس علينا إلا أن نرى هادي التريكي يعيش فنه حتى نتبين ذلك.
الموسيقى الإنسانية
عازف البيانو التونسي الشاب يجسد النور بشكل باهر وهو يرتدي ملابس سوداء أمام البيانو الأسود الكبير
لا تقاسيم أمامه. نتخيل أنه تأثر في المهد بمُلْهِمَةِ الموسيقى عند الإغريق، يُوتِيرْبْ. من “سوناتا البيانو رقم 8″، المعروفة باسم “المثيرة للشفقة”، لبيتهوفن (1799)، إلى “مالاغوينيا” لإرنستو ليكونا (1928)، مرورًا بـ”الفالس الكبيرة المشرقة” (1833)، بالإضافة إلى “النشيد رقم 1″(1835) والليلية رقم 21” (1848-1849)، لشوبان، دون أن ننسى الفالس الفنزويلي “إيلوويز” لفيدريكورويز (1989) والمقطوعة الكلاسيكية التي يعشقها الجميع، “أستورياس” لإسحاق ألبينيز (1892)، يعزف هادي التريكي عن ظهر قلب هذه المقطوعات الصعبة والآسرة في نفس الوقت.
يبدو أنه ليست للبيانو أسرار بالنسبة إلى هادي التريكي. ليس فقط لأنه يدرس في الكلية الملكية للموسيقى بلندن، وهي مؤسسة مشهورة بعراقتها وبصعوبة الانتماء إليها، ولكن أيضا لأنه فاز بالجائزة الأولى في مسابقة إيلينغ الموسيقية المرموقة، وسيعزف قريبا مع مجموعتها الأوركسترالية الكاملة خلال حفل سيمفوني كبير.
كذلك، فاز العازف التونسي الشاب بالجائزة الثانية في مسابقة شمال لندن للعزف وبالميدالية الذهبية في مسابقة كونيرو الدولية للبيانو. كما تحصل على الجائزة الثالثة في مسابقة شوبان الدولية الشهيرة في لندن، بالإضافة إلى جائزة أداء الموسيقى “الليلية” لشوبان.
وكما يتجلى ذلك، يحتل فريديريك شوبان (1810-1849) مكانة خاصة عند هادي التريكي، فهو بمثابة القدوة والرمز له. ويمكن اعتبار هذا الارتباط بأنه شرعي فالعازف اليافع هو نفسه تلميذ لعازفة البيانو الفنزويلية الشهيرة كلارا رودريغيز، وهي نفسها طالبة فيليس سيليك، الذي تتلمذ هو ذاته على يد إيسيدور فيليب، وهو نفسه طالب جورج ماتياس الذي كان أحد تلاميذ شوبان.
هكذا إذن، على مر خمسة أجيال يمر المشعل من بين أنامل العاشق البولوني الذي يرقد خالدا في العاصمة الفرنسية باريس، إلى الشاب التونسي هادي التريكي عبر عازفين وأساتذة ينتمون إلى أفق وقارات وعوالم مختلفة. تكمن هنا كونية الموسيقى التي لا تعترف بالهويات المريضة ولا بالحدود الواهمة، بل فقط بإنسانية الإنسان وبأسبقية الفن على كافة الاعتبارات الزائفة.
نعم، من عصر إلى عصر، بل وأكثر، من بلدان وقارات، ومن الجغرافيا إلى التاريخ، تنفتح خريطة الفنون العالمية لإضفاء طابع إنساني على الإنسانية المعرضة للحروب والهمجية.
على هذا النحو، فإن لحظة عزف هادي التريكي على البيانو تستحق أن نعيشها على أنها لحظة إنسانية عظيمة وفارقة حيث تتغلب العواطف على الأعمال وردود الفعل العنيفة، كما أن أحاسيس السعادة، وحتى الحزن، تتغلب جميعا على التداعيات الضارة للحياة اليومية. هكذا يتغلب الحب والجمال على كل شيء بإمكانه تشويه القلوب والأرواح على حد السواء.
حفيد فيلسوفين
لحظة عزف هادي التريكي على البيانو تستحق أن نعيشها كلحظة إنسانية فارقة تتغلب فيها العواطف على العنف
من دون أي مبالغة، عزف التريكي على البيانو مؤثر بقدر ما هو إنساني. في الواقع، يقول مثل فرنسي إن “الموسيقى تشحذ الأخلاق”. ينسب هذا المثل إلى فيلسوف الأنوار جان جاك روسو، لكن، يبدو أن أصوله تعود إلى فكر الإغريقي أفلاطون الخالد، وهذا يؤثر فينا أكثر لأن الشاب المعجزة هادي التريكي هو حفيد الفيلسوفين رشيدة وفتحي التريكي.
إن هذه الجنيالوجيا مذهلة بالمعنى الحرفي للكلمة، لأن الأستاذة البارزة المتخصصة في علم الجمال وتاريخ الفن، وفيلسوف التعايش أنجبا ابنا رائعا فحفيدا أروع.
في الواقع، هذا يذكرنا بمقطع من رواية “أرض البشر” لأنطوان دو سانت إكزوبيري المتحصلة على جائزة الرواية للأكاديمية الفرنسية سنة 1939. يصف الكاتب الطيار بطريقته الخاصة مصير عائلة من اللاجئين: “جلستُ قبالة زوجين. بين الرجل والمرأة، كان الطفل نائمًا. لكنه انقلب في النوم، وظهر لي وجهه في ضوء الليل. آه! يا له من وجه رائع! قلتُ لنفسي: هنا وجه موسيقي، هنا موزارت طفل، هنا وعد جميل بالحياة.”
كم تبدو هذه الكلمات معاصرة لنا. الأخبار الحارقة، والحروب، والإبادة الجماعية، وطرد اللاجئين، والحصار، والجوع، هذا هو نصيبنا اليومي من الأخبار والآلام. ولكن صحبة عازف البيانو الشاب المعجزة، هادي التريكي، من الأفضل أن نُضيء شمعة بدلاً من أن نلعن الظلام.
بالفعل، عازف البيانو يجسدُ النور بشكل باهر، وهو يرتدي ملابس سوداء أمام البيانو الأسود الكبير. النور، تَجَسَدَ فيه، جاذبا العيون وكل الحواس، يُنَمِيهَا، يُشْعِلُهَا، يُحْيِيهَا: نُورٌ على نُورٌ! فليكن معك النور والضياء جميعا، أيها الفنان النابغة هادي التريكي!
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أيمن حسن
شاعر تونسي